نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

ويُحتمل أيضاً أن يؤدّي ترابط عالم الوجود ، وبالأخص حياة البشر ، مع بعضه إلى أنّه لو افترضنا صدور ظلمٍ معينٍ من ذاته المقدّسة بشأن أحدٍ ما ، لسَرى إلى الآخرين واتخذ صفة (ظلّام).

كيف يُمكن أن يوصف الله ، المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ ، والموصوف بجميع صفات الجمال والجلال ، بصفة (الظلّام)؟

والتفسير الرابع هنا ، والذي يَبدو أفضل من جميع هذه التفاسير ، والمشار إليه في بعض الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ، هو أنّ الآية المذكورة ـ ونظراً لما ورد في صدرها ـ تُبطل عقيدة الجبر : فتقول : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). (فصلت / ٤٦)

فعليه الجميع مفوّضون في ممارسة الأعمال ، وإذا أجبرهم الله على ارتكاب الذنوب وآخذهم عليها لكان ظلّاماً قطعاً ، ولأنّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد فهو لا يجبرهم على ارتكاب القبائح ويؤاخذهم عليها فيما بعد.

ورد في حديثٍ عن الإمام الرّضا عليه‌السلام أنّه سُئِلَ من قِبَل أحد أصحابه : هل يجبر الله عباده على الذنب؟ فأجابه عليه‌السلام : «لا ، بل خيّرهم وأمهلهم ليتوبوا» ، فسأله كذلك : فهل يكلّفهم ما لا يُطيقونه؟ فقال الإمام عليه‌السلام : «كيف يفعل ذلك وهو يقول : (وَمَا رَبِّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ).

(لاحظوا أنّ الإعتقاد بالجبر يوجب التكليف بما لا يُطاق ، لأنّ العبد المجبور على المعصية ، لا طاقة له على الترك ، في حين أنّ الله قد فرض عليه تركها) (١).

والجدير بالإلتفات هو أنّ كلمة (ظلّام) قد وردت. خمس مرّات في القرآن الكريم أربعٌ منها بخصوص مسألة حريّة إرادة العباد (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٥٥٥ ، ح ٧١.

(٢) وردت عبارة (وما ربك بظلام للعبيد) ، في آل عمران ، ١٨٢ ؛ وفصلت ، ٤٦ والتي يدور البحث حولها والانفال ، ١٥١.

٣٢١

كيف يُمكن أن يُساوي بين المحسن والمُسيء؟

أشارت الآية الأخيرة الثانية عشر من بحثنا إلى نفس هذه الحقيقة من خلال تعبير ظريف آخر ، دون أن تُصرّح بكلمة العدل ، أو القسط ، أو مصطلحات نفي الظلم ، وما شاكل ذلك.

قال تعالى : (ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ).

إنّ هذا الاستفهام هو نوعٌ من الاستفهام الإستنكاري ، أي : إنّ مثل هذا الشيء غير مُمكن ، لأنّ المساواة بين المصلح والمفسد ، والمتقي والفاجر ، ظلمٌ فاحش ، والله العادل لا يفعل ذلك أبداً.

وإن كانت المسألة كما اعتقد البعض من الجهلاء ، في كون العالَم ملكاً لله والعباد عباده ، وكل ما يفعله بحقّهم هو عين العدالة ، لفقدت الآية أعلاه معناها.

ويجدر الإلتفات إلى أنّ الآية أعلاه قد عرضت المسألة على الوجدان البشري الحي ، وخاطبته بصيغة الاستفهام الإستنكاري : (فهل يُمكن أن يفعل الله هذا؟).

وقد أشارت هذه الآية بصورة ضمنية إلى مسألة المعاد ، لأنّه لو لم يَكن هناك معاد لتساوى المصلح والمفسد ، ففي الدار الدنيا يُمكن أن لا يلقى أيٌ منهم جزاء عمله ، وهذا ممّا لا يتلائم مع عدله تعالى ، إذن يجب أن يكون هنالك يومٌ للحساب لتحقق أسس العدالة.

* * *

ثمرة البحث :

نستنتج من مجموع الآيات التي ذكرناها أنَّ الذات الإلهيّة المقدّسة منزّهة عن الظلم والجور بكل أشكاله ، وبكل مقاديره ، قليله أمْ كثيره ، في الدنيا أَمْ في الآخرة ، وبحق أيّ أحدٍ كان.

إنّه تعالى لا يظلم أحداً بصورة مباشرة وغير مباشرة ، ولا يعمل عملاً يؤدّي (ولو بمئات

٣٢٢

الوسائط) إلى ظلم أحد ، وهذه المسألة طُرِحَتْ في الآيات المختلفة الآنفة الذكر بتعابير وعبارات متنوعة.

وهنالك بحوث كثيرة حول هذه المسألة ، سواءً من الناحيّة الفلسفيّة والكلاميّة والعقائديّة ، أو من الناحية الروائيّة ، أو التاريخيّة ، ونتطرق إليها في البحوث القادمة.

* * *

توضيحات

١ ـ مسألة العدل الإلهي لدى المذاهب والفرق الإسلامية

تشير القرائن إلى وجود مخالفين ومؤيدين للعدل الإلهي من بين الفلاسفة وعامة الناس منذ أقدم العصور ، وبشكل ملحوظ. وتأييد العدل نشأ من كونه من صفات الكمال وعدم تجرّد الله الذي هو منبع كُلّ الكمالات منه أبداً.

وانصار نفي هذه الصفة نشأ تصورهم هذا من وجود قسم من العيوب الظاهرية ، والآفات ، والبلايا ، والمصائب التي تبدو ولأول وهلة على الأقل متنافية مع مسألة العدل الإلهي.

لكن هذه المسألة اتخذت طابعاً آخر بين المسلمين ، فجماعة منهم يدعون (بالأشاعرة) خالفوا هذه الأصل الديني لا من حيث إنكارهم عدالة الله ، بل من حيث كونه تعالى مالك الوجود ، وعدم تحقُّق صفة الظلم من قِبَلِهِ ، فكل شيءٍ يفعله هو عين العدالة (حتى معاقبة جميع المحسنين وإثابة جميع المسيئين)!

إنّ الدافع الأساس للاتجاه نحو هذا النوع من التفكير هو الوقوع في أسرالتفكير بمسألة الجبر وعدم التفويض من جهة ، لأنّ الأشاعرة من المؤيدين المتعصبين لمسألة «الجبر وعدم تفويض العباد في أفعالهم».

ومن جهةٍ اخرى وحسب ما صرّحت به الآيات القرآنية ، وطبقاً لضرورة الدين الإسلامي فإنّ الله يدخل المحسنين الجنّة والمسيئين النار.

٣٢٣

وهنا واجهوا هذا الإشكال وهو : إذا كان الإنسان مجبراً على أفعاله فما معنى الثواب والعقاب على هذه الأعمال الإجبارية وغير الإختياريّة؟ وكيف يتناسب هذا مع عدالة الله سبحانه؟ لذا فقد اضطرّوا إلى إنكار مسألة العدالة الإلهيّة بالشكل الذي ذكرناه آنفاً.

ومن جهةٍ ثالثة أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ إنكار العدل الإلهي نوعٌ من التوحيد الكامل ، وكانوا يظنّون الوصول إلى مرحلة التوحيد العليا إذا ما اعتقدوا بأنّ الله فوق مسألة العدل والظلم.

وفي مقابل هذه الجماعة كانت تقف جماعة (المعتزلة) الذين كانوا يعتقدون بأنّ العدل الإلهي من أهم المسائل العقائدية ، وبإمكانية تصوُّر كل من العدل والظلم بالنسبة إلى الله تعالى ، لكن الله لا يظلم أبداً ، والعدالة بمعنى الكلمة موجودة فيه.

أمّا الشيعة ومعتنقو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام فإنّهم وقفوا في زمرة مؤيدي العدل الإلهي ، لذا يُطلق عليهم وعلى المعتزله اسم (العدليّة).

إنّ الأهميّة التي يوليها شيعة أهل البيت عليهم‌السلام لمسألة العدل الإلهي من العمق بحيث اعتقدوا بأنّ (العدل) و (الإمامة) رُكنان أساسيّان في مذهبهم ، في مقابل (التوحيد) و (النبّوة) و (المعاد) التي تُعد الأركان الأساسيّة الثلاثة للدين الإسلامي.

وسنلاحظ في البحوث القادمة إن شاءالله أنَّ إنكار مسألة العدل الإلهي قَدْ يُؤدّي أحياناً إلى إنكار علم الله أو قدرته ، ويؤثّر على الصفات الإلهيّة الاخرى أيضاً ، لهذا فقد عُرفَ (العدل) كصفة مرتبطة ببقيّة الصفات.

ولعل هذا هو دليل ما ورد في الرواية التي مفادها أنَّ رجلاً دَخَلَ على الإمام الصادق عليه‌السلام فقال له : «إنَّ أساس الدين التوحيد والعدل» وأضاف قائلاً : «اودُّ أن تُبيّن لي شيئاً في هذا المجال يسْهلُ حفظهُ».

فقال الإمام عليه‌السلام : «أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك ، وأمّا العدل فأن لا تنسَبَ إلى خالقك ما لامك عليه» (١).

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٥ ، ص ١٧ ، الباب ١ ، ح ٢٣.

٣٢٤

إنَّ هذا الجواب المُتْقَنَ جدّاً هو بالواقع دليلٌ على (التوحيد) و (العدل) ملخصٌ في عبارات موجزة ، لأنّ صفات الممكنات لا يُمكن أن تكون صفات للهِ الذي هو واجب الوجود لأنّ هذه الصفات مقرونة بالنقص والمحدوديّة ، في حين أنّه جلّ وعلا كاملٌ وغير محدودٍ من كل الجهات ، وكذا كيف يُمكن أن يُؤاخذنا الله على أفعالٍ تنسبُ إليه ونحن نقوم بها.

ولكن على أيّة حال ، فإنّ جواب الإمام عليه‌السلام هذا يدلُّ على تأييده عليه‌السلام لكلام الراوي : «إنّ أساس الدين التوحيد والعدل».

وقد جمع أمير المؤمنين علي عليه‌السلام هذين الركنين في عبارته المختصرة والمفيدة جدّاً ، وشرح حقيقة التوحيد والعدل باسلوبٍ رائعٍ جدّاً ، حيث قال : «التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه). (فما تحيط به الأوهام محدود ومخلوق والله تعالى أكبر من ذلك). (والعدل أن لا تتهمه يعني أن لا تنسب إليه ما كسبت يداك من قبائح الأعمال) (١).

* * *

٢ ـ الأدلّة العقليّة على مسألة العدل الإلهي

اعتقد أغلب علماء المسلمين بأنّ هذه المسألة من ناحية البعد العقلي هي فرعٌ من مسألة (الحُسن والقُبح) ، لذا يتوجب علينا هنا متابعة هذه المسألة ، وذكرنا عصارة منها هنا :

كان الأشاعرة (جماعة أبو الحسن الأشعري المدعو علي بن اسماعيل والذي كان من متكلمي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري) يُنكرون (الحسن والقبح) العقليين بالمرّة ، ويقولون : إنّ عقلنا ليس بقادر لوحده على إدراك الصالح والطالح ، والحسن والقبيح من الأشياء ، ومعيار معرفتهما هو الشرع.

فما يستحسنه الشرع فهو حَسنٌ ، وما يستقبحه فهو قبيح ، حتى الأمور التي نعتقد اليوم بحُسْنها وقُبحها ، فإذا قال الشرع خلاف ما نعتقد لقلنا مثل قوله ، حتى وإن سُئِلوا : هل يُدرك

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٧٠.

٣٢٥

العقل حُسْن العدالة والإحسان ، وقبح الظلم والبخل ، وقتل الأبرياء؟ لقالوا : لا! فيجب الإستعانة فقط بتوجيهات الأنبياء وأولياءِ الله.

وفي مقابل هؤلاء يقف (المعتزلة) و (الشيعة) الذين يعتقدون باستقلال العقل في إدراك الحسن والقبح ، فمثلاً يعتبرون حُسن الإحسان ، وقبح الظلم من بديهيات حكم العقل.

طبعاً إنّهم لا يقولون : إنّ العقل قادرٌ على إدراك جميع المحاسن والمساوي ، لأنّ إدراكه محدود على أيّة حال ، بل يقولون : إنّ العقل يدرك القسم الواضح جدّاً منها ، ويُعدّونها من المستَقلات العقليّة.

ذكر (فاضل القوشچي) ثلاثة معانٍ للحسن والقبح :

١ ـ (صفة الكمال والنقص) ، كقولنا : الِعلمُ حسنٌ ، والجهل قبيحٌ ، لأنّ العلم يمنح صاحبه الكمال ، والجهل يخلّف النقصان.

٢ ـ الحسن بمعنى (التنسيق مع المقصود) ، والقبح بمعنى (عدم التنسيق مع المقصود).

هذا هو ما يُعبَّر عنه أحياناً ب (المصلحة) أو (المفسدة) فنقول : العمل الفلاني حسن ومن ورائه مصلحة ، أي يُقربنا أو يقرب المجتمع الإنساني من أهدافه ، أو الأمر الفلاني فيه مفسدة وقبيح ، لأنّه يُبعدنا عن الأهداف الأساسيّة ، سواءٌ كانت هذه الأهداف ماديّة أو معنويّة.

٣ ـ الحسن بمعنى (الأمور المستحقّة للثناء والثواب الإلهي) ، والقبح بمعنى (الأمور المستحقة للتوبيخ والعقاب).

ثم أضاف قائلاً : وموضع الشجار والنزاع بين الأشاعرة والمعتزلة هو هذا المعنى الثالث(١) (٢).

ولكن الحق هو أنّ هذه المعاني الثلاثة غير منفصلة عن بعضها ، لأنّ الثواب والثناء يعود إلى الأفعال والأعمال التي فيها مصلحة معينة ، وتقرّب الإنسان إلى مراحل الكمال طبعاً ،

__________________

(١) شرح تجريد القوشچي ، ص ٤٤١.

(٢) هنالك معنى رابعٌ للحسن والقبح والذي هو خارج عن بحثنا ، وهو الحسن بمعنى موافقة الطبع (الوجه الجميل) والقبيح بمعنى منافرة الطبع.

٣٢٦

كما هو حال الصفات الكمالية كالعلم الذي يُقرّب الإنسان من هذه الأهداف.

وعليه فإنّ هذه المعاني الثلاثة لازمة وملزومة ببعضها ، وإن فرّق «فاضل القوشچي» بينها فإنّما هو لتعبيد الطريق للإجابة على استدلالات جماعة (الحسن والقبح العقليين) ، فمثلاً يَرُدُ على استدلالهم هذا عندما يقولون : (نحن ندرك حسن الإحسان وقبح الظلم بحكم ضرورة الوجدان). فيقول : إنّ هذا الكلام صحيحٌ بالمعنى الأول والثاني ، وغير صحيح بالمعنى الثالث.

لذا يُمكن القول في تعريف (الحسن والقبح) بأنّ الأفعال الحسنة هي الأفعال التي تقرّب الفرد أو المجتمع البشري من الكمال المطلوب ، أو تربّي فيه الصفات الكماليّة ، وتقرّبه من الأهداف التكاملية ، ومثل هذه الأعمال فيها مصلحة طبعاً ومحببة من قبل الله سبحانه وتعالى وتستحق الثواب ، وعكسها الأفعال القبيحة.

الآن وبعد أن عرفنا معنى (الحسن والقبح) والأراء المختلفة حول عقلانيتهما وعدم عقلانيتهما ، لننظر أيّاً منهما أحق من صاحبه.

لا ريب في أنّ الذهن الفارغ من تأثيرات هذا وذاك يعتقد إجمالاً بعقلانية الحسن والقبح ، ويبدو أنّ المنكرين كانوا قد خضعوا لتأثيرات مسائل اخرى أدّت بهم إلى الوصول إلى هذه النتيجة (كالطريق المسدود الذي وصل إليه دعاة مسألة الجبر والتفويض التي أشرنا إليها سابقاً) ، والدليل على إثبات هذا الموضوع إجمالاً أمران :

أ) عندما نُراجع وجداننا نلاحظ أَنَّهُ حتى على فرض عدم ارسال الله أيّ رسولٍ أو نبي ، تبقى مسائل الظلم والجور وإراقة دماء الأبرياء وسلب الأموال ، وحرق بيوت الأبرياء ونقض العهود وإثابة المسيء ، من القبائح ، وبالعكس ، فالإحسان ، التضحية ، الفداء ، السخاء ، مساعدة الضعفاء ، الدفاع عن المضلومين ، حسن وذو قيمة.

فنحن نعتقد بأنّ هذه الأعمال ـ التي ذكرناها أخيراً ـ ناشئة من صفات الكمال ، وباتّجاه أهداف المجتمع البشري وتستحق الثناء والثواب ، في حين أنّنا نعتبر أعمال المجموعة الأولى ناشئة من النقص ، وتؤدّي إلى الدمار والفساد الفردي والاجتماعي وتستحق التوبيخ والعقاب.

٣٢٧

لذا فإنّ جميع العقلاء ، حتى اولئك الذين لا يدينون بشريعة أو دين معين وينكرون جميع الأديان ، يعترفون بهذه الأمور ، ويؤسسون نظامهم الاجتماعي (ولو في الظاهر) وفقها ، ويعتبرون أي نغمةٍ مخالفةٍ قد تظهر من زاويةٍ معينة ، بأنّها حتماً ناشئة من (الأخطاء) أو نوع من النزاع اللفظي واللعب بالألفاظ.

فأي عقلٍ يسْمح بأن نقتل جميع المحسنين والصالحين ونلقي بهم في البحر ، ونفتح أبواب السجون أمام الجناة والأشقياء ونمنحهم الحريّة ونسلّمهم مقاليد الأمور؟!

ب) إن أنكرنا مسألة الحسن والقبح لتزلزلت أسس جميع الأديان والشرائع السماويّة ، ولما أمكن إثبات أي دين ، لأنّ من يُنكر الحسن والقبح عليه أن يقبل بكذب الوعود الإلهيّة التي أعطاها الله في جميع الأديان ، وإن كان الله قد قال : إنّ الجنّة مأوى المحسنين ، والنار مثوى المسيئين ، فما المانع لو كان الأمر بعكس ذلك!؟

وكذّب الله (العياذ بالله) في جميع هذه المسائل ، ولا قباحة في الكذب!!

وكذا ما المانع من أن يجعل الله المعاجز في تصرّف الكذّابين؟ ليخدعوا عباده ويحرفوهم عن الطريق الصحيح!

وعليه فلا تبقى هنالك ثقة بالمعاجز ، ولا بما يأتي به وحي السماء ، إلّاأن نقبل بقباحة هذه الأمور ، ونزاهة الله عن فعل القبيح ، فتقوى الأسس الشرعيّة وتصير المعجزة دليلاً على النبوة ، ويصير الوحي دليلاً على بيان الحقائق.

* * *

٣ ـ ملاحظتان مهمتان

١ ـ تنقسم الأفعال الإنسانية إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : هي التي يسهل إِدراك حسنها وقبحها للجميع ، أو التي تُعَدُّ اصطلاحاً من (المستقلّات العقليّة) ، ولا تتغير أيضاً بتغيُّر الظروف (كحسن الإحسان وقبح الظلم.).

والقسم الثاني : هي التي يسهل على الجميع إدراك حسنها وقُبحها ، لكنها تتأثر بالظروف

٣٢٨

المختلفة ، كقولنا بحسن الصدق وقبح الكذب ، في حين أنّنا نعلم بأنّ الكذب المصلحي ليس قبيحاً في بعض الأحيان ، لا سيما إذا كان للمحافظة على أهداف أهم وأسمى (كإصلاح ذات البين) ، وبعكسه الصدق الذي يؤدّي إلى الفساد وسفك الدماء والاختلاف ، فهو قبيح ومذموم.

أمّا القسم الثالث : فهي الأفعال التي ليس لحسنها وقُبحها صيغة ضروريّة ، بل نظريّة ، فالبعض يقولون بحسنها وغيرهم يقولون بقبحها ، أو يسكتون بتاتاً عن تشخيص حسنها وقُبحها ، فلا سبيل في مثل هذه الموارد سوى اللجوء إلى أحضان الوحي.

ومن خلال ملاحظة الأقسام الثلاثة ، تتضح أجوبة الكثير من الإشتباهات حول مسألة الحسن والقبح ، التي وقع فيها البعض.

٢ ـ يعتقد البعض بأنّ إتفاق العقلاء في تعريف الحسن والقبح وتشخيص موارده ومصاديقه هو شرطٌ. وقالوا : الحسن هو ما اتفق العقلاء على مدح فاعله ، والقبح هو ما اتفق العقلاء على ذمّ فاعله ، في حين أنّ هذا التعريف خطأ ، فإنّ اتفاق العقلاء يكون في أمرٍ يتعلّق بالقوانين الوضعية المصطلح عليها بالتشريعية ، كما لو اتفق جميع العقلاء على قبول أصل المالكيّة (بالرغم من اختلافهم في حدّها وحدودها ومصاديقها) ، أمّا الأمور التي تخلو من الأبعاد التشريعيّة ولها أبعادٌ عينية وتكوينية ، فإنّ المعيار فيها هو إدراك أي إنسان.

فهل ينتظر أحدٌ اتفاق العقلاء في تشخيص جمال زهرة معينة ، أو قصيدة طويلة رائعة!؟ وكذا في مسألة إدراك جمال وقبح الإحسان والظلم ، فلا توجد أي حاجة إلى انتظار اتفاق العقلاء وحكمهم العام ، هذا هو ما ندركه بصراحة الوجدان. ، كسائر إدراكاتنا بخصوص القبائح والمحاسن.

طبعاً إنّ من الممكن أن تَتفِقَ عقيدة الأفراد في تشخيص الحسن والقبح في بعض الموارد ، وتختلف في موارد اخرى ، لكن هذا لا ينحصر بمسألة (الحسن والقبح) فقط ، بل يُلاحظ في جميع الأمور التي يحكم بها العقل أيضاً.

ومن الممكن أن يتفق جميع العقلاء على قبول استدلالٍ عقلّيءٍ معين ، ويختلفوا في

٣٢٩

آخر ، فمن قَبِلَ ذلك الاستدلال وتيقن من صحته لا ينتظر موافقة الآخرين أبداً ، وإن قال أحدٌ خلاف ذلك لخطّأه ، لا أنْ يتراجع عن عقيدته.

وخلاصة الكلام هو أنّ الحسن والقبح عقليان لا عقلائيان ، والفرق شاسعٌ بين هذين الأمريْن ، فدائرة أحدهما تشمل الحقائق الخارجيّة ، والاخرى تشمل العقود القانونية.

وَنختتم هذا الكلام بجملة قصيرة حول أصل مسألة الحسن والقبح وهي : إنّ منكري هذه المسألة شأنهم شأن منكري الكثير من المسائل العقليّة الاخرى ـ فهم عادةً يُنكرونها باللسان أو عندما يتعرضون لضغط المسائل الاخرى التي لا يجدون لها حلّاً ـ فيتكلّمون بمثل هذا الكلام ، وإلّا فهم من مؤيدى هذه العقيدة بعملهم ، فلو وجّه إليهم أحدٌ صفعة قوية ، أو أهان كرامتهم في المجتمع دون مبرر ، أو قتل أبناءهم أمام أعينهم ، لما تردّدوا حتى لحظة واحدة في توبيخه وذمّه ولجوّزوا لأنفسهم معاقبته!؟ سواءً كان هنالك قانون أو شريعة نازلة من قبل الله أمْ لم تكن.

* * *

٤ ـ الرجوع إلى أدلّة العدل الإلهي

بعد اتضاح مسألة الحسن والقبح ، نعود إلى أصل الكلام ، أي : الأدلة العقليّة على العدل الإلهي ، ويوجد هنا دليلان مهمّان يُمكن إرجاع الأدلّة الاخرى إليهما.

الدليل الأول : ومصدره نفس نظرية الحسن والقبح تلك ، فالظلم قبيح ، والله الحكيم لا يفعل القبيح أبداً ، والظالم يستحق التوبيخ والملامة ، ومُسَلَّمٌ أنّ وجوداً كاملاً لا يفعل شيئاً من هذا القبيل ليستحق اللوم والتوبيخ.

والعدل عكس ذلك ، فهو دليل كمال الوجود وحكمته ، والوجود الكامل من كل ناحية ، والمنزّه عن كل عيبٍ ونقص لن يتخلى عن مثل هذا الشيء.

وهذا الدليل بقدرٍ من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى شرحٍ وتفصيلٍ أكثر ، فهل يحتمل أحدٌ أن يلقي الله جميع الأنبياء والأبرار والصالحين في نار جهنم ، ويرسل جميع أشقياء وظالمي العالم إلى الجنّة؟!

٣٣٠

أفَسَقِمَ الأفراد حتى أنكروا كل حقيقة ، أم اضطرّ الذين وقعوا في حصار مسائل اخرى (كمسألة الجبر والتفويض) ، إلى إنكار مثل هذه الأمور؟

الدليل الثاني : يُمكن تلخيص منابع الظلم في عدّة أمور من خلال تحليل واضح :

وينشأ الظلم أحياناً من (احتياج الإنسان) ، وعوضاً من أن يصل الظالم إلى مقصوده ويسدّ حاجته ببذل الجهود والمساعي الصحيحة ، يسعى لتأمين حوائجه عن طريق غصب حقوق الآخرين.

وأحياناً ينشأ من (الجهل) وعدم الإطّلاع ، فالظلم لا يعلم الحق ولا يدرى ماذا يصنع وأي ذنبٍ يرتكب!

وأحياناً ينشأ الظلم من (عبادة الهوى) و (الأنانية) ، لأنّ الظالم يعجز عن الوصول إلى مقصوده ، ولا يستطيع أن يضبط نفسه أمام فقدان الشيء فيلتجىء إلى الظلم.

وأحياناً ينشأ الظلم من (دافع الإنتقام) و (الحقد) ، فينتقم الإنسان أضعاف ما لاقاه من الظلم.

وقد يكون الظلم صادراً من الضعف والعجز ، فحين يعجز الظالم من تحقيق أهدافه ولا يتمكن من السيطرة على نفسه ، يلتجىء إلى ظلم الآخرين.

وأحياناً قد ينبع الظلم من (الحَسد) ، فالحسود الذي يُعاني من نواقص معينة ، ولا يستطيع أن يشاهد غيره منعّماً ومرفّهاً فينازعه ليسلب منه النعمة بالظلم والجور ، وما شاكل هذه العوامل والدوافع التي تحكي جميعها عن وجود نوع من النقصان والإنحطاط.

اذن ، فكيف يُمكن في هذه الحالة أن يصدر الظلم والجور من الوجود الذي هو عين الكمال المطلق ، في حين أنّه منزّةٌ عن الحاجة والجهل والضعف والأنانية والغرور والحقد والانتقام ، ولا يوجد من هُو أكمل منه ليحسده ، ولا يستطيع أحد أن يسلب منه الكمال لكي يدفعه ذلك إلى الإنتقام؟

فهل يصدر شيء من مثل هذا الرب سوى الخير والعدل والرأفة والرحمة؟

وإن يعاقب الظالمين فبما كسبت أيديهم ، فما هو بحاجة إلى معاقبتهم ، ولا ذنب المذنبين يمس ساحة كبريائه.

٣٣١

والظريف هو أنّ القرآن الكريم قد استعان بالوجدان البشري العام حول هذا الموضوع ، وطلب منهم أن يحكموا بأنفسهم في هذه المسألة ، خلاف ما يعتقده الأشاعرة من كون الحسن والقبح ذا أبعادٍ شرعيّة فقط لا وجدانية.

يقول تعالى : (أَفَنَجْعَلُ المُسلِمِينَ كَالُمجرِمِينَ* مَالَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ). (القلم / ٣٥ ـ ٣٦) لاحظوا أنّ القرآن الكريم قد بين هذا الكلام بعد ذكره عظيم ثواب المتقين ، ممّا يدل بوضوح على اعتراف القرآن الكامل بمسألة تحكيم العقل في موضوع العدل والظلم ، حيث شجب الظلم واستحسن العدل ، بحكم العقل.

* * *

٥ ـ العدل في الروايات الإسلاميّة

أولت الروايات الإسلاميّة أهميّة كبيرة إلى معرفة العدل الإلهي ، ومسائل كثيرة اخرى تتشعّب منه ، بشكل بحيث يتضح من مجموعها أن مسألة العدل الإلهي كانت أمراً أذعن له الجميع ، وتعتبر من الامور الفطرية والضرورية في وجدان بني البشر.

١ ـ عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قال : «ارتفع عن ظُلمِ عبادهِ ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدَلَ عليهمْ في حُكمهِ» (١).

٢ ـ وقال عليه‌السلام في موضعٍ آخر : «واشهدُ أنّهُ عَدلٌ وحَكمٌ فَصْلٌ» (٢).

٣ ـ وقال أيضاً : «الّذي عَظُمَ حِلمُهُ فعَفى ، وعَدَلَ في كلِّ ما قضى» (٣).

٤ ـ وفي حديثٍ نبويٍ شهير أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بِالعَدلِ قَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرضِ» (٤).

ومن الواضح أنّ العدالة مستعملة هنا بمعناها الواسع وتعني : «وضع كل شيء في موضعه» ، وتشمل كلاً من العدالة مع العباد ، والعدالة والنظم في مجموعة عالم الوجود.

٥ ـ وفي حديثٍ نقله المرحوم العلّامة المجلسي قدس‌سره في بحار الأنوار ، حول وصف

__________________

(١) نهج البلاغه ، الخطبة ١٨٥ ، ص ٤٢٨.

(٢) المصدر السابق ، الخطبة ٢١٤.

(٣) المصدر السابق ، الخطبة ١٩١.

(٤) تفسير الصافي ، ذيل الآية ٩ من سورة الرحمن.

٣٣٢

الباري ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «هو نورٌ ليس فيه ظُلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل ليس فيه جور ، وحق ليس فيه باطل» (١).

٦ ـ ورد في صحيح الترمذي : «هُو اللهُ ... العدلُ اللّطيفُ» (٢).

٧ ـ ورد في كتاب الخمس من صحيح البخاري أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن ردّه على رجل جسور شكّك بعدالته ، قال : «فمَن يَعدلُ إذا لَم يَعدل اللهُ وَرسُولُهُ» (٣).

٨ ـ ورد في الدعاء الخامس والأربعين من الصحيفة السجادية أنّ الإمام السّجاد عليه‌السلام كان يناجي ربّه ويقول : «وَعَفوكَ تَفضّلٌ وَعُقوبَتِكَ عَدلٌ».

٩ ـ يُلاحظ وجود تعابير في الكثير من الروايات المنقولة عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة حول المسائل المتعلقة ببطلان الجبر ، والعقوبات الإلهيّة ، تدل على اتفاق الجميع القطعي على مسألة العدل الإلهي ، وأنّه كان مُرتَكزَ الإستدلالات ، ومن جملتها (أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام سأل الإمامَ عليه‌السلام وقال : أيجبر الله عباده على أعمالهم؟ فاجابه الإمام عليه‌السلام : «الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعلٍ ثم يعذّبه عليه» (٤).

١٠ ـ وفي حديثٍ نبوي منقول من مسند أحمد بن حنبل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أذنب في الدنيا ذنباً فعوقب عليه فالله أعدل من أن يُثنّي عقوبته على عبده» (٥).

١١ ـ عن الإمام الرضا عليه‌السلام في توضيح «أمرٌ بين أمرين» ، (نفي الجبر والتفويض) ، في إجابته عن سؤال أحد أصحابه : هل فوّض الله الأمور إلى عباده؟ فقال عليه‌السلام : «الله أعزّ من ذلك» (أي أعزّ من أن يترك تدبير أمور العالَمِ أو عباده كُليّاً ويكله إليهم) ، فسأله : فهل أجبرهم على المعاصي؟ فقال عليه‌السلام : «الله أعدل وأحكم من ذلك» ، (أي أنّ هذا العمل يتنافى نهائياً مع عدل الله وحكمته) (٦).

__________________

(١) بحارالانوار ، ج ٣ ، ص ٣٠٦ ، الباب ١٣ ، ح ٤٤.

(٢) المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي ، ج ٤ ، ص ١٥٥.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٥٢.

(٤) بحارالأنوار ، ج ٥ ، ص ٥١ ، ح ٨٣.

(٥) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ٩٩.

(٦) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٥٧ ، باب الجبر والقدر ، ح ٣.

٣٣٣

١٢ ـ وأخيراً نختتم هذا البحث بمقتطفات من الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام :

ورد في دعاءٍ يُقرأ بعد الفراغ من صلا ة الليل : «وقد علمت يا إلهي أنّه ليس في نقمتك عجلة ولا في حكمك ظُلم ، وإنّما يعجل من يخاف الفوت ، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً» (١).

إنّ الروايات والأحاديث الموجودة في هذا المجال كثيرة ، وما نقلناه يُعدُّ مقتطفاً من نماذج هذه الروايات المختلفة.

* * *

٦ ـ أدلّة منكري العدل الإلهي

قُلنا فيما مضى : إنّ منكري مسألة العدل الالهي قد تعرّضوا لضغوط مسائل اخرى جرّتهم إلى سلوك هذا الطريق ، وهي إجمالاً ما يلي :

١ ـ إنكار المستقلّات العقليّة ـ إنّهم يقولون : إنّ العقل لا يميزبين الحسن والقبيح ، بدون حكم الشرع ، فالحسن والقبح ، الصالح والطالح ، الواجب وغير الواجب جميعها تُؤخَذُ من الشرع وتصلنا عن طريق الوحي ، حتى الحكم بحسن العدالة وقبح الظلم ، فلا شيء يُدرَكُ عن طريق العقل!

٢ ـ الوجود بأكمله ملك لله ـ وهو حاكم وولي وصاحب كل شيء ، وبإمكانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله حول ذلك ، وفعله عين العدالة حتى وإن عاقب المحسنين أو أثاب المسيئين.

يقول الشهرستاني في (الملل والنحل) : كان ابوالحسن الأشعري يعتقد ويقول : (إنّ الله غير ملزم بفعل شيءٍ معينٍ يفرضه العقل ، لا الصالح ولا الأصلح ولا اللطف .. ثم أضاف : إنّ الله غير ملزمٍ بأصل التكليف لأنّه لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرراً ، فهو بامكانه أن يُجازي عباده

__________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ، ص ١٧٣ تعقيبات صلاة الليل.

٣٣٤

إمّا الثواب وإمّا العقاب ، وبإمكانه أن يشملهم بعفوه ، وبأنواع الثواب والنعم من دون أي سبب ، فلطفه تمام الفضل وعقابه وعذابه تمام العقل ، «لا يُسئل عمّا يفعل وهم يُسئلون» (١).

٣ ـ إنّهم يقولون : لا يُمكن وضع معيار ومقياس معين لأفعال الله ، وبتعبيرٍ آخر ، لا تعني عدالة الله التزامه بقوانين تدعى : (قوانين العدل) ، بل تعني : أنّه تعالى عين العدل وما يفعله عين العدالة ، فالعدل ليس بمقياسٍ لتشخيص فعل الله ، بل إنّ فعل الله ميزان ومقياس للعدل : فلو أدخل جميع جُناة العالم الجنّة فهو عين العدالة ، وكذا لو ألقى جميع المحسنين ، والطاهرين ، والأئمّة ، والأنبياء المعصومين في النار فهو عين العدالة أيضاً!

٤ ـ يعتقد الأشاعرة بأنّ الإنسان غير مخيّر أبداً في أعماله ، وكل ما يفعله فإنّما هو بارادة الله!

وعندما واجهوا هذا السؤال وهو : كيف يُمكن أن يُصدّق العقل بأنّ الله يجبرنا على المعصية ثم يؤاخذنا عليها؟ حيث إنّ هذا أمرٌ يُنافي عدالته تعالى.

ومن أجل الرد على هذا الإشكال أنكروا مسألة العدل والظلم وقالوا : (كل ما يفعل فهو عين العدل ، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله عمّا يفعل).

٥ ـ يُمكن أن يكون اتجاه بعضهم إلى نظرية نفي العدالة ناتجاً عن وقوفهم حائرين أمامَ هذا السؤال الذي يرتبط بالمسائل المتعلقة بالمعاد ، والعذاب ، ومجازاة الكافرين ، وهو : كيف يُمكن أن يخلد في نار الغضب الإلهي مَنْ أذنب وكفر وأشرك بربّه خمسين سنةً مثلاً؟ وكيف يتماشى هذا مع أصل العدل؟!

ولأنّه لم يكُن لديهم جواب على هذا السؤال فقد أنكروا أصل مسألة العدل.

٦ ـ إنّ شك البعض الآخر منهم في هذه المسألة ناشىءٌ من مشاهدتهم بعض النقائص الظاهرية ، من قبيل الآفات ، والبلايا ، والعواصف والزلازل ، وحوادث اخرى من هذا القبيل ، وكذا الأمراض ، الاحباطات ، وحالات الفشل في حياة البشر ، ولأنّهم باتوا عاجزين عن تفسير هذه الأمور الفلسفيّة ، فقد سلكوا طريق إنكار العدالة.

__________________

(١) الملل والنحل ، ص ١٠٢.

٣٣٥

كانت هذه مجموعة من الأمور التي تشكّل دوافع وأُسسَ مذهب منكري العدل في الماضي والحاضر.

* * *

نقد وتحليل

لنتطرّق الآن إلى نقد وتحليل هذه الإشكالات :

١ ـ أمّا فيما يخصُّ الدليل الأول فقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن كون إنكار العدل يقود إلى إنكار المستقلّات العقليّة ، ويلزم أن نؤكّد من جديد بأنّ منكري الحسن والقبح ، لا ينكرون هذا المعنى أبداً من الناحية العمليّة ، فما يقولونه لا يتجاوز ألسنتهم وحواراتهم ونقاشاتهم ، وأمّا لو وجّه أحدٌ صفعةً إلى أحد أطفالهم الصغار ، أو أحْرقَ دارهم من دون مبرّر ، لا ستقبحوا هذا العمل ، ولما تردّدوا في التسليم بقبحه عن طريق تشخيص الوجدان ، وسيحكمون قطعاً بوجوب معاقبة هذا الشخص ، ولما صبروا أبداً لينظروا إلى كون قباحة هذا العمل وردت في آية أو رواية أمْ لا.

ولو أصابهم الجوع والعطش في الصحراء ، وجاءهم أحدٌ بالماء أو الغذاء ، أو حمل مريضهم على كتفه عدّة كيلومترات ليوصله إلى المستشفى ، وينجيه من الموت المحتَّمِ ، لما تردد أحدٌ منهم في حُسن هذا العمل والثناء على فاعله ، ولما قالوا : أمهلونا لنرى فيما إذا كانت الروايات والآيات قد مدحته وشكرته ومجّدته أم لا!

ويوجد الكثير من قبيل هذه البحوث في المباحث العقلية وهو أن يتعرض أفراد مُعَيَّنون لضغوط مسائل جانبيّة فينكرون حقائق معينة بألسنتهم ، في حين أنّهم يؤمنون بها تماماً من الناحية العمليّة (كالسوفسطائيين الذين ينكرون الوجود الخارجي لجميع الأشياء ، لكنهم عملاً يجتنبون النار ويذهبون لتناول الماء عند العطش).

علاوةً على هذا فإنّ قبول المستقلّات العقليّة هو العمود الأساس في قبول نبوّة الأنبياء ، وبدونها لا يمكن تصديق كلام أي نبي ، ولما كانت معجزاتهم دليلاً على صدقهم ، لأنّ بإنكار

٣٣٦

المستقلّات العقليّة لا يُسْتبعْدُ احتمال افترائهم ، وظهور المعجزات على أَيدي دعاة الباطل.

٢ ـ إنّ مسألة مالكية الله لجميع عالم الوجود وجميع ذرّات وجودنا ليست مطلباً خافياً على أحد ، ولكن المالكيّة ليست دليلاً على صدور تصرّفات غير حكيمة منه ، أي أنّ صفة المالكية تقترن بالحكمة ، فلا يُمكن التصديق بأحدها وإنكار الاخرى.

من الممكن أن يدّخر شخصٌ أموالاً من أتعابه المشروعة خلال سنوات طويلة ويكون مالكها ، لكنه لا يحق له أن يحرقها بأكملها ، لأنّ العقل يحكم بقباحة هذا العمل ، حتى وإن صدر من مالكه.

كذلك الله الحكيم أيضاً ، فلا يفعل مثل ذلك ، كأن يُهلك كل ما في الوجود ، أو يحرقه من دون سبب ، أو كما قال الأشاعرة : يُلقي جميع الأنبياء والصالحين والطاهرين في أعماق نار جهنّم ، ويدخل الأشقياء والأشرار في الجنان العُلى ، فهذا العمل قبيح وينافي الحكمة ، حتى وإن صدر من المالك.

إذن ، فالمالكية ليسَتْ دليلاً على حسن جميع أفعال المالك ، سواءً كان حقيقياً وتكوينياً أي الله ، أَمْ صوريّاً وظاهريّاً كالبشر.

إنَّ الأشاعرة يعتقدون بأنّه : لو آمنّا بكون الله (فعّالاً لما يشاء) بسبب مالكيته ، وكلامهم هذا يعني إلغاء لحكمة الله.

ومن المسلمات أنّ الإله غير الحكيم ليس لأقواله اعتبار ، ولا لوعوده ثقة ، لأنّه من الممكن أن تكون أقواله فاقدة المحتوى ، ومغايرة للواقع. (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً).

٣ ـ إنّ قولهم : إنّ الله فوق الحسن والقبح ولا يُمكن قياس أفعاله بهذه الضوابط ـ بل هو سبحانه المعيار والمحور في تعيين الضوابط ـ ليس إلّامغالطة ولا أكثر ، وهو موضوع متناقض معروض بزيٍّ جميل ، فهذا الكلام يخص القوانين التكوينية ، وقد استُعمِلَ خطأً في مجال القوانين التشريعيّة.

ويجدر التوضيح في عدم وجود قوانين قبل الخلق والتكوين الإلهي ، وبخلق الأشياء ،

٣٣٧

المقارن للنظام والحساب ، ظهرت مسألة التقنين ، فمثلاً قبل خلق المجرّات ، لم يكن هناك قانون الجاذبية لكي يستعمله الله في خلقه ، ولكن انبثق بعد خلق المجرّات ، وبتعبيرٍ آخر : إنّ قانون الجاذبية خُلقَ بعد خلق المجرّات مباشرةً.

ويصدُق هذا الكلام بخصوص جميع قوانين عالم الخلق والتكوين.

أمّا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة ، فالمسألة ذات طابعٍ آخر ، لأنّ الله عندما خلق الإنسان ، الذي يُعد النموذج الأتم للخلق ، لكي يسير في طريق التكامل ، وأودع فيه جميع وسائل الوصول إلى الكمال ، فمن المُسَلَّم لزوم تناسب قوانينه التشريعيّة مع هذا الهدف ، أي أن تكون القوانين بشكل تسوق الإنسان نحو الكمال ، وإلّا لتنافت مع حكمة الله.

أفيمكن أن تتناقض وتتضاد أفعال الحكيم؟!

فالظلم سبب فساد وسقوط وتأخُّر العالم ، والعدل سبب تكامله وارتقائه ، وما الله بظالم ولا بمخرّب قواعد تكامل الإنسان.

وبتعبيرٍ آخر فإنّ أفعال الله التشريعيّة تنبع من أفعاله التكوينيّة ، ومن هنا ينشأ الحسن والقبح بالضبط ، لا أن يكون الله خاضعاً لقانونٍ آخر ، بل إنّ جميع القوانين الموجودة هي قوانينه في عالم الدين والشريعة متناغمة مع قوانينه في عالم الوجود ، وإلّا لكان ناقضاً لقوانينه بذاته ، وهذا ليس من فعل الحكيم.

وقول البعض : (إنّ الله لا يخضع لحكم العقل ، ولا يُمكن للعقل أن يفرض عليه شيئاً معيناً) يُعَدُّ مغالطة صبيانية ، لأنّ وظيفة العقل هي الإدراك لا تعيين الوظيفة ، أي التفكّر والفهم لا التقنين والتشريع.

فالعقل يقول : إنني أفهم أَنَّ الحكيم لا يفعل الأفعال المتناقضة والمتضادة ، أفهم أَنّ الله لا ينتقض وعده ، وأفهم أنّ الموجود الكامل من جميع النواحي لا يظلم ، أي لا يضع الشيء في غير محلّه المناسب.

إنّ كل هذه الأمور هي من إدراك وفهم العقل ، لا تعيين التكليف والوظيفة لله تعالى ، لذا فكما يدرك العقل أَنّ ٢+ ٢ / ٤ ، كذلك يدرك أَنّ الحكمة تتنافى مع نقض الغرض ، فالله

٣٣٨

الحكيم الذي خلق الوجود من أجل الصلاح والكمال لن يدفع به نحو الإنحطاط والفساد ، فلم يقنّن العقل بأنّ ٢+ ٢ / ٤ ، إنّما هو فقط من إدراكه.

وكذا الحال في مسائل الحسن والقبح التي تعود جذورها إلى المسائل التكوينيّة ، فدور العقل فيها هو إدراك الحسن والقبح فقط لاالتقنين ، (فتأمل).

ولا يخفى أنّ العقل يحاول إدراك الموجودات والمعدمات ، الواجبات وغير الواجبات ، وهو ذو بعد إرشادي ، بالضبط كأوامر الطبيب ، فعندما يُدرك الطبيب ضرر غذاءٍ ما للمريض يقول له : يجب عليك أن تتجنب تناول هذا الغذاء ، فكلمة (يجب) هذه ليست قانوناً تترتب على تركه عقوبة معينة ، بل هي مجرّد إرشاد وتوجيه لا غير ، وإن لم يعمل ذلك المريض بموجبه فإنّه سوف لن يؤدّي سوى إلى ضرره (ولكن من الواضح أنّ أوامر العقل الإرشادية ليس لها علاقة بساحة القدس الإلهيّة).

وخلاصة الكلام هو أنّ دور العقل بالنسبة إلى الأفعال الإلهيّة هو فهم الحقائق ، لا تعيين تكليف لله تعالى ليُقال : إنَّ الله أكبر من أن تعيّن عقولنا له تلكيفاً معيناً.

٤ ـ يجب أن لا يَصير الاعتقاد بمسألة الجبر منشأً لإنكار العدالة والظلم ـ صحيح أنّ الأخطاء تؤدّي إلى أخطاء ، اخرى دائماً ، والزلات تصدر من زلات اخرى ، ولكن ينبغي عدم الإصرار على الأخطاء بحيث يؤدّي إلى إنكار الواضحات.

لا ريب في أنّ مسألة (العدل الإلهي) أو (حسن العدل) و (قبح الظلم) أوضح من مسألة حريّة إرادة الإنسان ، وعلى فرض عدم وضوح مسألة الجبر والتفويض بالنسبة للبعض فإنّها لا تكون دليلاً لإنكار مسألة العدل.

لقد واجه (الجبريّون) هذه المعضلة دائماً ، وهي كيف يُمكن التصديق بأنّ الله يجبر عباده على المعاصي ثم يؤاخذهم عليها؟ وهذا يتنافى مع عدالته!

هذا دليلٌ منطقيٌ واضح ، لكن الجبريين وبدلاً من أن يقوموا بتصحيح آرائهم في مسألة الجبر ، ذهبوا إلى إنكار العدل الإلهي أو قالوا : كل ما يصدر منه عين العدل حتى معاقبة المجبرين.

٣٣٩

إنّ الصورة التي رسمها هؤلاء في أذهانهم عن الله عجيبة ورهيبة حقاً ، الله الذي من الممكن أن يُلقي جميع الأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة المقرّبين ، والشهداء ، والصديقين في قعر جهنّم ، ويُدخل جميع الأشقياء والظالمين ، وأشرار التاريخ البشري ، والشياطين في أعلى عليين في الجنّة ، الله الذي يجبر جماعة على المعصية وجماعة اخرى على الطاعة ، دون مبرّر ، ثم يثيب المحسن ويعاقب المسيء ، والحال أنّه لا يوجد أي تفاوت بين حقيقة حالهم!

ومن المسلَّم به أنّ هذه الصورة القبيحة والموحشة تُبعّد الناس عن الله وتغلق باب معرفة الله ، وستؤدّي إلى نشوء كل ألوان القبائح والمظالم في المجتمع البشري ، وتُظهر الدين بمظهر الأفيون والفساد والفوضى ، وتُسبب سوء الظن تجاه جميع عالم الوجود.

وخلاصة الكلام هو أنّ الإصرار على مسألة الجبر يجب ألّا يؤدّي إلى إنكار العدل ، بل بالعكس ، يجب أن يؤدّي إلى وضوح مسألة العدل الإلهي إلى تجديد نظر الجبريين في عقيدة الجبر.

وما أكثر المسائل البديهية الواضحة التي اختفت خلف حجب الإنكار بسبب الإصرار والعناد في إثبات بعض المسائل النظرية غير الواقعيّة.

٥ ـ ذكرنا سابقاً أنَّ إشكالات بحوث المعاد قد تؤدّي أحياناً إلى التشكيك في مسألة العدل الإلهي ، فعندما يدور الكلام حول مسألة خلود جماعة من المذنبين في النار يُطرَحُ هذا السؤال : كم كان مجموع عمر هذه الجماعة؟ ٥٠ سنة ، ٧٠ سنة ، أو مائة سنة ، فالعدالة تفرض تَساوي الذنب والعقوبة ، فما معنى العذاب الأبدي مقابل هذا العمر القصير إذن؟

لكن وكما قُلنا يجب التفكير بأسلوب منطقي لحل المسائل في مثل هذه الإشكالات ، وبالمناسبة فإنّ حل إشكال الخلود له طرق واضحة ، لأنّ الإشكال أعلاه ينشأ من خطأ قياس العقوبات الإلهيّة ـ التي هي نتيجة أعمال نفس الإنسان ـ مع العقوبات الوضعيّة.

ويجدر توضيح ما يبدو من الآيات والروايات والشواهد العقلية أنّ العقوبات الأخروية لها شَبهٌ كبير بالآثار الطبيعيّة لأعمال الإنسان الدنيوية ، فمثلاً أنّ مَنْ يُفرط في تناول

٣٤٠