السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤
١٧ ـ تشبيه عثمان بهارون
وفي حديثٍ آخر ـ موضوع كسابقه ـ شبّه عثمان بهارون عليهالسلام ... فقد روى الحافظ المحب الطبري :
« عن أنس قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما من نبي إلاّوله نظير في امتي ، فأبو بكر نظير إبراهيم ، وعمر نظير موسى ، وعثمان نظير هارون ، وعلي بن أبي طالب نظيري.
خرّجه الخلقعي والملاّء في سيرته » (١).
ورواه السيوطي عن ابن عساكر عن أنس (٢).
١٨ ـ طلب الأمير الخلافة منذ قبض النبي
ولو كان الحديث دليلاً على نفي الخلافة وسلبها عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، لما خفي ذلك على الإمام عليهالسلام وأهل بيته وأتباعه ، لكنْ قد ثبت بالقطع واليقين أنه عليهالسلام طلب الخلافة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ أن قبض ... وقال ابن عبد البر : « روينا من وجوه : أن الحسن بن علي ـ رضياللهعنه ـ لمّا حضرته الوفاة قال للحسين أخيه : يا أخي ، إن ابان رحمهالله تعالى لما قبض رسول الله صلّى عليه وسلّم منذ أن قبض ... وقال ابن عبد البر.
« روينا من وجوه : أن الحسن بن علي ـ رضياللهعنه ـ لمّا حضرته الوفاة قال للحسين أخيه : يا أخي ، إن ابانا رحمهالله تعالى لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشرف لهذا الأمر ، ورجا أن يكون صاحبه ، فصرفه الله عنه ووليها أبو بكر ، فلمّا حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضاً فصرفت عنه إلى عمر ، فلمّا احتضر عمر ، جعلها شورى بين ستة هو أحدهم ، فلم يشك أنها لا تعدوه ، فصرفت عنه إلى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ، ثم نوزع حتى جرّد السيف وطلبها ، فما
__________________
(١) الرياض النضرة ١ / ٥٠ ـ باب ذكر النظير.
(٢) الخصائص الكبرى ٢ / ٢٦٧.
صفا شيء منها » (١).
فهذا الإستشراف أدل دليل عند أةل الإنصاف على بطلان دعاوي أهل الإعتساف ...
١٩ ـ كلام العباس لأمير المؤمنين حول الخلافة
وروى أهل السنّة : أن العباس قال لأمير المؤمنين عليهالسلام قبيل وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ادخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر ، فإن كان لنا بيَّنه ، وإنْ كان لغيرنا وصّى الناس ».
واستدلّ به الرازي ـ فيما استدل بزعمه ـ على عدم النصّ على أمير المؤمنين بالخلافة قائلاً : « إنه لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال العباس لعلي : أنا أعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب ، وقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأدخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر ، فإنْ كان لنا بيّنه ، وإنْ كان لغيرنا وصّى الناس.
ومعلوم أن عليّاً لو كان منصوصاً عليه ، لكان العباس أعرف الناس بذلك ، فكان لا يقول مثل هذا الكلام.
لا يقال : مراد العباس منه أن الإمارة التي جعلها النبي عليهالسلام هل تسلم لهم أم لا.
لأنّا نقول : لفظة لنا أو لغيرنا يقتضي الملك والإستحقاق ، ولم يقل العباس سله هل يسلم هذا الأمر إلينا أم لا ، حتى يصح ما قاله السائل.
وأيضاً : فقد روي أنّ علياً ـ رضياللهعنه ـ قال له فيما بعد : خفت أن يقول النبي عليهالسلام : إنه لغيركم فلا يعطيناه الناس أبداً. ومعلوم أن ذلك إنما
__________________
(١) الاستيعاب ١ / ٣٩١. الطبعة المحققة.
يلزم إذا قال هو مستحق لغيركم ، لا إذا قال : لا يسلّمه الناس إليكم ».
أقول :
إن كلّ هذا الذي رووه غير ثابت عندنا.
لكنّا نستدل به ـ من باب الإلزام ـ فنقول للرازي : لو كان حديث المنزلة يدل على نفي خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام ، لكان العباس أعرف الناس بذلك ، فكان لا يقول مثل هذا الكلام لعلي عليهالسلام ...
فرضنا أن العباس قاله ، وفرضنا جهله بحديث المنزلة ومعناه ، ولكنْ ، لو كان حديث المنزلة يدل على ما زعم الرازي ، لأجاب أمير المؤمنين عليهالسلام عن كلام العباس وردّه بما دلّ عليه حديث المنزلة من عدم استحقاقه الخلافة كما يزعمون لا أنْ يقول له مثل الكلام الذي رووه.
٢٠ ـ قول العباس له : أمدد يدك أبايعك
ويدل على عدم دلالة حديث المنزلة على نفي الخلافة : قول العباس ـ لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لأمير المؤمنين عليهالسلام : « امدد يدك ابايعك ، يقول الناس : هذا عمّ رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ». إذ لو كان مدلول الحديث ما زعمه الرازي ومن تبعه ، لما قال العباس ذلك ... وعلى فرضه لردّه أمير المؤمنين عليهالسلام.
وقد استدل الرازي بهذا الكلام أيضاً على عدم النص على أمير المؤمنين بما يظهر منه ثبوته ـ أي الكلام ـ عنده.
٢١ ـ نصّ عمر على الستة ووصيّته لكلٍ منهم
واستدل الرازي على عدم النص على أمير المؤمنين عليهالسلام بزعمه بقضيّة الشورى فقال : « إن عمر ـ رضياللهعنه ـ نص على الستة ، وكان يوصي لكلّ واحدٍ منهم أنه لو صار إماماً فإنه لا يجلس أقاربه على رقاب الناس. مع علمه بأنه يعلمون تركه الدين ، وإعراضه عن نصّ الرسول ، فما كان فيهم من يقول : كيف تنهانا عن ذلك مع أنك أنت التارك لنص الله ونصّ رسوله ».
وأقول :
إنّ لهذا النص ولتلك الوصية ظهوراً تامّاً في تجويز عمر خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام ...
فلو كان حديث المنزلة دالاًّ على نفي خلافته لكان عمر بنصه ووصيّته تاركاً لنصّ الله ونصّ رسوله.
وأيضاً ، سكوت الستّة ـ وفيهم الأمير عليهالسلام ـ دليل قاطع على عدم دلالة حديث المنزلة على نفي الخلافة ... وإلاّ لردّوا على عمر نصّه ووصيّته ...
٢٢ ـ قول عمر : فمالهم عن أبي الحسن ، فوالله إنّه لأحراهم ...
وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الرحمن بن عبد القادر :
« إنّ عمر بن الخطاب ـ رضياللهعنه ـ ورجلاً من الأنصار كانا جالسين ، فجئت فجلست إليهما.
فقال عمر : إنّا لا نحبّ من يرفع حديثاً.
فقلت : لست اجالس اولئك يا أمير المؤمنين.
قال عمر : بل تجالس هؤلاء وهؤلاء ولا ترفع حديثنا.
ثم قال للأنصاري :
من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟
قعدّ الأنصاري رجالاً من المهاجرين ، ولم يسمّ عليّاً.
فقال عمر : فما لهم عن أبي الحسن ، فوالله إنه لأحراهم ، إن كان عليهم لأقامهم على طريقةٍ من الحق ».
رواه عنه الشيخ محمد صدر العالم (١).
وهذا خبر آخر يدل دلالةً واضحة على بطلان ما زعمه الرازي ومن تبعه في مدلول حديث المنزلة.
٢٣ ـ ما فعله عبد الرحمن في الشورى
واستدل الرازي ـ لنفي النص ـ بقصة الشورى وما فعله عبد الرحمن بن عرف ... قال : « إن عبد الرحمن لمّا رام مبايعة علي شَرَطَ أنْ يستنَ فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، وكان يعلم أن عليّاً وغيره يعلمون أنه مع الشيخين مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله.
أفما كان في الجماعة من كانت له نفس وحميّة فيقول لعبد الرحمن : نراك لا تحافظ على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، فلو اتّبعتَهما في تقرير الأمر على المنصوص عليه من قبلهما ، لما احتجت إلى هذا القول ، فلم لا تكلّف نفسك أوّلاً بمتابعة السنّة؟ وكيف صبرت نفوسهم ـ وهم أصحاب الحميّة والأنفة والشجاعة وطلاقة اللسان ـ على السكوت على ذلك؟ فإن كان كذلك فقد كانوا شرّ امّة اخرجت للناس ، منسلخين عن كلّ حميّة ومروّة ، وكان عبد الرحمن في غاية الوقاحة ».
__________________
(١) معارج العلى في مناقب المرتضى ـ مخطوط.
أقول :
ونحن نعيد على الرازي ما قاله فنقول : لو كان حديث المنزلة يدل على نفي الخلافة وسلبها عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، لما رام عبد الرحمن مبايعه علي ، ولردَّ عليه علي بما دلّ عليه حديث المنزلة ، ولقال له القوم : لِم لا تكلّف نفسك أوّلاً بمتابعة السنّة؟ وكيف صبرت نفوسهم عن هذا القول ، وسكتوا على ما فعل عبد الرحمن وقال وهم هم ...؟
ومن كلّ ذلك يظهر كذب ما ادّعاه الرازي وأتباعه في باب حديث المنزلة ...
٢٤ ـ ممّا قال الأمير في الشورى : ليس هذا أول يوم ...
وقد روى أبو الفداء في تاريخه جواب الإمام عليهالسلام وموقفه ممّا فعله عبد الرحمن بن عوف ... في الشورى ... الذي هو نصّ صريح في اعتراضه عليهالسلام على ما كان ، وأنّه كان يرى الخلافة لنفسه من أوّل يوم ... قال أبو الفداء :
« ثم جمع عبد الرحمن الناس بعد أن أخرج نفسه عن الخلافة ، فدعا عليّاً فقال : عليك عهد الله وميثاقه ، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.
فقال : أرجو أنْ أفعل وأعمل مبلغ علمي وطاقني.
ودعا بعثمان وقال له مثل ما قال لعلي.
فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال اللهم اسمع واشهد ، اللهم اني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وبايعه.
فقال علي : ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولَّيت عثمان إلاّليردَّ الأمر إليك ، والله كلّ يومٍ
في شأن.
فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك حجةً وسبيلاً.
فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن : والله لقد تركته ـ يعني عليّاً ـ وإنّه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فقال : يا مقداد ، لقد أجهدت للمسلمين.
فقال المقداد : إني لأعجب من قريش ، إنهم تركوا رجلاًما أقول ولا أعلم ان رجلاً أقضى بالحق ولا أعلم منه.
فقال عبد الرحمن : يا مقداد ، إتّق الله ، فإني أخاف عليك الفتنة.
ثم لمّا أحدث عثمان ـ رضياللهعنه ـ ما أحدث ، من توليته الأمصار للأحداث من أقاربه ، روي أنّه قيل لعبد الرحمن بن عوف :
هذا كلّه فعلك.
فقال : لم أظنّ هذا به ، لكن لله عليَّ أنْ لا اكلّمه أبداً.
ومات عبد الرحمن وهو مهاجر عثمان رضي الله عنهما.
ودخل عليه عثمان عائداً في مرضه فتحوّل إلى الحائط ولم يكلّمه » (١).
وفي هذه القصة دلالة من جهات ، على بطلان ما ادّعاه الرازي وأتباعه ، في مدلول حديث المنزلة ... كما يدلّ على بطلان خلافة الثلاثة وتولّيهم امور المسلمين ، من جهاتٍ كذلك ...
__________________
(١) المختصر في أخبار البشر ١ : ١٦٦.
ممّا نقتضيه المشابهة التامة بين علي وهارون
قوله :
وحمل التشبيه الواقع في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم على التشبيه الناقص ، خروج كامل عن الديانة. والعياذ بالله.
أقول :
قد عرفت ـ حسب كلمات أئمة الحديث وغيرهم من أهل السنّة ـ دلالة حديث المنزلة على الإتصال والقرب ...
وعرفت ـ حسب كلمات أئمة اللغة ـ أن « المنزلة » بمعنى « المرتبة » وهي الأمر الثابت.
فلا يكون « نفي الخلافة » داخلاً في مدلول « المنزلة » أبداً.
فالتشبيه تام ، ولا مدخل للنقصان فيه ...
بل حمله على نفي الخلافة حمل للتشبيه على الأمر الناقص ، ومخالف لكلمات أئمة الحديث وتصريحات أئمة اللغة ... وذلك خروج كامل عن الديانة. والعياذ بالله.
أضف إلى ذلك كلّه :
إنه إذا كان أمير المؤمنين قد شبّه في الحديث بهارون وأنه يجل حمل التشبيه على المشابهة التّامة ، وأن حمله على المتشابهة الناقصة خروج عن الدين المبين ... فلا ريب في ثبوت العصمة لأمير المؤمنين عليهالسلام ، لكون هارون عليهالسلام معصوماً ، ونفي العصمة عن الأمير حمل للتشبيه على المشابهة الناقصة ، وهو خروج عن الدين.
وأيضاً :
لا ريب في أفضليّة هارون من جميع امّة موسى ... ومقتضى التشبيه الكامل هو كون أمير المؤمنين عليهالسلام أفضل امة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ... وإلاّ لزم حمل التشبيه على التشبيه الناقص ... وهو خروج عن الدين ... ومن هنا يظهر أنّ تفضيل غيره عليه خروج عن الدين وكفر بالله العظيم ... نعوذ بالله من ذلك.
وأيضاً :
مقتضى التشبيه الكامل هو أن يكون أمير المؤمنين عليهالسلام مفترض الطاعة وواجب الإمتثال على الإطلاق ، بالنسبة إلى جميع أفراد الامة ، في حياة النبي وبعد وفاته ... لأن هارون كان كذلك بالنسبة إلى امة موسى ... وإلاّ كان التشبيه ناقصاً ، والعياذ بالله.
دلالة
حديث المنزلة
من وجوه دلالته على نفي خلافة الثلاثة
قوله :
ومع غضّ النظر عن كلّ ذلك ، فأين دلالة الحديث على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة ، حتى يتمّ المدّعى؟
أقول :
إذا رفع القوم اليد عن المكابرة وتركوا العناد ، ونظروا إلى وجه إستدلال الإمامية بحديث المنزلة ، بعين الإنصاف ... لم يبق أيّ ريبٍ في دلالة الحديث على خلافة الأمير عليه الصلاة والسلام ... وبطلان خلافة المتقدّمين عليه ... لأنه يدل من عدّة جهات وبكلّ وضوح على إمامته بلا فصل ، وخلافته المتّصلة بوفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وإن كلام ( الدهلوي ) في هذا المقام نظير ما إذا تكلّم بعض أتباع مسيلمة الكذاب مثلاً في دلالئل نبوّة نبينا ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بذكر بعض الشبهات الواهية المخالفة للعرف واللغة وكلمات أئمتهم ... ثم يقولوا : ولو صرفنا النظر عن كل ذلك ، فأين دلالة تلك الأدلة على نفي نبوّة مسيلمة ...!! فالجواب الجواب.
دلالته على الخلافة العامة
وأمّا تلك الجهات التي أشرنا إليها :
فإنّ الخلافة التي رياها الإمامية لهارون عليهالسلام هي الخلافة العامّة
على جميع امة موسى عليهالسلام ... فكذلك خلافة الأمير عليهالسلام المشبّه بهارون ... فيكون الثلاثة من جملة رعاياه.
دلالته على افتراض الطّاعة
والحديث يدل على افتراض طاعة أمير المؤمنين على جميع الامّة ، كما كانت طاعة هارون مفترضة على جميع امّة موسى ، فالثلاثة ممّن وجبت عليهم طاعته وامتثال أوامره ونواهيه.
دلالته على الأفضلية
ويدل الحديث على أفضلية أمير المؤمنين عليهالسلام ممّن عد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا مما اعترف به شعبة بن الحجّاج كما سيجيء ، ويفيده كلام ( الدهلوي ) أيضاً ... والأفضلية تفيد الخلافة بلا فصل.
دلالته على العصمة
وثبوت عصمته عليهالسلام من هذا الحديث ، يثبت حصر الخلافة فيه من بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وينفي خلافة غيره ، لعدم كونهم معصومين بالقطع واليقين.
دلالته على الأعلمية
وستعلم دلالته على الأعلمية حتى باعتراف عثمان ، والأعلمية تثبت الأفضلية ، والأفضلية يفيد تعيّن الخلافة له وتعيّنه لها ، وذلك دليل متين على سلب الخلافة عمّن سواه ...
قوله :
غاية ما في الباب ثبوت إستحقاق الإمامة له ولو في وقتٍ من الأوقات ، وهو عين مذهب أهل السنّة.
أقول :
إنه بعد رفع اليد عن المكابرة ، والإصغاء إلى تقرير إستدلال الإماميّة بالحديث ... لا يبقى مجال لهذه الهفوة العجيبة ... إذ الحديث يدل على إمامة الأمير بلا فضل ، لا في وقتٍ من الأوقات ، لأن خلافة هارون ـ على تقدير بقاءه بعد موسى ـ كانت كذلك ، وحمل التشبيه على غير ذلك حمل على التشبيه الناقص الذي قال بأنه خروج عن الدين ...
على أنّه بعد ثبوت الإستحقاق تكون الخلافة متّصلة ، لأن من المتفق عليه الذي لا ريب فيه عدم وجود نصٍّ على خلافة الثلاثة.
وإلى هنا تمّ الرد على أباطيل ( الدهلوي ) وشبهاته حول حديث المنزلة. والحمد لله رب العالمين.
فلنشرع في شرح وتوضيح بعض الدلائل ، الموضحة دلالة حديث المنزلة على إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام بلا فصل ... ردّاً على أضاليل وأباطيل الأعور الواسطي ، وبياناً لبطلان وهو ان خرافات ابن تيميّة ، وإيضاحاً لسقوط وفساد توهّمات الفخر الرازي ... وبالله التوفيق.
الدلائل على دلالة حديث المنزلة
(١)
إفتراض طاعة هارون
إنه بالإضافة إلى خلافة هارون عن موسى ، وعدم جواز زوال وانقطاع خلافته عنه ... كما عرفت ... فإنّ من منازل هارون الثابتة له بالقطع واليقين : افتراض طاعته ولزوم الإنقياد له ووجوب اتّباعه ... هذه المنزلة التي لم يأت أحد ـ حتى من المكابرين المعاندين ـ باحتمال انقطاعها وزوالها ، ولم يتمكن المنهمكون في إنكار الواضحات والحقائق البيّنات من رفضها ومنعها ، بل لم يجدوا بُدّاً من تأكيدها وتشييدها ...
قال شمس الدين الإصفهاني : « قوله : إنه كان خليفةً له على قومه في حال حياته. قلنا : لا نسلّم ذلك ، بل كان شريكاً له في النبوّة ، والشريك غير خليفة ، وليس جعل أحد الشريكين خليفةً عن الآخر أولى من العكس.
وقوله تعالى ـ حكاية عنه ـ : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) الاعراف ٧ : ١٤٢ فالمراد به المبالغة والتأكيد في القيام بأمر قومه ، على نحو قيام موسى ، أمّا أنْ يكون مستخلفاً عنه بقوله فلا ، فإنّ المستخلف عن الشخص بقوله لو لم يقدر استخلافه ، لما كان له القيام مقامه في التصرف ، وهارون من حيث هو شريك في النبوة فله ذلك ولو لم
يستخلفه موسى » (١).
وقال التفتازاني : « ولو سلّم العموم ، فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإمامة ، لأنه شريك له في النبوّة ، وقوله ( اخْلُفْنِي ) ليس إستخلافاً ، بل مبالغة وتأكيداً في القيام بأمر القوم » (٢).
وقال القوشجي : « ولو سلّم [ العموم ] ، فليس من منازل هراون الخلافة والتصرف بطريق النيابة ، على ما هو مقتضى الإمامة ، لأنه شريك له في النبوّة. وقوله ( اخْلُفْنِي ) ليس إستخلافاً ، بل مبالغة وتأكيداً في القيام بأمر القوم » (٣).
وقال الهروي في كتابه الموسوم ( السهام الثاقبة ) : « وقوله لهارون :
( اخْلُفْنِي ) ليس إستخلافاً بالمعنى المشهور ، بل تأكيداً بالقيام لأمر الجمهور أيّام غيبة موسى عليهالسلام ، وإلاّ فهو كان نبياً في زمن موسى عليهالسلام ومأموراً بالتبليغ ».
ومتى كان هارون عليهالسلام مفترض الطاعة وواجب الإتباع على حياة موسى عليهالسلام ، فكذلك أمير المؤمنين عليهالسلام مفترض الطاعة وواجب الإتّباع في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لثبوت عموم المنازل بالوجوه المتقدمة.
وعلى فرض حمل المنزلة على المنازل المشهورة ـ الذي ذهب إليه شاه ولي الله الدهلوي ، في ( ازلة الخفا ) ـ فالنتيجة حاصلة حاصلة كذلك.
__________________
(١) تشييد القواعد ـ مبحث الإمامة.
(٢) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.
(٣) شرح التجريد : ٤٧٨.
ثبوت خلافة الأمير بثبوت فرض طاعته في حياة النّبي
وثبوت افتراض طاعة أمير المؤمنين عليهالسلام في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يكفي لثبوت خلافته عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لوجوه عديدة :
الأوّل : إن القول بوجوب إطاعته في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم صرف الخلافة عنه ودخوله في زمرة الرعايا والمتبوعين بعد وفاته ، خلاف الإجماع المركب.
الثاني : إنه لا يجوّز عقل عاقل أنْ يكون أمير المؤمنين عليهالسلام في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل هارون عليهالسلام في وجوب الإتّباع والإطاعة له ، ثم تسلب منه هذة المرتبة بعد وفاته ، ويكون من جملة التابعين والمطيعين.
الثالث : إنه إذا كان أمير المؤمنين ـ مثل هارون عليهماالسلام ـ واجب الإطاعة على الإطلاق بالنسبة إلى جميع أمة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى كان الثلاثة ممن تجب عليهم طاعته واتّباعه ، كان القول بعدم إمامته وخلافته بعد النبي ، وجعل الثلاثة أئمّةً وخلفاء ، مستلزماً لقلب الموضوع وعكس المشروع ، فيكون التابعون المطيعون أئمةً مطاعين ، ومن كان واجب الإطاعة والإتّباع يكون من الرعايا والأتباع!! سبحانك هذا بهتان عظيم!!
و ( الدهلوي ) نفسه يقول في مقام الإستدلال بقوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) الآية ، على خلافة أبي بكر : « ومن كان واجب الإطعاعة فهو إمام » (١).
__________________
(١) التحفة الاثنا عشرية : ١٨٦.
فثبوت إطاعة أمير المؤمنين من حديث المنزلة ، يثبت امامته حسب اعتراف ( الدهلوي ) ... ولله الحمد على ذلك.
ومما يؤكّد قوة هذا الوجه ومتانته : أنّ ( الدهلوي ) سكت عن الإجابة عنه في متن كتابه ( التحفة ) ، وفي الحاشية لم يقل إلاّ « ولا يخفى ما فيه »!!
جواب شبهة أن افتراض الطاعة مسبب عن النبوة لا الخلافة
وغاية تخديع أسلاف ( الدهولي ) ، ونهاية تأويلهم هو : دعوى أن افتراض طاعة هارون عليهالسلام كان مسبَّباً عن نبوّته ، لا عن خلافته عن موسى عليهالسلام ، وإذْ لم يكن أمير المؤمنين نبيّاً فلا تجب إطاعته ...
وهذا ما تشبَّث به القاضي العضد ، والشريف الجرجاني ، التفتازاني ، والقوشچي ، وابن حجر المكّي ، وغيرهم ...
قال الشريف الجرجاني : « ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى ، لنبوّته لا للخلافة عن موسى ، كما اعترفتم به في هذا الوجه ، وقد نفى النبوّة ههنا ، لاستحالة كون علي نبيّاً ، فيلزم نفي مسببه الذي هو افتراض الطّاعة ونفاذ الأمر » (١).
وقال التفتازاني ـ بعد منع كون الخلافة من منازل هارون ومنع بقائها بعد الموت ـ : « ولو سلّم ، فتصرّف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنما يكون لنبوّته ، وقد انتفت النبوّة في حق علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ فينتفي ما يبتني عليها ويتسبّب عنها » (٢).
وقال القوشجي : « ولو سلّم ... فتصرف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موت موسى ، إنما يكون لنبوته ، وقد انتفت النبوّة في حق علي ـ رضياللهعنه ـ
__________________
(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٣.
(٢) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.