الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
الفصل الثالث
الوحي إلى الموجودات الأخرى
لا يقتصر الوحي الصادر عنه تعالى على ما ألقي إلى الأنبياء عليهمالسلام وحدهم ، بل لا يقتصر على البشر وحدهم ، ففي الآيات الكريمة ما يشير بوضوح إلى أن الوحي ألقي إلى مخلوقات أخرى غير البشر.
فنحن إذا ما بحثنا في الآيات التي يذكر فيها الوحي الإلٰهي نجده يلقى بالإضافة إلى الأنبياء عليهمالسلام إلى بشر آخرين من غير الأنبياء كما نجده يلقى إلى مخلوقات أخرى كالملائكة والحيوانات والجمادات ، وذلك على أقسام تدخل ضمن بعضها مصاديق مختلفة وهذه الأقسام يمكن إجمالها في الآتي :
١ ـ الوحي إلى الملائكة.
٢ ـ الوحي إلى البشر العاديين ، وهذا ما نجد له مصاديق متعددة في القرآن الكريم ، فمنه الوحي إلى أم موسى عليهاالسلام وما أشبهه إلى غيرها من النساء كمريم عليهاالسلام ومنه الوحي إلى الحواريين.
٣ ـ الوحي إلى الحيوانات ويدخل ضمن ذلك :
أ ـ الوحي إلى النحل.
ب ـ الحيوانات الأخرى.
٤ ـ الوحي إلى مظاهر الطبيعة.
أ ـ
الأرض. ب ـ
السماوات. وفي هذا الفصل سنتناول هذه الأقسام
المختلفة وما يقع تحتها من مصاديق مع الاستفادة في ذلك من آراء المفسرين ومحاولاتهم في الوصول إلى المراد من هذا الوحي للموجودات المختلفة بما يحمله من عناصر خاصة تميّزه عن وحي الأنبياء عليهمالسلام. الملائكة جمع مفردة : المَلَك. وهو أشهر
في كلام العرب من الصيغة الأخرى بالهمز وذلك في قولهم عن الواحد منها الملاءك. وأصله الرسالة. قال عدي بن زيد : أبلغ النعمان عنّي مَلاءَكاً
أنّه قد طال حبسي وانتظاري (١)
فيستفاد من المعنى اللغوي للملائكة هنا
أنّهم سمّوا كذلك لأنّهم رسل الله تعالى بينه وبين عباده من الأنبياء. وقد اختلف فيهم هل أنهم جميعاً من الرسل
أم بعضهم دون بعض ؟ فقال بعض المفسرين : إنّهم رسل جميعاً ،
وقال آخرون : إنّ بعضهم رسل وبعضهم الآخر ليسوا كذلك ، واستدلوا بقوله تعالى : (
... يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ... )
(٢) ، فلو كانوا جميعاً
رسلاً لكانوا جميعا مصطفين ، لأنّ الرسول لا يكون إلّا بالاصطفاء (٣). ويمكن التوفيق بين الرأيين المختلفين
بالقول أنّ الخلاف منحصر في ________________أوّلاً ـ الوحي إلى الملائكة :
(١) انظر : جامع البيان / الطبري ١ : ١٥٥.
(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٧٥.
(٣) التبيان / الطوسي ١ : ١٣٠.
الخصوص والعموم في
معنى الرسالة. فالقائلون برسالة بعضهم دون بعض فهموا من الرسالة والإرسال معنى خاصاً ينحصر بما كان إرسالاً لهم بالوحي والتشريع إلى الأنبياء عليهمالسلام. وفهم آخرون المعنى العام للرسالة في
كونهم وسائط بينه تعالى وبين خلقه عموماً في إجراء الأوامر التكوينية. وهذا التوفيق بين الرأيين مستند إلى أن
الآيات الكريمة نفسها عبرت عنهم بلفظ الرسل في مواضع عديدة بغض النظر عن كون إرسالهم إلى الأنبياء أو في وظائف أخرى. قال تعالى : (
إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) (١).
وقال تعالى : ( ... حَتَّىٰ
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ... ) (٢). وما يهمنا في هذا المقام الطريق الذي
يتلقى به الملائكة الوحي ثم يقومون بإبلاغه إلى الأنبياء عليهمالسلام.
وسينحصر بحثنا في ذلك على ما دار حول قوله تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ... ) (٣)
الآية. يظهر من محاولات المفسرين تفسير هذه الآية والكيفية التي يوحي بها تعالى إلى الملائكة أنهم يلجؤون إلى العموميات دون أن يدخلوا في التفاصيل المحتملة لذلك. ففي تفسيره للوحي إلى الملائكة نجد الشيخ الطوسي يعتمد على عنصر الخفاء في معنى الوحي عموماً ليتخذه أساساً في فهمه للوحي إليهم. فهذا الوحي للملائكة يشير إليه الشيخ الطوسي بأنه يكون من وجه يخفى كما يمكن أن يكون بأنه تعالى ________________
(١) سورة يونس : ١٠ / ٢١.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٦١.
(٣) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.
ينصب دليلاً يخفى
إلّا على من ألقي إليه من الملائكة (١). وذهب مفسرون آخرون إلى أن هذا الوحي كان
بواسطة ملائكة آخرون من بين عموم الملائكة ، إذ اعتبروا أن هذه الطريقة هي طريقة عامة في خطابه تعالى للملائكة والتي من مصاديقها ما عبرت عنه بعض الآيات بصيغة ( القول ) وتصريفاتها المنسوبة إليه تعالى موجهة إلى الملائكة وذلك كقوله تعالى : ( ... وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ... ) (٢)
الآية. فهؤلاء المفسرون يرون أن طريقة ذلك الخطاب
للملائكة هو أن الوحي كان منه تعالى إلى من بعثه إليهم من الرسل ـ من بينهم ـ لأنّ كلام الرسول كلام المرسل (٣). وهذا الرأي بلا شك لم يحدد أيضاً ماهية
وكيفية الوحي إلى الملائكة لأنّه لم يوضح كيف تَلقّى أولئك الرسل من بين الملائكة الوحي وطريقة ذلك. ويورد الراغب الأصبهاني في تفسير آخر
يعتمد خصوصية عالم الملائكة وكونهم مطلعين على اللوح المحفوظ والقلم ، فيرى أن الوحي إليهم كان ( بواسطة اللوح والقلم ) (٤). وقد حاول تفسير آخر أن يكون أكثر
تفصيلاً وتحديداً في بيان كيفية هذا الوحي وذلك فيما نقله الطبرسي في معرض تفسيره لقوله تعالى : (
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ )
فما قيل في صفة هذا الأمر الإلٰهي للملائكة بالسجود ________________
(١) التبيان / الطوسي ٥ : ٨٧.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.
(٣) مجمع البيان ١ : ٨٣.
(٤) المفردات : ٥١٦.
قولان (١) :
الأوّل : أنّه كان بخطاب من الله تعالى للملائكة ولإبليس.
الثاني : أنّه تعالى أظهر فعلاً دلهم به على أنّه يأمرهم بالسجود.
والقول الثاني قريب مما أورده الشيخ الطوسي في تفسيره للوحي إلى الملائكة.
ومن مجمل هذه الآراء لانعثر على تفسير يوضح بجلاء كيفية هذا الوحي إذ يبقى ذلك خافياً علينا.
ويميل الباحث إلى أن القولين الأخيرين يمكن أن يكونا أكثر قرباً إلى المعنى المراد من هذا الوحي ، وذلك بأن يكون بكلام مباشر منه تعالى إلى الملائكة يمكن تشبيهه بما كان لموسى عليهالسلام. ومما يمكن الاستفادة منه في تقوية ترجيح هذا الرأي أن خصوصية هذا التكليم بموسى عليهالسلام وحده كانت بالنسبة إلى الناس دون باقي أجناس الموجودات. إذ قال تعالى : ( ... يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ... ) (٢).
أو بأن هذا الخطاب ( الوحي ) كان بأن أظهر تعالى فعلاً يدلهم من خلاله على أنه يأمرهم بالسجود وكان امتثالهم فهما لهذا الأمر. وهذا الفعل يبقي كيفية الوحي خافية ما لم يتم ترجيح أن يكون ذلك بالخطاب المباشر على سبيل تكليمه تعالى لهم.
ثانياً ـ الوحي إلى البشر العاديين :
يرد ذكر الوحي في القرآن الكريم على أنّه ملقى إلى البشر من غير الأنبياء
________________
(١) مجمع البيان ١ : ٨٣.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٤.
إلى عدّة مصاديق في ذلك إجمالها فيما يلي :
١ ـ الوحي إلى الحواريين :
قال تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (١).
والحواريون مفرده حواري من الحَوْر ، والحَور : ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد ، والحواري : الأبيض (٢).
وقيل : حَوَرتُ الشيء : بيَّضتُه ودوّرتُه ومنه الخبزُ الحَوار (٣).
والحواريون هم الأنصار ، وهذا مستفاد من تأكيد الآية الكريمة له في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ ... ) (٤). وقد اختلِف في سبب تسميتهم بالحواريين على أقوال :
أحدها : أنّهم سمّوا بذلك لنقاء ثيابهم.
وثانيها : أنّهم كانوا قصارين يبيّضون الثياب.
وثالثها : أنّهم كانوا صيادين يصيدون السمك.
ورابعها : أنّهم كانوا خاصة الأنبياء وانهم أصفياء عيسىٰ عليهالسلام وكانوا اثني عشر رجلاً.
وخامسها : أنّهم سمّوا بذلك لأنّهم كانوا نورانيين ، عليهم أثر العبادة
________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ١١١.
(٢) مختار الصحاح / الرازي : ١٦١.
(٣) المفردات / الراغب : ١٣٥.
(٤) سورة الصف : ٦١ / ١٤.
ونورها وحسنها (١). ورجح العلّامة المجلسي السبب الرابع ، وعلّله
بقوله : « لأنّهم مدحوا بهذا الاسم كأنّه ذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير » (٢). وقيل : « حواري الرجل : ناصره وخاصّته
ومن أخلص له محبّته وصداقته » (٣). وينقسم المفسرون في الوحي إليهم على
فريقين : الأوّل :
يجعل الوحي إليهم بالإلقاء مباشرة دون توسّط أحد. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى ( ت / ٢١٠
ه ، ٨٢٥م ) : ( أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )
أي ألقيت في قلوبهم وليس من وحي النبوة إنّما هو أمرتُ (٤). وأيّد ذلك آخرون فقالوا : أوحيتُ هنا : ألقيتُ
إليهم بالآيات التي أريتهم إيّاها (٥). وذهب جمع من المفسرين إلى تحديد هذا
الإلقاء أكثر فقالوا : إنّه كان على سبيل الإلهام والقذف. نقل ذلك الشيخ الطوسي عن بعض المفسرين وقال به آخرون كالطبرسي والفخر الرازي والقرطبي ... وغيرهم (٦). ________________
(١) تنظر هذه الوجوه في : التبيان / الشيخ الطوسي ٢ : ٤٧٤ ، ومجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٣٠٣ ، وجوامع الجامع / له أيضاً ١ : ٢٩٠ ، وبحار الأنوار ١٤ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.
(٢) بحار الأنوار ١٤ : ٢٧٦.
(٣) شرح أصول الكافي / المازندراني ١٢ : ٣٧٤.
(٤) مجاز القرآن ١ : ١٨٢.
(٥) التبيان ٤ : ٥٧.
(٦) اُنظر : التبيان ٤ : ٥٧ ، ومجمع البيان ٧ : ٢٦٣ ، ومفاتيح الغيب ١١ : ١١٠ ، وجامع أحكام القرآن ٦ : ٣٦٣ وغيرها.
ويبدو أن الإلهام هو الصورة التي تصل إليها مجمل هذه الآراء المختلفة.
الفريق الثاني : القائلون بالواسطة النبوية بين الله تعالى والحواريين في وحيه إليهم وهؤلاء بقولهم ذلك إنّما يهدفون إلى إبعاد صفة النبوة التي قد تضاف إلى الحواريين بسبب تعبير الآية عما ألقي إليهم بالوحي. ومن القائلين بذلك البلخي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ( ت / ٣١٩ هـ ، ٩٣١م ) الذي يرى أن في الوحي إليهم وجهين (١) :
فإما أن يراد أوحيت إليك أن تبلغهم.
أو أوحيت إلى رسول متقدّم. والوجه الأوّل يصرف صفة الحواريين إلى أصحاب الرسول كما يصرف الخطاب إلى الرسول صلىاللهعليهوآله نفسه. وبذلك قال الراغب الذي خصص النبي بأنه عيسى عليهالسلام فقال عن الوحي إليهم ( إن ذلك وحي بوساطة عيسى عليهالسلام ) (٢).
وهذا ما أكده بالإشارة الشيخ الطوسي الذي قال : يعني : أوحَيتُ إلى الرسول الذي جاءهم (٣).
وهو ما ذهب إليه الزمخشري الذي يرى أن ذلك كان أمراً لهم على ألسِنة الرسل (٤).
واكتفى بعض المفسرين من غير هذين الفريقين بالقول : إن معنى
________________
(١) التبيان ٤ : ٥٧.
(٢) المفردات : ٥١٦.
(٣) التبيان ٤ : ٥٧.
(٤) الكشاف ١ : ٦٥٣.
( أوحَيْتُ ) : أمرتُهم أو بيَّنتُ لهم نقل ذلك الزجاجي (١) والقرطبي (٢).
ويكاد مالك بن نبي يتميز عمن سبق في تفسيره للوحي الملقى إلى الحواريين ، إذ يرى أن ذلك ( يأخذ معنى كلام عادي موجه إليهم ) (٣) ، وهو يستفيد ذلك من إجابتهم نفسها التي يرى أنها تجسم هذا القول بما تدل عليه من يقين إدراكي ناتج بأكمله عن الوحي.
ولا شك أنّ إجابتهم وامتثالهم للوحي الذي وصل إليهم مباشرة أو عن طريق النبيّ تدلّ على هذا اليقين الذي يعبّر فيما يعبّر عن خصوصية في الوحي تجعله خارج أحوال النفس ، فكأنّه يشير إلى أنّ الوحي للحواريين هنا يأتي من خارج أنفسهم ، فهو وحي من الله تعالى ويستبعد أن يكون ألقي إليهم بواسطة الرسل.
ورغم أن جمعاً من المفسرين حاول أن ينزع عن الوحي إلى الحواريين صفة الوحي بمعناه الاصطلاحي ، فإنّه ليس هناك ما يدل على كون صرف هذه الصفة عنهم مقبولاً ، إذ لا يمنع أن يكون هذا الوحي الصادر إليهم مما ينعم به تعالى على نبيه فيسدد له خطاه ويثبِّت الإيمان به وبشريعته في قلوب من حوله من أنصار.
فإذا كان واجب النبي البلاغ المبين فليس منه ولا عليه أن يهدي الناس إنّما الهداية منه تعالى ولا يمنع مانع أن يوحي تعالى بطريقة ما من طرق الوحي ـ لعل الإلهام أقربها وأقواها ـ إلى من ينصر دينه ويعاضد رسله فَيُثَـبِّتهُم على
________________
(١) تهذيب اللغة / الأزهري ٥ : ٢٩٦.
(٢) جامع أحكام القرآن ٦ : ٣٦٣.
(٣) الظاهرة القرآنية : ١٧١.
الإيمان ، وهذا الأمر يكاد يؤكد عموم آية الشورى المبينة لطرق تكليمه تعالى ، إذ لم يخصص هذا التكليم بالأنبياء وحدهم من دون البشر.
وهذه المعاني يكاد يستشفها الشيخ محمد عبده في إثباته جواز اطّلاع غير الأنبياء على عالم الغيب فيقول : ( أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية من العرفاء ممن لم تَدنُ مراتبهم من مراتب الأنبياء ، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء ، فكثير منهم نال حظه من الأُنس بما يقارب تلك الحال في النوع والجنس لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لاتنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع ... ) (١).
٢ ـ الوحي إلى النساء :
ليس في القرآن الكريم ما يدلّ في ظاهره على الوحي إلى النساء بصيغة الوحي الصريحة إلّا حالة واحدة هي الوحي إلى أُم موسى عليهالسلام ، إذ ذكر في القرآن الكريم في مواضع عدّة منه. إلّا أنّ من المفسرين من يذهب إلى أن نزول الملائكة على مريم عليهاالسلام وما خصّت به من مواجهتهم ما يقترب من أن يكون وحياً كاملاً ألقي عليها إن لم يكن أعلى مرتبة مما كان لأُم موسى لتوافره على رؤيتهم وخطابهم مما لم يثبت يقينا لأُم موسى عليهالسلام.
وقياساً على ما كان لمريم عليهاالسلام يضيف بعض هؤلاء المفسرين ما كان لسارة زوجة إبراهيم عليهالسلام التي خاطبتها الملائكة بالبشارة بالولد.
وهذه الحالات المتعددة مما يرتبط مع الوحي استلزمت التعرض إليها
________________
(١) الأعمال الكاملة ٣ : ٤١٨.
والبحث فيها ، وهو ما جعل هذا الموضوع ( الوحي إلى النساء ) ينقسم على قسمين :
القسم الأوّل : الوحي إلى أم موسى عليهالسلام وخطاب الملائكه لمريم عليهاالسلام.
القسم الثاني : نبوة النساء ومواقف المفسرين منها.
القسم الأوّل :
أوّلاً ـ الوحي إلى أُمّ موسى عليهماالسلام :
يرد ذكر الوحي إليها في القرآن الكريم في موضعين ، وذلك قوله تعالى : ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ) (١) ، و ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ... ) (٢).
والآيات مؤكدة أن هذا الوحي إليها واقع بصورة من الصور ضمن الوحي المذكور لغيرها سواء كان ذلك من خلال مفاهيم الوحي في الاصطلاح أو في اللغة.
وقد اختلف المفسرون في بيان كيفية الوحي إليها عليهاالسلام على عدّة آراء المعتبر منها رأيان وهما :
الأوّل : ان الوحي إلى أم موسى كان إلهاماً وقذفاً في القلب.
واختار هذا الوجه الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والعلّامة الطبرسي (٣) ووافقهم عليه جلُّ المتأخرين (٤).
الثاني : إنّ الوحي المذكور كان مناماً. قال الشيخ المفيد : « قال الله تعالى :
________________
(١) سورة طه : ٢٠ / ٣٧ ـ ٣٨.
(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧.
(٣) إكمال الدين وإتمام النعمة / الشيخ الصدوق ٢ : ٦٦١ آخر الكتاب ، والتبيان ٨ : ١٣١ ، ومجمع البيان ٤ : ١٠.
(٤) اُنظر : الميزان ١٤ : ١٩٥ ، والكاشف / محمد جواد مغنية ٦ : ٥٠ وغيرهما.
(
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ... الآية
)
، فاتّفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً أو كلاماً سمعته أُم موسى في منامها على الاختصاص » (١). وربما وجد الرأي الأوّل شاهداً له من
الحديث الشريف ، فقد روى الحرث بن المغيرة النصري ، عن الإمام الصادق عليهالسلام
قال : « قلت لأبي عبد الله عليهالسلام
: ما علم عالمكم جملة ، يقذف في قلبه وينكت في أذنه ؟ قال : فقال : وحي
كوحي أم موسى » (٢). وسئل الإمام الكاظم عليهالسلام عن علم عالمهم عليهمالسلام ، فقال : «
نقر في القلوب ونكت في الأسماع ، وقد يكونان معاً »
(٣). وبهذا يعلم ان قول الإمام الصادق عليهالسلام : «
وحي كوحي أم موسى » أنه أراد النقر في القلوب والنكت في الأسماع ، وكلاهما يجري في دائرة الإلهام. وربما يقال بعدم معارضة الرأي الثاني
لذلك فيما لو تم النقر في القلوب والنكت في الأسماع في المنام. وخلاصة القول في الوحي إلى أم موسى ، أن
هذا الوحي بلا شك يتضمن الإعلام في خفاء وهو من أهم عناصر الوحي كما تقدّم في محلّه. يرد ذكر الملائكة النازلين على مريم عليهاالسلام في القرآن الكريم
بصيغتين : الأولى :
الجمع ، كقوله تعالى : (
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ ________________ثانياً ـ خطاب
الملائكة لمريم عليهاالسلام
:
(١) تصحيح اعتقادات الإمامية : ١٢١ ، وبه صرّح في الفصول المختارة أيضاً : ١٣٠.
(٢) بصائر الدرجات / الصّفار : ٣٣٧ / ١٠ باب (٣).
(٣) بصائر الدرجات : ٣٣٧ / ١١ من الباب السابق.
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (١).
الثانية : المفرد ، كقوله تعالى : ( ... فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) (٢).
ويرى بعض المفسرين ـ وهو ما يميل إليه الباحث ـ أنّ التعبير عن الملائكة بصيغة الجمع يراد بها جبرئيل عليهالسلام وحده ، وأنّ استعمال الجمع هنا للتعظيم (٣).
وكون المراد بالملك هو جبرئيل استفاده بعض المفسرين من وصفه بالروح حيث ذهب أغلبهم إلى أنّه جبرئيل عليهالسلام (٤).
وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ المراد في الآيتين واحد ، وأنّ من نزل عليها من الملائكة في الآيتين هو جبريل عليهالسلام وحده ، والبشارة في الأولى قصد بها ما جاء في الثانية من اصطفائها لولادة عيسىٰ عليهالسلام (٥).
وخلاصة القول من ذلك أنه يثبت لمريم عليهاالسلام معاينتها للملائكة ، وخطابهم لها ، والطريقة التي ظهر بها الملك لمريم عليهاالسلام تُعبِّر عنها الآية ( بالتمثل ) ، وتصف الآية ذلك بأنه ظهر لها بشراً سوياً. وهذه هي المرة الأولى وتكاد تكون الوحيدة التي يرد ذكر ( التَمثُّل ) في القرآن الكريم.
وأمّا حقيقة هذا التمثّل وظهور الملك بصورة بشرية فإنّه لا يعني أنّ الملك
________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٢.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ١٧ ـ ١٩.
(٣) الميزان / الطباطبائي ٣ : ١٠٧.
(٤) التبيان ٧ : ١٠٢.
(٥) انظر : الميزان ٣ : ٢٠٧.
تحول من حقيقته
الملكية إلى حقيقة بشرية ، وإنّما صورة ذلك أنّه ظهر لمريم في صورة بشر وليس ببشر بل ( كان في حال إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها خلاف ذلك ) (١). إذا كان الوحي بوصفه مصداق الصلة بالله تعالى
هو أحد الأدلّة على نبوة الأنبياء عليهمالسلام
فإنّ هذا الملحظ نفسه هو ما اعتمده القائلون بنبوة النساء ممن ورد ذكر الوحي وخطاب الملائكة لهن ، وينطبق ذلك عندهم على ما كان لسارة زوجة ابراهيم عليهماالسلام
، كما يضيف بعض المفسرين آسية زوجة فرعون من بعض الوجوه ومريم عليهاالسلام. الأمر الذي اختاره بعض علماء العامة
كابن حزم الأندلسي ، والقرطبي المالكي الذي صرّح بنبوة مريم عليهاالسلام
(٢) والضابط عند من قال
بنبوة النساء هو أن كل من جاءه الملك عن الله عزّوجلّ بحكم من أراد نهي أو باعلام ما سيأتي فهو نبي. وهذا خطأ جسيم وبيانه من وجوه : الأوّل :
اتّفاق العامة على صحّة حديث أبي سلمة ، عن عائشة ، عن النبي صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «
قد كان يكون في الأُمّة مُحَدَّثون ، فإن يكن في أُمّتي أحد ________________القسم الثاني ـ نبوة النساء :
(١) الميزان ١٤ : ٣٦.
(٢) اُنظر : الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل / ابن حزم الأندلسي ٤ : ١١ ، و ٥ : ١٧ ـ ١٨ ، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي ٤ : ٨٣ ، وتحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي / المباركفوري ٥ : ٤٦٠ ، وفيض القدير شرح الجامع الصغير / المناوي ٢ : ٦٨ في شرح الحديث رقم (١٣٠٧).
فعمر بن الخطاب » (١). والمُحَدَّث هو من يحدِّثه المَلَك. ولا اشكال في وجود مُحَدَّثين في هذه الأُمّة ـ كما سيأتي في الوجه الثاني ـ ، وإنّما الإشكال في من كان مشركاً في شطرٍ كبيرٍ من عمره وملئت سيرته بالتجرّي على مقام النبي صلىاللهعليهوآله ، مع تناقضاته الكثيرة أن يكون واحداً منهم ، مما يدلّ على أن ذكر عمر في هذا الحديث مقحم.
الثاني : اتّفاق علماء الإمامية قاطبة مع كثير من محدِّثي العامّة على صحّة أحاديث كثيرة في كون أئمّة أهل البيت عليهمالسلام مُحَدَّثين (٢).
الثالث : إنّه لم ترد أدنى إشارة أو تصريح في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة وتاريخ الأديان على وجود امرأة نبيّة أو رسولة ، مع ورود الخبر لدى الفريقين عن النبي صلىاللهعليهوآله في عدد الأنبياء ، وعدد الرسل عليهمالسلام ، ولم تكن فيهم امرأة ، كما ان القرآن الكريم وصف مريم عليهاالسلام بأنّها كانت ( صدّيقة ) كما في قوله
________________
(١) صحيح البخاري ٤ : ١٤٩ باب بلا عنوان بعد باب ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ .. ) ، وأعاده في ٤ : ٢٠٠ في فضائل عمر ، وصحيح مسلم ٧ : ١١٦ في فضائل عمر أيضاً.
(٢) عقد الصفّار في بصائر الدرجات : ٣٣٩ ـ ٣٤١ باباً بعنوان ان الأئمّة مُحَدَّثون مفهمون ، ضمّ ثمانية أحاديث ، تلاه باب آخر بعنوان أن المُحَدَّث كيف صفته وكيف يُصنع به وكيف يُحَدَّث ؟ ذكر فيه ثلاثة عشر حديثاً ، ومثل الباب الأوّل ما نجده في أُصول الكافي أيضاً ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ وفيه خمسة أحاديث ، زيادة علىٰ ما في كتب الحديث الأُخرى ، وقد جمعها العلّامة المجلسي من تلك المصادر وغيرها في البحار ٢٦ : ٦٦ ـ ٨٥ باب أنّهم مُحَدَّثون فأوصلها إلى سبعة وأربعين حديثاً ، وفيها ماهو صريح كلّ الصراحة بنقض الضابط المعتمد في القول بنبوة النساء.
تعالى : (
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )
(١) ، ولو كانت نبيّة
لقال : ( صدّيقة نبيّة ) كما قال سبحانه في وصف كل من إبراهيم وإدريس عليهماالسلام
: ( إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَّبِيًّا )
(٢). الرابع :
إنكار علماء الإمامية ومعظم علماء العامة وجود امرأة نبيّة أو رسولة. الخامس :
ورود بعض الأخبار والآثار الصريحة بنفي النبوة عمّن ادُّعيت لها ذلك كمريم بنت عمران عليهاالسلام
وغيرها من النساء. ففي حديث لسليم بن قيس ، عن محمد بن أبي
بكر وعبد الرحمن بن غنم ، يقول سليم في آخره : « فقلت لمحمد بن أبي بكر : من حدَّثك بهذا ؟ قال : عليٌّ عليهالسلام
، فقلت : وأنا سمعته أيضاً منه كما سمعت أنت ، فقلت لمحمد : فلعلّ ملكاً من الملائكة حدثه ـ يعني عليّاً عليهالسلام
ـ قال : أو ذاك.. قال : قلت له : أمير المؤمنين عليهالسلام
مُحَدَّثٌ هو ؟ قال : نعم ، وكانت فاطمة عليهاالسلام
مُحَدَّثَةً ولم تكن نبيَّةً ، ومريم كانت مُحَدَّثَةً ولم تكن نبيَّةً ، وأم موسى ما كانت نبيَّةً وكانت
مُحَدَّثَةً ، وكانت سارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبيَّةً. قال سليم : فلما قُتِل محمد بن أبي بكر
ونُعي ، عزّيت به أمير المؤمنين عليهالسلام
وخلوت به فحدثته بما حدّثني به محمد بن أبي بكر ، وخبّرته بما خبّرني به عبدالرحمن بن غنم ، فقال : صدق محمد رحمه الله أما أنّه شهيد حيّ
يُرزق » (٣). ________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٧٥.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ٤١.
(٣) كتاب سليم بن قيس
: ٣٥١ ، ورواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٨٣
وقال الشيخ المفيد : « وأخبر سبحانه أنّه أوحى إلى مريم : ( أَنْ أَرْضِعِيهِ .. ) الآية ، ولم تكن أم موسى نبيّة ولا رسولة ، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء » (١).
واستدلّ الشيخ الصدوق على نفي نبوة النساء بقوله تعالى : « قد أخبر الله عزّوجلّ في كتابه بأنّه ما أرسل من النساء أحداً إلى الناس في قوله تبارك وتعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ) (٢) ، ولم يقل : نساءً ـ ثم قال ـ : المُحَدّثون ليسوا برسل ولا أنبياء » (٣).
ونفى الشيخ الطوسي صفة النبوّة عن النساء ، وأورد عن الحسن البصري أنّه قال : « ما أرسل الله امرأة ولا رسول من الجنّ ولا من أهل البادية » (٤).
وخلاصة القول الذي نميل إليه في هذا الموضوع أن لا دليل في القرآن الكريم ولا فيما روي عن الرسول صلىاللهعليهوآله على نبوة النساء عموماً دون تخصيص.
بل إن في القرآن الكريم ما يدل ـ إذا أخذ على ظاهره ـ على أنّه تعالى لم يرسل إلّا رجالاً بدليل قوله تعالى : ( مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ) (٥) ولا يضعف هذا الاستدلال ما قيل أن الآية في مقام الاحتجاج على أن من أرسل من قبل محمد صلىاللهعليهوآله كانوا رجالاً وإنّها جاءت ردّاً
________________
/ ٢ باب (١٤٦) ، والشيخ المفيد في الاختصاص : ٣٢٩ ، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ١ : ١١٥ ، والإربلي في كشف الغمّة ٢ : ٩٦.
(١) الفصول العشرة / الشيخ المفيد : ١٢٤.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧.
(٣) علل الشرائع ١ : ١٨٣ ذيل الحديث (٢) باب (١٤٦).
(٤) التبيان ٧ : ٢٠٥.
(٥) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩.
على من طَعَن بأنّه كيف يكون النبيّ بشراً وأنّ الآية نزلت ردّاً على هذه الشبهة.
كما لا يُضعف ذلك الاستدلال ما قيل أنّ الآية لم تمنع النبوة في النساء وإنّما منعت الرسالة لأنّ منطوق الآية حصر في الرجال الرسالة وليس النبوة.
ويرد عليه : إن الرسالة شملت هنا معنى النبوة والرسالة عموماً وهو ما عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة كقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ... ) (١) ، و ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) (٢). وواضح أنّ الرسل في الآيتين أريد بهم عموم الأنبياء والرسل عليهمالسلام.
وأما ما كان من وحي إلى أم موسى فالأقرب إلى الصواب أنّه كان على سبيل الإلهام والقذف في نفسها ، ولا دلالة في التعبير عنه بالوحي على النبوة ، لأنّه لم يرد في ظاهر الكتاب ما يحصر مصطلح الوحي ـ لفظياً ـ على ما كان للأنبياء فقط وإنّما العكس هو الصحيح ، إذ ورد ذكر الوحي ملقى إلى غير الأنبياء بل غير البشر كالحيوانات والجمادات ، فلو كان كل تعبير بـ ( الوحي ) يدل على النبوة لكانت للنحل والجمادات نبوة .. وما يجب بيانه بوضوح هنا تأكيد النعمة الإلهيّة التي خصت أولئك النسوة بهذه الميزة الجليلة في كونهن متلقيات للوحي أو مُخاطبات للملائكة وهو أمر لا يمكن تهوينه ، وأبلغه أن إثبات معاينة مريم عليهاالسلام للملك ومخاطبتها له فيما دلّت عليه الآيات ( يثبت أنها مُحَدّثة ) (٣) أي قادرة على فهم ما يلقى في روعها من كلمات الإله
________________
(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٠.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٨.
(٣) الميزان ٣ : ٢٠٩.
لا غير ، وكذلك الحال
مع سيدتها وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام
، إذ ثبت أنّ أحد الملائكة كان يحدّثها ويسلّيها عمّا لحقها من فقد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وعمّا تحمّلته من جفاء المنقلّبين على أعقابهم وغلظتهم عليها بعد رحيله صلىاللهعليهوآله. عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله الصادق
عليهالسلام
في حديث جاء فيه : « .. إن الله تعالى لما قبض نبيه صلىاللهعليهوآله
دخل على فاطمة عليهاالسلام
من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا الله عزّوجلّ ، فأرسل إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (١)
، فقال عليهالسلام
: إذا أحسستِ بذلك وسمعتِ الصوت قولي لي ، فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين عليهالسلام يكتب كل ما سمع حتىٰ أثبت من ذلك مصحفاً. ثمّ قال عليهالسلام (٢)
: أما إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون » (٣). وفي الصحيح عن أبي عبيدة الثقة ، عن أبي
عبد الله عليهالسلام
في حديث سُئل فيه عن مصحف فاطمة عليهاالسلام
، فقال : «
.. إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون ، إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله خمسة وسبعين يوماً چ
، وكان دخلها حزن شديد على أبيها صلىاللهعليهوآله
، وكان جبرئيل عليهالسلام
يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها صلىاللهعليهوآله
، ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه صلىاللهعليهوآله ، ويخبرها بما يكون ________________
(١) ربما لخشيتها عليهاالسلام من الملك حال وحدتها به وانفرادها بصحبته ، وقيل المراد هنا : مجرد الإخبار.
(٢) يعني الإمام الصادق عليهالسلام.
(٣) أصول الكافي ١ : ٢٤٠ / ٢ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام من كتاب الحجّة.
بعدها في ذريّتها ، وكان عليّ عليهالسلام يكتب ذلك. فهذا مصحف فاطمة عليهاالسلام » (١).
ثالثاً ـ الوحي إلى الحيوانات :
قد يكون في هذا التعميم للوحي إلى الحيوانات توسعاً عما ورد ذكره صريحاً في القرآن الكريم الذي لم يعبر عن الوحي إلى شيء من الحيوانات بصيغة الوحي إلّا ما كان للنحل وذلك في قوله تعالى : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢).
ودفعنا إلى هذا التعميم أن ما يعبر عنه الوحي إلى النحل من مفاهيم وما يحتويه من عناصر يكاد يتطابق مع ما يتوافر في أنواع أخرى من الحيوانات حيث نسب إليها أفعال وتصرفات فطرية لا تخلو في بعض وجوهها من تطابق مع ما ذكر للنحل من أفعال وتصرفات عبر عنها القرآن الكريم بأنها كانت عن وحي منه تعالى :
الوحي إلى النحل :
فأما الوحي إلى النحل فإنّ المفسرين يرجعونه إلى عدّة معانٍ إجمالها فيما يلي :
أوّلاً ـ الإلهام : فما عليه أغلب المفسّرين ، أن الوحي إلى النحل هو الإلهام وقد عبّروا عنه زيادة على تلك الصيغة بغيرها أيضاً كالآتي :
١ ـ الإلهام :
روي عن الإمام الباقر عليهالسلام أنّ المراد بالوحي إلى النحل في قوله تعالى :
________________
(١) أصول الكافي ١ : ٢٤١ / ٥ من الباب السابق.
(٢) سورة النحل : ١٦ / ٦٨ ـ ٦٩.