تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦٩)

على وزن فيعل أبو بكر غير حماد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

١٦٦ ـ (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي جعلناهم قردة أذلاء مبعدين ، وقيل فلما عتوا تكرير لقوله فلما نسوا ، والعذاب البئيس : هو المسخ ، قيل صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ، وكانوا يعرفون أقاربهم ويبكون ولا يتكلمون ، والجمهور على أنها ماتت بعد ثلاث ، وقيل بقيت وتناسلت.

١٦٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي أعلم وأجري مجرى فعل القسم ، ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي كتب على نفسه ليسلطنّ على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) من يوليهم (سُوءَ الْعَذابِ) فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) للكفار (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) للمؤمنين.

١٦٨ ـ (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ) وفرّقناهم فيها ، فلا تخلو بلد عن فرقة (أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) الذين آمنوا منهم بالمدينة ، أو الذين وراء الصين (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطّون عنه ، وهم الفسقة ، ومحل دون ذلك الرفع وهو صفة لموصوف محذوف ، أي ومنهم ناس منحطّون عن الصلاح (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) بالنّعم والنّقم والخصب والجدب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ينتهون فيثابون (١).

١٦٩ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد المذكورين (خَلْفٌ) وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخلف بدل السوء بخلاف الخلف فهو الصالح (وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة ووقفوا على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولما يعملوا بها

__________________

(١) في (ز) فينيبون.

١٢١

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١)

(يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) هو حال من الضمير في ورثوا ، والعرض : المتاع أي حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتّع به منها ، وهو من الدنوّ بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، والمراد ما كانوا يأخذونه من الرّشا في الأحكام على تحريف الكلم ، وفي قوله هذا الأدنى تخسيس وتحقير (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، والفعل مسند إلى الأخذ ، أو إلى الجارّ والمجرور ، أي لنا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الواو للحال ، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي الميثاق المذكور في الكتاب (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي قد (١) أخذ عليهم الميثاق في كتابهم أن لا يقولوا على الله إلّا الصدق ، وهو عطف بيان لميثاق الكتاب (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) وقرأوا ما في الكتاب ، وهو عطف على ألم يؤخذ عليهم ، لأنه تقرير فكأنه قيل أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الخسيس (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الرّشا والمحارم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢) أنه كذلك ، وبالتاء مدني وحفص.

١٧٠ ـ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) يمسكون أبو بكر ، والإمساك والتمسيك والتمسّك الاعتصام والتعلّق بشيء (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) خصّ الصلاة مع أنّ التمسّك بالكتاب يشتمل على كلّ عبادة لأنها عماد الدين ، والذين مبتدأ والخبر (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي إنّا لا نضيع أجرهم ، وجاز أن يكون مجرورا عطفا على الذين يتقون ، وإنّا لا نضيع اعتراض.

١٧١ ـ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) واذكروا إذ قلعناه ورفعناه كقوله (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (٣) (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) هي كلّ ما أظلّك من سقيفة أو سحاب (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) وعلموا أنه ساقط عليهم ، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطّور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ ، وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وألا ليقعنّ عليكم ، فلمّا نظروا إلى الجبل خرّ كلّ رجل منهم ساجدا

__________________

(١) ليست في (ز).

(٢) في مصحف النسفي يعقلون وهو قراءة.

(٣) البقرة ، ٢ / ٦٣ و ٩٣.

١٢٢

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤)

على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلّا (١) على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنّا بها العقوبة ، وقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) وعزم على احتمال مشاقّه وتكاليفه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأوامر والنواهي ولا تنسوه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه.

١٧٢ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) أي واذكر إذ أخذ (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من بني آدم ، والتقدير وإذ أخذ ربّك من ظهور بني آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ) ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) هذا من باب التمثيل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم التي ركّبها فيهم ، وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقرّرهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربّنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك (أَنْ تَقُولُوا) مفعول له ، أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن يقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم ننبّه عليه.

١٧٣ ـ (أَوْ تَقُولُوا) أو كراهة أن تقولوا (٢) (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم ، لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبّهوا عليه قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتركه سنّة لنا.

١٧٤ ـ (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التفصيل البليغ (نُفَصِّلُ الْآياتِ) لهم (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن شركهم ، نفصّلها إلى هذا ذهب المحققون من أهل التفسير منهم الشيخ أبو منصور والزجّاج والزمخشريّ ، وذهب جمهور المفسرين إلى أنّ الله تعالى أخرج

__________________

(١) سقطت من (ز).

(٢) في (ز) يقولوا.

١٢٣

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦)

ذرية آدم من ظهر آدم مثل الذرّ وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله ألست بربكم؟ فأجابوه ببلى ، قالوا وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أخرج الله من ظهر آدم ذريته وأراه إياهم كهيئة الذرّ وأعطاهم العقل ، وقال هؤلاء ولدك أخذ (١) عليهم الميثاق أن يعبدوني ، قيل كان ذلك قبل دخول الجنة بين مكة والطائف ، وقيل بعد النزول من الجنة ، وقيل في الجنة ، والحجة للأولين أنه قال من بني آدم من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم ، ولأنا لا نتذكر ذلك فأنّى يصير حجة؟ ذرياتهم مدني وبصري وشامي ، أن يقولوا أو يقولوا (٢) أبو عمرو.

١٧٥ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) هو عالم من علماء بني إسرائيل ، وقيل هو بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله (فَانْسَلَخَ مِنْها) فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) فصار من الضالين الكافرين ، روي أنّ قومه طلبوا منه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى ، فلم يزالوا به حتى فعل ، وكان عنده اسم الله الأعظم.

١٧٦ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار من العلماء (بِها) بتلك الآيات (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا ورغب فيها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) أي تزجره وتطرده (يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ) غير مطرود (يَلْهَثْ) والمعنى فصفته التي هي مثل في الخسّة والضّعة كصفة الكلب في أخسّ أحواله وأذلّها ، وهي حال دوام اللهث به سواء حمل عليه أي شدّ عليه وهيج فطرد أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه ، وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلّا إذا حرّك أما الكلب فيلهث في الحالين ، فكان مقتضى الكلام أن يقال ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته ، فوضع هذا التمثيل موضع فحططناه

__________________

(١) في (ز) آخذ.

(٢) في (ز) أن تقولوا .. أو تقولوا ، وهو خطأ مطبعي والصواب ما أثبتناه بالياء.

١٢٤

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

أبلغ حطّ. ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال ، كأنه قيل كمثل الكلب ذليلا دائم الذّلة لاهثا في الحالين ، وقيل لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب ، وقيل معناه هو ضال وعظ أو ترك ، وعن عطاء : من علم ولم يعمل فهو كالكلب ينبح إن طرد أو ترك (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من اليهود بعد أن قرأوا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، وذكر القرآن المعجز وما فيه ، وبشّروا الناس باقتراب مبعثه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته.

١٧٧ ـ (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي مثل القوم فحذف المضاف ، وفاعل ساء مضمر أي ساء المثل مثلا ، وانتصاب مثلا على التمييز (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) معطوف على كذبوا ، فيدخل في حيز الصلة ، أي الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، أو منقطع عن الصلة أي وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول به للاختصاص أي وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعد إلى غيرها.

١٧٨ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حمل على اللفظ (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي ومن يضلله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١) ولو كان الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حقّ الفريقين ، فدلّ أنه من الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن.

١٧٩ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هم الكفار من الفريقين ، المعرضون عن تدبر آيات الله ، والله تعالى علم منهم اختيار الكفر فشاء منهم الكفر وخلق فيهم ذلك وجعل مصيرهم جهنم لذلك ، ولا تنافي بين هذا وبين قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) لأنه إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ، وأمّا من علم أنه يكفر به فإنما خلقه لما علم أنه يكون منه ، فالحاصل أنّ من علم منه

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) حمل على المعنى.

(٢) الذاريات ، ٥١ / ٥٦.

١٢٥

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١)

في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ومن علم منه أنه (١) يكون منه الكفر خلقه لذلك ، وكم من عام يراد به الخصوص ، وقول المعتزلة بأنّ هذه لام العاقبة أي لما كان عاقبتهم جهنم جعل كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي عدول عن الظاهر (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الحقّ ولا يتفكرون فيه (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الرشد (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الوعظ (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتفكّر (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام ، لأنهم كابروا العقول وعاندوا الرسول وارتكبوا الفضول ، فالأنعام تطلب منافعها وتهرب عن مضارّها ، وهم لا يعلمون مضارّهم حيث اختاروا النار وكيف يستوي المكلّف المأمور والمخلّى المعذور ، فالآدمي روحاني شهواني سماوي أرضي ، فإن غلب روحه هواه فاق ملائكة السماوات ، وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.

١٨٠ ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي هي أحسن الأسماء لأنها تدلّ على معان حسنة ، فمنها ما يستحقّه بحقائقه كالقديم قبل كلّ شيء والباقي بعد كلّ شيء والقادر على كلّ شيء والعالم بكلّ شيء والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها كالغفور والرحيم والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب التخلّق به كالمتفضّل (٢) والعفوّ ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر ، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبّر (فَادْعُوهُ بِها) فسموه بتلك الأسماء (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحقّ والصواب فيها ، فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه نحو أن يقولوا يا سخي يا رفيق ، لأنه لم يسم نفسه بذلك ، ومن الإلحاد تسميته بالجسم والجوهر والعقل والعلّة ، يلحدون حمزة ، لحد وألحد مال (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

١٨١ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) للجنة لأنه في مقابلة ولقد ذرأنا لجهنّم (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) في أحكامهم ، قيل هم العلماء والدعاة إلى الدين ، وفيه دلالة على إن إجماع كلّ عصر حجّة.

__________________

(١) في (ز) أن.

(٢) في (ز) كالفضل.

١٢٦

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

١٨٢ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم ، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغي ، فكلما جدّد (١) عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجدّدوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النّعم ، ظانّين أنّ ترادف النّعم أثرة من الله تعالى وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد ، وهو استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة.

١٨٣ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ) عطف على سنستدرجهم وهو غير داخل في حكم السين أي أمهلهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أخذي شديد ، سمّاه كيدا لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.

ولما نسبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجنون نزل :

١٨٤ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) محمد عليه‌السلام ، وما نافية بعد وقف ، أي أولم يتفكروا في قولهم ، ثم نفى عنه الجنون بقوله ما بصاحبهم (مِنْ جِنَّةٍ) جنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) منذر من الله موضح إنذاره.

١٨٥ ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الملكوت الملك العظيم (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد (وَأَنْ عَسى) أن مخففة من الثقيلة ، وأصله وأنه عسى ، والضمير ضمير الشأن وهو في موضع الجر بالعطف على ملكوت ، والمعنى أولم ينظروا في أنّ الشأن والحديث عسى (أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولعلّهم يموتون عما قريب فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به ، وهو متعلق بعسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، كأنه قيل لعلّ أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا؟

__________________

(١) زاد في (ز) الله.

١٢٧

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨)

١٨٦ ـ (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي يضلله الله (وَيَذَرُهُمْ) بالياء عراقي ، وبالجزم حمزة وعليّ عطفا على محل فلا هادي له ، كأنه قيل من يضلل الله لا يهده أحد ، ويذرهم والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم. الباقون بالنون (فِي طُغْيانِهِمْ) كفرهم (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون.

ولما سألت اليهود أو قريش عن الساعة متى تكون نزل :

١٨٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق (أَيَّانَ) متى ، واشتقاقه من أي فعلان منه ، لأن معناه أيّ وقت (مُرْساها) إرساؤها ، مصدر مثل المدخل بمعنى الإدخال أو وقت إرسائها ، أي إثباتها والمعنى متى يرسيها الله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ، كما أخفى الأجلّ الخاصّ وهو وقت الموت لذلك (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كلّ من أهلها من الملائكة والثّقلين أهمّه شأن الساعة ويتمنى أن يتجلّى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه أو ثقلت فيها ، لأنّ أهلها يخافون شدائدها وأهوالها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة على غفلة منكم (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) كأنك عالم بها ، وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه ، وأصل هذا التركيب المبالغة ، ومنه إحفاء الشارب ، أو عنها متعلق بيسألونك ، أي يسألونك عنها ، كأنك حفيّ أي عالم بها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) وكرّر يسألونك وإنّما علمها عند الله للتأكيد ولزيادة كأنك حفيّ عنها ، وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة ، منهم محمد بن الحسن رحمه‌الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه المختصّ بالعلم بها.

١٨٨ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هو إظهار للعبودية

١٢٨

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

وبراءة عما يختصّ بالربوبية من علم الغيب ، أي أنا عبد ضعيف ، لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر ، كما المماليك (١) إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضارّ حتى لا يمسني شيء منها ، ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب. وقيل الغيب الأجل ، والخير العمل ، والسوء الوجل ، وقيل لاستكثرت لا عددت (٢) من الخصب للجدب. والسوء الفقر ، وقد ردّ (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) إن أنا إلا عبد أرسلت نذيرا وبشيرا ، وما من شأني أن أعلم الغيب ، واللام في (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يتعلق بالنذير والبشير النّذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم ، أو بالبشير وحده ، والمتعلق بالنذير محذوف أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون.

١٨٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي نفس آدم عليه‌السلام (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليطمئن إليها (٣) ويميل ، لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصا إذا كان بعضا منه ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبّه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وذكّر ليسكن بعد ما أنّث في قوله واحدة (٤) منها زوجها ذهابا إلى معنى النفس ليبين أنّ المراد بها آدم (فَلَمَّا تَغَشَّاها) جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) خفّ عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهنّ من الكرب والأذى ، ولم تستثقله كما يستثقلنه (فَمَرَّتْ بِهِ) فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق (٥) ، أو حملت حملا خفيفا يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) حان وقت ثقل حملها (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) دعا آدم وحواء ربّهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه ، أو ولدا ذكرا لأنّ الذكورة من الصلاح (لَنَكُونَنَّ مِنَ

__________________

(١) في (ظ) و (ز) كالمماليك.

(٢) في (ظ) و (ز) لاعتددت.

(٣) ليست في (ز).

(٤) زاد في (ز) وخلق.

(٥) الإخداج : الولادة المبكرة. الإزلاق : الإسقاط.

١٢٩

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣)

(الشَّاكِرِينَ) لك ، والضمير في آتيتنا ولنكوننّ لهما ولكلّ من يتناسل من ذريتهما.

١٩٠ ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك (فِيما آتاهُما) أي آتى أولادهما ، دليله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسيمتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم ، أو يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم آل قصي ، أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصيّ وعبد الدار.

والضمير في أيشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. شركا مدني وأبو بكر ، أي ذوي شرك وهم الشركاء.

١٩١ ـ (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) يعني الأصنام (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أجريت الأصنام مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة ، والمعنى أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء وهم يخلقون ، لأنّ الله خالقهم ، أو الضمير في وهم يخلقون للعابدين ، أي أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم مخلوق (١) الله فليعبدوا خالقهم ، أو للعابدين والمعبودين وجمعهم كأولي العلم تغليبا للعابدين.

١٩٢ ـ (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) لعبدتهم (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كالكسر وغيره ، بل عبدتهم هم الذين لا يدفعون عنهم.

١٩٣ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) وإن تدعوا هذه الأصنام (إِلَى الْهُدى) إلى ما هو هدى ورشاد ، أو إلى أن يهدوكم ، أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى (لا يَتَّبِعُوكُمْ) إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. لا يتّبعوكم نافع

__________________

(١) في (ظ) مخلوقون ، وفي (ز) مخلوقو.

١٣٠

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية لرؤوس الآي.

١٩٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدونهم وتسمعونهم آلهة (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أي مخلوقون مملوكون أمثالكم (فَادْعُوهُمْ) لجلب نفع أو دفع ضر (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فليجيبوا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنهم آلهة. ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم فقال :

١٩٥ ـ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) مشيكم (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) يتناولون بها (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي فلم تعبدون ما هو دونكم (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) جميعا أنتم وشركاؤكم ، وبالياء يعقوب ، وافقه أبو عمرو في الوصل (فَلا تُنْظِرُونِ) فإني لا أبالي بكم ، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك ، وبالياء يعقوب.

١٩٦ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ) ناصري عليكم (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أوحى إليّ وأعزّني برسالته (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ومن سنّته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم.

١٩٧ ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من دون الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

١٩٨ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يشبهون الناظرين إليك ، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلّب حدقته إلى الشيء ينظر إليه (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) المرئي.

١٩٩ ـ (خُذِ الْعَفْوَ) هو ضدّ الجهد ، أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ، ولا تطلب منهم الجهد وما يشقّ عليهم حتى لا ينفروا ، كقوله عليه‌السلام :

١٣١

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢)

(يسروا ولا تعسروا) (١) (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بالمعروف والجميل من الأفعال ، أو هو كلّ خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم (٢) واحلم عنهم (٣) ، وفسرها جبريل عليه‌السلام بقوله : صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك (٤). وعن الصادق : أمر الله نبيه عليه‌السلام بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

٢٠٠ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وإما ينخسنّك منه نخس ، أي بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولا تطعه. والنزغ : النخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي ، وجعل النزغ نازغا كما قيل جدّ جدّه ، أو أريد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب كقول أبي بكر رضي الله عنه : إنّ لي شيطانا يعتريني (٥) (إِنَّهُ سَمِيعٌ) لنزغه (عَلِيمٌ) بدفعه.

٢٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) طيف مكي وبصري وعليّ ، أي لمة (٦) منه مصدر من قولهم طاف به الخيال يطيف طيفا ، وعن أبي عمرو : هما واحد وهي الوسوسة ، وهذا تأكيد لما تقدّم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان وأنّ عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام (٧) بوسوسته (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته. وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله.

٢٠٢ ـ (وَإِخْوانُهُمْ) وأمّا إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإنّ الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) أي يكونون مددا لهم فيه ويعضدونهم ، يمدونهم من الإمداد مدني (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصرّوا ولا يرجعوا ، وجاز

__________________

(١) متفق عليه من حديث أنس.

(٢) ولا تمارهم : ولا تجادلهم.

(٣) في (ز) وأحلم عليهم.

(٤) أخرجه الطبري منقطعا وابن مردويه موصولا من حديث جابر ومن حديث قيس بن سعد ، وأحمد عن عقبة بن عامر.

(٥) ابن سعد في الطبقات وإسحاق في مسنده.

(٦) لمة منه : أي مسّ منه.

(٧) الإلمام : المقاربة من المعصية من غير مواقعة.

١٣٢

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

أن يراد بالإخوان الشياطين ، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين ، والأول أوجه ، لأنّ إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا ، وإنما جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس.

٢٠٣ ـ (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) مقترحة (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) هلا اخترتها ، أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست بمقترح لها (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هذا القرآن دلائل تبصّركم وجوه الحق (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) به.

٢٠٤ ـ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وقيل معناه إذ تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له ، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتّم ، وقيل في استماع الخطبة ، وقيل فيهما وهو الأصح.

٢٠٥ ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) متضرعا وخائفا (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) ومتكلما كلاما دون الجهر لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكّر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) لفضل هذين الوقتين ، وقيل المراد إدامة الذكر باستقامة الفكر ، ومعنى بالغدو بأوقات الغدو ، وهي الغدوات ، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.

٢٠٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) مكانة ومنزلة لا مكانا ومنزلا يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لا يتعظّمون عنها (وَيُسَبِّحُونَهُ) وينزهونه عما لا يليق به (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ويختصّونه بالعبادة لا يشركون به غيره (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

١٣٣

سورة الأنفال

مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) النفل الغنيمة لأنّها من فضل الله وعطائه ، والأنفال الغنائم ، ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها ، فسألوا رسول الله كيف تقسم (١)؟ ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فقيل له : قل لهم هي لرسول الله ، وهو الحاكم فيها خاصة ، يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم ، ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أنّ حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وقال الزجّاج : معنى ذات بينكم حقيقة وصلكم ، والبين الوصل ، أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به. قال عبادة بن الصامت (٢) رضي الله عنه : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله

__________________

(١) في (ظ) و (ز) نقسم.

(٢) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي ، أبو الوليد ، صحابي ، شهد العقبة وبدرا وجميع المشاهد ، حضر فتح مصر وهو أول من ولي القضاء بفلسطين ولد عام ٣٨ ق. ه ومات عام ٣٤ ه‍ (الأعلام ٣ / ٢٥٨)

١٣٤

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقسمه بين المسلمين على السواء (١) (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كاملي الإيمان.

٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إنّما الكاملو (٢) الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فزعت لذكره استعظاما له وتهيّبا من جلاله وعزّة سلطانه (٣) (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي القرآن (زادَتْهُمْ إِيماناً) ازدادوا بها يقينا وطمأنينة ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، أو زادتهم إيمانا بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربّهم ، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.

٣ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكّل وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة.

٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هو صفة لمصدر محذوف ، أي أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون ، كقولك هو عبد الله حقا ، أي حقّ ذلك حقا. وعن الحسن رحمه‌الله أنّ رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث الحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : إنما المؤمنون الآية فلا أدري أنا منهم أم لا ، وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية. أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا فلا يقطع بأنه مؤمن حقا ، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وكان أبو حنيفة رحمه‌الله لا يقول ذلك ، وقال لقتادة لم تستثني في إيمانك؟ قال اتباعا لإبراهيم في قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٤) فقال له : هلا

__________________

(١) رواه أحمد وإسحاق والطبري من حديث عبادة.

(٢) في (ظ) الكاملون.

(٣) في (ز) وعزه وسلطانه.

(٤) الشعراء ، ٢٦ / ٨٢.

١٣٥

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥)

اقتديت به في قوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) (١) وعن إبراهيم التيمي (٢) : قل أنا مؤمن حقا فإن صدقت اثبت عليه ، وإن كذبت فكفرك أشدّ من كذبك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا ، وقد احتج عبد الله (٣) على أحمد (٤) فقال : إيش اسمك؟ فقال أحمد ، فقال أتقول أنا أحمد حقا أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال أنا أحمد حقا ، فقال : حيث سمّاك والداك لا تستثني وقد سمّاك الله في القرآن مؤمنا تستثني! (لَهُمْ دَرَجاتٌ) مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ) وتجاوز لسيئاتهم (٥) (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) صاف عن كدّ الاكتساب وخوف الحساب.

٥ ـ الكاف في (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) في محلّ النصب على أنه صفة مصدر (٦) الفعل المقدر ، والتقدير قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت ، مع كراهتهم ، ثباتا مثل ثبات إخراج ربّك إياك من بيتك وهم كارهون (مِنْ بَيْتِكَ) يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها لأنها مهاجره ومسكنه فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه (٧) (بِالْحَقِ) إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) في موضع الحال ، أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك أنّ عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان ، فأخبر جبريل النبيّ عليه‌السلام ، فأخبر أصحابه ، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا علمت قريش بذلك ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ، وهو النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير. فقيل له إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فأبى وسار بمن

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٦٠.

(٢) إبراهيم التيمي : هو إبراهيم بن يزيد بن شريك بن طارق التيمي من تيم الرباب ، أبو أسماء ، كان عابدا صابرا على الجوع الدائم ، مات في حبس الحجاج سنة ٩٣ ه‍ (الأنساب ١ / ٤٩٩).

(٣) عبد الله : هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء ، التميمي ، المروزي ، أبو عبد الرحمن أفنى عمره في الأسفار حاجا ومجاهدا وتاجرا ، وجمع الحديث والفقه والعربية ، وأيام الناس والشجاعة والسخاء ، ولد عام ١١٨ ه‍ ومات عام ١٨١ ه‍ (الأعلام ٤ / ١١٥).

(٤) أحمد : هو أحمد بن محمد بن حنبل ، أبو عبد الله ، الشيباني الوائلي ، أحد الأئمة الأربعة صنف المسند في الحديث وله كتب أخرى في علوم مختلفة اضطهده المأمون ثم المعتصم ولم يصبه شر زمن الواثق وأكرمه المتوكل ولد عام ١٦٤ ه‍ ومات عام ٢٤١ ه‍ (الأعلام ١ / ٢٠٣).

(٥) في (أ) بسيئاتهم.

(٦) في (ز) لمصدر.

(٧) في (ز) لساكنه.

١٣٦

معه إلى بدر ، وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ، ونزل جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا ، فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وقال : (العير أحبّ إليكم أم النفير) قالوا : بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ردّد عليهم فقال : (إنّ العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل) فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ ، فقام عند غضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر (١) وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة (٢) فقال : انظر أمرك فامض فو الله لو سرت إلى «عدن أبين» (٣) ما تخلّف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو (٤) : امض لما أمرك الله فإنّا معك حيث أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دامت عين منّا تطرف ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال سعد بن معاذ (٥) : امض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشطه قول سعد ، ثم قال : (سيروا على بركة الله أبشروا فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم) (٦). وكانت الكراهة من بعضهم لقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) قال الشيخ أبو منصور رحمه‌الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقادا ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ويكون (٧) ذلك كراهة طبع ، لأنهم غير متأهبين له.

__________________

(١) أبو بكر : عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي ، أبو بكر ، أول من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرجال ، وأول الخلفاء الراشدين وأحد أعاظم العرب ، ولد بمكة عام ٥١ ق. ه وتوفي في المدينة عام ١٣ ه‍ (الأعلام ٤ / ١٠٢).

(٢) سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي ، أبو ثابت ، صحابي من أهل المدينة كان سيد الخزرج ، كان أحد النقباء الإثني عشر ، ولد قبل الهجرة ومات عام ١٤ ه‍ (الأعلام ٣ / ٨٥).

(٣) عدن أبين : مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند ، يقال أنه سمي بأبين بن زهير وقيل أبين موضع في جبل عدن (معجم البلدان ١ / ١٠٩ و ٤ / ١٠٠).

(٤) المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود ، صحابي من الأبطال وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وأول من قاتل على فرس في سبيل الله ، شهد بدرا وغيرها ، سكن المدينة وتوفي على مقربة منها ، ولد عام ٣٧ ق. ه ومات عام ٣٣ ه‍ (الأعلام ٧ / ٢٨٢).

(٥) سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ، الأوسي الأنصاري ، صحابي من الأبطال من أهل المدينة ، أصيب يوم الخندق ولد عام ٣٢ ق. ه ومات عام ٥ ه‍ (الأعلام ٣ / ٨٨).

(٦) الرواية منتزعة من سيرة ابن هشام.

(٧) في (ز) وأن يكون.

١٣٧

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

٦ ـ (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) الحقّ الذي جادلوا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) بعد إعلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم ينصرون ، وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلّا قلت لنا لنستعد ، وذلك لكراهتهم القتال (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) شبّه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يعتل (١) إلى القتل ويساق على الصّغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها ، وقيل كان خوفهم لقلة العدد وإنهم كانوا رجّالة وما كان فيهم إلا فارسان.

٧ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) إذ منصوب باذكر ، وإحدى مفعول ثان (أَنَّها لَكُمْ) بدل من إحدى الطائفتين ، وهما العير والنفير ، والتقدير وإذ يعدكم الله أنّ إحدى الطائفتين لكم (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي العير ، وذات الشوكة ذات السلاح ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم ، أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنّها الطائفة التي لا سلاح لها ، ولا تريدون الطائفة الأخرى (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يثبته ويعليه (بِكَلِماتِهِ) بآياته المنزّلة في محاربة ذات الشوكة ، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنّصرة ، وبما قضى من قتلهم وطرحهم في قليب (٢) بدر (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) آخرهم ، والدابر الآخر ، فاعل من دبر إذا أدبر ، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال ، يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف (٣) الأمور والله تعالى يريد معالي الأمور ونصرة الحقّ وعلوّ الكلمة ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وأعزّكم وأذلّهم.

٨ ـ (لِيُحِقَّ الْحَقَ) متعلق بيقطع أو بمحذوف تقديره ليحقّ الحقّ (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) فعل ذلك ، والمقدر متأخر ليفيد الاختصاص ، أي ما فعله إلّا لهما ، وهو إثبات الإسلام وإظهاره وإبطال الكفر ومحقه ، وليس هذا بتكرار لأنّ الأول تمييز بين

__________________

(١) يعتلّ : يجر جرا عنيفا (القاموس ٤ / ١٢).

(٢) القليب : البئر (القاموس ١ / ١١٩).

(٣) السّفساف : الرديء من كل شيء والأمر الحقير (القاموس ٣ / ١٥٢).

١٣٨

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

الإرادتين ، وهذا بيان لمراده فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) المشركون ذلك.

٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من إذ يعدكم ، أو متعلق بقوله ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، واستغاثتهم أنّهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال طفقوا يدعون الله يقولون أي ربّنا انصرنا على عدوك ، يا غيّاث المستغيثين أغثنا ، وهي طلب الغوث ، وهو التخليص من المكروه (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) فأجاب ، وأصل (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) بأني ممدّكم ، فحذف الجارّ وسلّط عليه استجاب ، فنصب محلّه (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) مدني (١) ، غيره بكسر الدال ، فالكسر على أنهم أردفوا غيرهم ، والفتح على أنه أردف كلّ ملك ملكا آخر ، يقال ردفه إذا تبعه وأردفته إياه إذا اتبعته.

١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد الذي دل عليه ممدّكم (إِلَّا بُشْرى) إلّا بشارة لكم بالنصر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) يعني أنكم استغثتم وتضرّعتم لقلّتكم ، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر ، وتسكينا منكم ، وربطا على قلوبكم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإنّ الناصر هو الله لكم وللملائكة ، أو وما النصر من الملائكة وغيرهم من الأسباب إلّا من عند الله ، والمنصور من نصره الله ، واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبريل عليه‌السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، وميكائل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي رضي الله عنه في صور (٢) الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم ، فقاتلت حتى قال أبو جهل لابن مسعود : من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص؟ قال : من قبل الملائكة ، قال : فهم غلبونا لا أنتم ، وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبّتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) بنصر أوليائه (حَكِيمٌ) بقهر أعدائه.

__________________

(١) أي مردفين بفتح الدال.

(٢) في (ظ) و (ز) صورة.

١٣٩

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) بدل ثان من إذ يعدكم ، أو منصوب بالنصر ، أو بإضمار اذكر. يغشيكم مدني (النُّعاسَ) النوم ، والفاعل هو الله على القراءتين. يغشاكم النعاس مكي وأبو عمرو (أَمَنَةً) مفعول له ، أي إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا ، أي لأمنكم ، أو مصدر ، أي فأمنتم أمنة ، فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس (مِنْهُ) صفة لها ، أي أمنة حاصلة لكم من الله (وَيُنَزِّلُ) بالتخفيف مكي وبصري ، وبالتشديد غيرهم (عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) بالماء من الحدث والجنابة (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) وسوسته إليهم وتخويفه إياهم من العطش ، أو الجنابة من الاحتلام ، لأنه من الشيطان ، وقد وسوس إليهم أن لا نصرة مع الجنابة (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بالصبر (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي بالماء إذ الأقدام كانت تسوخ في الرمل ، أو بالربط لأنّ القلب إذا تمكّن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال.

١٢ ـ (إِذْ يُوحِي) بدل ثالث من إذ يعدكم ، أو منصوب بيثبّت (رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) بالنصر (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبشرى ، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة رجل ويقول أبشروا فإنّ الله ناصركم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هو امتلاء القلب من الخوف ، والرعب شامي وعلي (فَاضْرِبُوا) أمر للمؤمنين أو الملائكة ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييرا للرؤوس أو أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، يعني ضرب الهام (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) هي الأصابع يريد الأطراف ، والمعنى فاضربوا المقاتل والشّوى (١) لأنّ الضرب إمّا أن يقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم أن يجمعوا عليهم النوعين.

١٣ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل ، وهو

__________________

(١) الشوى : اليدان والرجلان وقحف الرأس وما كان غير مقتل (القاموس ٤ / ٣٥٠).

١٤٠