الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦
الخباء ؟ فقال له : « نعم » فأعاد عليه القول شبه المستهزئ يضحك ، فقال : يا أبا الحسن فما فرق بين هذا وهذا ؟ فقال . « يا أبا يوسف إنّ الدين ليس بقياس كقياسكم أنتم تلعبون ، إنّا صنعنا كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وقُلْنا كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يركب راحلته فلا يستظلّ عليها وتؤذيه الشمس فيستر بعض جسده ببعض ، وربما ستر وجهه بيده ، فإذا نزل استظلّ بالخباء وفيء البيت والجدار » (١) .
ولأنّه ستر بما يقصد به الترفّه ، فأشبه ما لو غطّاه .
ورخّص فيه ربيعة والثوري والشافعي ، وهو مروي عن عثمان وعطاء ؛ لما روت اُمّ الحُصين قالت : حججت مع النبي صلّى الله عليه وآله حجّة الوداع ، فرأيت اُسامة وبلالاً أحدهما أخذ بخِطام (٢) ناقة النبي صلّى الله عليه وآله ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحَرّ حتىٰ رمىٰ جمرة العقبة (٣) .
ولأنّه يُباح له التظليل في البيت والخباء ، فجاز له [ في حال ] (٤) الركوب (٥) .
والحديث ممنوع ، وجاز أن يكون عليه السلام مضطرّاً إلىٰ التظليل .
ولأنّ رفع الثوب الساتر جاز أن يكون حالة النزول ؛ لأنّه ليس في الحديث أنّه كان حالة الركوب ، والفرق ظاهر ؛ فإنّ التظليل حالة النزول دافع
__________________
(١) الكافي ٤ : ٣٥٠ / ١ ، التهذيب ٥ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / ١٠٦١ بتفاوت يسير في الألفاظ ، وفي الأخير : بشير بن إسماعيل .
(٢) الخطام : الحبل الذي يُقاد به البعير . لسان العرب ١٢ : ١٨٦ « خطم » .
(٣) صحيح مسلم ٢ : ٩٤٤ / ٣١٢ ، سنن أبي داود ٢ : ١٦٧ / ١٨٣٤ ، مسند أحمد ٦ : ٤٠٢ .
(٤) أضفناها من المغني والشرح الكبير .
(٥) المغني ٣ : ٢٨٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٧ ، فتح العزيز ٧ : ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٢٨ ، حلية العلماء ٣ : ٢٨٣ ، المجموع ٧ : ٢٦٧ .
للأذىٰ ، بخلاف حالة الركوب ؛ فإنّ الفعل حالة النزول أكثر ؛ لدوامه ، بخلاف حالة الركوب .
مسألة ٢٦٠ : يجوز للمُحْرم حالة النزول الاستظلال بالسقف والشجرة والخباء والخيمة لضرورة وغير ضرورة ، عند العلماء كافّة .
روىٰ العامّة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أمر بقبّة من شعر ، فضُربت له بـ « نَمِرة » فأتىٰ « عرفة » فوجد القبّة قد ضُربت له بـ « نمرة » فنزل بها حتىٰ إذا زاغت الشمس (١) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه جعفر بن المثنىٰ عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يركب راحلته فلا يستظلّ عليها وتؤذيه الشمس ، فيستر بعض جسده ببعض ، وربما ستر وجهه بيده ، وإذا نزل استظلّ بالخباء وفيء البيت وبالجدار » (٢) .
مسألة ٢٦١ : لو افتقر حالة السير إلى الاستظلال لعلّة ومرض وشدّة حَرٍّ أو بردٍ أو مطر ، جاز له الاستظلال ، وتجب الفدية ؛ لما رواه سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه السلام ، قال : سألته عن المُحْرم يظلّل علىٰ نفسه ، فقال : « أمن علّة ؟ » فقلت : تؤذيه الشمس وهو مُحْرم ، فقال : « هي علّة يظلّل ويفدي » (٣) .
وسأل إبراهيمُ بن أبي محمود ، الرضا عليه السلام : عن المُحْرم يظلّل علىٰ محمله ويفدي إذا كانت الشمس والمطر يضرّ به ، قال : « نعم » قلت : كم الفداء ؟ قال : « شاة » (٤) .
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٩ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٥ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٤ / ٣٠٧٤ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٧ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٥٠ / ١ ، التهذيب ٥ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / ١٠٦١ .
(٣) التهذيب ٥ : ٣١٠ ـ ٣١١ / ١٠٦٤ ، الاستبصار ٢ : ١٨٦ / ٦٢٤ .
(٤) الكافي ٤ : ٣٥١ / ٩ ، التهذيب ٥ : ٣١١ / ١٠٦٦ ، الاستبصار ٢ : ١٨٧ / ٦٢٦ .
ولأنّه في محلّ الحاجة ، فكان سائغاً .
إذا عرفت هذا ، فإنّه لا يجوز للمُحْرم إذا لم يكن مضطرّاً إلىٰ التظليل أن يظلّل علىٰ نفسه وإن التزم الكفّارة ، وإنّما يسوغ التظليل للمُحْرم بشرطين : العلّة والتزام الكفّارة .
روىٰ عبد الله بن المغيرة ـ في الصحيح ـ عن الكاظم عليه السلام : اُظلّل وأنا مُحْرم ؟ قال : « لا » قلت : أفاُظلّل واُكفّر ؟ قال : « لا » قلت : فإن مرضت ؟ قال : « ظلّل وكفّر » (١) .
مسألة ٢٦٢ : يجوز للمرأة التظليل علىٰ نفسها حالة السير ، كما جاز للعليل ؛ لضعف مزاجها ، وقبوله للانفعال بسرعة ، فساغ لها التظليل ؛ دفعاً للحرج الحاصل من تركه ، فأشبهت العليل والنازل .
وروىٰ محمّد بن مسلم ـ في الصحيح ـ عن أحدهما عليهما السلام ، قال : سألته عن المُحْرم يركب القبّة ، فقال : « لا » قلت : فالمرأة المُحْرمة ، قال : « نعم » (٢) .
وكذا الصبي يجوز له التظليل ؛ لما قلناه في المرأة .
ولما رواه حريز ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا بأس بالقبّة علىٰ النساء والصبيان وهم مُحْرمون ، ولا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم » (٣) .
قال الشيخ رحمه الله : قد رخص للنساء في التظليل ، وتركه أفضل علىٰ كلّ حال (٤) .
__________________
(١) الفقيه ٢ : ٢٢٥ / ١٠٥٩ ، التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٥ ، الاستبصار ٢ : ١٨٧ / ٦٢٧ .
(٢) التهذيب ٥ : ٣١٢ / ١٠٧٠ .
(٣) الفقيه ٢ : ٢٢٦ / ١٠٦٤ ، التهذيب ٥ : ٣١٢ / ١٠٧١ .
(٤) النهاية : ٢٢١ ، المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢١ .
مسألة ٢٦٣ : لو زامل المريضَ أو المرأةَ أو الصبيَّ رجلٌ صحيح ، اختصّ المريض والمرأة والصبي بالتظليل علىٰ المحمل ، وكشف الصحيح محمله ؛ لقيام المانع من التظليل في حقّه ، وهو الإِحرام السالم عن أحد الأعذار المُسوّغة له .
ولما رواه بكر بن صالح ، قال : كتبت إلىٰ أبي جعفر الثاني عليه السلام : إنّ عمّتي معي وهي زميلتي ويشتدّ عليها الحَرّ إذا أحرمَتْ ، فترىٰ [ أن ] (١) اُظلّل عليَّ وعليها ؟ فكتب : « ظلِّل عليها وحدها » (٢) .
مسألة ٢٦٤ : إذا استظلّ حالة الاختيار ، وجب عليه الفداء ـ وهو رواية عن أحمد ، وقول أهل المدينة (٣) ـ لأنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً ، فأشبه ما لو ستره بشيء يُلاقيه .
ولأنّ الفداء يجب للضرورة فبدونها أولىٰ .
ولأنّ محمد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : سأله رجل عن الظلال للمُحْرم من أذىٰ مطر أو شمس وأنا أسمعه ، فأمره أن يفدي (٤) شاة يذبحها بمنىٰ (٥) .
وأحمد وإن منع التظليل إلّا أنّه لم يوجب الفدية ، فقيل له : إنّ أهل المدينة يقولون : عليه دم ، قال : نعم أهل المدينة يغلطون (٦) .
إذا عرفت هذا ، فلا فرق بين أن يقع التظليل في إحرام العمرة المتمتَّع بها وإحرام الحج .
وقال الشيخ في بعض كتبه : لو وقع التظليل في إحرام العمرة المتمتَّع
__________________
(١) أضفناها من المصدر .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٢٦ / ١٠٦١ ، التهذيب ٥ : ٣١١ / ١٠٦٨ ، الاستبصار ٢ : ١٨٥ / ٦١٦ .
(٣) المغني ٣ : ٢٨٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٧ .
(٤) في النسخ الخطية والحجرية : يهدي . وما أثبتناه من المصدر .
(٥) الكافي ٤ : ٣٥١ / ٥ ، التهذيب ٥ : ٣١١ / ١٠٦٥ ، الاستبصار ٢ : ١٨٦ / ٦٢٥ .
(٦) المغني ٣ : ٢٨٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٧ .
بها ، لزمه كفّارتان ؛ لما رواه أبو علي بن راشد ، قال : قلت له عليه السلام : جعلت فداك إنّه يشتدّ عليّ كشف الظلال ، لأنّي محرور تشتدّ الشمس عليّ ، فقال : « ظلّل وأرق دماً » فقلت له : دماً أو دمين ، قال : « للعمرة ؟ » قلت : إنّا نُحرم بالعمرة وندخل مكة فنحلّ ونحرم بالحجّ ، قال : « فأرق دمين » (١) .
ومع صحة السند نحمله علىٰ الاستحباب .
وقال بعض الشافعية : إذا لم تمسّ المظلّة رأسه ، فلا فدية ، وإن مسّته ، وجبت الفدية (٢)
البحث العاشر : إزالة الشعر
مسألة ٢٦٥ : يُحْرم علىٰ المُحْرم إزالة شيء من شعره ، قليلاً كان أو كثيراً ، علىٰ رأسه أو علىٰ بدنه أو لحيته بإجماع العلماء .
قال الله تعالىٰ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (٣) .
وما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال لكعب بن عجرة : ( لعلّك تؤذيك هوامّ رأسك ) قال : نعم يا رسول الله ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( احلق رأسك ، وصُمْ ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو أنسك شاة ) (٤) وهو يدلّ علىٰ المنع من الحلق قبل ذلك .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه السلام : « مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله علىٰ كعب بن عُجْرَة الأنصاري والقمل يتناثر من رأسه ،
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٣١١ / ١٠٦٧ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٤٣٣ .
(٣) البقرة : ١٩٦ .
(٤) صحيح البخاري ٣ : ١٢ ـ ١٣ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٩ : ١٠٩ / ٢٢٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٥٥ ، الموطّأ ١ : ٤١٧ / ٢٣٨ بتفاوت ، وأورد نصّه ابن قدامة في المغني ٣ : ٣٠١ .
فقال : أتؤذيك هوامّك ؟ فقال : نعم ، قال : فاُنزلت هذه الآية ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًىٰ مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (١) فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فحلق رأسه ، وجعل عليه صيام ثلاثة أيام والصدقة علىٰ ستة مساكين لكلّ مسكين مُدّان ، والنسك شاة » (٢) .
وقال ابن عباس ( مَّرِيضًا ) أي : برأسه قروح ( أَوْ بِهِ أَذًىٰ ) ، أي : قمل (٣) .
وسواء حلق لعذر أو لغير عذر ، فإنّ الفدية واجبة عليه ؛ للآية (٤) ، وإذا وجبت مع العذر فمع عدمه أولىٰ .
مسألة ٢٦٦ : ولا فرق بين شعر الرأس في ذلك وبين شعر البدن في قول أهل العلم ؛ لما تقدّم في قول الصادق عليه السلام : « ولا يحلق الشعر » (٥) وهو يتناول شعر الرأس وغيره .
ولاشتماله علىٰ التنظيف والترفّه ، فلزمته الفدية ، كشعر الرأس ، بل الحاصل من الترفّه والتنظيف فيه أكثر من الرأس .
وقال أهل الظاهر : لا يجب في شعر غير الرأس (٦) ، لقوله تعالىٰ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) (٧) .
وهو استدلال بمفهوم اللقب ، وليس حجّةً إجماعاً من المحقّقين .
ولا فرق بين أن يزيل الشعر بالإِطلاء أو الحلق أو النتف عن الرأس أو
__________________
(١) البقرة : ١٩٦ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٥٨ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٣٣٣ / ١١٤٧ ، الاستبصار ٢ : ١٩٥ / ٦٥٦ .
(٣) المغني ٣ : ٣٠٢ ، بداية المجتهد ١ : ٣٦٦ ، تفسير ابن عباس : ٢٧ .
(٤) البقرة : ١٩٦ .
(٥) التهذيب ٥ : ٣٠٦ / ١٠٤٤ ، الاستبصار ٢ : ١٨٣ / ٦٠٨ .
(٦) المجموع ٧ : ٢٤٨ ، حلية العلماء ٣ : ٢٨٣ ، بداية المجتهد ١ : ٣٦٧ .
(٧) البقرة : ١٩٦ .
البدن .
ولو قطع يده وعليها شعرات ، فلا فدية ؛ لأنّ الشعر غير مقصود بالإِبانة ، وكذا لو كشط جلدة الرأس ، كما لو قتل الصغيرة لا يجب المهر ؛ لأنّ البُضْع تابع عند القتل .
ولو أرضعت الكبيرةُ الصغيرة ، بطل النكاح ، ووجب المهر .
ولو مشط لحيته أو رأسه ، فانتفت شعرات ، فعليه الفدية .
ولو شكّ هل كانت الشعرات منسلّةً فانفصلت وانتتفت بالمشط ، فالأقرب : وجوب الفدية ، وهو أحد قولي الشافعي ، والثاني : لا تجب (١) .
مسألة ٢٦٧ : الكفّارة تجب بحلق جميع الرأس وبعضه ، قليلاً كان أو كثيراً ، لكن تختلف ، ففي حلق جميع الرأس : دم ، وكذا فيما يسمّىٰ حلق الرأس وإن كان بعضه .
وفي حلق ثلاث شعرات صدقة بمهما كان ؛ لأنّ الدم معلّق علىٰ حلق الرأس ، وهو إنّما يصدق حقيقة في الجميع ، فيبقىٰ الباقي علىٰ أصل البراءة .
وأمّا وجوب الفدية في القليل : فلما ورد عنهم عليهم السلام : « أنّ مَنْ مسَّ شعر رأسه ولحيته فسقط شيء من شعره يتصدّق بشيء » (٢) .
وقال الشافعي : يجب بحلق ثلاث شعرات دم ؛ لأنّه شعر آدمي يصدق عليه اسم الجمع المطلق (٣) .
والفرق بين الكثير والقليل ظاهر .
وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم إلّا بحلق ربع الرأس ؛ لأنّ الربع يقوم
__________________
(١) الوجيز ١ : ١٢٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٥ ، المجموع ٧ : ٢٤٨ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٦١ / ١١ ، الفقيه ٢ : ٢٢٩ / ١٠٨٩ ، التهذيب ٥ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ١١٧١ ، الاستبصار ٢ : ١٩٨ / ٦٦٩ .
(٣) الوجيز ١ : ١٢٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٢١ ، المجموع ٧ : ٣٧٤ ، مختصر المزني : ٦٦ ، المغني ٣ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٠ .
مقام الكلّ ، فإنّه يصدق : رأيت رجلاً ، وإن كان لم يشاهد سوىٰ جانب منه (١) .
ونمنع حقيقة الإِطلاق ، ولهذا يصحّ نفيه .
ورؤية الرجل مجاز إمّا لأنّه ليس هو الهيكل المحسوس ، بل شيء مجرّد ، وإمّا لأنّه أجزاء أصلية .
ولأنّ الإِنسان ليس مربّعاً ، بل إذا رأىٰ ما يعرفونه قال : رأيته ، ولو رأىٰ صفحة وجهه .
وقال مالك : إذا حلق من رأسه ما أماط عنه الأذىٰ ، وجب الدم ، قلّ أو كثر (٢) .
وعن أحمد روايتان : إحداهما : أنّه يجب بثلاث شعرات ، كقول الشافعي ، والثانية : بأربع شعرات (٣) .
ولو نتف شعرة أو شعرتين ، فعندنا تجب صدقة ، وللشافعي أقوال :
أحدها : يجب في الشعرة الواحدة مُدٌّ من طعام ، وفي الشعرتين مُدّان ، وفي الثلاث دم شاة ؛ لأنّ تبعيض الدم عسر ، والشرع (٤) قد عدل الحيوان بالطعام في جزاء الصيد وغيره ، والشعرة الواحدة هي النهاية في القلّة ، والمدّ أقلّ ما وجب في الكفّارات ، فقُوبلت به .
الثاني : أنّه يجب في الشعرة الواحدة درهم ، وفي الشعرتين درهمان ؛ لأنّ
__________________
(١) الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦١ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٩٢ ، المغني ٣ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧١ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٦ ، المجموع ٧ : ٣٧٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٦ .
(٢) المدوّنة الكبرىٰ ١ : ٤٣٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، المغني ٣ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧١ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٦ ، المجموع ٧ : ٣٧٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٧ .
(٣) المغني ٣ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٠ ، المجموع ٧ : ٣٧٤ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٦ .
(٤) ورد في النسخ الخطية والحجرية : والشعر ، وذلك تصحيف ، وما أثبتناه من فتح العزيز ، وهو الظاهر من المهذّب للشيرازي .
تبعيض الدم عسر ، وكانت الشاة تُقوّم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله بثلاثة دراهم تقريباً ، فاعتبرت تلك القيمة عند الحاجة إلىٰ التوزيع .
الثالث : أنّ في الشعرة ثُلثَ دم ، وفي الشعرتين ثُلثي الدم ، تقسيطاً للواجب في الشعرات الثلاث علىٰ الآحاد .
الرابع : أنّ الدم الكامل يجب بالشعرة الواحدة ؛ لأنّ محظورات الإِحرام لا تختلف بالقلّة والكثرة ، كالطيب واللُّبْس (١) .
مسألة ٢٦٨ : لو حلق رأسه لأذىٰ ، لم يكن مُحرَّماً ، ولا تسقط الفدية ؛ لنصّ القرآن (٢) .
ولو كثرت الهوامّ في رأسه ، أو كانت به جراحة ، وأحوجه أذاها إلىٰ الحلق ، جاز له ذلك ، ويجب الفداء ، كما في حديث كعب بن عُجْرَة ، وقد تقدّم (٣) .
وكذا لو كان كثير الشعر يؤذيه الحَرّ ، جاز له الحلق مع الفداء .
ولو كان الضرر اللاحق من نفس الشعر ، مثل أن ينبت في عينه أو طال حاجباه فغطيا عينيه ، فله قلع ما في العين ، وقطع ما استرسل علىٰ عينيه ، ولا فدية عليه ؛ لأنّ الشعر آذاه ، فكان له دفع أذيّته بغير فدية ، كالصيد إذا صال عليه .
ولو كان الأذىٰ من غير الشعر لكن لا يتمكّن من إزالة الأذىٰ إلّا بإزالة الشعر ، كالقمَّل والقروح برأسه ، أو صُداع برأسه ، أو شدّة الحَرّ عليه لكثرة شعره ، فعليه الفدية ؛ لأنّه قطع الشعر لإِزالة ضرر غيره ، فأشبه أكل الصيد للمخمصة .
__________________
(١) الحاوي الكبير ٤ : ١١٥ ، الوجيز ١ : ١٢٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٢١ ، المجموع ٧ : ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٧ .
(٢) البقرة : ١٩٦ .
(٣) تقدّم في المسألة ٢٦٥ .
لا يقال : القُمَّل من ضرر الشعر والحَرّ سببه كثرة الشعر فتساويا .
لأنّا نقول : ليس القُمَّل من الشعر وإنّما لا يتمكّن من المقام في الرأس إلّا به ، فهو محلّ له لا سبب فيه .
وكذا الحَرّ من الزمان بدليل أنّ الشعر يوجد في زمن البرد ، فلا يتأذّىٰ به .
وهذا تفصيل حسن لا بأس به ، ذكره بعض الشافعية (١) .
تنبيه : لو نتف إبطه ، وجب عليه الفدية ؛ لأنّه أزال الشعر للترفّه ، فكان عليه الفداء ، كغيره .
ولما رواه حريز ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا نتف الرجل إبطه بعد الإِحرام فعليه دم » (٢) .
إذا عرفت هذا ، فليس الحكم منوطاً بالحلق بل بالإِزالة والإِبانة إمّا بنتف أو إحراق أو غيره .
مسألة ٢٦٩ : النسيان مُسقط للفدية في الطيب واللباس وما عدا الوطء من الاستمتاعات ، كالقُبْلة واللمس بشهوة ، وسيأتي .
وهل يُسقط الفديةَ في الحلق والقلم ؟ فيه للشافعية وجهان :
أحدهما : لا تجب ، كما في الاستمتاعات .
والثاني : الوجوب (٣) .
وهو المعتمد ؛ لأنّ الإِتلافات يتساوىٰ عمدها وخطؤها ، كما في ضمان الأموال .
وأمّا المجنون والمغمىٰ عليه والصبي غير المميّز : فالأقرب عدم الضمان
__________________
(١) كذا في النسخ الخطيّة والحجرية ، وذكر هذا التفصيل بعينه ابن قدامة في المغني ٣ : ٣٠٢ من دون نسبة إلىٰ بعض الشافعية .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٢٨ / ١٠٧٩ ، التهذيب ٥ : ٣٤٠ / ١١٧٧ ، الاستبصار ٢ : ١٩٩ / ٦٧٥ .
(٣) فتح العزيز ٧ : ٤٦٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٢٠ ، المجموع ٧ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ .
في حقّهم ؛ لعدم التكليف عليهم ، بخلاف الناسي ، فإنّه يفعل ما يتعاطاه ، والنسيان عذر في سقوط الإِثم لا في إزالة الفداء .
مسألة ٢٧٠ : يجوز للمُحْرم أن يحلق شعر المُحلّ ، ولا شيء عليه ـ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد ، وهو محكي عن مجاهد (١) ـ لأنّ المُحلّ يسوغ له حلق رأسه ، فجاز للمُحْرم فعله به ، كما لو فَعَله المُحلّ ؛ لأنّ المُحرَّم إنّما هو إزالة شعر المُحْرم عن نفسه .
ولأنّه لم يتعلّق بمنبته حرمه الإِحرام ، فجاز للمُحْرِم حلقه ، كشعر البهيمة .
ولأنّه يجوز له أن يطيبه ويلبسه ، فأشبه المُحلّ إذا حلقه .
ولأصالة براءة الذمّة .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز له ، فإن فَعَل ، فعليه صدقة ؛ لقوله تعالىٰ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) (٢) معناه لا يحلق بعضٌ رؤوسَ بعض .
ولأنّ المُحْرم ممنوع منه بكلّ حال ، وما كان كذلك مُنع منه في حقّ غيره ، كقتل الصيد ، بخلاف اللباس ، فإنّه ليس بممنوع منه بكلّ حال (٣) .
والآية خطاب للمُحْرِمين ؛ لقوله تعالىٰ : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) (٤) .
ولأنّ المُحِلّ غير ممنوع من حلق الرأس إجماعاً ، والصيد إذا أتلفه المُحْرم بكلّ حال ضمنه ، وهنا مُنع من شعر المُحْرم ؛ لما فيه من الترفّه وزوال الشعث في الإِحرام ، وهو غير موجود في شعر المُحلّ .
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ٤٦٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢١٤ ، المجموع ٧ : ٢٤٨ و ٣٤٥ و ٣٥٠ ، المغني ٣ : ٥٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٤ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٧٢ .
(٢) البقرة : ١٩٦ .
(٣) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٧٢ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٩٣ ، المغني ٣ : ٥٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٤ ، المجموع ٧ : ٢٤٨ ، و ٣٤٥ و ٣٥٠ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٩ .
(٤) البقرة : ١٩٦ .
مسألة ٢٧١ : لا يجوز للمُحْرم ولا للمُحلّ أن يحلقا رأس المُحْرم مع علمهما بحاله إجماعاً ؛ لقوله تعالىٰ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) (١) .
والمراد : أن لا يحلقه بنفسه ولا بغيره ، بل انصراف ذلك إلىٰ الغير أولىٰ ، فإنّ الإِنسان لا يمكنه أن يحلق رأس نفسه إلّا نادراً .
ولا فدية علىٰ واحد منهما عَلِما أو جَهِلا ، أذن لهما أو لا ؛ لأصالة براءة الذمّة ، والتحريم لا يستلزم الفدية ، كما في كثيرٍ من المحرّمات .
وقال أبو حنيفة : إذا كان الحالق مُحلاً ، وجب عليه صدقة نصف صاع ، وعلىٰ المُحْرم فدية ، وإن كان مُحْرماً ، فإن كان بإذنه ، فعلىٰ الآذن الفدية ، وعلىٰ الحالق صدقة (٢) .
وقال الشافعي : إذا حلق الحلال أو الحرام شعر الحرام ، فقد أساء .
ثم إن حلق بأمره ، فالفدية علىٰ المحلوق ؛ لأنّ فعل الحالق بأمره يضاف إليه ، ألا ترىٰ (٣) أنّه لو حلف لا يحلق رأسه فأمر غيره ، فحَلَق ، يحنث في يمينه .
ولأنّ يده ثابتة علىٰ الشعر ، وهو مأمور بحفظه إمّا علىٰ سبيل الوديعة أو العارية ، وكلاهما إذا تلف في يده بأمره يضمن .
وإن حلق لا بأمره يُنظر إن كان نائماً أو مكرهاً أو مغمىٰ عليه ، فقولان :
أصحّهما : أنّ الفدية علىٰ الحالق ـ وبه قال مالك وأحمد ـ لأنّه المقصّر ولا تقصير من المحلوق .
والثاني ـ وبه قال أبو حنيفة ـ أنّها علىٰ المحلوق ؛ لأنّه المرتفق به (٤) .
__________________
(١) البقرة : ١٩٦ .
(٢) الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٤ ، فتح العزيز ٧ : ٤٩٦ ، المجموع ٧ : ٣٤٥ .
(٣) في النسخ الخطيّة والحجرية : فإنّ الأقوىٰ ، بدل ألا ترىٰ ، وما أثبتناه من فتح العزيز .
(٤)
فتح العزيز ٧ : ٤٦٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٢٠ ، المجموع ٧ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ،
=
وأصحاب الشافعي بنوا القولين علىٰ أنّ استحفاظ الشعر في يد المُحْرم جارٍ مجرىٰ الوديعة أو مجرىٰ العارية .
وفيه جوابان :
إن قلنا بالأول ، فالفدية علىٰ الحالق ، كما أنّ ضمان الوديعة علىٰ المُتْلف دون المُودع ، وإن قلنا بالثاني ، وجبت علىٰ المحلوق وجوبَ الضمان علىٰ المستعير .
قالوا : والأول أظهر ؛ لأنّ العارية هي التي يمسكها لمنفعة نفسه ، وقد يريد المُحْرم الإِزالة دون الإِمساك .
وأيضاً فإنّه لو احترق شعره بتطاير الشرر ولم يقدر علىٰ التطفئة ، فلا فدية عليه ، ولو كان كالمستعير ، لوجبت عليه الفدية .
قالوا : فإن قلنا : الفدية علىٰ الحالق ، فإن فدىٰ ، فلا بحث ، وإن امتنع مع القدرة ، فهل للمحلوق مطالبته بإخراجها ؟ فيه وجهان : فالأكثر علىٰ أنّ له ذلك ، بناءً علىٰ أنّ المُحْرم كالمودع خصم فيما يؤخذ منه ويتلف في يده .
وإذا أخرج المحلوق [ الفدية ] (١) بإذن الحالق ، جاز ، وبغير إذنه لا يجوز في أصحّ الوجهين ، كما لو أخرجها أجنبي بغير إذنه .
وإن قلنا : الفدية علىٰ المحلوق ، فإن فدىٰ بالهدي أو الطعام ، رجع بأقلّ الأمرين من الطعام أو قيمة الشاة علىٰ الحالق ، ولا يرجع بما زاد ؛ لأنّ الفدية علىٰ التخيير ، وهو متطوّع بالزيادة .
وإن فدىٰ بالصوم ، فوجهان : أظهرهما : لا ، وعلىٰ الثاني بِمَ يرجع ؟ وجهان :
__________________
=
حلية العلماء ٣ : ٣٠٢ و ٣٠٤ ، المغني ٣ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٧٣ .
(١) أضفناها من المصدر .
أظهرهما : بثلاثة أمداد من طعام ؛ لأنّ صوم كلّ يوم مقابل مُدٍّ .
والثاني بما يرجع به لو فدىٰ بالهدي أو الإِطعام .
ثم إذا رجع فإنّما يرجع بعد الإِخراج في أصحّ الوجهين .
والثاني : أنّ له أن يأخذ منه ثم يخرج .
وهل للحالق أن يفدي علىٰ هذا القول ؟
أمّا بالصوم فلا ؛ لأنّه متحمّل ، والصوم لا يتحمّل .
وأمّا بغيره فنعم ، ولكن بإذن المحلوق ؛ لأنّ في الفدية معنىٰ التقرّب ، فلا بدّ من نيّة مَنْ وَجَبَتْ عليه .
وإن لم يكن نائماً ولا مغمىٰ عليه ولا مُكرهاً ، لكنه سكت عن الحلق ولم يمنع منه ، فقولان :
أحدهما : أنّ الحكم كما لو كان نائماً ؛ لأنّ السكوت ليس بأمر ، فإنّ السكوت علىٰ إتلاف المال لا يكون أمراً بالإِتلاف .
وأصحّهما : أنّه كما لو حلق بأمره ؛ لأنّ الشعر إمّا كالوديعة عنده أو كالعارية ، وعلىٰ التقديرين يجب الدفع عنه (١) .
ولو أمر حلال حلالاً بحلق شعر حرام وهو نائم ، فالفدية علىٰ الآمر عند الشافعي إن لم يعرف الحالق الحال ، وإن عرف ، فعليه في أصحّ الوجهين (٢) .
وهذه الفروع كلّها ساقطة عندنا ؛ لأنّ الحالق لا كفّارة عليه عندنا ، وأمّا المحلوق فإن كان الحلق بإذنه ضمن ، و إلّا فلا .
البحث الحادي عشر : القَلْم
مسألة ٢٧٢ : أجمع فقهاء الأمصار كافّة علىٰ أنّ المُحْرم ممنوع من
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، المجموع ٧ : ٣٤٦ ـ ٣٤٩ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٤٧٠ ، المجموع ٧ : ٣٤٩ .
قصّ أظفاره مع الاختيار ؛ لأنّه إزالة جزء يترفّه به فحرم ، كإزالة الشعر .
ولما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألته عن رجل أحرم فنسي أن يقلّم أظفاره ، قال : فقال : « يدعها » قال : قلت : إنّها طوال ، قال : « وإن كانت » قلت : إنّ رجلاً أفتاه بأن يقلّمها وأن يغتسل ويُعيد إحرامه ، ففَعَل ، قال : « عليه دم » (١) .
واعلم أنّ علماءنا نصّوا علىٰ أنّ مَنْ قلّم ظُفْره بإفتاء غيره ، فأدمىٰ إصبعه ، كان علىٰ المُفتي دم شاة ؛ لهذه الرواية .
إذا ثبت هذا ، فليس الحكم مخصوصاً بالقَلْم ، بل بمطلق الإِزالة ، فإنّها تزال للتنظيف والترفّه ، فيلحق بالقَلْمِ الكسْرُ والقطْعُ .
ولو قطع يده أو إصبعه وعليها الظفر ، فلا فدية عليه ؛ لأنّ الظفر تابع غير مقصود بالإِبانة .
مسألة ٢٧٣ : لو احتاج إلىٰ مداواة قرحة ولا يمكنه إلّا بقصّ أظفاره ، جاز له ذلك ، ووجبت الفدية ـ خلافاً لبعض العامّة (٢) ـ لأنّه أزال ما مُنع من إزالته لضرر في غيره ، فكان كما لو حلق رأسه لضرر القمل .
ولما رواه معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن الرجل المُحْرم تطول أظفاره ، قال : « لا يقصّ شيئاً منها إن استطاع ، فإن كانت تؤذيه فليقصّها وليُطعم مكان كلّ ظُفْر قبضةً من طعام » (٣) .
مسألة ٢٧٤ : لو أزال بعض الظُفْر تعلّق به ما يتعلّق بالظُفْر جميعه ؛ لأنّه بعض من جملة مضمونة .
وكذا لو أخذ بعض شعره ، فإنّه يكون كأخذ الشعرة بأجمعها .
ولو أخذ من بعض جوانب الظُفْر ولم يأت علىٰ رأسه كلّه ، ففيه ما في
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨٢ .
(٢) هو ابن القاسم صاحب مالك كما في المغني ٣ : ٣٠٣ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٧٥ .
(٣) الكافي ٤ : ٣٦٠ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٢٢٨ / ١٠٧٧ ، التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨٣ .
الظُفْر .
وقالت الشافعية : إن قلنا : يجب في الظُفْر الواحد ثُلث دم أو درهم ، فالواجب فيه ما يقتضيه الحساب ، وإن قلنا : يجب مُدٌّ ، فلا سبيل إلىٰ تبعيضه (١) .
مسألة ٢٧٥ : لو انكسر ظُفْره ، كان له إزالته بلا خلاف بين العلماء ؛ لأنّه يؤذيه ويؤلمه ، فكان له إزالته ، كالشعر النابت في عينه والصيد الصائل عليه .
وهل تجب فيه الفدية ؟ إشكال ينشأ : من أصالة براءة الذمّة ومشابهته للصيد الصائل ، ومن الرواية الصحيحة عن الصادق عليه السلام وقد سأله معاوية بن عمّار : عن المُحْرم تطول أظفاره إلىٰ أن ينكسر بعضها فيؤذيه : « فليقصّها وليُطعم مكان كلّ ظفر قبضةً من طعام » (٢) لأنّ العمل بالرواية متعيّن .
ولو قصّ المكسور خاصّةً ، لم يكن عليه شيء عند قوم علىٰ ما تقدّم من الإِشكال .
ولو أزال منه ما بقي ممّا لم ينكسر ، ضمنه بما يضمن به الظُفْر ؛ لأنّه أزال بعض الظُفْر ابتداءً من غير علّة ، فوجب ضمانه ، وكذا لو أزاله تبعاً .
البحث الثاني عشر : إخراج الدم
مسألة ٢٧٦ : اختلف علماؤنا في جواز الحجامة للمُحْرم اختياراً ، فمنع منه المفيد وابن إدريس (٣) ، وبه قال مالك (٤) ، وكان الحسن البصري يرىٰ
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ٤٦٧ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٦٠ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٢٢٨ / ١٠٧٧ ، التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨٣ .
(٣) المقنعة : ٦٨ ، السرائر : ١٢٨ .
(٤)
المنتقىٰ ـ للباجي ـ ٢ : ٢٤٠ ، المجموع ٧ : ٣٥٥ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٥ ،
المغني
=
في الحجامة دماً (١) .
واختار ابن بابويه الجواز (٢) ، وهو قول أكثر العامّة (٣) .
وللشيخ قولان (٤) .
احتجّ المفيد : بما رواه الحسن الصيقل عن الصادق عليه السلام : عن المُحْرم يحتجم ، قال : « لا ، إلّا أن يخاف علىٰ نفسه التلف ولا يستطيع الصلاة » وقال : « إذا أذاه الدم فلا بأس به ويحتجم ولا يحلق الشعر » (٥) .
واحتجّ المجوّزون : بما رواه العامّة عن ابن عباس : انّ النبي صلّى الله عليه وآله احتجم ـ وهو مُحْرم ـ في رأسه (٦) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه السلام : « لا بأس أن يحتجم المُحْرم ما لم يحلق أو يقطع الشعر » (٧) .
وهما محمولان علىٰ الاحتياج إليه ؛ جمعاً بين الأدلّة .
مسألة ٢٧٧ : يجوز الحجامة مع الضرورة ودعوىٰ الحاجة ، وكذا الفصد بلا خلاف ؛ دفعاً للضرر (٨) ، وكذا يجوز قطع العضو عند الحاجة ، والختان من غير فدية ؛ للأصل .
ولو احتاج في الحجامة إلىٰ قطع شعر ، قَطَعَه ؛ لما رواه العامّة عن النبي
__________________
=
٣ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٤ .
(١) المغني ٣ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٤ .
(٢) المقنع : ٧٣ ، الفقيه ٢ : ٢٢٢ / ١٠٣٣ .
(٣) المغني ٣ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٤ ، المجموع ٧ : ٣٥٥ .
(٤) قال بعدم الجواز في المبسوط ١ : ٣٢١ ، والنهاية : ٢٢٠ ، وبالجواز في الخلاف ٢ : ٣١٥ ، المسألة ١١٠ .
(٥) التهذيب ٥ : ٣٠٦ / ١٠٤٤ ، الاستبصار ٢ : ١٨٣ / ٦٠٨ .
(٦) سنن أبي داود ٢ : ١٦٧ ـ ١٦٨ / ١٨٣٦ .
(٧) التهذيب ٥ : ٣٠٦ / ١٠٤٦ ، الاستبصار ٢ : ١٨٣ / ٦١٠ .
(٨) في النسخ الخطية ونسخة بدل في الطبعة الحجرية : للضرورة .
صلّى الله عليه وآله : أنّه احتجم في طريق مكّة وهو مُحْرم وسط (١) رأسه (٢) ، ومن ضرورة ذلك قطع الشعر .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه مهران بن أبي نصر وعلي بن إسماعيل بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام ، قالا : سألناه ، فقال في حلق القفا للمُحْرم : « إن كان أحد منكم يحتاج إلىٰ الحجامة فلا بأس به ، وإلّا فيلزم ما جرىٰ عليه الموسى إذا حلق » (٣) .
ولأنّه يباح إزالة الشعر أجمع لضرر القمل ، فكذا هنا .
إذا عرفت هذا ، فإنّ الفدية واجبة عليه ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر (٤) ـ لقوله تعالىٰ : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (٥) .
ولأنّ حلقه لإِزالة ضرر عنه ، فلزمته الكفّارة ، كما لو حلقه لإِزالة قمله .
وقال أبو يوسف ومحمد : يتصدّق بشيء (٦) .
مسألة ٢٧٨ : يجوز للمُحْرم أن يبطّ خُراجه ويشقّ الدمل إذا احتاج إلى
__________________
(١) في النسخ الخطية والطبعة الحجرية : وشرط بدل وسط ، وما أثبتناه من المصادر .
والشَّرْطُ : بَزْغُ الحجّام بالمشرط ، وبَزَغَ دَمَه : أي أساله . لسان العرب ٧ : ٣٣٢ و ٨ : ٤٣٢ « شرط ، بزغ » .
(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٩ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٦٢ ـ ٨٦٣ / ١٢٠٣ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٦٥ ، المغني ٣ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٥ .
(٣) التهذيب ٥ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ١٠٤٧ .
(٤) المجموع ٧ : ٣٥٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٩٣ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٢ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٧٤ ، المدوّنة الكبرىٰ ١ : ٤٢٨ ، المغني ٣ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٥ .
(٥) البقرة : ١٩٦ .
(٦) بدائع الصنائع ٢ : ١٩٣ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٦٢ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٧٤ ، المغني ٣ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٣٥ .
ذلك ، ولا فدية عليه إجماعاً ؛ لما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه احتجم وهو مُحْرم (١) .
ومن طريق الخاصّة : رواية معاوية بن عمّار ـ الصحيحة ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن المُحْرم يعصر الدمل ويربط عليه الخرقة ، فقال : « لا بأس » (٢) .
وروىٰ هشام بن سالم ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا خرج بالمُحْرم الخُراج والدمل فليبطّه وليداوه بزيت أو بسمن » (٣) .
ولأنّه في محلّ الحاجة ولا يستتبع ترفّهاً ، فكان سائغاً ، كشرب الدواء .
ويجوز أن يقلع ضرسه مع الحاجة إليه ؛ لأنّه تداوٍ ، وليس بترفّهٍ ، فكان سائغاً ، كشرب الدواء .
ولما رواه الحسن الصيقل أنّه سأل الصادق عليه السلام : عن المُحْرم يؤذيه ضرسه أيقلعه ؟ قال : « نعم لا بأس به » (٤) .
ولو لم يحتج إلىٰ قلعه ، كان عليه دم .
مسألة ٢٧٩ : لا يدلك المُحْرم جسده بعنف لئلّا يدميه أو يقلع شعره ، وكذا لا يستقصي في سواكه لئلّا يُدْمي فاه ، ولا يدلك وجهه في غسل الوضوء وغيره لئلّا يسقط من شعر لحيته شيء ؛ لما رواه معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام : عن المُحْرم كيف يحكّ رأسه ؟ قال : « بأظافيره ما لم يُدْم أو يقطع الشعر » (٥) .
__________________
(١) صحيح البخاري ٣ : ١٩ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٦٢ / ١٢٠٢ ، سنن الترمذي ٣ : ١٩٩ / ٨٣٩ ، سنن أبي داود ٢ : ١٦٧ ـ ١٦٨ / ١٨٣٥ و ١٨٣٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٩ / ٣٠٨٢ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٣ ، سنن البيهقي ٥ : ٦٤ و ٦٥ ، الموطّأ ١ : ٣٤٩ / ٧٤ .
(٢) الكافي ٤ : ٣٥٩ / ٥ ، الفقيه ٢ : ٢٢٢ / ١٠٣٨ .
(٣) الفقيه ٢ : ٢٢٢ / ١٠٤٠ ، التهذيب ٥ : ٣٠٤ / ١٠٣٦ .
(٤) الفقيه ٢ : ٢٢٢ / ١٠٣٦ .
(٥) التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٦ .
وعن الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن المُحْرم يستاك ، قال : « نعم ولا يُدْمي » (١) .
وعن معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا بأس أن يدخل المُحْرم الحمّام ولكن لا يتدلّك » (٢) .
وعن عمر بن يزيد عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا بأس بحكّ الرأس واللحية ما لم يلق الشعر ، وبحكّ الجسد ما لم يُدْمه » (٣) .
وسأل يعقوبُ بن شعيب ـ في الصحيح ـ الصادق عليه السلام : عن المُحْرم يغتسل ، فقال : « نعم يفيض الماء علىٰ رأسه ولا يدلكه » (٤) .
مسألة ٢٨٠ : ينبغي للمُحْرم أن يغسل رأسه وبدنه برفق بحيث لا يسقط منه شيء من شعر رأسه ولحيته إجماعاً ، وفَعَله (٥) علي عليه السلام ، وعمر ، وابنه ، وبه قال جابر وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي (٦) ، إلّا أنّه لا يجوز له الارتماس في الماء بحيث يغيبه فيه ، عند علمائنا ، وبه قال مالك (٧) ـ خلافاً لباقي العامّة (٨) ـ لما فيه من تغطية الرأس .
احتجّوا : بما رواه ابن عباس ، قال : ربما قال لي عمر ونحن مُحْرمون
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٨ .
(٢) التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨١ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١١ .
(٣) التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٧ .
(٤) الفقيه ٢ : ٢٣٠ / ١٠٩٣ ، التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٩ .
(٥) في المغني والشرح الكبير : ورخص فيه عليّ .
(٦) المغني ٣ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ ، المحلّىٰ ٧ : ٢٤٧ ، المجموع ٧ : ٣٥٥ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٩ .
(٧) المنتقىٰ ـ للباجي ـ ٢ : ١٩٤ .
(٨) المغني ٣ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ .