أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠
فإذن المحدّد غير قابل للحركة المستقيمة ، ويلزم من ذلك أن يكون بسيطا ، لا مركبا من أجسام مختلفة الطبائع ، وإلا لأمكن عليه التحلل والانفكاك ، وخرجت الجهة عن أن تكون متحدّدة ؛ ويلزم من ذلك أن يكون شكله الطبيعى له ، كريّا ، لأن الطبيعة الواحدة فى المادة الواحدة ، لا تقتضى من الأشكال غير الكرى ؛ كما تقدم.
ويلزم من ذلك أن لا يكون قابلا لغير شكله الطبيعى ، وإلا لقبل التحدد ، والحركة المستقيمة ولا يوصف بثقل ، ولا خفة ، وإلا كان فى طباعه الميل إلى حيّزة ، إما هبوطا ، أو صعودا بتقدير زواله عنه قسرا.
ولا يوصف بحرارة ، ولا برودة : إذ الحرارة ملازمة للخفة ، لزوما معاكسا ، [والبرودة ملازمة للثقل لزوما معاكسا] (١)
ولا برطوبة : إذ الرطوبة عبارة عن قوة يسهل بها قبول الجسم الّذي قامت به الانقسام بسهولة.
ولا بيبوسة : إذ هى عبارة عن قوة يعسر معها قبول الانقسام فيما هو قابل له ، وإلا كان قابلا للحركة المستقيمة ، ولأن كل واحدة منهما ؛ فلا بد وأن يلازمها الثقل ، أو الخفة ، وقد قيل بامتناعه ، وأنه لا يقبل الخرق ، والشق. وإلا كان فى طباع أجزائه ، قبول الحركة المستقيمة.
ولا الكون بعد العدم ، والفساد بعد / الوجود وإلا كان حيزه متحددا دونه ، أو غير متحدد ، ولا يقبل التخلخل والتكاثف ، والنمو ، والذبول ، وكل ما يفضى إلى قبول الحركة المستقيمة ، ثم طرد هذه الأحكام فى جميع الأفلاك (٢)
وطريق الرد عليهم أن يقال :
وإن سلمنا أن المحيط بالعالم وهو المحدد لجهة فوق جسم ؛ ولكن لا نسلم امتناع قبوله الحركة المستقيمة ، وإلا كان ذلك ؛ لكونه جسما أو للازم كونه جسما ؛ ولزم مثله فى جميع الأجسام.
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) عرف الجرجانى الفلك بأنه جسم كريّ يحيط به سطحان : ظاهرى وباطنى ، وهما متوازيان مركزهما واحد.
[التعريفات ص ١٩١].
وما ذكروه إنما يمتنع أن لو لم يكن ثم فاعل مختار يخلق عند حركة المحيط عن حيّزه ، أو عند عدمه محيطا آخر يقع فى امتداد الإشارة إليه (١).
وإن سلمنا امتناع وجود غيره. غير أنا لا نسلم بتقدير عدم المحدّد للجهة ، وانتقاله عنها ، إمكان الإشارة إليها ؛ لأن الإشارة تكون إلى العدم ؛ وهو محال.
وعلى هذا : فقد بطل كل ما بنوه على ذلك من الأحكام ثم يلزم على ما ذكروه أن يكون المحدد لجهة السفل أيضا على ما ذكروه فى المحدد ، ولم يقولوا به.
وإن سلمنا ذلك كله فى المحدد غير أنا لا نسلم ذلك فى باقى الأفلاك ؛ فإن امتناع الحركة المستقيمة ، وامتناع الكون والفساد ، على المحيط ، وغير ذلك من الأحكام ، إنما كان لازما ضرورة كون المحيط محددا للجهة ، وذلك غير متحقق فى باقى الأفلاك فلا يستقيم الإلحاق من غير دليل. وهم فلم يذكروا عليه دليلا.
ثم كيف السبيل إلى القول بكون الأفلاك بسيطة ، لا تركب فيها مع مشاهدة اختلاف أجزائها فى الاشفاف ، والنور.
__________________
(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل ٢١١ / ب وما بعدها.
الفصل السابع
فى إبطال قول الفلاسفة إن الأفلاك
ذوات أنفس ، وأنها متحركة بالإرادة النفسية (١)
قالوا : الحس شاهد بحركة الكواكب النيرة شروقا ، وغروبا ، وليست متحركة بأنفسها ، ومفارقة لأماكنها من أفلاكها ، وإلا لما حفظت ما هى عليه من الأحوال ، والتناسب من القرب والبعد من القطب ؛ فإذا هى متحركة بحركة أفلاكها.
وأيضا : فإنها لو لم تكن متحركة بحركة أفلاكها ؛ لكانت متحركة إما بأنفسها ، أو بحركة السفليات.
فإن كان الأول : فإما أن تكون متحركة بالطبع ، أو الإرادة.
الأول : ممتنع ؛ لما علم أن الحركة الدورية ، لا تكون طبيعية.
والثانى : فلا بد لها من حيز طبيعى / ؛ لما عرف أن كل جسم فلا بد له من حيز طبيعى. وهو إما حيّز الأفلاك ، أو السفليات.
فإن كان (١١) / / حيّزا للأفلاك : فلا بد وأن تكون مشاركة للأفلاك فى طبيعتها ، وإلا كان الحيّز الواحد لمختلفين بالطبيعة ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من اتحاد المعلول ، واختلاف العلة.
ويلزم من حركتها بأنفسها أن يكون ذلك لغرض ومطلوب ، وإلا كانت الحركة عبثا.
ويجب أن يكون ذلك أيضا مقصودا للأفلاك فى حركتها ضرورة اتحاد الطبيعة ؛ فيكون للأفلاك مبدأ ميل إلى الحركة الدورية ؛ وحركات الكواكب بأنفسها مع كونها متصلة بالأفلاك ومركوزة فيها [يوجب خرق الأفلاك ؛ فتكون الأفلاك قابلة للحركة
__________________
(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثانى : فى الرد على الفلاسفة الإلهيين ل ٢١٨ / أوما بعدها.
والفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب وما بعدها.
والفرع الرابع : فى الرد على الصابئة ل ٢٢١ / أوما بعدها.
والفرع الخامس : فى الرد على المنجمين وأرباب الأحكام ل ٢٢٣ / أوما بعدها.
(١١)/ / أول ل ١٩ / أمن النسخة ب.
المستقيمة فيكون فيها مبدأ ميل إليها ؛ فلا يكون فيها] (١) مبدأ ميل إلى الحركة الدورية. وقد قيل به ، وهو محال. وإن كان حيزها هو حيز السفليات ؛ فيجب أن تكون مشاركة لذلك السفلى فى طبيعته ؛ ضرورة اتحاد الحيز الطبيعى له كما سبق (٢).
ويلزم من ذلك أن يكون فى طباعها مبدأ ميل إلى الحركة المستقيمة كالسفلى ؛ فلا يكون فيها مبدأ ميل إلى الحركة الدورية ، وقد قيل بكونها متحركة دورا بأنفسها ، وإن كانت متحركة بحركة السفليات ؛ فهو ممتنع.
إذ السفليات قابلة للحركة المستقيمة ، فلا يكون فى طباعها مبدأ حركة دورية ؛ لأن الطبيعة الواحدة لا توجب أمرين مختلفين ؛ فلم يبق إلا أن تكون متحركة بحركة أفلاكها. فإذن الأفلاك متحركة دورا ، وحركة الأفلاك دورا ليست طبيعية ؛ لما علم.
ولا قسرية : إذ القاسر لا بد وأن يكون محركا لما يحركه على خلاف مقتضى طبعه ، وما من وضع يقدر عليه الفلك ، إلا وليس هو أولى من غيره من الأوضاع ؛ فلا يكون فى طبعه الوقوف على وضع دون وضع ؛ فلا تحقق للحركة القسرية فيه.
وإذا بطل أن تكون متحركة بالطبع والقسر ، تعين أن تكون متحركة بالإرادة النفسانية ، فإذن الأفلاك ذوات أنفس.
وطريق الرد عليهم أن يقال :
أولا : لا نسلم أن الأفلاك متحركة.
ولا نسلم أن الكواكب متحركة بحركات الأفلاك.
قولهم : لو لم تكن متحركة بحركات الأفلاك ؛ لما حفظت ما هى عليه من النظام ، والتناسب.
إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن الفاعل لذلك مختارا ؛ وهو الله ـ تعالى ـ وبتقدير أن تكون متحركة بأنفسها فما المانع أن يكون كل كوكب فى دائرة لائقة / بحركته وبطئه وسرعته بحيث يتلاقى على التناسب الّذي بينهما من غير اختلال كما فى حركات الأفلاك عندهم.
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) انظر ما سبق ل ٣٠ / أوما بعدها.
قولهم : لو لم تكن متحركة بحركة الأفلاك ؛ لكانت متحركة إما بأنفسها ، أو بحركة السفليات.
لا نسلم الحصر ، وما المانع أن يكون المحرك لها هو الله ـ تعالى ـ فإنا بينّا أنه لا فاعل سواه (١).
وإن سلمنا أنها متحركة بأنفسها ؛ ولكن لا نسلم أنه لا بدلها من حيز طبيعى على ما تقدم (٢).
وإن سلمنا أنه لا بد لها من حيز طبيعى ؛ فما المانع من أن يكون هو حيز الأفلاك ، أو السفليات.
قولهم : لا بد من اتحاد الطبيعة. ممنوع.
وما المانع من اشتراك طبيعتين فى اقتضاء حيز واحد على ما سبق (٣). وبتقدير اتحاد الطبيعة ؛ فلا نسلم امتناع قيام مبدأين للحركة المستقيمة ، والمستديرة فى بسيط واحد كما حققنا فى اجتماع قوة قبول الكون والفساد فى صور العناصر عندهم.
ثم وإن سلمنا أنها متحركة بحركات الأفلاك ؛ ولكن لا نسلم أنها متحركة بالإرادة النفسانية (٤).
وما المانع أن تكون متحركة بتحريك الله تعالى لها كما حققناه (٥).
قولهم : لو كانت متحركة بالغير ؛ لكانت مقسورة ، والقسر عليها ممتنع على ما قرروه.
فنقول : وإن سلمنا امتناع القسر بالتفسير الّذي ذكروه ؛ فلا يمتنع أن تكون حركتها من الغير ، وإن لم يكن ذلك على خلاف طبعها بتقدير أن لا تكون هى المتحركة بنفسها. ثم وإن سلمنا أن أفلاك الكواكب متحركة بالإرادة النفسية ؛ غير أن ما ذكروه لا يطرد فى المحيط ؛ إذ لا كوكب فيه ليستدل بحركته على حركته.
__________________
(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل ٢١١ / ب وما بعدها.
(٢) راجع ما مر ل ٣٠ / أوما بعدها.
(٣) راجع ما مر ل ٢٧ / أوما بعدها.
(٤) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ل ٢١٨ / أوما بعدها.
(٥) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ل ٢١١ / ب وما بعدها.
الفصل الثامن
فى إبطال أقوال الفلاسفة فى طبائع الكواكب وأنوارها ، ومحو القمر
والمجرة ومناقضتهم فى ذلك (١).
قالوا : قد ثبت أن الأفلاك غير قابلة للخرق ، وأن الكواكب مركوزة فيها متحركة بحركتها ، فيجب أن تكون الكواكب بسيطة لا تركيب فيها ، وأن لا يتصور عليها الانحلال ومفارقة أحيازها من أفلاكها ؛ فيلزم الخرق على الأفلاك ؛ وهو ممتنع ويلزم ، أن تكون أشكالها كرية لما علم.
قالوا : وأما أنوارها فلا شك أن الشمس نيرة بنفسها والقمر مستنير منها. ولذلك يظهر فيه الهلالية ، وتزيد النور ، وتنقصه / بسبب بعده وقربه من الشمس ، وهو أسود فى نفسه على ما نشاهد حالة الخسوف.
وأما باقى الكواكب. فمنهم من قال إنها نيرة بأنفسها كالشمس (١١) / / ولهذا لا يلحقها الهلالية ، والتزييد ، والتنقيص.
ومنهم من قال : إنها مستنيرة من الشمس. وإنما لم يظهر فيها الهلالية ، والتزييد والتنقيص ؛ لأنها فوق الشمس بخلاف القمر.
وأما محو القمر : وهو الأثر الموجود فيه.
فمنهم من قال : إنه خيال لا حقيقة له.
__________________
(١) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي ففيها توضيحات مهمة ومنها : المواقف للإيجي ص ٢٠٩ ـ ٢١٥. وشرح المواقف للجرجانى ٧ / ١١٦ ـ ١٤٠.
ففيهما معلومات مهمة عن طبائع الكواكب وأنوارها ، ومحو القمر ، والمجرة.
وهى بإيجاز : القسم الثانى : فى الكواكب وكلها شفافه مضيئة إلا القمر ، فإنه يستمد نوره من الشمس وفيه مقاصد :
المقصد الأول : فى الهلال والبدر المقصد الثانى : فى خسوف القمر.
المقصد الثالث : فى كسوف الشمس المقصد الرابع : فى محو القمر.
المقصد الخامس : فى المجرة.
وانظر شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٣٢٧ ـ ٣٥٨ ففيه معلومات واضحة ومفيدة ومحددة.
وانظر شرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ١٢٨ ـ ١٣٣ ففيه معلومات مختصرة ومركزة ومفيدة.
(١١)/ / أول ل ١٩ / ب من النسخة ب.
ومنهم من قال : إنه شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الأرض ، والجبال وغيرها.
ومنهم من قال ذلك الأثر هو السواد الكائن فى القمر فى الجانب الّذي لا يلى الشمس.
ومنهم من قال ذلك بسبب سحق النار له.
ومنهم من قال : إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان ؛ فله عينان وحاجبان ، وأنف.
ومنهم من قال : هو جزء من القمر مخالف فى لونه لباقى أجزائه ، فى قبول الاستنارة من الشمس.
ومنهم من قال : إنه أجسام سماوية ، مخالفة فى لونها ، لون القمر ، قريبة من القمر.
حافظة بطباعها وضعا واحدا من القمر هى فيما بينه ، وبين المركز.
وأما المجرة : (١)
فمنهم من قال ، هو احتراق حدث من الشمس فى تلك الدائرة فى بعض الأزمان.
ومنهم من قال : إنها دوامة حادثة عن البخار الفضائى ، دائمة المدد.
ومنهم من قال : ما قيل من القولين الآخرين ، فى محو القمر.
وطريق الرد عليهم أن يقال :
أما ما ذكروه فى بيان بساطة الكواكب فى كونها كرية فقد أبطلناه فيما تقدم (٢).
ثم كيف يمكن دعوى البساطة فى الكواكب مع إنارتها ، وكثافتها ، ومخالفتها للأفلاك فى أنوارها. ولو كانت بسيطة ؛ لكانت شفافة غير نيرة على أصولهم كما فى أجرام الأفلاك الحاملة لها.
وأما ما ذكروه فى كون الشمس نيرة بنفسها. فما المانع من كونها غير نيرة بنفسها ؛ بل سواد الجرم ، والله ـ تعالى ـ يخلق فيها النور فى أوقات مشاهدتنا لها ، أو أن تكون
__________________
(١) انظر المقصد الخامس : اختلاف العلماء فى المجرة ٧ / ١٤٠ شرح المواقف للجرجانى.
(٢) راجع ما تقدم ل ٣١ / أ.
مستنيرة من كوكب آخر فوقها هو مستور عنا ببعض الأجرام المظلمة السماوية ، كما يحدث للشمس فى حالة الكسوف.
وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها ؛ فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها ، وما المانع من كون الرب تعالى ـ يخلق فيه النور فى وقت دون وقت ، أو أن يكون مع كونه مركوزا فى فلكه دائرا على مركز نفسه ، وأحد وجهيه نيرا والآخر مظلما ، كما / كان بعض أجزاء الفلك شفافا ، وبعضها نيرا ، وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ؛ فيكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس هو الّذي يلينا. وتكون الزيادة ، والنقصان فيما يظهر لنا من الوجه النير على حسب بعده ، وقربه من الشمس ؛ فلا يكون مستنيرا من الشمس.
وأما ما ذكروه فى باقى الكواكب.
أما القول الأول : فمدخول مما قيل فى القول الثانى. والقول الثانى فمدخول باحتمال ما قيل فى القول الأول ، ولا دليل على إبطال كل واحد منهما وتعيين الآخر.
وأما ما ذكروه فى محو القمر فباطل :
أما القول الأول : فإنه خيال لا حقيقة له ؛ فلأنه لو كان كذلك ؛ لاختلف الناظرون فيه.
وأما الثانى : فلأنه لو كان كذلك ؛ لاختلف أيضا باختلاف أحوال القمر فى بعده ، وقربه ، وانحرافه عن الشيء المنطبع فيه ، ولكان يجب أن يكون ما يتخيل فيه على شكل كرى ؛ لأن ما يوجد من الاختلاف فى الأرض ، والجبال ؛ فهو كالتضريس ويمحق على البعد.
وأما القول الثالث : فلأنه لو كان كذلك ؛ لما رؤى متفرقا.
وأما القول الرابع : فإنما يصح أن لو كان القمر مماسا للنار ، وكان قابلا للسحق وليس كذلك على أصلهم.
وأما القول الخامس : فمع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة ؛ لأن فائدة الحاجبين عندهم رد الطرف عن العين ، وفائدة الأنف للشم. والفم لدخول الغداء فيه. وليس للقمر ذلك.
وأما القولان الأخيران : وإن كانا أقرب مما تقدم ؛ فكل واحد منهما مقابل للآخر فى الاحتمال.
وأما ما قيل فى المجرة :
أما القول الأول : فإنما يصح أن لو كانت الشمس موصوفة فى نفسها بالحرارة ، والاحتراق لما تماسه ، وأن يكون الفلك قابلا للتأثير ، وليس كذلك على أصولهم.
وأما القول الثانى : فباطل أيضا. وإلّا لاختلف وضعها على طول الزمان ولا اختلفت فى الصيف والشتاء لقلة المدد فى أحدهما ، وكثرته فى الآخر.
وأما القولان الأخيران : فقد عرف ما فيهما ـ والمقصود من ذكر هذه الاختلافات وابداء ما ذكروه من الخرافات / التنبيه على خبطهم ، وذكر هذيانهم حتى يتحقق العاقل الفطن أن لا ثبت لهم فيما يقولونه ، ولا معلول لهم فما يعتمدونه غير خيالات فاسدة لا أصل لها ، وتمويهات باردة لا معول عليها ؛ يظهر فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى تفطن ، ويعتبر البعض بالبعض.
الفصل التاسع
فى أقوال الفلاسفة فى العناصر ومناقضتهم فيها (١)
وقد اتفقوا على تغيير العناصر بعضها إلى بعض ؛ لكن اختلفوا : فمنهم من قال أصل العناصر واحد. ثم أختلف هؤلاء :
فمنهم من قال : أصل العناصر هو النار ؛ لشدة بساطتها ، واختصاصها بالحرارة المفرطة المدبرة (١١) / / للكائنات ، وتغييرها إلى باقى العناصر بتكاثفها وكلما ازداد التكاثف انتقلت من عنصر إلى ما تحته ، إلى أن تنتهى إلى الأرض
ومنهم من قال : أصلها هو الهواء لرطوبته ، ومطاوعته للانفعال ، وتغييره إلى النار بشدة الحرارة ، وإلى ما تحته بزيادة التكاثف.
__________________
(١) لمزيد من البحث والدراسة راجع من كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي.
المواقف للإيجي ص ٢١٥ ـ ٢٢٤ وشرح المواقف للجرجانى ٧ / ١٤١ ـ ١٦٤.
القسم الثالث : فى العناصر : وفيه مقاصد ثلاثة عشر :
المقصد الأول : قول الحكماء فى أقسام العناصر ص ١٤١
المقصد الثانى : فى إثبات كروية الأرض ص ١٤٥
المقصد الثالث : الماء كروى لوجوده على الأرض ص ١٤٧
المقصد الرابع : موقع الأرض من الكواكب ص ١٤٨
المقصد الخامس : مقدار الحس بين الأرض والأفلاك ص ١٤٩
المقصد السادس : الأرض ساكنة أم هاوية ص ١٥٢
المقصد السابع : المدارات اليومية للأرض ص ١٥٤
المقصد الثامن : مدى تأثير الشمس على الأرض ص ١٥٨
المقصد التاسع : التأثير الخارجى على الأرض ص ١٥٩
المقصد العاشر : سبب تكوين الجبال ص ١٦٠
المقصد الحادى عشر : العناصر الأربعة تقبل الاختلاط ص ١٦١
المقصد الثانى عشر : العناصر الأربعة والمركبات ص ١٦٢
المقصد الثالث عشر : طبقات العناصر وتعريفها ص ١٦٤ وانظر شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٣٥٨ ـ ٣٦٨ القسم الثانى : فى البسائط العنصرية وفيه ثلاثة مباحث. المبحث الأول : تقسيم العناصر إلى أربعة ص ٣٥٨.
المبحث الثانى : كل من الأربعة ينقلب إلى المجاور. ص ٣٦٢.
المبحث الثالث : فى النار وعوامل توهجها ص ٣٦٣.
وانظر شرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ١٣٣ وما بعدها.
(١١)/ / أول ل ٢٠ / أمن النسخة ب.
ومنهم من قال : هو الماء ؛ لرطوبته ، وتغييره إلى ما فوقه بزيادة التخلخل وإلى ما تحته بزيادة التكاثف.
ومنهم من قال : هو الأرض ؛ لاستقرار الكائنات عليها وتحركها إليها وتغييرها إلى ما فوقها بزيادة التخلخل.
ومنهم من قال : هو البخار ؛ لتوسطه بين الأجسام وتغييره إلى الهواء والنار بزيادة التخلخل ، وإلى الماء ، والأرض بزيادة التكاثف.
ومنهم (١) من (١) قال : التركيب فى الكائنات يستدعى التعدد فيما منه التركيب.
ثم اختلف هؤلاء.
فمنهم من قال : أصل العناصر اثنان : لكن منهم من قال : ذلك هو النار والأرض لمبالغة أحدهما فى الثقل ، والآخر فى الخفة.
والهواء نار مغيرة ، ومثقلة بالبخار المائى والأرض زاد تخلخلها ، وخفتها بما خالطها من الأجزاء النارية.
ومنهم من قال : ذلك هو الأرض ، والماء ؛ لافتقار الكائنات إلى الرطب لقبول الانفعال ، واليابس للحفظ.
والهواء بخار مائى ، والنار هواء محترق.
ومنهم من قال : ذلك هو الأرض ، والهواء ؛ لحجة من تقدّمهم. والماء هواء اشتد تكاثفه. والنار هواء اشتدت حرارته.
ومنهم من قال : أصل العناصر ثلاثة : وهى النار ، والهواء ، والأرض.
أما الأرض ، والهواء : فلاحتياج الكائنات إليهما. فى قبول التشكيل وحفظه ، والنار فلما فيها من الحرارة المدبرة ، والماء هواء يتكاثف.
ومنهم من قال : أصل العناصر أربعة : وهى النار ، / والهواء والماء ، والأرض.
ومنهم من زاد وقال : إن أصول المركبات جواهر صلبة غير متجزئة لا نهاية لها.
__________________
(١) (من قال) ساقط من ب.
ومنهم من قال : أصول المركبات هى السّطوح ؛ لأن التركيب إنما يكون بالالتقاء والتماس. وأول ما يكون ذلك بين السطوح المستقيمة لئلا تفضى إلى الخلاء فى المركبات. ولا كل سطوح مستقيم ؛ بل ما هو الأبسط منها ؛ وهو المثلث.
واعلم أن هذه الأقاويل كلها مبنية على إمكان وقوع الاختلاف بين الأجسام بالصور ، والطبائع الجوهرية ؛ وقد أبطلناه فيما تقدم (١) وبتقدير التسليم فهى أقوال متعارضة ، ودعاوى متقاومة ليس فيها ما يفيد للناظر أصلا لظن ؛ فضلا عن اليقين.
وظهور فسادها يغنى عن إبطالها. على أنا نقول :
أما قول من زعم أن أصل العناصر : هو النار لبساطتها ، وشدة حرارتها (٢) ؛ فليس هو أولى من الأرض التى عند المركز ؛ فإنها عندهم فى غاية البساطة ، وشدة البرد. وكما أن الكائنات مفتقرة إلى الحرارة ، فهى مفتقرة إلى البرودة (٣).
وأما قول من قال : هو الهواء لرطوبته (٤) ؛ فليس أولى من الأرض ليبوستها. وكما أن الحاجة داعية إلى الرطوبة ؛ للانفعال ؛ فداعية إلى اليبس (٥) للحفظ.
وأما قول من قال : هى الأرض : فإنما يلزم تعليله ، أن لو كان كل كائن أرضى ؛ وليس كذلك.
وأما قول من قال : هو البخار لتوسطه بين الأجسام المتخلخلة ، والمتكاثفة ؛ فليس أولى من الهواء ؛ لتوسطه بين الأجسام الحارة ، والباردة.
وأما قول من قال : أصل العناصر : هو النار ، والأرض ؛ لمبالغة أحدهما فى الخفة ، والآخر فى الثقل ؛ فليس أولى من الماء ، والنار ؛ لمبالغة أحدهما فى الحرارة ، والآخر فى البرودة ؛ بل أولى لكون ما وقعت المبالغة فيه فيهما هو أوائل ، للكيفيات الملموسة ، بخلاف الثقل والخفة.
__________________
(١) راجع ما تقدم فى الفصل الثالث : فى تجانس الأجسام ل ٢٥ / ب وما بعدها.
(٢) ـ (٥) عرف الآمدي الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة واليبوسة فقال أما الحرارة فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات ، ويجمع بين المتشاكلات.
وأما البرودة : فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات».
«وأما الرطوبة : فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره وكذا تركه».
«وأما اليبوسة : فمقابلة للرطوبة».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص ٩٩ ، ١٠٠].
وأما القول بأن الأصل هو الأرض ، والماء ؛ فهو موجب لسقوط اعتبار الحرارة مع كثرة الاحتياج إليها.
والقول بأنه الأرض ، والهواء ؛ فموجب أن لا تكون النار مركبة منهما ؛ لأن حرارة المركب ، لا تزيد على حر بسيطه ؛ لأن ماله من الكيفيات ؛ إنمّا هو من بسائطه ؛ وهو خلاف الشاهد.
والقول بأن الأصل هو النار ، والهواء ، والأرض موجب أن لا يكون برد الماء المركب منها يزيد على برد عنصره ، وهو الأرض ، / لما علم ، وليس كذلك عندهم ، ولا فى الشاهد.
والقول بأنها أربعة : يوجب المغايرة بين الهواء والنار. والنّار إن كانت يابسة ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.
وإن كانت رطبة : فهى طبيعة الهواء غير أنها هواء اشتدّت حرارته كما زعم من تقدم.
والقول بأنها غير متناهية ؛ فذلك مما يوجب القول بتناهى الأبعاد ؛ وقد أبطلناه (١).
والقول بأنها السطوح : فما ذكروه من التعليل يوجب أن تكون أصول العناصر النقط من الخطوط. فإن أول الملاقاة بها ، ثم بالخطوط ، ثم بالسطوح.
__________________
(١) راجع ما مر فى الفصل الثانى : فى أن أبعاد الأجسام متناهية ل ٢١ / ب وما بعدها.
الفصل العاشر
فى أقوال الفلاسفة فى كون العناصر
وفسادها ، واستحالتها ، ومناقضتهم فى ذلك
وقبل الخوض فى تفصيل المذاهب ، والرد ، والإبطال لا بد من تحصيل مفهوم الكون ، والفساد ، والاستحالة على أصولهم.
أما الكون (١) : فهو استبدال حال الشيء من العدم إلى الوجود دفعة واحدة ، والاستبدال من الوجود إلى (١١) / / العدم دفعة واحدة هو الفساد (٢)
وأما الاستحالة (٣) : فتبدل حالة مادّة بأخرى يسيرا لا دفعة واحدة : كالتسخين بعد البرد ، أو التبرد بعد السخونة.
وإذا عرف ذلك فقد اختلفوا :
فمنهم من قال : العناصر لا تكون ، ولا تفسد ، ولا تستحيل. وما يرى من ذلك ؛ ليس كونا ، واستحالة ، بل ظهور كامن ؛ أو كمون ظاهر.
وذلك أنه ليس فى العناصر ما هو بسيط مطلقا ، وإن كان الغالب فيه ما سمى باسمه.
فاذا تفرقت أجزاء الغالب بسبب من الأسباب ، أو اتصل بالمغلوب ما هو من نوعه بسبب من الأسباب ؛ ظهر ما كان مغلوبا ، وخفى ما كان غالبا ؛ فظن أنه كون ، لما كان مغلوبا ، وفساد لما كان غالبا ، واستحالة ، وليس كذلك.
ومنهم من قال : بالكون ، دون الاستحالة.
ومنهم من قال بالعكس.
__________________
(١) الكون : اسم لما حدث دفعة (وليس تدريجا) كانقلاب الماء هواء ، فإن الصورة الهوائية كانت ماء بالقوة ؛ فخرجت منها إلى الفعل دفعة فإذا كان على التدريج ؛ فهو الحركة.
وقيل الكون : حصول الصورة فى المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها.
وعند أهل التحقيق : الكون عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم ، لا من حيث أنه حق. وإن كان مرادفا للوجود المطلق العام عند أهل النظر وهو بمعنى المكون عندهم. [التعريفات للجرجانى ص ٢١٤].
(١١)/ / أول ل ٢٠ / ب.
(٢) الفساد : زوال الصورة عن المادة بعد أن كانت حاصلة [التعريفات للجرجانى ص ١٨٩].
(٣) الاستحالة : حركة فى الكيف. كتسخن الماء وتبرده ، مع بقاء صورته النوعية. [التعريفات ص ٢٧].
ومنهم من قال بالأمرين.
ووجه المناقضة لهم أن يقال :
أما القول بالكمون ، والظهور (١) على ما ذكروه ؛ فيوجب صغر حجم الماء إذا سخن بسبب تفرق أجزاء البارد عنه. إذا كبر حجمه أو استحق بسبب اتصال أجزاء الحار الغالب.
فإن قيل : العالم يصغر حجمه عند تفرق أجزاء الغالب عنه لتخلخل أجزائه ، أو لتحقق الخلاء فى آحاد الأجزاء المتفرقة.
وإنما لم يكثر حجمه عند اتّصال الغير به للتكاثف.
قلنا : فالقول بالتخلخل (٢) ، والتكاثف اعتراف بالاستحالة ، ولم يقولوا به والقول بالخلاء أيضا ما لم يقولوا به.
وأما القول بالكون ، دون الاستحالة ؛ فمبنى على اختلاف العناصر فى الصّور الجوهرية القابلة للكون ؛ وقد أبطلناه (٣).
وبتقدير تسليم اختلاف العناصر بالصور الجوهرية فالكون عندهم هو الخروج من العدم إلى الوجود دفعة لا سير يسيرا ؛ وهو ممتنع.
وذلك لأن الكون : إما أن يقع لا فى زمان ، أو فى زمان.
فإن كان الأول : فهو محال.
وإن كان الثانى : فالزمان عندهم متحرى إلى غير النهاية. وأجزاؤه على التقصى ، والتحدد. فالواقع فيه يكون مطابقا له ؛ فلا يكون واقعا دفعة واحدة ، بل سيرا يسيرا.
وما هو كذلك لا يكون كونا ، وفسادا.
__________________
(١) الكمون والظهور : وافق النظام الفلاسفة فى القول بالكمون والظهور. فمن مذهب النظام أن الله ـ تعالى ـ خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هى عليه الآن : معادن ، ونباتا ، وحيوانا ، وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليهالسلام خلق أولاده ؛ غير أن الله ـ تعالى أكمن بعضها فى بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع فى ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها.
وهذه مقالة أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة [الملل والنحل للشهرستانى ١ / ٥٦].
(٢) التخلخل : هو ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج ، وهو ضد التكاثف. والتكاثف : هو انتقاص أجزاء المركب من غير انفصال شيء [التعريفات للجرجانى ص ٦٣ ، ٧٣].
(٣) راجع ما مر ل ٢٨ / أوما بعدها.
وأما إنكار الاستحالة. فمبنى على الظهور ، والكمون ؛ وقد أبطلناه (١).
وأما القول بالاستحالة دون الكون ، والفساد. فإما أن يراد به استحالة الصور الجوهرية ، أو الكيفيات العرضية دون الصور الجوهرية.
فإن كان الأول : فيلزم أن تكون الصور الجوهرية قابلة للشدة والضعف ، فإن ما ليس كذلك لا يقع بغيره ، سيرا يسيرا. وإلا كان حاله بعد وقوع الاستحالة كهو قبلها ، وهو محال.
والجوهر عندهم غير قابل للشدة ، والضعف.
وإن كان الثانى : فباطل أيضا. فإنا على ما يأتى عن قرب نشاهد انقلاب كل واحد من العناصر إلى الآخر.
ولو لم يكن ذلك كونا ، وفسادا. وإلا لما وقعت التفرقة من العناصر مع بقاء صورها الجوهرية ، على ما هى عليه ، وذلك محال.
وأما القول بالكون ، والفساد ، لصورها الجوهرية والاستحالة لكيفياتها العرضية ، وإن كان أشبه الأقوال عندهم ؛ وعليه اعتماد المحصلين منهم ؛ وربما احتجوا على كل واحد من الطرفين.
أما الطرف الأول ، وهو القول بالكون ، والفساد ؛ فقالوا : يدل عليه ما نشاهده فى بعض البلاد الباردة من تكاثف الهواء ، وانعقاده بالبرد مطرا من غير تصاعد أبخره.
وكذلك انعقاد الماء فى الكوز النحاس ، أو الزجاج ، إذا دفن فى الجمد.
قالوا : فليس ذلك بسبب الرشح. وإلا كان رشح الماء الحار للطافية أولى.
ويدل عليه أيضا : انعقاد قطرات الماء على ظاهر الكوز المحشو / بالجمد وليس ذلك بسبب انجذاب قطرات مائية منبثة فى الهواء ؛ فإنها لا تتحرك كيف اتفق.
وأيضا : فإن الهواء يصير نارا بالحركة الشديدة النفخية ، والماء بخارا.
__________________
(١) راجع ما مر فى أول الفصل.
والبخار هواء عند تسخينه. وقد ينعقد الماء حجرا ، وتصير النّار هواء عند تصاعدها. وإلا لأحرقت ما لاقاها ، ولا يكون ذلك لها سيرا يسيرا ؛ بل دفعة واحدة ؛ لكون صورها جواهر. وأن الجواهر غير قابلة للشدة والضعف ؛ إذ لا جوهر أشد فى جوهريته من جوهر آخر ، ولا أضعف.
وأما الطرف الثانى : وهو الاستحالة فقد احتجوا عليه بما نشاهده من تبدل الكيفيات الملموسة على العناصر : كتبدل برد الماء بالحرارة ، وليس ذلك لمخالطة أجزاء نارية له ؛ لما سبق.
ثم لو كان كذلك ؛ لكان تسخين الماء فى أوانى الحديد والنحاس ، أبطأ ؛ لقوة ممانعتهما الناشئ فيهما ؛ وللزم منه أن لا تحدث الحرارة بسبب الحركة ؛ لعدم النارية.
قالوا : وليس ذلك مما يقع دفعة واحدة ؛ بل سيرا يسيرا على ما شهد به الحس ، وذلك هو الاستحالة.
فطريق الرد عليهم فى الكون ، والفساد ما ذكرناه أولا فى الرد على القائلين بالكون والفساد دون الاستحالة.
وما ذكروه من انعقاد الهواء مطرا ؛ فلا نسلم أنه كون وفساد ؛ بل الرب ـ تعالى ـ يخلق المطر مع بقاء الهواء بحاله ، أو مع أعلام له.
وإن سلم انعقاد الهواء مطرا ؛ فلا نسلم أنه كون وفساد ؛ بل زوال عرض ، وحدوث عرض. والجواهر الهوائية ، والمائية بحالها كما بينّاه من قبل.
وعلى هذا : فقد خرج الجواب عن جميع ما ذكروه من جميع الاستشهادات.
الفصل الحادى عشر
فى أقوال الفلاسفة فى مزاج العناصر ، وامتزاجها ، ومناقضتهم فيها (١)
قالوا ، والعناصر قد تتحرك إلى الجهات المختلفة بأسباب سماوية وأرضية ، وربما حصل بسبب ذلك بين أجزائها اختلاط ، وعلى حسب التفاوت فى تصغير أجزائها ، وكبرها ، يكون كون الامعان فى اختلاط أجزائها.
وعند ذلك : فإما أن لا يحصل بين أجزائها تفاعل ، أو يحصل بحيث يفعل البعض منها فى البعض ، وينفعل عنه.
فإن كان الأول : فيسمى ذلك الاجتماع اختلاطا فقط.
وإن كان الثانى : فإما أن / يؤدى التفاعل بين أجزائها بسبب ذلك الاختلاط إلى حد يحيل البعض إلى البعض إلى نوعه لقهره له ، واستيلائه عليه ، أو يقف الأمر فى التفاعل على حد يوجد كيفية متشابهة.
فإن كان الأول : فهو الكون : فى نوع الغالب ، والفساد : فى نوع المغلوب.
وإن كان الثانى : فذلك الاختلاط المستلزم للتفاعل سمى امتزاجا ، والكيفية الحاصلة عنه : تسمى مزاجا ، ثم ذلك المزاج إما أن يكون مع تساوى الكيفيات ، أو مع تفاوتها.
فإن كان الأول : فهو المزاج المعتدل.
وإن كان الثانى : فهو المزاج الخارج عن الاعتدال.
فإن كان ذلك مع غلبه واحد من الكيفيات على تقابلها واعتدال الباقى ؛ فهو المزاج الخارج المفرد.
وإن كان مع غلبة اثنين على مقابلهما ؛ فهو المزاج الخارج المركب.
وعلى هذا : فما كان من الممتزجات يتحرك رأسيا تحت الماء ؛
__________________
(١) عرف الآمدي المزاج والامتزاج فى كتابه المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص ١٠١ فقال : «أما المزاج : فعبارة عن كيفية حادثة عن تفاعل بين كيفيات العناصر بعضها عن بعض باجتماعها وتماسها.
وأما الامتزاج : فعبارة عن اجتماع عناصر متفاعلة الكيفيات».
فلغلبة أرضيته ، وتحت الهواء وفوق الأرض ، فلغلبة مائيته ، وتحت النار وفوق الماء ، فلغلبة هوائه.
قالوا : وقد تتبع المزاج فى بعض الممتزجات صور وكيفيات.
أما الصور : فهى الصّور الخاصة بأنواع الممتزجات الحافظة للصفات النوعية فى الأشخاص المختلفة ، حتى يكون الخلف منها مشابها للسلف مع تطاول الزمان ، واختلاف الصفات الشخصية ؛ فتلك الصور مع ما يستدل عليها بالقوى الفعالة الطبيعية : كمبدإ هبوط الحجر ، والقوى النباتية : كمبدإ حركة النبات فى تفريقه وتفريعه.
والقوى الحيوانية : كمبدإ حركة الحيوان فى ذهابه ، وإيابه ؛ لكن اختلفوا فى المزاج المستلزم لحدوث الصور الجوهرية النوعية هل للعناصر الممتزجة مما يخلع صورها ، ويتحد هيولاها لا نسبة صورة أخرى وهو الصور النوعية ، أم لا؟
فاختار ذلك قوم ، ونفاه الأكثرون
وأما الكيفيات التابعة للمزاج.
قالوا : فهى ما نشاهدها فى الممتزجات من الطعم والرائحة ، واللون ، وغيرها.
إذ هى غير ثابتة للبسائط من العناصر ، وما وجد من تلك العناصر ؛ فلا يكون إلا فيما فيه نوع تركيب.
فإنه قلما يخلو عنصر ما من تركيب ، وإن كان هو الغالب على ما خالطه.
وطريق الرد عليهم أن يقال : ما ذكرتموه من التفاعل بين العناصر فرع اختلاف العناصر فى طبائعها ، وليس كذلك على ما تقدم (١).
وإن سلمنا اختلاف طبائع العناصر ، وصورها ؛ ولكن لا نسلم تصور فعل البعض فى البعض / وانفعاله عنه.
فإنا قد قلنا : إنه لا فاعل ، ولا مؤثر غير الله ـ تعالى (٢).
__________________
(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب.
(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الجزء الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل ٢١١ / ب وما بعدها.
وإن سلمنا وجود مؤثر غير الله ـ تعالى ـ جدلا ؛ ولكن لا نسلم تأثير العناصر بعضها فى بعض ، ولا شيء من الأجسام فى شيء من الأجسام ؛ وذلك لأن الاتفاق من العقلاء واقع على امتناع علية الجسم فى الجسم إذا كان منفصلا عنه.
والامتزاج لا معنى له غير التماس ، والتماس لا معنى له غير وجود الجسمين فى حيّزين لا يفصلهما ثالث.
فمن ادّعى وجود التأثير مع المماسة يحتاج إلى الدليل والفرق بيّن من حالة المماسة وعدمها ، فيما يرجع إلى التأثير. كيف وأن تأثير كل عنصر فى إبطال كيفية العنصر الآخر. إما أن يكون بعموم جسميته ، أو بخصوص صورته وطبيعته أو بكيفيته ، أو بالمجموع ، أو بمعنى آخر.
فإن كان الأول : فهو ممتنع. وإلا كان كل واحد منهما مؤثرا فى إبطال كيفية نفسه بعموم جسمه ؛ ضرورة المساواة ؛ وهو محال
وإن كان الثانى : فتأثير كل واحد فى إبطال كيفية الآخر مع أنها مقتضى طبعها المنفعل يلزم منه أن يكون تأثير طبيعة كل واحد منهما أقوى من تأثير طبيعة كل واحد منهما ؛ وهو محال.
وذلك لأنه إذا كانت كيفية كل واحد منهما مقتضى طبعه ، فإذا كانت طبيعة الآخر مؤثرة فى إبطال كيفيته ؛ فقد ترجح اقتضاء طبيعة الفاعل على اقتضاء طبيعة المنفعل ، وكذلك بالعكس.
وإن كان (١١) / / الثالث : فتأثير كيفية كل واحد منهما فى إبطال كيفية الأخر ، أو ضعفها يستدعى بقاء قوة الكيفية المؤثرة عند تأثيرها فى ضعف المنفعلة ، وإلا لا امتنع تأثيرها فيها ، وكذلك فى تأثير الأخرى فيها ؛ ويلزم من ذلك أن تكون كل واحدة باقية على قوتها بعد ضعف الأخرى ؛ وهو محال.
ويلزم من إبطال كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إبطال القسم الرابع.
وإن كان الخامس : فلا بد من تصويره والدّلالة عليه.
__________________
(١١)/ / أول ل ٢٠ / ب من النسخة ب.