السيّد سامي البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧
فاحمدوا الله ربّكم الرؤوف بكم ، الصانع لكم في أموركم على الذي دلكم عليه من هذا العهد ، الذي جعله لكم سكناً ومعولاً تطمئنون إليه ، وتستظلّون في أفنانه في أمر دينكم ودنياكم ؛ فإنّ لذلك خطراً عظيماً من النعمة … فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم ، وأمر جماعتكم من ذلك ، جديرون بمعرفة كنه واجب حقّه فيه ، وحمده على الذي عزم لكم منه ، فلتكن منزلة ذلك منكم وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه ، إنّ شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله (١).
وخلاصة هذا العهد اُمور :
١ ـ إنّ الحاكم خليفة الله تعالى ووارث أمر النبي صلىاللهعليهوآله.
٢ ـ بوجود الخليفة يبقى مَنْ يبقى من الناس.
٣ ـ طاعة الحاكم رأس الطاعات بعد كلمة التوحيد.
٤ ـ مَنْ يطع الحاكم كان لله وليّاً ، واستحق من الله ثوابه ، ومَنْ يعصه كان لله عدوّاً ، واستحق من الله نقمته وسخطه.
٥ ـ إنّ مَنْ عصى خليفة الله وخرج عليه أمكنه الله منه ، وجعله نكالاً لغيره.
٦ ـ إنّ نظام تولية العهد إلهام من الله تعالى لخلفائه في حفظ الدين والأمّة من الاختلاف.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : هل إنّ مبتدع هذه البدعة بتسمية الحاكم خليفة الله هو عبد الملك ، ومن جاء بعده ، أم إنّ المسألة تتجاوزهم إلى معاوية مؤسس الدولة الاُمويّة؟
ادّعاء معاوية الخلافة عن الله تعالى :
وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ وكتب الشعر نجد ما يلي :
__________________
(١) تاريخ الطبري ٧ / ٢٢٣ (سنة ١٢٥).
روى البلاذري قال : حدّثني محمّد بن سعد ، عن الواقدي ، عن يزيد بن عياض ، قال : قال معاوية : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي ، وما تركته للناس ، فبفضل منّي (١).
وقال مسكين الدارمي يخاطب معاوية يستحثّه على ترشيح يزيد :
وقال عبد الله بن همام السلولي ليزيد بن معاوية :
بني خلفاء اللهِ مهلاً فإنّما |
|
يبوؤها الرحمنُ حيث يريدُ |
إذا المنبرُ الغربي خلاَّهُ ربُّه |
|
فإنّ أميرَ المؤمنين يزيدُ (٢) |
وقال عبدالله بن همام السلولي ليزيد بن معاوية:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقةٍ |
|
واشكر عطاءَ الذي بالملك أصفاكا |
اُعطيتَ طاعةَ أهل الأرض كلِّهمُ |
|
فأنتَ ترعاهم واللهُ يرعاكا |
وقال أيضاً (٣) :
خلافةُ ربِّكم حاموا عليها |
|
إذا غُمِزت خَنابِسة اُسودا (٤) |
وفي ضوء ذلك يتّضح : أنّ معاوية هو المؤسس لهذه البدعة في الحكم ، وقد استفاد من أصل أسلامي صحيح أشار إليه القرآن في قوله تعالى : (يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ). وأشارت إليه الأحاديث النبويّة الصحيحة التي انتشرت في عهد علي عليهالسلام وولده الحسن عليهالسلام ، وهو توصيف الأنبياء وأوصيائهم بكونهم خلفاء الله في الأرض ، يبيّنون للناس دينه نيابة عنه ؛ ومن هنا كانت طاعة هؤلاء الأنبياء وأوصيائهم
__________________
(١) أنساب الأشراف ق ٤ ج ١ / ٢٠.
(٢) الفرق الإسلاميّة في بلاد الشام / ٢٤٩ عن الشعر والشعراء ١ / ٥٤٤ ، الأغاني ٢ / ٢١٢ ، خزانة الأدب ٣ / ٥٩ ، شعر مسكين الدارمي / ٣٣.
(٣) الفرق الإسلاميّة في بلاد الشام / ٢١٧ عن طبقات فحول الشعراء / ٦٢٧.
(٤) يريد إذا استضعفها مجترئ فطمع في أن ينال منها ، والخَنابِسة : جمع خُنْبَسة ، وهو الجري الشديد الثابت. المصدر السابق (حسن عطوان).
رأس الدين ، سواء كانوا في موقع الحكم والسلطة فعلاً أم لم يكونوا ؛ لأنّهم المفتاح إلى معرفة دين الله تعالى ، وصار المطيع لهم وليّاً لله ، والعاصي لهم عاصيّاً لله تعالى.
حرَّف معاوية ومَنْ جاء بعده هذا المفهوم الإسلامي الصحيح حين جعلوا الحاكم بمجرد كونه حاكماً خليفة لله تعالى ، وطاعته رأس الدين (١).
روايات موضوعة لإسناد الاُطروحة الاُمويّة :
وقد أُسنِد هذا الطرح الاُموي بأحاديث وضُعت على لسان النبي صلىاللهعليهوآله ضمن الثورة الثقافية المضادة التي أرسى دعائمها معاوية ، وفيما يلي طرف من هذه الأحاديث :
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال :
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟
قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك فاسمع وأطع (٢).
وفي رواية الطيالسي وأحمد بن حنبل أنّه صلىاللهعليهوآله قال : فإن رأيت يومئذ لله عزّ وجلّ في الأرض خليفة فألزمه وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (٣).
روى البخاري : قال حدّثنا عثمان بن صالح قال : أخبرنا عبد الله بن وهب قال : حدّثنا أبو هانئ الخولاني ، عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد (٤) ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال :
__________________
(١) تماماً كما صنع السامري في بني إسرائيل ، وأشار إليه قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا) طه ٩٦ ، أي حرفتها.
(٢) مختصر صحيح البخاري ٣ / ١٣١٩ ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.
(٣) مسند أبي داود الطيالسي / ٥٩ ، مسند أحمد ٥ / ٤٠٣.
(٤) قال ابن حجر في الإصابة : فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي ، أبو محمّد ، أسلم قديماً ولم يشهد بدراً ، وشهد أحداً فما بعدها ، وشهد فتح مصر والشام قبلها ، ثمّ سكن الشام وولّى الغزو ، وولاّه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء. وقال ابن حبان : مات في خلافة معاوية ، وكان معاوية ممّن حمل سريره ، وكان
ثلاثة لا تسأل عنهم ؛ رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً فلا تسأل عنه ، وأمة أو عبد أبق من سيده ، وامرأة غاب زوجها وكفاها مؤنة الدنيا فتبرّجت وتمرّجت بعده (١).
أقول : المراد بالإمام في الرواية الحاكم الأعلى للمسلمين.
وروى مسلم عن أبي قيس بن رياح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : مَنْ خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهليّة (٢).
وروى أحمد بن حنبل عن ابن عمر ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : مَنْ نزع يداً من طاعة فلا حجّة له يوم القيامة ، ومَنْ مات مفارقاً للجماعة فقد مات ميتة جاهليّة (٣).
وروى أيضاً عن عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مَنْ مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهليّة ، فإن خلعها من بعد عقدها في عنقه لقي الله تبارك وتعالى وليست له حجّة (٤).
__________________
معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها. وأرّخ المدائني وفاته سنة ثلاث وخمسين. وكذا قال ابن السكن ، وقال : مات بدمشق. قال المزي في تهذيب الكمال : صاحب النبي صلىاللهعليهوآله ، شهد أحداً وبايع تحت الشجرة ، وشهد خيبر مع النبي صلىاللهعليهوآله ، وولاّه معاوية على الغزو ثمّ ولاّه قضاء دمشق ، وكان خليفة معاوية على دمشق إذا غاب عنها ، روى له البخاري في المفرد والباقون.
(١) الأدب المفرد / ٢٠٧ ، مسند أحمد ٦ / ١٩ ، صحيح ابن حبان ١٠ / ٤٢٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٢٠٦ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ١٨ / ٣٠٦.
(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.
(٣) مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٧٠.
(٤) مسند أحمد ٢ / ٩٣. وقال النووي في شرحه بباب لزوم طاعة الأُمراء في غير معصية : وقال جماهير أهل السنّة من الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين : لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه ؛ للأحاديث الواردة في ذلك. وقال قبله : وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين ، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته ، وأجمع أهل السنّة أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق.
فتوح البلدان غطاء عام للانقلاب الاُموي :
تعطلّت حركة الفتوح في عهد علي عليهالسلام بسبب حرب الجمل وصفين والنهروان ، وغارات معاوية بعد التحكيم على الأطراف التابعة لعلي عليهالسلام ، وكان أهم ما نهض به معاوية بعد إبرام الصلح مع الحسن عليهالسلام هو إحياء حركة الفتوح لتحقيق مكاسب عديدة منها :
١ ـ إقناع الناس أنّ السلطة الاُمويّة تعمل من أجل إعلاء كلمة الإسلام ونشره إلى بلاد جديدة.
٢ ـ إشغال المعارضة عن متابعة السلطة ، ومراقبة أعمالها الداخلية ، وتوجيه النقد إليها ، وكذلك إبعاد مَنْ تريد إبعاده بطريقة ذكية غير مثيرة.
٣ ـ الحصول على موارد جديدة من المال والثروات ، أو القوّات الخاصة لحفظ الأمن الداخلي (١).
قال سعيد بن عبد العزيز : لمّا قُتل عثمان ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتّى اجتمعوا على معاوية فأغزاهم مرات (٢).
__________________
قال القاضي أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلاني (ت : ٤٠٣ هـ) في كتاب التمهيد في باب ذكر ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته ما ملخّصه : قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال ، وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرّمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه. واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال.
(١) روى الطبري عن المدائني أنّ البخارية الذين قدم بهم عبيد الله بن زياد البصرة ألفان ، كلّهم جيد الرمي بالنشّاب. أقول : وهم من نتائج فتح بخارى على يده حينما كان والياً على خراسان سنة ٥٣ ، ولمّا ولاّه معاوية البصرة اصطحبهم معه ، وكانوا حرسه الخاص ، وهؤلاء أُضيفوا إلى الأربعة آلاف الذين اصطنعهم أبوه زياد شرطة للبصرة. وفي أنساب الأشراف (ق ٤ ج ١ / ١٧٩) : لمّا خرج طوّاف بن علاّق بالبصرة ندب عبيد الله الشرط والبخارية ، فأتوهم وواقعوهم وهزموهم وقتلوهم.
(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٥٠ ، تاريخ دمشق ـ لأبي زرعة ١ / ١٨٨ و ٣٤٦ ، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ١٦ / ٢.
ومن الطبيعي أن يأمر معاوية القصاصين في المساجد وخطباء الجمعة بالتركيز على أحاديث الجهاد والغزو ؛ لجعل الاشتراك بالغزو هو المقياس الأعلى للأعمال الصالحة.
روى البخاري ومسلم ، والدارمي والترمذي وغيرهم عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله سُئل : أي العمل أفضل؟ فقال : «إيمان بالله ورسوله». قيل : ثمّ ماذا؟ قال : «الجهاد في سبيل الله». قيل : ثمّ ماذا؟ قال : «حجّ مبرور» (١).
وفي رواية اُخرى عن أبي هريرة أيضاً : قال سُئل رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيّ الأعمال أفضل؟ وأيّ الأعمال خير؟ قال : «إيمان بالله ورسوله». قال : ثم أيّ يا رسول الله؟ قال : «الجهاد في سبيل الله سنام العمل». قال : ثم أيّ يا رسول الله؟ قال : «حجّ مبرور» (٢).
وفي رواية اُخرى عنه أيضاً قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، علمني عملاً يعدل الجهاد. قال : «لا أجده». قال : «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجداً فتقوم لا تفتر ، وتصوم لا تفطر؟». قال : لا أستطيع. قال : قال أبو هريرة : إنّ فرس المجاهد يستن (٣) في طوله فيكتب له حسنات (٤).
__________________
(١) البخاري المختصر ١ / ١٨ ، صحيح مسلم ١ / ٨٨. وكذلك رواية عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي المراوح ، عن أبي ذر (الدارمي ٢ / ٣٩٧) ، بينما الرواية عن غيره تجعل الجهاد بعد الصلاة وبر الوالدين (انظر المجتبى من السنن للنسائي ١ / ٢٩٢). وفي مسند أحمد ٢ / ١٦٣ : حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا محمّد بن عبيد ، ثنا محمّد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ناعم مولى اُمّ سلمة ، عن عبد الله بن عمرو قال : حججت معه حتّى إذا كنّا ببعض طرق مكة رأيته تيمم ، فنظر حتّى إذا استبانت جلس تحتها ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله تحت هذه الشجرة إذ أقبل رجل من هذا الشعب فسلّم على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثمّ قال : يا رسول الله ، إنّي قد أردت الجهاد معك ابتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال : «هل من أبويك حيٌّ؟» قال : نعم يا رسول الله كلاهما. قال : «فارجع ابرر أبويك». قال : فولّى راجعاً من حيث جاء. وفي (٢ / ١٦٥) حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا يزيد ، أنا مسعر ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي العباس ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوآله يستأذنه في الجهاد ، فقال : «أحي والداك؟». قال : نعم. قال : «ففيهما فجاهد».
(٢) مسند أحمد ٢ / ٢٨٧.
(٣) استن الفرس : أي عدا في مرحه شوطاً أو شوطين ولا راكب عليه.
(٤) مسند أحمد ٢ / ٣٤٤.
وفي رواية مسلم عنه أيضاً : عن أبي هريرة قال : قيل للنبي صلىاللهعليهوآله : ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال : «لا تستطيعوه». قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كلّ ذلك يقول لا تستطيعونه ، وقال في الثالثة : «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ، القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتّى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى» (١).
وروى أحمد عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن أبي سعيد الخدري قال : أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله بيدي فقال : «يا أبا سعيد ، ثلاثة مَنْ قالهنّ دخل الجنة». قلت : ما هنّ يا رسول الله؟ قال : «مَنْ رضي بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمّد رسولاً». ثمّ قال : «يا أبا سعيد ، والرابعة لها من الفضل كما بين السماء إلى الأرض ، وهي الجهاد في سبيل الله» (٢).
وروى البخاري عن أبي هريرة أيضاً : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «تكفّل الله لمَنْ جاهد في سبيله لا يخرجه إلاّ الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» (٣).
روى أحمد عن ابن عون قال : كتبت إلى نافع أسأله ما أقعد بن عمر عن الغزو؟ فكتب إليّ : إنّ ابن عمر قد كان يغزو ولده ، ويحمل على الظهر ، وكان يقول : إنّ أفضل العمل بعد الصلاة الجهاد في سبيل الله تعالى ، وما أقعد ابن عمر عن الغزو إلاّ وصايا لعمر ، وصبيان صغار ، وضيعة كثيرة (٤).
وجعل معاوية ابنه يزيد سنة خمسين على رأس جيش لغزو القسطنطينية ، وبعد رجوعه من الغزو وضع عمير بن الأسود العنسي الشامي حديثا على لسان اُمّ حرام زوجة عبادة بن الصامت سنة ٣٤ تقول : أنّها سمعت النبي صلىاللهعليهوآله يقول : أوّل جيش من أمّتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام قلت : يا رسول الله أنا فيهم؟ قال :
__________________
(١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٩٨.
(٢) مسند أحمد ٣ / ١٤.
(٣) الجامع المختصر ٢ / ٣٤٤.
(٤) مسند أحمد ٢ / ٣٢ ، سنن البيهقي ٩ / ٤٨.
أنت فيهم. ثمّ قال النبي صلىاللهعليهوآله : أوّل جيش من أمّتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : لا (١).
قال العيني في شرحه للحديث : قوله : (أوّل جيش من أمّتي يغزون البحر) : أراد به جيش معاوية. وقال المهلّب : معاوية أوّل مَنْ غزا البحر ، وهي غزوة قبرص زمن عثمان سنة ٢٧ أو ٢٨ أو ٣٣ ، وكانت اُمّ حرام معهم. وقال ابن الجوزي في جامع المسانيد : أنّها غزت مع عبادة بن الصامت ، فوقصتها بغلة لها فوقعت فماتت (٢).
قال ابن حجر في شرحه للحديث : قوله : (يغزون مدينة قيصر) يعني القسطنطينية.
وقال ابن تيمية : ويزيد أوّل مَنْ غزا القسطنطينية ، غزاها في خلافة أبيه معاوية ، ثمّ ذكر رواية البخاري (٣).
وقال ابن حجر : قال المهلّب (٤) : في هذا الحديث منقبة لمعاوية ؛ لأنّه أوّل مَنْ غزا
__________________
(١) صحيح البخاري المختصر ٣ / ١٠٦٩. قال البخاري : حدّثنا إسحاق بن يزيد الدمشقي ، حدّثنا يحيى بن حمزة قال : حدّثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، أنّ عمير بن الأسود العنسي حدثه أنّه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص ، وهو في بناء له ، ومعه (امرأته) اُمّ حرام ، قال عمير : فحدّثتنا اُمّ حرام أنّها … قال ابن حجر (في فتح الباري ٦ / ١٠٣) قوله : عن خالد بن معدان (بفتح الميم وسكون المهملة) والإسناد كلّه شاميون ، وإسحاق بن يزيد شيخ البخاري ، فيه وهو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي ، نسب لجدّه قوله : عمير بن الأسود العنسي بالنون والمهملة وهو شامي قديم ، يُقال : اسمه عمرو ، وعمير بالتصغير لقبه ، وكان عابداً مخضرماً ، وكان عمر يثني عليه ، ومات في خلافة معاوية. قال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة عمرو بن الأسود العنسي : قال ابن حبان في الثقاة : كان من عبّاد أهل الشام وزهّادهم ، وكان يقسم على الله فيبرّه. (وروى الطبراني) في مسند الشاميين : أنّ عمرو بن الأسود قدم المدينة فرآه عبد الله بن عمر يصلّي ، فقال : مَنْ سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله فلينظر إلى هذا.
(٢) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ١٤ / ١٩٨.
(٣) سؤال في يزيد بن معاوية لابن تيمية مجلة المجمع العلمي بدمشق العدد ١٣٤ / ٤٥٥.
(٤) أقول : لعله المهلب بن الأخطل بن المهلب بن الرواد بن عبدة بن أيوب بن جابر الأزدي العتكي أبو محمّد من أهل تست ، أوّل مَنْ أظهر السنة بتست ، ودعا إليها الناس على عبادة دائمة وورع شديد ، سمع أبا
البحر ، ومنقبة لولده يزيد ؛ لأنّه أوّل مَنْ غزا مدينة قيصر (١).
قال ابن حجر : كان يزيد أمير ذلك الجيش بالاتفاق ، وكانت غزوة يزيد المذكورة في سنة اثنتين وخمسين من الهجرة.
وقوله : (قد أوجبوا) : أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة.
وتوجد بعض الأخبار تشير إلى تسمية جيش الغزو بـ (خيل الله) :
روى أبو داود قال : حدّثنا محمّد بن داود بن سفيان ، حدّثني يحيى بن حسان ، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود ، ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدّثني حبيب بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب : أمّا بعد ، فإنّ النبي صلىاللهعليهوآله سمّى خيلنا خيل الله إذا فزعنا ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة وإذا قاتلنا (٢).
وروى الطبري عن أبي مخنف قال : إنّ عمر بن سعد نهض عشية الخميس لتسع من المحرم ونادى : يا خيل الله اركبي وابشري. وزحف نحو الحسين عليهالسلام (٣).
جيش خليفة الله :
ومن المفيد أن نتذكر هنا أنّ خيل الله هذه وجيش الفتوح هذا قد أولاه معاوية وولاته عناية خاصة ؛ ليكون جيشاً مطيعاً للخليفة الاُموي ، يسمع كلمته ، ويرى رؤيته في الحكّام وفي بني اُميّة من جهة بصفتهم أئمّة هدى ، وحماة الدين ، وأولياء النبي صلىاللهعليهوآله ، وفي علي وأهل بيته عليهمالسلام بصفتهم أئمّة ضلالة ، وأعداء الله ورسوله ؛ جيشاً خالياً من أيّ متّهم بحبّ علي عليهالسلام فضلاً عن كونه من شيعته.
__________________
نعيم وعبد الرزاق بن همام وغيرهما ، مات بتست في سنة تسع وخمسين ومئتين.
(١) قال العيني يرد على المهلب : وأيّ منقبة كانت ليزيد وحاله مشهور؟ الثقاة ـ لابن حِبّان ٣ / ٢٠٨.
(٢) سنن أبي داوود ٣ / ٢٥ ، أيضاً المعجم الكبير ـ للطبراني ٧ / ٢٦٩.
(٣) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٥.
وكان هذا الأمر في مدينة كالشام أمراً سهلاً لم يكلّف معاوية كثير جهد ، ولم يحبس أو يقتل من أجله أحداً ، وبخلاف ذلك كان الأمر في الكوفة ، وهي مركز شيعة علي عليهالسلام ، حيث لم يستطع زياد أن ينجح في بناء جيش للدولة الاُمويّة إلاّ بعد بذل ما ذكرناه من خطط ، وبعد ما قام به من قتل مثل حجر وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ونفي مثل صعصة بن صوحان ، وما قام به من قتلٍ على التّهم والظنّ والشبهة تحت كلّ كوكب ، وتحت كلّ حجر ومدر ، وقطع الأيدي والأرجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم.
وفي ضوء هذه التربية لم يكن مستغرباً ما صدر من جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة إزاء أهل المدينة بعد واقعة الحرّة ، وكذلك ما صدر من جيش الدولة الاُمويّة في الكوفة إزاء الحسين صلىاللهعليهوآله وأصحابه ؛ وذلك لأنّ التربية واحدة والقيادة واحدة.
روى أحمد بن أعثم في فتوحه : أنّ مسلم بن عقبة (١) قائد الجيش الاُموي الذي بعثه يزيد إلى مدينة الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأباحها ثلاثة أيام للجند بعد واقعة الحرّة ، قال في وصيته عند موته : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أعصِ خليفة قط. اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً أرجو به النجاة
__________________
(١) قال ابن حجر في الإصابة : مسلم بن عقبة المري ، أبو عقبة ، الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرّة ، ذكره ابن عساكر وقال : أدرك النبي صلىاللهعليهوآله ، وشهد صفين مع معاوية ، وكان على الرجّالة ، وعمدته في إدراكه أنّه استند إلى ما أخرجه محمّد بن سعد في الطبقات عن الواقدي بأسانيده قال : لمّا بلغ يزيد بن معاوية أنّ أهل المدينة أخرجوا عامله من المدينة وخلعوه ، وجّه إليهم عسكراً أمر عليهم مسلم بن عقبة المري ، وهو يومئذ شيخ ابن بضع وتسعين سنة ، فهذا يدلّ على أنّه كان في العهد النبوي كهلاً ، وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة ، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سمّوه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيّام لذلك ، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ، ثمّ رفع القتل وبايع مَنْ بقي على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية ، وتوجّه بالعسكر إلى مكة ليحارب ابن الزبير لتخلّفه عن البيعة ليزيد ، فعوجل بالموت فمات بالطريق ، وذاك سنة ثلاث وستين ، واستمر الجيش إلى مكّة فحاصروا ابن الزبير ونصبوا المنجنيق على أبي قبيس ، فجاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية وانصرفوا ، والقصّة معروفة في التواريخ.
قط إلاّ ما فعلت بأهل المدينة (١).
وفي رواية اليعقوبي : اللّهمّ إن عذّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية ، وقتل أهل الحرّة ، فإنّي إذن لشقي (٢)!
قال ابن حجر : روى أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : كان شمر يصلّي معنا ، ثمّ يقول : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي شريف فاغفر لي. قلت : كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله؟! قال : ويحك! فكيف نصنع؟ إنّ أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم ، ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر الشقاء (٣).
وقد انتهت هذه التربية في العراق بعد مقتل الحسين عليهالسلام ، ولم يستطع بنو اُميّة فرضها من جديد على أهل العراق حين حكموا العراق بعد قتل مصعب بن الزبير إلى تمام ستين سنة من ملك بني مروان ، ولكنّها استمرت في الشام من خلال إصرار خلفاء بني اُميّة على عرض أنفسهم على أنّهم أئمّة مقرّبون عند الله تعالى ، يشفعون لأوليائهم.
روى البلاذري عن المدائني : أنّه لمّا مات الحجّاج ذكره الوليد ، وذكر قرّة بن شريك فترحم عليهما ، وقال : كانا منقادين لأمرنا ، والله لأشفعنّ لهما عند ربّي ، ولأسألنّه أن يدخلهما الجنة. يا أهل الشام ، أحبّوا الحجّاج ؛ فإنّ حبّه إيمان وبغضه كفر (٤).
ويتّضح من ذلك أيضاً : أنّ ما جرى من قتل الحسين عليهالسلام ، وحمل رأسه ورؤوس أهل بيته وأصحابه مع عياله أسرى إلى الشام ، وما جرى من قتل أهل مدينة النبي صلىاللهعليهوآله في واقعة
__________________
(١) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٠١.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١.
(٣) لسان الميزان ترجمة شمر بن ذي الجوشن.
(٤) الحجّاج بن يوسف الثقفي ـ إحسان صدقي العمد / ٥٣٦ ، نقلاً عن مخطوطة أنساب البلاذري (م ٧٨ ورقة ١٢٤٧ وورقة ١٢١٩ مصوّرة دار الكتب المصرية رقم ١١٠٣) ، رسالة ماجستير من كلّية الآداب جامعة الكويت ، بإشراف الدكتور حسين مؤنس ، أُجيزت سنة ١٩٧٢ ، طبعت سنة ١٩٧٣ بيروت.
الحرّة ، وإباحة المدينة ثلاثة أيام للجند ، وضرب بيت الله بالمنجنيق ، كان نتيجة طبيعية للتربية المنحرفة التي أرسى دعائمها معاوية وولاته ، ومن سار في ركبه من وضّاعي الحديث ، وخطباء الجمعة والقصّاصين (١).
خلاصة بما قام به معاوية وولاته :
١ ـ بنى معاوية بشكل عام قوّة عسكرية ، وأجهزة ضبط داخلي (الشرطة) خالصة الولاء له ، معادية لعلي وأهل بيته عليهمالسلام.
٢ ـ عني بالكوفة مركز التشيع لعلي عليهالسلام عناية خاصّة ، فغيّر نظام الأسباع فيها إلى نظام الأرباع ، وأخلاها من وجوه أصحاب علي البارزين قتلاً وسجناً ونفياً ، وصفّاها من كثافتها الشيعية بتهجير خمس وعشرين ألف بعوائلهم ، كما صفّى جيشها من كلّ متّهم بحبّ علي فضلاً عن كلّ شيعي ، واعتمد الحمراء والبخارية مادة أساسية لجهاز الشرطة فيها.
٣ ـ أوجد حركة دينية فكرية وسياسية واجتماعية مضادّة لعلي وأهل بيته عليهالسلام تقوم على أساسين :
الأوّل : لعن علي عليهالسلام والبراءة منه بعد كلّ صلاة جمعة بصفته ملحداً في الدين (أي محرفاً فيه) ، والمنع من ذكر أحاديث النبي صلىاللهعليهوآله في علي وأهل بيته عليهمالسلام في المدارس والمحافل العامة والمساجد ، والحثّ على وضع روايات على لسان النبي صلىاللهعليهوآله تمدح معاوية وعثمان وبني اُميّة وغيرهم ، ووضع أحاديث كاذبة في علي وأهل بيته عليهمالسلام تسوّغ لعنهم والبراءة منهم.
__________________
(١) لم يكن يسمح معاوية لقاصّ يقصّ من دون إجازة منه ، روى البلاذري (ق ٤ ج ١ / ٤٥) بسنده عن أبي عامر الهوزني قال : حججنا مع معاوية ، فلمّا قدمنا مكة أخبر برجل قاصّ يقصّ على أهل مكة ، وكان مولى لبني مخزوم ، فقال له معاوية : أمرت بالقصص؟ قال : لا. قال : فما حملك على أن تقصّ بغير إذن؟ قال : إنّما ننشر علماً علّمناه الله. قال : لو كنت تقدّمت إليك لقطعت طابقاً منك.
الثاني : الحطّ من مقام شيعة علي عليهالسلام اجتماعياً ، فلا تُقبل شهادة لشيعي ، ويُحرم من العطاء ؛ ليكون فقيراً ويخمل ذكره ، وفي المقابل تُقبل شهادة المحبّ لعثمان ويزاد في عطائه ؛ ليشرف في المجتمع ويعلو ذكره.
٤ ـ عرض الحاكم الاُموي على أنّه خليفة الله ، وأنّ طاعته رأس الدين ومفتاحه ، وكون المطيع له ولي الله ، والعاصي له عدو الله.
٥ ـ غالى في أمر الجهاد والغزو ، وعرضه على أنّه أفضل عمل بعد الإيمان بالله ورسوله ، أي جعله المقياس الأعلى للأعمال الصالحة والدخول للجنة ، وأمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووضع الأحاديث في ذلك.
٦ ـ عين ابنه يزيد ولي عهده ؛ من أجل أن يواصل رعاية مشروعه التحريفي للإسلام على الأصول التي بناها عليه.
خلاصة بمعالم الضلال الاُموي :
١ ـ إظهار حجج الله تعالى الذين نصّ عليهم الرسول بأمر الله تعالى على أنّهم أعداء لله ولرسوله ، وأنّهم أئمّة ضلال ، وذلك من خلال لعن أوّل هؤلاء الحجج ، وهو علي عليهالسلام ، وسبّه في خطب الجمعة على منابر المسلمين ، والنهي عن ذكر فضائله ، ورواية أحاديث وضعت على لسان النبي صلىاللهعليهوآله تطعن فيه.
٢ ـ سجن ونفي وقتل أبرار الصحابة والتابعين من شيعة علي عليهالسلام ، وكذلك سجن ونفي النساء المؤمنات لا لشيء إلاّ لأنّهم لم يوافقوا معاوية على لعن علي والبراءة منه ، كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وزوجته آمنة بنت الشريد ، وصعصعة بن صوحان العبدي وأمثالهم (رضوان الله عليهم).
٣ ـ إظهار بني اُميّة على أنّهم أئمّة الهدى بعد النبي ، وفرض طاعتهم وولايتهم ، ووضع الأحاديث الكاذبة فيهم تمدحهم وتثني عليهم ، بينما كان بنو اُميّة الأعداء الألداء للرسول ،
وقد دخلوا الإسلام بعد الفتح ، وجعلهم القرآن كطبقة ثانية (١) ، ولعن الرسول رموزهم بعد دخولهم الإسلام لما ظهر منهم (٢).
__________________
(١) قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الحديد / ١٠.
(٢) قال في الإصابة : الحكم بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس القرشي الاُموي ، عم عثمان بن عفان ووالد مروان. قال ابن سعد : أسلم يوم الفتح وسكن المدينة ، ثمّ نفاه النبي صلىاللهعليهوآله إلى الطائف ، ثمّ أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان ومات بها. روى الفاكهي من طريق حمّاد بن سلمة ، حدّثنا أبو سنان ، عن الزهري وعطاء الخراساني أنّ أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله دخلوا عليه وهو يلعن الحكم بن أبي العاص ، فقالوا : يا رسول الله ، ما له؟ قال : «دخل على شقّ الجدار وأنا مع زوجتي فلانة فكلح في وجهي». فقالوا : أفلا نلعنه نحن؟ قال : «كأنّي أنظر إلى بنيه يصعدون منبري وينزلونه». فقالوا : يا رسول الله ، ألا نأخذهم؟ قال : «لا». ونفاه رسول الله صلىاللهعليهوآله. وروى الطبراني من حديث حذيفة قال : لمّا ولي أبو بكر كُلّم في الحكم أن يردّه إلى المدينة ، فقال : ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صلىاللهعليهوآله. وروى أيضاً من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال : كان الحكم بن أبي العاص يجلس عند النبي صلىاللهعليهوآله ، فإذا تكلّم اختلج ، فبصر به النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال : «كن كذلك». فما زال يختلج حتّى مات. في إسناده نظر. وأخرجه البيهقي في الدلائل من هذا الوجه ، وفيه ضرار بن صرد وهو منسوب للرفض. وأخرج أيضاً من طريق مالك بن دينار حدّثني هند بن خديجة زوج النبي صلىاللهعليهوآله : مرّ النبي صلىاللهعليهوآله بالحكم ، فجعل الحكم يغمز النبي صلىاللهعليهوآله بأصبعه ، فالتفت فرآه ، فقال : «اللّهمّ اجعله وزغاً». فزحف مكانه. وقال الهيثم بن عدي ، عن صالح بن حسان قال : قال الأحنف لمعاوية : ما هذا الخضوع لمروان؟ قال : إنّ الحكم كان ممّن قدم مع اُختي أمّ حبيبة لمّا زفت إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، وهو يتولّى نعلها ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يحدّ النظر إلى الحكم ، فلمّا خرج من عنده قيل له : يا رسول الله ، أحددت النظر إلى الحكم! فقال : «ابن المخزومية ، ذاك رجل إذا بلغ ولده ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر». وروينا في جزء بن نجيب من طريق زهير بن محمّد ، عن صالح بن أبي صالح ، حدّثني نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : كنّا مع النبي صلىاللهعليهوآله فمرّ الحكم بن أبي العاص ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «ويل لأمّتي ممّا في صلب هذا!». وروى بن أبي خيثمة من حديث عائشة أنّها قالت لمروان (في قصّة أخيها عبد الرحمن لمّا امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية) : أمّا أنت يا مروان ، فأشهد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لعن أباك وأنت في صلبه.
وفي مسند أحمد ٤ / ٤٢١ ، ومسند أبي يعلى ، عن أبي برزة قال : كنّا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في سفر ، فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر ، وهو يقول :
٤ ـ عرض الحاكم على أنّه خليفة الله في الأرض ، وأنّ طاعته وولايته رأس الدين ، وأنّ معصيته والخروج عليه مهما كانت سيرته سيئة محبطة للأعمال ، يموت صاحبها ميتة جاهليّة ، ووضع الأحاديث النبويّة الكاذبة في ذلك.
٥ ـ تفسير القرآن بما يوافق البنود الآنفة الذكر ، وتثقيف الأمّة صغاراً وكباراً على ذلك ؛ فأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم هم أزواج النبي صلىاللهعليهوآله ، وليس علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، وقرابة النبي صلىاللهعليهوآله الذين أوجب الله تعالى مودّتهم أجراً للرسالة هم بنو اُميّة وليس أهل البيت عليهمالسلام ، والشاهد في قوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) ليس علياً عليهالسلام بل جبرئيل عليهالسلام ، وغير ذلك.
وقد تحقّق ما قاله علي عليهالسلام لخاصّة أصحابه يخبرهم عن هذا العهد :
«إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَلا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ (أي إذا فسّر تفسيراً صحيحاً) ، وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (أي فسّر تفسيراً باطلاً) ...
كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ.
فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلا اسْمُهُ ، وَلا يَعْرِفُونَ إِلا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ» (١).
__________________
لا يزالُ حواريٌّ تلوحُ عظامُهُ |
|
زوى الحربَ عنه أن يجنّ فيقبرا |
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «انظروا مَنْ هما؟». قال : فقالوا : فلان وفلان. قال : فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «اللّهمّ أركسهما ركساً ، ودعهما إلى النار دعّاً».
وفي المعجم الكبير ـ للطبراني ١١ / ٣٨ عن ابن عباس (رضي الله تعالى عنه) قال : سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله صوت رجلين وهما يقولان :
لا يزالُ حواريٌّ تلوحُ عظامُهُ |
|
زوى الحربَ عنه أن يجنّ فيقبرا |
فسأل عنهما ، فقيل معاوية وعمرو بن العاص ، فقال : «اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ، ودعهما إلى النار دعّاً».
(١) شرح نهج البلاغة / خ ١٤٧.
الباب الثالث
حركة الحسين عليهالسلام في مواجهة الانقلاب الأموي
الفصل الأوّل : المرحلة الاُولى السكوت والعمل السرّي في زمن معاوية
الفصل الثاني : المرحلة الثانية النهضة للتغيير بعد موت معاوية
الفصل الثالث : طرف من أخبار شهادة الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهمالسلام
الفصل الأوّل : المرحلة الاُولى السكوت والعمل السري في عهد معاوية
خلاصة خطّة معاوية :
استهدف معاوية من انقلابه أساساً أمرين اثنين :
الأمر الأوّل : دمج موقع الإمامة الدينية في موقع الحاكمية ؛ ليصبح حاكماً له سلطة تشريعية كالتي برز بها عمر في خلافته حين كان ينهى عن كثير من سنن النبي صلىاللهعليهوآله فيطاع (١) ، ثمّ أراد معاوية أن يضمن استمرار الخلافة بهذه الصفة لولده يزيد وذريته.
الأمر الثاني : محو الذكر الطيّب والموقع الهدايتي الخاص الذي منحه الله ورسوله لعليٍّ ولأهل بيته المعصومين عليهمالسلام من بعده ؛ بغضاً وحقداً ، ولكونه يتعارض مع هدفه الأوّل.
وكانت أمامه ثلاث عقبات لتحقيق ذلك ، وهي :
١ ـ وجود الحسن عليهالسلام : وقد برزته سنوات الصلح مصلحاً رسالياً بمستوى جدهّ النبي صلىاللهعليهوآله ، بما أعاد لذاكرة المسلمين من تشابه بين صلحه وصلح الحديبية من جهات عديدة مرّ ذكرها ، وبما أخبر النبي صلىاللهعليهوآله من حدث الصلح ، وبما ظهر من مكنون أخلاق الحسن عليهالسلام وسيرته من خلال معاشرته للناس في موسم الحجّ للسنوات العشر ماشياً ، وفي غير موسم الحجّ ، وقبل ذلك بما انتشر من أحاديث النبي صلىاللهعليهوآله فيه وفي أخيه الحسين عليهماالسلام.
__________________
(١) انظر معالم المدرستين ج ١ ـ للسيد مرتضى العسكري.
هذا مضافاً إلى أن أحد بنود الصلح الذي ينصّ على أن الأمر للحسن عليهالسلام بعد موت معاوية ، فإنْ حدث بالحسن عليهالسلام فإنّ الأمر للحسين عليهالسلام ، وليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده.
٢ ـ الكوفة بوصفها مركز شيعة علي عليهالسلام ، وبوصفها مركز الثقل في أهل العقد والحلّ الذين بايعوا الحسن عليهالسلام بيعة مشروعة قامت على إيمانهم بالنصّ ، ومن ثمّ كانت هذه البيعة عُدَّةَ الحسن عليهالسلام في مشروع صلحه العظيم ، كما كانت بيعة أهل المدينة مع النبي صلىاللهعليهوآله عُدَّتَه في مشروع صلحه العظيم مع قريش.
٣ ـ انتشار الأحاديث النبويّة في فضل علي وأهل بيته عليهمالسلام ، وفي ذمّ معاوية وبني أميّة في الشام مركز شيعة معاوية فضلاً عن غيرها. ومن جانب آخر انتشار أخبار سيرة النبيِّ صلىاللهعليهوآله وسيرة علي عليهالسلام الشخصية ، وأخبار سيرتهما في الحكم والحروب ، وهي سيرة واحدة ونور واحد «علي منّي وأنا منه» ، «أنا من رسول الله كالصنو من الصنو ، وكالذراع من العضد». وفي قبالها انتشار سيرة الخلفاء الثلاثة في الحكم وفي الحروب ، وهي سيرة مغايرة لسيرة النبيِّ صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام : (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما).
وكانت إجراءات معاوية التي اتّخذها لتحقيق هدفيه الآنفي الذكر كما يلي :
الإجراء الأوّل : التخلّص من الحسن عليهالسلام بدسّ السمّ إليه عن طريق زوجته بنت الأشعث ، وكذلك التخلّص من بعض الشخصيات التي تشكّل عقبة ، كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الشام ، وسعد بن أبي وقاص في المدينة.
الإجراء الثاني : لعن علي عليهالسلام وسبّه على منابر المسلمين بعد صلاة الجمعة ؛ لتربية الناشئة عليه.
الإجراء الثالث : تغيير نظام التعبئة من الأسباع إلى الأرباع ، وتغيير الكثافة السكانية الشيعية بتسيير خمسين ألف من أهل الكوفة والبصرة بعيالاتهم إلى خراسان وإشغالهم بالغزو.