تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٨ ـ سورة الأنفال

عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روى الواحدي في «أسباب النزول» عن سعد بن أبي وقاص قال : «لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فاخذت سيفه فأتيت به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اذهب القبض (بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم) فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله ، قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال».

وأخرج البخ. اري ، عن سعيد بن جبير ، قال : «قلت لابن عباس سورة الأنفال» قال «نزلت في بدر» فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج ، ولم يثبت في تسميتها حديث ، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال ، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.

وتسمى أيضا «سورة بدر» ففي «الإتقان» أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس «سورة الأنفال» قال «تلك سورة بدر».

وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها ، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين ، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر ، فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها ، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص ، والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.

وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَ

٥

فِيكُمْ ضَعْفاً ـ إلى ـ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٦] نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة ، كما روي عن ابن عباس ، وسيأتي تحقيقه هنالك.

وقال جماعة من المفسرين إن آيات (يا أَيُّهَا) النبي (حَسْبُكَ اللهُ ـ إلى ـ لا يَفْقَهُونَ) [الأنفال : ٦٤ ، ٦٥] نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال ، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.

نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة ، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة ، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الأنفال ، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.

وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها ، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل ، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة ، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال ، وتفننت أحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية ، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران ، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال ، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران.

وفي «تفسير ابن عطية» عند قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) من هذه السورة [٣٣] قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) بمكة إثر قولهم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ونزل قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] عند خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] بعد بدر.

وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وأنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.

وعدد آيها ، في عدّ أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون ، وفي عدّ أهل الشام سبع وسبعون ، وفي عدّ أهل الكوفة خمس وسبعون.

ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله ، وقيل : بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيهم من الأنفال ، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.

٦

أغراض هذه السورة

ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.

والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.

والأمر بطاعة الله ورسوله ، في أمر الغنائم وغيرها.

وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم ، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.

وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر وتأييد من الله ولطفه بهم.

وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.

ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو ، والصبر.

والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.

والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.

والأمر بأن يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.

ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.

وذكر مواقع الجيشين ، وصفات ما جرى من القتال.

وتذكير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم ، وأن مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصدّ عن المسجد الحرام.

ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.

والتحذير من المنافقين.

وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة لله.

وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد ، ومتى يحسن السلم.

وأحكام الأسرى.

٧

وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١))

افتتاح السورة ب (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ما ذا يكون في شأن المسمى عندهم (الْأَنْفالِ) وكان ذلك يوم بدر ، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهما في هذا الشأن ، وقد تكررت الحوادث يومئذ : ففي «صحيح مسلم» ، و «جامع الترمذي» عن سعد بن أبي وقاص قال : «لما كان يوم بدر ـ أصبت سيفا لسعيد بن العاصي فأتيت به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت نفلنيه ، فقال : ضعه (في القبض) ، ثم قلت : نفلنيه فقال ضعه حيث أخذته ، ثم قلت : نفلنيه فقال : ضعه من حيث أخذته ، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)» وفي «أسباب النزول» للواحدي، و «سيرة ابن إسحاق» عن عبادة بن الصامت ، أنه سئل عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء ، وروى أبو داود ، عن ابن عباس ، قال : «لما كان يوم بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ : لا تستأثرون علينا فانا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم لكنا ردءا لكم ، واختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ).

والسؤال حقيقته الطلب ، فإذا عدّي ب (عن) فهو طلب معرفة المجرور ب (عن) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء ، فالمعنى ، هنا : يسألونك معرفة الأنفال ، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات ، والمراد حالها بحسب القرينة مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمنا في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها.

ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال ، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين ، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد.

ولذلك كان قوله (يَسْئَلُونَكَ) مؤذنا بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال ، وقد

٨

كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا ، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية.

و (الأنفال) جمع نفل ـ بالتحريك ـ والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهم من الحرب هو إبادة الأعداء ، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة :

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وأقوالهم في هذا كثيرة ، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائم مشهور قال عنترة :

إنا إذا احمرّ الوغى نروي القنا

ونعف عند مقاسم الأنفال

وقد قال في القصيدة الأخرى :

وأعف عند المغنم

فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حجر الأسدي وهو جاهلي :

نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو

ترجون أنفال الخميس العرمرم

ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني ، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله، وهذا صنف من المغانم.

فالمغانم ، إذن ، تنقسم إلى : ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل ، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يعرف قاتله ، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقا ، وأن تكون بمعنى ما يزاد للمقاتل على حقه من المغنم ، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالا عن تنفيل بمعنى زيادة ، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل ، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل ، فيبقى النفل في معنى الزيادة. ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية ، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال «الفرس من النفل والدرع من النفل» كما في «الموطأ» ، وروي عنه أنه

٩

قال : «والسلب من النفل» كما في «كتاب أبي عبيد» وغيره.

وقد أطلقوا النفل أيضا على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يعرف من غنمه ، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله ، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة الحشر [٦ ، ٧] بقوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ـ إلى قوله ـ بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا.

وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء : المغنم ، والفيء ، وهما نوعان ، والنفل. وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة ، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٤١] الآية ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين (أي لمعنيين مختلفين) غنيمة وفيئا يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم.

والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخمس لمن يرى إعطاءه إياه ، ممن لم يغنم ذلك بقتال.

فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور : المراد بها ما كان زائدا على المغنم. فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين ، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل ، أو لخصلة عظيمة يأتي بها ، أو للتحريض على النكاية في العدو. فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين : «من قتل قتيلا فله سلبه» وقد جعلها القرآن لله وللرسول ، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال مالك في «الموطأ» «ولم يبلغنا أن رسول الله قال : من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين ، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده» (يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين).

فالآية محكمة غير منسوخة بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما ، قال القرطبي : وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا.

١٠

وعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة وعطاء : أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائم مطلقا. وجعلوا حكمها هنا أنها جعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسب ما يراه ، بلا تحديد ولا اطراد ، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس ، ثم نسخ ذلك بآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش ، فجعل لله وللرسول الخمس ، وجعل أربعة الأخماس حقا للمجاهدين. يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ ، فلذلك قال مالك والجمهور : لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك : «إعطاء السلب من التنفيل» ، وقال مجاهد : الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى.

واللام في قوله (لِلَّهِ) على القول الأول في معنى الأنفال : لام الملك ، لأن النفل لا يحسب من الغنائم ، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه ، فيقال هو ملك لله ولرسوله ، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده ، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في «الترمذي» إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف ـ معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ـ ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك».

وأما على القول الثاني ، الجامع لجميع المغانم ، فاللام للاختصاص ، أي : الأنفال تختص بالله والرسول ، أي حكمها وصرفها ، فهي بمنزلة (إلى). تقول : هذا لك أي : إلى حكمك مردود ، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خمّست بآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] الآية.

وعطف «وللرسول» على اسم الله لأن المقصود : الأنفال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقا للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين : أولاهما : أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفا أو تفويضا. والثانية : لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما كان حقا لله كان التصرف فيه لخلفائه.

واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافا ناشئا عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية ، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الإطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة ، فقال

١١

مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب : النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم ، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعا بين هذه الآية وبين قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحن في نفوس الجيش ، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير ، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه ، كما سيأتي في آية المغانم ، لذلك قال مالك : لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين من قوله : «من قتل قتيلا فله سلبه» خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ظاهر ، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله ، قال مالك في «الموطأ» : ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما.

وإنما اختلفت الفقهاء : في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس ، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه ، وقال سعيد بن المسيب ، وأبو حنيفة والشافعي : النفل من خمس الخمس. والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط ، وسيجيء ذلك في آية المغانم. والحجة لمالك حديث ابن عمر في «الموطأ» أنهم غزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا فأعطي النفل جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس ، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) [الأنفال : ٤١] بآية (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل ، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة ، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية.

وتفريع (فَاتَّقُوا اللهَ) على جملة (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) لأن في تلك الجملة رفعا للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال ، أو في طلب التنفيل ، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله ، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها ، تبعا لعوائدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها ، وهذا كله من المقول.

١٢

وقدم الأمر بالتقوى ، لأنها جامع الطاعات.

وعطف الأمر بإصلاح ذات البين ، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت : «اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا» فأمرهم الله بالتصافح ، وختم بالأمر بالطاعة ، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [النساء : ٦٥].

والإصلاح : جعل الشيء صالحا ، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح ، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم ، وهو فساد التنازع والتظالم.

و (ذاتَ) يجوز أن تكون مؤنث (ذو) الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو. ووقع في كلامهم مضافا إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما ، يجرونه مجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) في سورة الكهف [١٨] ، على تأويل جهة ، وتقول : لقيته ذات ليلة ، ولقيته ذات صباح ، على تأويل المقدر ساعة أو وقت ، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال ، ويجوز أن تكون (ذات) أصلية الألف كما يقال : أنا أعرف ذات فلان ، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته ، كذا فسرها الزجاج والزمخشري ، فهو كقول ابن رواحة :

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

فتكون كلمة مقحمة لتحقيق الحقيقة ، جعلت مقدمة ، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم : جاءني بذاته ، ومنه يقولون : ذات اليمين وذات الشمال ، قال تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

فالمعنى : أصلحوا بينكم ، ولذا ف (ذات) مفعول به على أن (بين) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية ، وجعل اسما متصرفا ، كما قرئ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] برفع بينكم في قراءة جماعة. فأضيفت إليه (ذات) فصار المعنى : أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحا غير فاسد ، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل (أَصْلِحُوا) منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصدا للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد ، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير : وأوجدوا الصلاح بينكم ، كما قرأنا (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم.

وأعلم أني لم أقف على استعمال (ذات بين) في كلام العرب فأحسب أنها من

١٣

مبتكرات القرآن.

وجواب شرط (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) إلى آخرها ، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الحمل كان راجعا إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال ، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية : إنا أمرناكم بما ذكر إن كنتم مؤمنين ، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين ، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال ، لظهور أن ليس المراد : فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله ، ولا تصلحوا ذات بينكم ، ولا تطيعوا الله ورسوله ، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال.

وليس الإتيان في الشرط بأن تعريضا بضعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورهم ، بناء على أن شأن (إن) عدم الجرم بوقوع الشرط بخلاف (إذا) على ما تقرر في المعاني ، ولكن اجتلاب (إن) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي : التقوى الجامعة لخصال الدين ، وإصلاح ذات بينهم ، والرضى بما فعله الرسول ، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صوره ومظاهره ، ولذلك عقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] كما سيأتي.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).

موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله ، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد (إِنَّمَا) من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جمل الأمر الثلاث السابقة ، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من (إِنَّمَا) أن من لم يجل قلبه إذا ذكر الله ، ولم تزده تلاوة آيات الله إيمانا مع إيمانه ، ولم يتوكل على الله ، ولم يقم الصلاة ، ولم ينفق ، لم يكن موصوفا بصفة الإيمان ، فهذا ظاهر مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لا ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٤] فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عدم الواجبات العظيمة منزلة العدم ،

١٤

وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه ، فهو استعارة مكنية : شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن ، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بذكر لازمه وهو حصر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به ، ويئول هذا إلى معنى : إنما المؤمنون الكاملو الإيمان ، فالتعريف في (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة ، وحرف (أل) فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال.

وقد تكون جملة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) مستأنفة استينافا بيانيا لجواب سؤال سائل يثيره الشرط وجزاؤه المقدر في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل ، وهل يمتري في أنهم مؤمنون ، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت ، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.

وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيرا لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يسأل عنه ، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافا بيانيا.

وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين ، والاعتبارات البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحقّقه حق تحقّقه.

والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها ، فإنه لما كان الكلام واردا مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها.

والذكر حقيقته التلفظ باللسان ، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها ، فالمراد من قوله : (إِذا ذُكِرَ اللهُ) إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شئونه ، مثل أمره ونهيه ، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.

والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه.

وقد جاء فعل وجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فرح ، وصدي ، وهوي ، وروي.

١٥

وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه ، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين.

وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالا بديعا ليناسب معنى الوجل ، فذكر الله يكون : بذكر اسمه ، وبذكر عقابه ، وعظمته ، وبذكر ثوابه ورحمته ، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كمّل المؤمنين ، لأنه يحصل معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه ، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقع حلول بأسه ، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته ، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه ، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : «أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه».

وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غنائم بدر ، وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك ، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله ، والوجل حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتمادا على استلزام الوجل إياه ، لأن من الوجل أن يجل ، من فوات الثواب أو نقصانه.

(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

التلاوة : القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في البقرة[١٠٢].

وآيات الله القرآن ، سميت آيات ، لأن وحيها إلى النبي الأمّي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعجز قومه ، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات.

ويسمى القرآن كله آية أيضا باعتبار دلالة جملته على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها ، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه. وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان.

فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان ، إذ تلك الزيادة كيفية نفسية

١٦

عارضة ، لليقين ، لا يعرف فاعل انقداحها في العقل ، وغاية ما يعرف أن يقال : ازداد إيمان فلان ، أو ازداد فلان إيمانا ، بطريق ما يدل على المطاوعة ، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال ، كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العرف ، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي بالفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل.

والإيمان : تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء ، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء ، تصديقا جازما لا يحتمل نقيض تلك النسبة ، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعا في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجود صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية ، والمقتضية مجيء رسول الله مخبرا عن الله الذي أرسله وثبوت صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها : مثل الصدق فيما يبلغ عن الله ، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى.

ومعنى زيادة الإيمان : قوة اليقين في نفس الموقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه ، وعن إعادة النظر فيها ، ودفع الشك العارض للنفس ، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى ، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة ، وتفاوتها تدرج في الزيادة ، ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصا لكنه نقص عن الزيادة ، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان ، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الأيمان ، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله : «باب زيادة الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص» فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيمانا ، حتى يوصف بالنقص ، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة ، في القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بين. ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان ، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمة إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمان يزيد ولا ينقص ، وهو عبارة كاملة ، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائع الإيمان ، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم (الإسلام) كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان ، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال ، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا

١٧

في نظائرها من آيات الكتاب وأقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول : الإيمان يزيد وينقص ، ولعل الذي الجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة. وهذا مذهب أشار إليه البخاري في قوله «باب من قال إن الإيمان هو العمل». وقال الشيخ ابن أبي زيد «وأن الإيمان قول باللسان واخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة» ، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر القرآن والسنة ، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص.

وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان : أن دقائق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقينا بأنها من عند الله ، فتزيده استدلالا على ما في نفسه ، وذلك يقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين ، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي ، حتى يحصل كمال التقوى ، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها ، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال ، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي.

وحظ المقام المتعلق بأحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة ، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ ببينهم في أنفس الأموال عندهم ، وهو المال المكتسب من سيوفهم ، فإنه أحب أموالهم إليهم. وفي الحديث «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» (١) وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال ، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة ، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

__________________

(١) ذكره البخاري تعليقا فقال : ويذكر عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٨

صلة ثالثة ل (الْمُؤْمِنُونَ) أو حال منه ، وجعلت فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك منهم ، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيرا مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بأحسن منه من الحلال المأذون فيه. وتقدم تفسير التوكل عند قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

ومناسبة هذا الوصف للغرض : أنهم أمروا بالتخلي عن الأنفال ، والرضى بقسمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكل على الله في تعويضه بأحسن منه.

وتقديم المجرور في قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله ، وإما للتعريض بالمشركين ، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام ، قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] فيكون الكلام مدحا للمؤمنين ، وتعريضا بذم المشركين ، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به ، لتوهمهم أنهم إذا فوّتوه فقد أضاعوا خيرا من الدنيا.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

وصفهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاء بإعادة الموصول ، كما أعيد في قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في سورة البقرة [٤] ، وذلك للدلالة على الانتقال ، في وصفهم ، إلى غرض آخر غير الغرض الذي اجتلب الموصول الأول لأجله ، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان : وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها ، ولكنه مجرد المدح ، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في سورة البقرة [٣]. وجيء بالفعلين المضارعين في (يُقِيمُونَ) و (يُنْفِقُونَ) للدلالة على تكرر ذلك وتجدده.

واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة ، التي موصولها خبر عن مبتدأ أن تعتبر خبرا بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة ، ومقتضى الاستعمال في الاخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبرا مستقلا عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى ،

١٩

إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها ، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآئلة إلى معنى قصر الإيمان الكامل على صاحب كل صلة من هذه الصلات ، وعلى صاحب الخبرين ، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه ، فإن أدلة قطعية من أصول الدين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل (الْمُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٢] على إرادة أصحاب الإيمان الكامل.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

جملة مؤكدة لمضمون جملة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) [الأنفال : ٢] إلى آخرها ولذلك فصلت.

وعرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات ، فكان المخبر عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم.

وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)[الأنفال:٢]حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان.

والحق أصله مصدر حق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢].

ويطلق كثيرا ، على الكامل في نوعه ، الذي لا سترة في تحقق ماهية نوعه فيه ، كما يقول أحد لابنه البار به : أنت ابني حقا ، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشدة ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة آثارها ، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع.

ولكل صيغة قصر : منطوق ومفهوم ، فمنطوقها هنا أن الذين جمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقا ، ومفهومها أن من انتفى عنه أحد مدلولات تلك الصلات لم

٢٠