تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

البقرة [٢٣٥] التعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره يريد أن تذكر كلاما دالا كما يقول المحتاج لغيره جئت لأسلم عليك.

قلت : ومن أمثلة التعريض قول القائل ـ حين يسمع رجلا يسب مسلما أو يضربه ـ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فكذلك قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) لم يرد به لازم معنى ألفاظ ولا لازم معنى الكلام ، ولكن أريد به لازم النطق به في ذلك المكان بدون مقتض للإخبار من حقيقة ولا مجاز ولا تمثيل.

والفرق بين التعريض وبين ضرب المثل : أن ضرب المثل ذكر كلام يدل على تشبيه هيئة مضربه بهيئة مورده ، والتعريض ليس فيه تشبيه هيئة بهيئة. فالتعريض كلام مستعمل في حقيقته أو مجازه ، ويحصل به قصد التعريض من قرينة سوقه فالتعريض من مستتبعات التراكيب.

وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب ، فإن الدواب ضعيفة الإدراك ، فإذا كانت صماء كانت مثلا في انتفاء الإدراك ، وإذا كانت مع ذلك بكما انعدم منها ما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها ، فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم ، فقوله : (الصُّمُّ الْبُكْمُ) خبران عن الدواب بمعناهما الحقيقي ، وقوله : (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) خبر ثالث ، وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن (الَّذِينَ) مما يناسب المشبّهين إذ هو اسم موصول بصيغة جمع العقلاء وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله :

خذول تراعي ربربا بخميلة

تناول أطراف البرير وترتدي

وتبسم عن ألمى كأنّ منوّرا

توسط حر الرمل دعص له ندي

و (شَرَّ) اسم تفضيل ، وأصله «أشر» فحذفت همزته تخفيا كما حذفت همزة خير كقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) [المائدة : ٦٠] الآية.

والمراد بالدواب معناه الحقيقي ، وظاهر أن الدابة الصمّاء البكماء أخسّ الدواب.

(عِنْدَ اللهِ) قيد أريد به زيادة تحقيق كونهم ، أشر الدواب بأن ذلك مقرر في علم الله ، وليس مجرد اصطلاح ادعائي ، أي هذه هي الحقيقة في تفاضل الأنواع لا في تسامح العرف والاصطلاح ، فالعرف يعد الإنسان أكمل من البهائم ، والحقيقة تفصل حالات الإنسان فالإنسان المنتفع بمواهبه فيما يبلغه إلى الكمال هو بحق أفضل من العجم ، والإنسان الذي دلّى بنفسه إلى حضيض تعطيل انتفاعه بمواهبه السامية يصير أحط من

٦١

العجماوات.

والمشبهون بالصم البكم هم الذين قالوا (سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا لأنه مما يكفي سماعه في قبوله والعمل به وشبهوا بالبكم في انقطاع الحجة والعجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوا ولا أظهروا عذرا عن عدم قبوله.

ولما وصفهم بانتهاء قبول المعقولات والعجز عن النطق بالحجة أتبعه بانتفاء العقل عنهم أي عقل النظر والتأمل بله عقل التقبل ، وقد وصف بهذه الأوصاف في القرآن كل من المشركين والمنافقين في مواضع كثيرة.

ولعل ما روي عن ابن عباس من قوله إن الآية نزلت في نفر من بني عبد الدار كما تقدم آنفا إنما عنى بهم نزول قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) لأنهم الذين قالوا مقالة تقرب مما جاء في الآية.

وجملة : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) إلخ باعتبار أن الدواب مشبه به الذين قالوا (سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ويجوز أن تكون معطوفة على شبه الجملة في قوله : (كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وقد سكت المفسرون عن موقع إعراب هذه الجملة وهو دقيق والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال ، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد ، فكانوا كالصم ، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كمالا نفسانيا فكانوا كالبكم ، فالمعنى : لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وفق التعلم ، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعقلهم ، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلّا بما يقلب قلوبهم من لطف إلّا هي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم.

و (لَوْ) حرف شرط يقتضي انتفاء مضمون جملة الشرط وانتفاء مضمون جملة الجزاء لأجل انتفاء مضمون الشرط والاستدلال بانتفاء الجزاء على تحقق انتفاء الشرط.

و (في) للظرفية المجازية التي هي في معنى الملابسة ، ومن لطائفها هنا أنها تعبر عن ملابسه باطنية.

٦٢

ولما كان (لو) حرفا يفيد امتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه ، كان أصل معنى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيرا ، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهم كمن لا يسمع.

فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير ، بعلم الله عدم الخير فيهم. ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم ، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم ، وهو القابلية للخير ، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء.

فصار معنى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) لو كان في نفوسهم خير ، وعبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعال نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ ، فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلّق والامتثال لما يسمعونه من الخير.

وحاصل المعنى : لو جبلهم الله على قبول الخير لجعلهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير. فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير. وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق ، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم ، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناس الصفات وأشخاصها ، وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم.

وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسه ، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه ، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخير فأصبح قابلا للإرشاد والهدى ، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيرا حينئذ فأسمعه. فمثل ذلك مثل أبي سفيان ، إذ كان فيما قبل ليلة فتح مكة قائد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأدخل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، قال أبو سفيان : «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا» ثم قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : «وأن تشهد أني رسول الله» فقال : أمّا هذه ففي القلب منها شيء» فلم يكمل حينئذ إسماع الله إياه ، ثم تمّ في نفسه الخير فلم يلبث أن

٦٣

أسلم فأصبح من خيرة المسلمين.

وجملة : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) معطوفة على جملة : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم. فإنهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء ، ارتقى بالإخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير ، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا ، فتولوا وأعرضوا.

وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة ، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك ، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يلقى إليه فاهتدى ، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريّث على الكفر زمنا متفاوت الطول والقصر.

وأعلم أن ليس عطف جملة : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) على جملة : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) بمقصود منه تفرع الثانية على الأولى تفرع القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس ، لأن ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الأقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوبا عربيا ، فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى ، ولا تجمع بينهما إلّا مناسبة المعنى والغرض ، فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، ولو كان النهار موجودا لدرجت الدواجن ، فإنه قد ينتج : لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن ، بواسطة تدرج اللزومات في ذهن المحجوج تقريبا لفهمه ، فإن ذلك بمنزلة التصريح بنتيجة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلة مقدمة قياس ثان فتطوى النتيجة لظهورها اختصارا ، وهذا ليس بأسلوب عربي إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدّم وتال ، ثم يستدرك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم كقول أبي بن سلمى بن ربيعة يصف فرسه :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

وقول المعري :

٦٤

ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم

رعايا ولكن ما لهنّ دوام

أو بذكر مساوي نقيض المقدم كقول عمرو بن معديكرب :

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ولكن الرماح أجرت

فإن إجرار اللسان يمنع نطقه ، فكان في معنى ولكن الرماح تنطقني. والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء.

واعلم أن (لو) الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل (لو) المشتهرة بين النحاة بلو الصهيبية (بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول عمر بن الخطاب (١) : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» وذلك أن تستعمل (لو) لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط حينئذ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمون عند حصلها الجزاء لو كان ذلك مما يحتمل التخلف ، فقوله : «لو لم يخف الله لم يعصمه» المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنه من غضب الله ، فليس المراد أنه خاف فعصى ، ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعواد الشجر كله أقلاما ، لا أن كلمات الله تنفد إن لم تكن الأشجار أقلاما والأبحر مدادا ، وكذا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان.

وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له (لو) وتصير (لو) في مجرد

__________________

(١) شاعت نسبة هذا الكلام إلى عمر بن الخطاب ولم نظفر بمن نسبه إليه سوى أن الشمني ذكر في شرحه على «مغني اللبيب» أنه وجد بخط والده أنه رأى أبا بكر ابن العربي نسب هذا إلى عمر ، وذكر علي قاري في كتابه في الأحاديث المشهورة عن السخاوي أن ابن حجر العسقلاني ظفر بهذا في كتاب «مشكل الحديث» لابن قتيبة منسوبا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريب منه في حق سالم مولى أبي حذيفة من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سالما شديد الحب لله عزوجل لو كان لا يخاف الله ما عصاه أخرجه أبو نعيم في «الحلية».

٦٥

الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل وستجيء زيادة في استعمال (لو) الصهيبية عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) في هذه السورة [٤٢].

فهكذا تقرير التلازم في قوله تعالى هنا : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتولوا ، لأن توليهم ثابت ، بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو سمعهم الله الإسماع المخصوص ، وهو إسماع الإفهام ، فكيف إذا لم يسمعوه.

وجملة : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) حال من ضمير تولوا وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن إعراضهم أي إعراضا لا قبول بعده ، وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال ، وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل مصعب بن عمير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).

إعادة لمضمون قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ٢٠] الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك.

فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى ، ثم بيان أن حق المؤمنين الكمّل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين ، وضرب لهم مثلا بكراهتهم الخروج إلى بدر ، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة ؛ لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال ، وجعل ذلك كله إقناعا لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عاد إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون ، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء ، فإن في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية.

واختير في تعريفهم ، عند النداء ، وصف الإيمان ليومئ إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل ، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا

٦٦

دعاهم.

والاستجابة : الإجابة ، فالسين والتاء فيها للتأكيد ، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معيّن أو في الأعم ، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) في آل عمران [١٩٥].

وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله : (وَلِلرَّسُولِ) للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة ، تنبيها على أن استجابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون إلّا بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائه ، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما.

ألا ترى أنه لم يعد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى واحد ، وهو الطاعة ، وذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) [آل عمران : ١٧٢] فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أحد ، فهي استجابة لدعوة معينة.

وإفراد ضمير (دَعاكُمْ) لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة ، كما أفرد الضمير في قوله : (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] وقد تقدم آنفا.

وليس قوله : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) قيدا للأمر باستجابة ، ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلّا إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم.

واللام في (لِما يُحْيِيكُمْ) لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية.

والإحياء تكوين الحياة في الجسد ، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويستعار الإحياء تبعا لاستعارة الحياة للصفة أو القوة التي بها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي ، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية ، قال تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) وقد تقدم في سورة الأنعام [١٢٢].

والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت. وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة

٦٧

واستبقائها بدفع العوادي عنها (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢].

والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت ، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان ، فيعم كل ما به ذلك الكمال من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم ، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع ، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة ، فالشجاعة حياة للنفس ، والاستقلال حياة ، والحرية حياة ، واستقامة أحوال العيش حياة.

ولما كان دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمر الله الأمة بالاستجابة له ، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعا حقيقة بطلب القدوم ، أم طلب عملا من الأعمال ، فلذلك لم يكن قيد (لِما يُحْيِيكُمْ) مقصودا لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدعوهم إلّا وفي حضورهم لديه حياة لهم ، ويكشف عن هذا المعنى في قيد (لِما يُحْيِيكُمْ) ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بن المعلى ، قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال : ألم يقل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) ثم قال : ألا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب ، فوقفه على قوله : (إِذا دَعاكُمْ) يدل على أن (لِما يُحْيِيكُمْ) قيد كاشف وفي «جامع الترمذي» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أبيّ بن كعب فقال : يا أبيّ ـ وهو يصلي ـ فالتفت أبيّ ولم يجبه وصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال : السلام عليك يا رسول الله ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وعليك السلام ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك ـ فقال : يا رسول الله إني كنت في الصلاة ـ فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ـ قال : بلى ولا أعود إن شاء الله» الحديث بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى ـ قال ابن عطية : وهو مروي أيضا من طريق مالك بن أنس (يريد حديث أبيّ بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي) قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق ، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيه على هذه الخصوصية لدعاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

٦٨

مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمون هذه الجملة مرتبطا بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تكمّله ، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف.

وافتتحت الجملة باعلموا ؛ للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعده ، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أو طلب فهم بأعلم أو تعلم لفتا لذهن المخاطب.

وفيه تعريض غالبا بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلّا علم المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام ، قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ١٩٦] ـ وقال ـ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [الحديد : ٢٠] الآية وقال في الآية ، بعد هذه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٢٥] وفي الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبدا له «أعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود: أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» وقد يفتتحون بتعلّم أو تعلمنّ قال زهير:

قلت تعلّم أن للصيد غرة

وإلّا تضيّعها فإنك قاتله

وقال زياد بن سيّار :

تعلّم شفاء النفس قهر عدوها

فبالغ بلطف في التحيّل والمكر

وقال بشر بن أبي خازم :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

و (أَنَ) بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت ، والمصدر المؤول يسدّ مسدّ مفعولي علم مع إفادة (أن) التأكيد.

والحول ، ويقال الحؤل : منع شيء اتصالا بين شيئين أو أشياء قال تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) [هود : ٤٣].

وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان ، والمعنى يحول شأن من شئون صفاته ، وهو تعلق صفة العلم بالاطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرء أو بصرفه عن فعله ، وليس المراد بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر ، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم ، بل المراد عقل

٦٩

المرء وعزمه ، وهو إطلاق شائع في العربية.

فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى: واعلموا أن علم الله يخلص بين المرء وعقله خلوص الحائل بين شيئين فإنه يكون شديد الاتصال بكليهما.

والمراد ب (الْمَرْءِ) عمله وتصرفاته الجسمانية.

فالمعنى : أن الله يعلم عزم المرء ونيّته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحه ، فشبه علم الله بذلك بالحائل بين شيئين في كونه أشد اتصالا بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

وجيء بصيغة المضارع (يَحُولُ) للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر ، وهذا في معنى قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] قاله قتادة.

والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس : من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتنصل منها ، أو التستر في مخالفته ، وهو معنى قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : ٢٣٥].

وبهذا يظهر وقع قوله : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عقبه فكان ما قبله تحذيرا وكان هو تهديدا وفي «الكشاف» ، و «ابن عطية» : قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرء موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره : إن أجل الله يحول بين المرء وقلبه ، أي بين عمله وعزمه قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [المنافقون : ١٠] الآية.

وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة : (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) إلّا تعلق شأن من شئون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما ، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر ، وأن كلمة (بَيْنَ) تقتضي شيئين فما يكون تحول إلّا إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائع ، فإن ذلك تحويل وليس حئولا.

وجملة : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عطف على (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) والضمير الواقع اسم (أن) ضمير اسم الجلالة ، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته ، ولإجراء أسلوب

٧٠

الكلام على أسلوب قوله : (أَنَّ اللهَ يَحُولُ) إلخ.

وتقديم متعلق (تُحْشَرُونَ) عليه لإفادة الاختصاص أي : إليه إلى غيره تحشرون ، وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإ أو مخبإ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشور إليه غير الله بأبدع أسلوب ، وليس الاختصاص لرد اعتقاد ، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون ، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

عقب تحريض جميعهم على الاستجابة ، المستلزم تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين ، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لم يقوّموا عوج قومهم ، كيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم ، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره.

فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة.

وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء ، واختلال السير ، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ، قال تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [٩١].

فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم ، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه ، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان ، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا ، فإن هم تركوا ذلك ، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره ، حتى يعم أو يكاد ، فيعسر اقتلاعه من النفوس ، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم ، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح ، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل ، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم.

٧١

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله تعالى في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» وفي «صحيح مسلم» عن زينب بنت جحش أنها قالت : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ـ قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم».

وحرف (لا) في قوله : (لا تُصِيبَنَ) نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت ل (فِتْنَةً) بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج :

حتى إذا جن الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

أي مقول فيه. وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء ـ من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيها له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصود تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، فإنه في الظاهر المتكلم نفسه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله تعالى : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية.

ويجوز أن تكون جملة : (لا تُصِيبَنَ) نهيا مستأنفا تأكيدا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها من لم يكن من الظالمين.

ولا يصح جعل جملة : (لا تُصِيبَنَ) جوابا للأمر في قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) لأنه يمنع منه قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) وإنما كان يجوز لو قال : «لا تصيبنكم» كما يظهر

٧٢

بالتأمل ، وقد أبطل في «مغني اللبيب» جعل (لا) نافية هنا ، ورد على الزمخشري تجويزه ذلك.

و (خَاصَّةً) اسم فاعل مؤنث لجريانه على (فِتْنَةً) فهو منتصب على الحال من ضمير (تُصِيبَنَ) وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير.

وافتتاح جملة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) بفعل الأمر بالعلم للاهتمام لقصد شدة التحذير ، كما تقدم آنفا في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره ، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

عطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه ، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتهم ، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر ، بعد الضعف والقلة والخوف ، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها ، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقي أعداؤهم بأسهم ، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك ، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا ، فالخطاب للمؤمنين يومئذ ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساق لهم هذه الخيرات كلها ، وأنه سيكون هذا أثره فيهم كلما احتفظوا عليه كفوه من قبل سؤالهم ، ومن قبل تسديد حالهم ، فكيف لا يكونون بعد ترفّه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوبا.

وفعل (وَاذْكُرُوا) مشتق من الذكر ـ بضم الدال ـ وهو التذكر لا ذكر اللسان ، أي تذكروا.

و (إِذْ) اسم زمان مجرد عن الظرفية ، فهو منصوب على المفعول به ، أي اذكروا زمن كنتم قليلا.

وجملة : (أَنْتُمْ قَلِيلٌ) مضاف إليها (إِذْ) ليحصل تعريف المضاف ، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم.

وأخبر ب (قَلِيلٌ) وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلا وكثيرا قد يجيئان غير

٧٣

مطابقين لما جريا عليه ، كما تقدم عند قوله تعالى : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦].

والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) في سورة الأعراف [٥٦] فالتعريف شبيه بتعريف الجنس ، أو أريد بها أرض مكة ، فالتعريف للعهد ، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلا مستضعفين بين المشركين ، فإنهم كانوا حينئذ طائفة قليلة العدد قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصر موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فآواهم الله بأن صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيّض الأنصار أهل العقبة الأولى وأهل العقبة الثانية ، فأسلموا وصاروا أنصارا لهم بيثرب ، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فآواهم بها ، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فآواهم بها ، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر ، فالله الذي يسّر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمّل ، أفلا يكون ناصرا لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعوا للنصر بأسبابه ، وأ فلا يستجيبونهم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم أقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلا مستضعفين.

والتخطف شدة الخطف ، والخطف : الأخذ بسرعة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠] وهو هنا مستعار للغلبة السريعة لأن الغلبة شبه الأخذ ، فإذا كانت سريعة أشبهت الخطف ، قال تعالى : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٢٧] أي يأخذكم أعداؤكم بدون كبرى مشقة ، ولا طول محاربة إذ كنتم لقمة سائغة لهم ، وكانوا أشد منكم قوة ، لو لا أن الله صرفهم عنكم ، وقد كان المؤمنون خائفين في مكة ، وكانوا خائفين في طرق هجرتيهم ، وكانوا خائفين يوم بدر ، حتى أذاقهم الله نعمة الأمن من بعد النصر يوم بدر.

و (النَّاسُ) مراد بهم ناس معهودون وهم الأعداء ، المشركون من أهل مكة وغيرهم ، أي طائفة معروفة من جنس الناس من العراب الموالين لهم.

وما رزقهم الله من الطيبات : هي الأموال التي غنموها يوم بدر.

والإيواء : جعل الغير آويا ، أي راجعا إلى الذي يجعله ، فيؤول معناه إلى الحفظ والرعاية.

٧٤

والتأييد : التقوية أي جعل الشيء ذا أيد ، أي ذا قدرة على العمل ، لأن اليد يكنى بها عن القدرة قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧].

وجملة : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) إدماج بذكر نعمة توفير الرزق في خلال المنة بنعمة النصر وتوفير العدد بعد الضعف والقلة ، فإن الأمن ووفرة العدد يجلبان سعة الرزق.

ومضمون هذه الآية صادق أيضا على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة ، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة ، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا ، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حنين ، ونصرهم على الروم يوم تبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية ، وعلى الروم في مصر ، وفي برقة ، وفي إفريقية ، وفي بلاد الجلالقة ، وفي بلاد الفرنجة من أوروبا ، فلما زاغ المسلمون وتفرقوا أخذ أمرهم يقف ثم ينقبض ابتداء من ظهور الدعوة العباسية ، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية.

وقد نبههم الله تعالى بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد ، وحين نسوه أخذ أمرهم في تراجع ولله عاقبة الأمور.

ولم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم ، وفي الحديث ، عن حذيفة بن اليمان قال : «قلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر»؟ ـ قال : نعم ـ «قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : نعم وفيه دخن» الحديث ، وفي الحديث الآخر «بدئ هذا الدين غريبا وسيعود كما بدئ».

[٢٧ ، ٢٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي. بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه ، ومناسبته لما قبله ظاهرة وإن لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير.

وذكر الواحدي في «أسباب النزول» وروى جمهور المفسرين وأهل السير ، عن

٧٥

الزهري والكلبي ، وعبد الله بن أبي قتادة ، أنها نزلت في أبي لبابة (١) بن عبد المنذر الأنصاري لما حاصر المسلمون بني قريظة ، فسألت بنو قريظة الصلح فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنزلون على حكم سعد بن معاذ» فأبوا وقالوا : «أرسل إلينا أبا لبابة» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أبا لبابة وكان ولده وعياله وماله عندهم ، فلما جاءهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد ، فأشار أبو لبابة بيده على حلقه : أنّه الذبح ، ثم فطن أنه قد خان الله ورسوله فنزلت فيه هذه الآية ، وهذا الخبر لم يثبت في الصحيح ، ولكنه اشتهر بين أهل السير والمفسرين ، فإذا صح ، وهو الأقرب كانت الآية مما نزل بعد زمن طويل من وقت نزول الآيات التي قبلها ، المتعلقة باختلاف المسلمين في أمر الأنفال فإن بين الحادثتين نحوا من ثلاث سنين ويقرب هذا ما أشرنا إليه آنفا من انتفاء وقوع خيانة لله ورسوله بين المسلمين.

والخون والخيانة : إبطال ونقض ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض ، قال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] والخيانة ضد الوفاء قال الزمخشري : «وأصل معنى الخون النقص ، كما أن أصل الوفاء التمام ، ثم استعمل الخون في ضد الوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه» أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد ، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال : أوفى بما عاهد عليه.

فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورسوله ، فكما حذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية.

وتشمل الخيانة كل معصية خفية ، فهي داخلة في (لا تَخُونُوا) ، لأن الفعل في سياق النهي يعم ، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي ، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال ، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى ليتنفلوا منهم ، تعين تحذيرهم من الغلول ، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها.

وفعل «الخيانة» أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون ، وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه ، يقال : خان فلانا أمانته أو عهده ، وأصله أنه نصب على نزع الخافض ، أي خانه في عهده أو في أمانته ، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء ،

__________________

(١) قيل : اسمه رفاعة ، وقيل : مروان ، وقيل : هارون ، وقيل : غير ذلك ، واشتهر بكنيته.

٧٦

واقتصر على المخون فيه في قوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم.

والنهي عن خيانة الأمانة هنا : إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة : إن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ من الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسرا ، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء ، إذ هو مبعوث وليس بمستشار.

وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة ، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي ، إلى ذكر المفعول المتسع فيه ، لقصد تبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة ، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس ، فما يكون نقضا له يكون قبيحا فظيعا ، ولأجل هذا لم يقل : وتخونوا الناس في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز.

والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن ؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها ، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه ، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة ، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها ، بمنزلة قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] دون : ولا تقتلوا النفس.

وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين ، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها ، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها ، وقد حذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إضاعتها والتهاون بها ، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين ، ففي «صحيح البخاري» عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين : رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت على جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ، ثم ينام النّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ، وما في قلبه مثقال حبّه خردل من إيمان».

(الوكت سواد يكون في البسر إذا قارب أن يصير رطبا ، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل والخدمة ، ونفط تقرّح ومنتبرا منتفخا) ، وقد جعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، وحسبك من رفع شأن الأمانة :

٧٧

أن كان صاحبها حقيقا بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين ، أمانة لهم ونصح ، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة «ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لعهدت إليه لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له إنه أمين هذه الأمة».

وقوله : (وَتَخُونُوا) عطف على قوله : (لا تَخُونُوا) فهو في حيز النهي ، والتقدير : ولا تخونوا أماناتكم ، وإنما أعيد فعل (تَخُونُوا) ولم يكتف بحرف العطف ، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف ، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فإن خيانتهم الله ورسوله نقض الوفاء لهما بالطاعة والامتثال ، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه.

وجملة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال من ضمير (تَخُونُوا) الأول والثاني ، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي ، أو تشنيع المنهي عنه لأن النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد ، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنع ، فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [المؤمنون : ١١٧] ـ وقوله ـ (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها ، لأن ذلك قليل الجدوى ، فإن كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم.

ولك أن تجعل فعل (تَعْلَمُونَ) منزلا منزلة اللازم ، فلا يقدّر له مفعول ، فيكون معناه «وأنتم ذوو علم» أي معرفة حقائق الأشياء ، أي وأنتم علماء لا تجهلون الفرق بين المحاسن والقبائح ، فيكون كقوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في سورة البقرة [٢٢].

ولك أن تقدر له هنا مفعولا دل عليه قوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فإن المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة ، بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية.

وابتداء جملة : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) بفعل (اعْلَمُوا) للاهتمام كما تقدم آنفا عند قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] ـ وقوله ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٢٥] وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرء حب المال وهي خيانة الغلول وغيرها ، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام.

٧٨

وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة ، فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لابنائهم من بعدهم ، وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير ، ونجده في القرآن ، قيل إن هاته الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة.

وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصرا ادعائيا لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة.

وجعل نفس «الأموال والأولاد» فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما ، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها ، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة.

وعطف قوله : (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) على قوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

استيناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] الآية وما بعده من الآيات إلى هنا.

وافتتح بالنداء للاهتمام ، كما تقدم آنفا.

وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفا في نظائره ، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه ، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى.

ففعل الشرط مراد به الدوام ، فإنهم كانوا متقين ، ولكنهم لما حذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك.

ولقد بدا حسن المناسبة إذ رتبت على المنهيات تحذيرات من شرور وأضرار من قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) [الأنفال : ٢٢] ـ وقوله ـ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) [الأنفال : ٢٥] الآية ، ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل.

والفرقان أصله مصدر كالشكران والغفران والبتان ، وهو ما يفرق أي يميز بين شيئين

٧٩

متشابهين ، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر ، لأنه يفرق بين حالين كانا محتملين قبل ظهور النصر ، ولقب القرآن بالفرقان ؛ لأنه فرّق بين الحق والباطل ، قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه ، فقد فسّر بالنصر ، وعن السدي ، والضحاك ، ومجاهد ، الفرقان المخرج ، وفي «أحكام ابن العربي» ، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكا عن قوله تعالى : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) قال مخرجا ثم قرأ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق : ٣] ، وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا ، فيشمل ذلك أحوال النفس : من الهداية ، والمعرفة ، والرضى ، وانشراح القلب ، وإزالة الحقد والغل والحسد بينهم ، والمكر والخداع وذميم الخلائق.

وقد أشعر قوله : (لَكُمْ) أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد ، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة ، حتى يكونوا مطمئني البال منشر حي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا : منصورين ، غالبين ، بصراء بالأمور ، كلمة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد ، وذلك هو ملاك استقامة الأمم ، فاختيار الفرقان هنا ، لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيره مؤداه في هذا الغرض وذلك من تمام الفصاحة.

والتقوى تشمل التوبة ، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى. ومفعول (يَغْفِرْ لَكُمْ) ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب ، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب. وهو الصغائر التي عبر عنها باللمم ، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبة لها ، وقيل التكفير الستر في الدنيا ، والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة ، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها ، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال.

وقوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ

٨٠