تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

المشركين إلى جهاتها ، فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه ، وقد قيل : الأمر بالضرب للمسلمين ، وهو بعيد ، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة.

وجملة : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) تعليل لأن الباء في قوله (بِأَنَّهُمْ) باء السببية فهي تفيد معنى التعليل ولهذا فصلت الجملة.

والمخاطب بهذه الجملة : إما الملائكة ، فتكون من جملة الموحى به إليهم اطلاعا لهم على حكمة فعل الله تعالى. لزيادة تقريبهم ، ولا يريبك إفراد كاف الخطاب في اسم الإشارة لأن الأصل في الكاف مع اسم الإشارة الإفراد والتذكير ، وإجراؤها على حسب حال المخاطب بالإشارة جائز وليس بالمتعين ، وإما من تبلغهم الآية من المشركين الأحياء بعد يوم بدر ، ولذا فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله.

والقول في إفراد الكاف هو هو إذ الخطاب لغير معين والمراد نوع خاص ، ويجوز أن يكون المخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمشار إليه ما أمروا به من ضرب الأعناق وقطع البنان.

وإفراد اسم الإشارة بتأويله بالمذكور ، وتقدم غير مرة.

والمشاقة العداوة بعصيان وعناد ، مشتقة من الشّق ـ بكسر الشين ـ وهو الجانب ، هو اسم بمعنى المشقوق أي المفرق ، ولما كان المخالف والمعادي يكون متباعدا عن عدوه فقد جعل كأنه في شق آخر ، أي ناحية أخرى ، والتصريح بسبب الانتقام تعريض للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله ورسوله ، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا العقاب العظيم فيوشك ما هو مخالفة للرسول بدون مشاقة أن يوقع في عذاب دون ذلك ، وخليق بأن يكون ضدها وهو الطاعة موجبا للخير.

وجملة : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل يعم كل من يشاقق الله ويعم أصناف العقائد.

والمراد من قوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الكناية عن عقاب المشاقين وبذلك يظهر الارتباط بين الجزاء وبين الشرط باعتبار لازم الخبر وهو الكناية عن تعلق مضمون ذلك الخبر بمن حصل منه مضمون الشرط ، كقول عنترة :

إن تغد في ، دوني القناع فإنني

طبّ بأخذ الفارس المستلئم

يريد فأني لا يخفى عليّ من يستر وجهه مني وأني أتوسّمه وأعرفه.

٤١

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

الخطاب في (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) للمشركين الذين قتلوا ، والذين قطعت بنانهم أي يقال لهم هذا الكلام حيث تضرب أعناقهم وبنانهم بأن يلقى في نفوسهم حينما يصابون إن أصابتهم كانت لمشاقتهم الله ورسوله ، فإنهم كانوا يسمعون توعد الله إياهم بالعذاب والبطش كقوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦] وقوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الأنفال : ٣٤] ونحو ذلك وكانوا لا يخلون من اختلاج الشك نفوسهم ، فإذا رأوا القتل الذي لم يألفوه ، ورأى الواحد منهم نفسه مضروبا بالسيف ، ضربا لا يستطيع له دفاعا ، علم أن وعيد الله تحقق فيه ، فجاش في نفسه أن ذلك لمشاقته الله ورسوله ، ولعلهم كانوا يرون إصابات تصيبهم من غير مرئي ، فجملة : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) مقول قول محذوف تقديره : قائلين ، هو حال من ضمير (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢].

واسم الإشارة راجع إلى الضرب المأخوذ من قوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال : ١٢] وهو مبتدأ وخبره محذوف ، فإما أن يقدر ذلك هو العقاب الموعود ، وإما أن يكون مما دل عليه قوله : (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال:١٣] فالتقدير ذلك بأنكم شاققتم الله ورسوله.

وتفريع (فَذُوقُوهُ) على جملة : (ذلِكُمْ) بما قدر فيها تفريع للشّماتة على تحقيق الوعيد ، فصيغة الأمر مستعملة في الشماتة والإهانة ، وموقع (فَذُوقُوهُ) اعتراض بين الجملة والمعطوف في قوله : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) ، والاعتراض يكون بالفاء كما في قول النابغة :

ضباب بني الطّوالة فاعلميه

ولا يغررك نأيي واغترابي

قالوا وفي قوله : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) للعطف على المقول فهو من جملة القول ، والتعريف في الكافرين للاستغراق وهو تذييل.

والمعنى : ذلكم ، أي ضرب الأعناق ، عقاب الدنيا ، وأن لكم عذاب النار في الآخرة مع جميع الكافرين ، والذوق مجاز في الإحساس والعلاقة الإطلاق.

وقوله : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) عطف على الخبر المحذوف أي ذلكم العذاب وأن عذاب النار لجميع الكافرين.

٤٢

[١٥ ، ١٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

لمّا ذكّر الله المسلمين بما أيدهم يوم بدر بالملائكة والنصر من عنده ، وأكرمهم بأن نصرهم على المشركين الذين كانوا أشد منهم وأكثر عددا وعددا ، وأعقبه بأن أعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين به اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والقرار ، فالجملة معترضة بين جملة : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال : ١٢] وبين جملة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) [الأنفال : ١٧] الآية وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والإقدام والثبات عند اللقاء ، وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلّا تقوية ، قال الحصين بن الحمام :

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي

حياة مثل أن أتقدّما

وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قتال بدر ، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة ، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدّرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا ، والصحيح أنها نزلت بعد وقعة بدر كما سيأتي.

واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب.

فالجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة واضحة ، وسيأتي عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) في هذه السورة [٤٥] ، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير.

والزحف أصله مصدر زحف من باب منع ، إذا انبعث من مكانه متنقلا على مقعدته يجر رجيله كما يزحف الصبي.

ثم أطلق على مشي المقاتل إلي عدوه في ساحة القتال زحف ؛ لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة ، فكأنه يزحف إليه.

ويطلق الزحف على الجيش الدهم ، أي الكثير عدد الرجال ، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر ، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زحوف.

٤٣

وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ (زَحْفاً) في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرب وجعله وصفا لتلاحم الجيشين عند القتال ، لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيبا ، ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهم الكثير العدد ، وجعله وصفا لذات الجيش.

وعلى كلا التقديرين فهو : إما حال من ضمير (لَقِيتُمُ) وإما من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فرارا إذا التحم الجيشان ، سواء جعلت زحفا حالا من ضمير (لَقِيتُمُ) أو من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر.

وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالا من ضمير لقيتم كان نهيا عن الفرار إذا كان المسلمون جيشا كثيرا ، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي ، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ـ إلى ـ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦] ، وإن جعل حالا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا ، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب ، ويؤول إلى معنى لا تولوهم الأدبار في كل حال.

وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر ، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفا ، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر ، وما هذه الآية إلّا جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شرع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلا كما كان يوم بدر ، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لا قوا العدو.

فأما يوم بدر فلم يكن حكم مشروع في هذا الشأن ، فإن المسلمين وقعوا في الحرب بغتة وتولى الله نصرهم.

وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم ، وروي هذا عن ابن عباس ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وجمهور أهل العلم ، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصا بآية (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً ـ إلى قوله ـ بِإِذْنِ اللهِ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦].

والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ

٤٤

يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ـ إلى قوله ـ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) فتكون آيات (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ـ إلى قوله ـ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦] مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وعطاء ، والحسن ، ونافع ، وقتادة ، والضحاك : أن هذه الآية نزلت قبل وقعة بدر ، وقالوا إن حكمها نسخ بآية الضعفاء آية (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) [الأنفال : ٦٥] الآية وبهذا قال أبو حنيفة ، ومآل القولين واحد بالنسبة لما بعد يوم بدر ، ولذلك لم يختلفوا في فقه هذه الآية إلّا ما روي عن عطاء كما سيأتي ، والصحيح هو الأول كما يقتضيه سياق انتظام آي السورة ، ولو صح قول أصحاب الرأي الثاني للزم أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل الشروع في القتال يوم بدر ثم نزلت سورة الأنفال فألحقت الآية بها ، وهذا ما لم يقله أحد من أصحاب الأثر.

وذهب فريق ثالث : إلى أن قوله تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) الآية محكم عام في الأزمان ، لا يخصص بيوم بدر ولا بغيره ، ولا يخص بعدد دون عدد ، ونسب ابن الفرس ، عن النحاس ، إلى عطاء بن أبي رباح ، وقال ابن الفرس قال أبو بكر بن العربي هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث ، ولم يذكر أين قال ابن العربي ذلك ، وأنا لم أقف عليه.

ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين ، في غزواتهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين ، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار ، وقد انكشف المسلمون يوم أحد فعنفهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥] وما عفا عنهم إلّا بعد أن استحقوا الإثم ، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) إلى قوله ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في سورة براءة [٢٥ ـ ٢٧] وذكر التوبة يقتضي سبق الإثم.

ومعنى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) لا توجهوا إليهم أدباركم ، يقال : ولّى وجهه فلانا إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)[البقرة : ١٤٤] فيعدى فعل ولّى إلى مفعولين بسبب التضعيف ، (ومجرده ولي) إذا جعل شيئا واليا أي قريبا فيكون ولّى المضاعف مثل قرب المضاعف ، فهذا نظم هذا التركيب.

٤٥

و (الأدبار) جمع دبر ، وهو ضدّ قبل الشيء وجهه ، وما يتوجه إليك منه عند إقباله على شيء وجعله أمامه ، ودبره ظهره وما تراه منه حين انصرافه وجعله إياك وراءه ، ومنه يقال استقبل واستدبر وأقبل وأدبر ، فمعنى توليتهم الأدبار صرف الأدبار إليهم ، أي الرجوع عن استقبالهم ، وتولية الأدبار كناية عن الفرار من العدو بقرينة ذكره في سياق لقاء العدو ، فهو مستعمل في لازم معناه مع بعض المعنى الأصلي ، وإلّا فإن صرف الظهر إلى العدو بعد النصر لا بد منه وهو الانصراف إلى المعسكر ، إذ لا يفهم أحد النهي عن إدارة الوجه عن العدو ، وإلّا للزم أن يبقى الناس مستقبلين جيش عدوهم ، فلذلك تعين أن المفاد من قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) النهي عن الفرار قبل النصر أو القتل.

وعبر عن حين الزحف بلفظ اليوم في قوله (يَوْمَئِذٍ) أي يوم الزحف أي يولهم يوم الزحف دبره أي حين الزحف.

ومن ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فئة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها.

والمستثنى يجوز أن يكون ذاتا مستثنى من الموصول في قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) والتقدير : إلّا رجلا متحرفا لقتال ، فحذف الموصوف وبقيت الصفة ، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلّا في حال تحرفه لقتال.

و (التحرف) الانصراف إلى الحرف ، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدول إلى أحد جوانبه ، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه.

واللام للتعليل أي إلّا في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال ، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم ، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر ، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني ، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ ، وقال عمرو بن معديكرب :

ولقد أجمع رجليّ بها

حذر الموت وإني لفرور

ولقد أعطفها كارهة

حين للنفس من الموت هرير

كل ما ذلك مني خلق

وبكل أنا في الروع جدير

والتحيز طلب الحيز فيعل من الحوز ، فأصل إحدى ياءيه الواو ، فلما اجتمعت الواو

٤٦

والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ، ثم اشتقوا منه تحيّز ، فوزنه تفيعل وهو مختار صاحب «الكشاف» جريا على القياس بقدر الإمكان ، وجوّز التفتازاني أن يكون وزنه تفعّل بناء على اعتباره مشتقا من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغام وهي الحيز ، ونظّره بقولهم : «تديّر» بمعنى الإقامة في الدار ، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جمعت على دور ، إلّا أنه لما كثر في جمعها ديار وديرة عوملت معاملة ما عينه ياء ، فقالوا من ذلك تديّر بمعنى أقام في الدار وهو تفعّل من الدار ، واحتج بكلام ابن جني والمرزوقي في «شرح الحماسة» ، يعني ما قال ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول جابر بن حريش :

إذ لا تخاف حدوجنا قذف النّوى

قبل الفساد إقامة وتديرا

«التدير تفعّل من الدار وقياسه تدور إلّا أنه لما كثر استعمالهم ديار أنسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسّا وألين مسّا فاجتروا عليها فقالوا تدير» وما قال المرزوقي «الأصل في تدير الواو ولكنهم بنوه على ديار لإلفهم له بكثرة تردده في كلامهم».

فمعنى (مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم.

والفئة الجماعة من الناس ، وقد تقدم في سورة البقرة [٢٤٩] في قوله : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها من يحتاج إلى إصلاح أمره أو من عرض له ما يمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم ، فهو تولّ لمقصد القتال ، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار ، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى ، وكذلك القفول إلى مقر أمير المصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أمير الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء ، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية ، وقتل هو ومن معه من المسلمين ، قال عمر بن الخطاب : هلّا تحيّز إليّ فأنا فئته.

و (باءَ) رجع. والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابسا لغضب الله تعالى عليه. ومناسبة (باء) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البوء الذي باءه. وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا ، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم ، وهذا يدل على أن

٤٧

توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة. فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف.

والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة ، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال ، ولو كانوا أقل من جيش المشركين ، فإمّا أن ينتصروا ، وإمّا أن يتشهدوا ، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولا ، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير ، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم ، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات ، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو ، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم ، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو ، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى ، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال : «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف». ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين. وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش ، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترك قتالهم ، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره ، إذا أمن أن يلحق به العدو ، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به ، فذلك لا يسمى تولية أدبار ، بل هو رأي ومصلحة ، وهذا عندي هو محمل ما روى أبو داود والترمذي ، عن عبد الله بن عمر : أنه كان في سرية بعثها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال «فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون ، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون (أي الذين يكرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر ، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعا إليها عكر أو اعتكر) وأنا فئة المسلمين» يتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ـ قال ابن عمر ـ فدنونا فقبلنا يده فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين ، ولكنه كان انسلالا لينحازوا

٤٨

إلى المدينة فتلك فئتهم.

وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء ؛ لأن الفرار حينئذ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل ، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم ، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم ، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات ، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء ، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للاحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة. وأما آية (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] فقد بينت حكم العدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين ، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله : لأنه ظاهر الكتاب والحديث فيما نقله ابن الفرس.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال : ١٢] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره ـ والأكثر أن يكون شرطا فتكون رابطة لجوابه ، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقطع أيديهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم ، وإلى هذا يشير كلام صاحب «الكشاف» هنا وتبعه صاحب «المفتاح» في آخر باب النهي.

ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عددا وعدة ، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول ، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلا من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلا وتوجيها لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار. ولأمرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال ٤٦] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم ، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار ، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين ، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد : (إِنَ

٤٩

الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥].

وإذ قد تضمنت الجملة إخبارا عن حالة أفعال فعلها المخاطبون ، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضرب سيوف المسلمين ، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة ، وذوي شوكة وشكّة ، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صوريا ، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعل الله تعالى الخارق للعادة ، فالمنفي هو الضرب الكائن سبب القتل في العادة ، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذ معجزة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامة لأصحابه ، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر ، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل ، في جاهلية أو إسلام ، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا. وليس السياق لتعليم العقيدة الحق.

وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه ، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلا فلذلك صح النفي في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) مع كون القتل حاصلا ، وإنما المنفي كونه صادرا عن أسبابهم.

ووجه الاستدراك المفاد ب (لكِنَ) أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادرا عن المخاطبين فكان السامع بحيث يتطلب أكان القتل حقيقة أم هو دون القتل ، ومن كان فاعلا له ، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ).

وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) دون أن يقال ولكن قتلهم الله ، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص ، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي ، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمّا عندهم تعجيل العلم به.

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

استطراد بذكر تأييد إلهي آخر لم يجر له ذكر في الكلام السابق ، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها

٥٠

المشركين ثم قال : «شاهت الوجوه» ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال : شدوا فكانت الهزيمة على المشركين ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا ، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة ، وهذا أصح الروايات ، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر ، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة ، فالخطاب في قوله : (رَمَيْتَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكته اليد ، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فعل أو قول كما في قول النابغة :

رمى الله في تلك الأكف الكوانع

أي أصابها بما يشلها ـ وقول جميل :

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغر من أنيابها بالقوادح

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) [النور : ٦] فيجوز أن يكون (رَمَيْتَ) الأول وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله ، ويكون قوله : (إِذْ رَمَيْتَ) مستعملا في معناه الحقيقي ، وفي «القرطبي» عن ثعلب أن المعنى وما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ، وفيه عن أبي عبيدة أن (رميت) الأول والثاني ، و (رمى) مستعملة في معانيها الحقيقية ، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله : (إِذْ رَمَيْتَ) هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفيا للرمي الحقيقي وجعل (إذ رميت) للرمي المجازي.

وقوله : (إِذْ رَمَيْتَ) زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور ، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد ، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غير الله ، لم يكن نفي ذلك التأثير ، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجا إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصلا منه ، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال ، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالا لاحتمال

٥١

المجاز في النفي بأن يحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار ، كقول عباس بن مرداس :

فلم أعط شيئا ولم أمنع

أي شيئا مجديا ، فدل قوله : (إِذْ رَمَيْتَ) على أن المراد بالنفي في قوله : (وَما رَمَيْتَ) هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) لأن الرمي واقع من يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، علم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) كالقول في (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ).

وقرأ نافع والجمهور (وَلكِنَ) بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بسكون النون فيهما.

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

عطف على محذوف يؤذن به قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) الآية وقوله ـ (وَما رَمَيْتَ) الآية.

فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية ، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاء حسنا أي يعطيهم عطاء حسنا يشكرونه عليه ، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها ، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة.

وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريف هذا الفعل أغفله الراغب في «المفردات» ومن رأيت من المفسرين ، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحدا بشيء يظهر به مقدار تأثره ، والغالب أن الإصابة بشرّ ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وهو إطلاق كنائي

٥٢

وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح ، وبقي الفعل المجرد صالحا للإصابة بالشر والخير ، واستعملوا أبلاه مهموز أي إصابة بخير قال ابن قتيبة : «يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاء».

قلت : جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى : (بَلاءً حَسَناً) وهو مفعول مطلق لفعل يبلي موكد له ، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير (مِنْهُ) عائد إلى اسم الجلالة و (من) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون (من) للتعليل والسببية.

وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل للكلام و (إن) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم ، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

الإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى البلاء الحسن وهذه الإشارة لمجرد تأكيد المقصود من البلاء الحسن وأن ذلك البلاء علة للتوهين.

واسم الإشارة يفتتح به الكلام لمقاصد يجمعها التنبيه على أهمية ما يرد بعده كقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] ويجيء في الكلام الوارد تعليلا كقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [الأنفال : ٥١].

وعليه فاسم الإشارة هنا مبتدأ حذف خبره وعطف عليه جملة : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ).

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ) بفتح همزة (أن) ، فما بعدها في تأويل مصدر ، مجرور بلام التعليل محذوفة ، والتقدير ولتوهين كيد الكافرين.

ويجوز أن تكون الإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى الأمرين ، وهو ما اقتضاه قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] من تعليل الرمي بخذل المشركين وهزمهم وإبلاء المؤمنين البلاء الحسن.

وإفراد اسم الإشارة مع كون المشار إليه اثنين على تأويل المشار إليه بالمذكور كما

٥٣

تقدم في نظيره في سورة البقرة.

و (كَيْدِ الْكافِرِينَ) هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة ، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العير لمّا علموا بنجاة عيرهم ، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها ، أبوا أن يرجعوا إلى مكة ، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحا وافتخارا بنجاة عيرهم ، وليس ذلك لمجرد اللهو ، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن اتباع الإسلام ، فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير ، الكيد عند قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في سورة الأعراف[١٨٣].

وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، موهن بفتح الواو وبتشديد الهاء وبالتنوين ونصب (كَيْدِ) ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ، ويعقوب ، موهن بتسكين الواو وتخفيف الهاء ونصب كيد ـ والمعنى على القراءتين سواء ، وقرأ حفص عن عاصم بإضافة موهن إلى كيد ، والمعنى وهي إضافة لفظية مساوية للتنكير.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجها إلى المشركين ، فيكون الكلام اعتراضا خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) [الأنفال : ١٨] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) [الأنفال : ١٨] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة ، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يوم بدر استنصروا الله أيضا وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم.

وإنما كان تهكما لأن في معنى (جاءَكُمُ الْفَتْحُ) استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيها بمجيء المنجد لأن جعل الفتح جائيا إياهم. يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم ، والواقع يخالف ذلك ، فعلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع

٥٤

بمسمع المخاطبين ومرآهم.

وحمل ابن عطية فعل (جاءَكُمُ) على معنى : فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم ، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور : مثل (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ومثل (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] ولا يكون في الكلام تهكم.

وصيغ (تَسْتَفْتِحُوا) بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين ، وبذلك تظهر مناسبة عطف (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ـ إلى قوله ـ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين.

وعطف الوعيد على ذلك بقوله : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي : إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد ، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر.

ثم أيأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر ، فإن المشركين كانوا يومئذ واثقين بالنصر على المسلمين لكثرة عددهم وعددهم. والظاهر أن جملة : (إِنْ تَعُودُوا) معطوفة على جملة الجزاء وهي : (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ).

و (لَوْ) اتصالية أي (لَنْ) تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئة أعدائكم ، وصاحب الحال المقترنة ب (لو) الاتصالية قد يكون متصفا بمضمونها ، وقد يكون متصفا بنقيضه ، فإن كان المراد من العود في قوله : (وَإِنْ تَعُودُوا) العود إلى طلب النصر للمحق فالمعنى واضح ، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يوم أحد فلم يتحقق معنى نعد ولا موقع لجملة : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أحد.

والجواب عن هذا إشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل (مهما) فلا يبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة ، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم أحد ، ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين ؛ لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبرحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلبا للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦] ـ وقال ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ

٥٥

الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا). وقد مضى ذلك في سورة آل عمران [١٥٥] ، وبعد ففي هذا الوعيد بشارة أن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة.

وجملة : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر ، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عددا وعدة.

ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين ، ونسب إلى أبيّ بن كعب وعطاء ، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادرا ، لأنهم أصبحوا بعداء عن سماع القرآن ، فتكون الجملة مستأنفة استينافا بيانيا فإنهم لما ذكروا باستجابة دعائهم بقوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) [الأنفال : ٩] الآيات ، وأمروا بالثبات للمشركين ، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ـ إلى قوله ـ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) [الأنفال : ١٧ ، ١٨] كان ذلك كله يثير سؤالا يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر ، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل. فالمعنى : إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح ، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه ، ويكون قوله (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) دليلا على كلام محذوف ، والتقدير : إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر.

والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد ، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك ، خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم ، فأنتم في حال الجهاد منتصرون ، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شئونكم الصالحة ، فيكون كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تمنّوا لقاء العدو ، وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه. وأما قوله : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا ينقص ذلك من عطائنا كما قال زهير :

سألنا فأعطيتكم وعدنا فعدتم

ومن أكثر التسآل يوما سيحرم

يعلّمهم الله صدق التوجه إليه ، ويكون موقع (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) زيادة تقرير لمضمون (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وقوله : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي لا تعتمدوا إلّا على نصر الله.

٥٦

فموقع قوله : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن (تَسْتَفْتِحُوا) المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلّا إذا استنصروا بالله تعالى وجملة (وَلَوْ كَثُرَتْ) في موضع الحال ، و (لَوْ) اتصالية ، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها ، أي : ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة ، وعلى هذا الوجه يكون في قوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) إظهار في مقام الإضمار ، لأن مقتضى الظاهر أن يقال : وإن الله معكم ، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم. فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مرادا.

والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حاجزا دون شيء آخر ، حفظا له من الضياع أو الافتكاك والسرقة ، فالجدار حاجز ، والباب حاجز ، والسد حاجز ، والصندوق حاجز ، والعدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز ، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحا ، وذلك هو المعنى الحقيقي ، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارة مفردة أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٤٤] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) الآية في سورة الأعراف [٩٦] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر.

وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلد غيرهم في حرب أو غارة ، وعلى النصر ، وعلى الحكم ، وعلى معان أخر ، على وجه المجاز أو الكناية وقوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، بفتح همزة (إِنْ) على تقدير لام التعليل عطفا على قوله : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)[الأنفال : ١٨].

وقرأه الباقون بكسر الهمزة ، فهو تذييل للآية في معنى التعليل ، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيّل ، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ

٥٧

مُعْرِضُونَ (٢٣))

لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم ، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج إلى بدر ، وقد كانوا كارهين الخروج ، أعقب ذلك بأن أمرهم بطاعة الله ورسوله شكرا على نعمة النصر ، واعتبارا بأن ما يأمرهم به خير عواقبه ، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليله ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجه ، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة ، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام على ما تهواه أنفسهم ، وضرب لهم مثلا لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه ، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة ، وما نجم عن طاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغنم الوفير لهم مع نزارة الرزء ، ومن التأييد المبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتأسيس لإقرار دينه (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٧ ، ٨] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لمّا أطاعوه وانخلعوا عن هواهم ، وكيف هزم المشركين ؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله ، والمشاقة ضد الطاعة تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال : ١٧] ، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر ، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه ، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها ، ولذلك افتتحت ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيلقى إلى المخاطبين قصدا لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم ، فنزّل الحاضر منزلة البعيد ، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال.

٥٨

والتعريف بالموصولية في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به ، وأنه كما كان الشرك مسببا لمشاقة لله ورسوله في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣] ، فخليق بالإيمان أن يكون باعثا على طاعة الله ورسوله ، فقوله هنا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يساوي قوله في الآية المردود إليها : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] ، مع الإشارة هنا إلى تحقق وصف الإيمان فيهم وأن إفراغه في صورة الشرط في الآية السابقة ما قصد منه إلّا شحذ العزائم ، وبذلك انتظم هذا الأسلوب البديع في المحاورة من أول السورة إلى هنا انتظاما بديعا معجزا.

والطاعة امتثال الأمر والنهي. والتولي الانصراف ، وتقدم آنفا ، وهو مستعار هنا للمخالفة والعصيان.

وإفراد الضمير المجرور ب (عن) لأنه راجع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هذا المناسب للتولي بحسب الحقيقة. فإفراد الضمير هنا يشبه ترشيح الاستعارة ، وقد علم أن النهي عن التولي عن الرسول نهي عن الإعراض عن أمر الله لقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)[الأعراف: ٨٠] وأصل (تَوَلَّوْا) تتولوا ـ بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا.

وجملة : (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) في موضع الحال من ضمير (تَوَلَّوْا) والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه ، فإن العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرام بعضها. فالمراد بالسمع هنا حقيقته أي في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض ـ وذلك لأن فائدة السمع العمل بالمسموع ، فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو الذي لا يسمع سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع ، ولما كان الأمر بالطاعة كلام يطاع ظهر موقع (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضيا عدم التولي عنه ، ضمن تولى عنه بعد أن سمعه فأمر عجب ثم زاد في تشويه التولي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتحذير من التشبه بفئة ذميمة يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام : سمعنا ، وهم لا يصدقونه ولا يعملون بما يأمرهم وينهاهم.

و (إن) للتمثيل والتنظير في الحسن والقبيح أثرا عظيما في حث النفس على التشبه أو التجنب ، وهذا كقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) [الأنفال : ٤٧] وسيأتي وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم ، وبإخبار القرآن عنهم ، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل ، قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] وقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ

٥٩

أَكِنَّةً) [الأنعام : ٢٥] ، وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش ، وهم بنو عبد الدار بن قصي ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد ، فلم يسلم منهم إلّا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ، وبقيتهم قتلوا جميعا في أحد ، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية ، ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا : نحن صم بكم ، فلا يصح أن يكونوا هم المراد بهذه الآية بل المراد طوائف من المشركين ، وقيل : المراد بهم اليهود ، وقد عرفوا بهذه المقالة ، واجهوا بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [النساء : ٤٦] وقيل : أريد المنافقون قال تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) [النساء : ٨١] وإنما يقولون سمعنا لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا ، لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالمسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم (طاعَةٌ) ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله : (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا ينتفعون بما سمعوه ، فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم : (سَمِعْنا) وهو إيهامهم أنهم مطيعون ، فالواو في قوله : (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) واو الحال.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند ، وهو انتفاء السمع عنهم ، على أن المقصود الأهم من قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك.

وصيغ فعل (لا يَسْمَعُونَ) بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع ، فلذلك لم يقل وهم لم يسمعوا.

وجملة : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) معترضة ، وسوقها في هذا الموضع تعريض بالذين (قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) بأنهم يشبهون دواب صماء بكماء.

والتعريض قد يكون كناية وليس من أصنافها فإن بينه وبين الكناية عموما وخصوصا وجهيا ، لأن التعريض كلام أريد به لازم مدلوله ، وأما الكناية فهي لفظ مفرد يراد به لازم معناه إما الحقيقي كقوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١٢] ، وإما المجازي نحو قولهم للجواد : جبان الكلب إذا لم يكن له كلب ، فأما التعريض فليس إرادة لازم معنى لفظ مفرد ولا لازم معنى تركيب ، وإنما هو إرادة لنطق المتكلم بكلامه ، قال في «الكشاف» عند قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) في سورة

٦٠