تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

يكن مؤمنا كاملا ، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنا كاملا ، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين ، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا : أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملا.

وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمدا رسول الله إلى الناس كافة ، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصّل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه ، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجرد صنع باليد ، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لا بد أن يكون بحيث إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا ، فهذا تحقيق معنى القصرين.

ومما يزيد هذا المعنى وضوحا ما روى الطبراني ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت قال أصبحت مؤمنا حقا قال اعلم ما تقول ـ أو انظر ما تقول ـ إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني انظر إلى عرش ربي ، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وكأني أسمع عوراء أهل النار ، فقال له يا حارث عرفت فالزم ثلاثا وهو حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.

فقول الحارث «أصبحت مؤمنا حقا» ظاهر في أنه أراد منه مؤمنا كاملا وكذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك» ظاهر في أنه سأله عن ما كان به إيمانه كاملا ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين.

ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلا سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمؤمن أنت فقال : «الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٢ ـ ٤] فو الله ما أدري أنا منهم أم لا؟.

وانتصب (حَقًّا) على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه (الْمُؤْمِنُونَ) أي إيمانا حقا ، أو على أنه موكد لمضمون جملة (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه ، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة ،

٢١

وليس تأكيدا لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصرا حقيقيا ، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتمادا على القرائن ، والأحسن أن يكون منصوبا على الحال من ضمير (هُمْ) فيكون المصدر مؤولا باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالا مثل (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) [يوسف : ١٠٧] ، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم ، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) في سورة النساء [١٢٢].

وجملة : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) خبر ثان عن اسم الإشارة.

واللام للاستحقاق ، أي درجات مستحقة لهم ، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله ، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع منقطع عن الأرض ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) في سورة البقرة [٢٢٨] ، وفي غير موضع ، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس ، لأن الدنو من العلو عرفا يكون بالصعود إليه في الدرجات ، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) قرينة المجاز.

ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] والقرينة هي.

وقد دل قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا ، وفي الآخرة بالنعيم العظيم.

وتنوين (دَرَجاتٌ) للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة.

والرزق اسم لما يرزق أي يعطى للانتفاع به ، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق ، وفعله كرم بضم العين ، والكرم في كل شيء الصفات المحمودية في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩] ، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود ، والوصف منه كريم ، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجاز عقلي ، أي كريم رازقه ، فإن الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

تشبيه حال بحال ، وهو متصل بما قبله : إما بتقدير مبتدأ محذوف ، هو اسم إشارة

٢٢

لما ذكر قبله ، تقديره : هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو خير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] إذ التقدير : استقرت لله والرسول استقرارا كما أخرجك ربك ، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر ، ثم نوالهم النصر والغنيمة في نهاية الأمر ، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيه بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبّه بها ، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم ، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه ، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قوله (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] كما تقدم ، مع قوله في هذه الجملة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).

فجملة : (وَإِنَّ فَرِيقاً) في موضع الحال والعامل فيها (أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الأظهر ، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل ، وهي لا تخلو من تكلف ، وبعضها متحد المعنى وبعضها مختلفه ، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه.

والمقصود من هذا الأسلوب : الانتقال إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائل عناية الله تعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين.

وما مصدرية. والإخراج : إما مراد به الأمر بالخروج للغزو ، وإما تقدير الخروج لهم وتيسيره.

والخروج مفارقة المنزل والبلد إلى حين الرجوع إلى المكان الذي خرج منه ، أو إلى حين البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه.

والإخراج من البيت : هو الإخراج المعيّن الذي خرج به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غازيا إلى بدر.

والباء في (بِالْحَقِ) للمصاحبة أي إخراجا مصاحبا للحق ، والحق هنا الصواب ، لما تقدم آنفا من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه.

والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمرا موافقا للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج.

وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمون إلى بدر ، فكان بينهم وبين

٢٣

المشركين يوم بدر ، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عير لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام ، راجعة إلى مكة ، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلا من قريش ، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعض ، وهم الذين كرهوا الخروج ، ولم ينتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من تثاقلوا ومن لم يحضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان ، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حربا وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون ، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخا يستصرخ قريشا لحماية العير ، فتجهز منهم جيش ، ولما بلغ المسلمون وادي ذفران بلغهم خروج قريش لتلقي العير ، فاستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم ، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا ، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نرد بدرا (وكان بدر موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام) فنقيم ثلاثا ، فننحر الجزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمدا لم يصب العير ، وأنا قد أعضضناه ، فسار المشركون إلى بدر وتنبكت عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فأعلم المسلمين ، فاستشارهم وقال : العير أحب إليكم أم النفير ، فقال أكثرهم العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين : عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضب على وجهه. فتكلم أبو بكر ، وعمر ، والمقداد بن الأسود ، وسعد بن عبادة ، وأكثر الأنصار ، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا. وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلام رأسه.

فهذا ما أشار إليه قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير ، وأن ليس دون العير قتال ، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن ، وتكلم عمر فأحسن ، ثم قام المقداد بن الأسود فقال «يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى (برك الغماد) (بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيد جدا عن مكة) لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشيروا

٢٤

عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يومئذ «إنا برءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا» فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصره إلا ممّن دهمه بالمدينة ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشيروا عليّ قال له سعد بن معاذ «والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله قال : أجل قال : فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله» فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ـ أي ولم يخص وعد النصر ، بتلقي العير فقط ـ فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية ، وقوله (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته ، (ما) المصدرية ، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة ، والذين اختاروا العير دون النفير حين استشارة وادي ذفران ، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتدا في الزمان ، فجملة الحال من قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) حال مقارنة لعاملها وهو (أَخْرَجَكَ).

وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع ، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو التفويض إليه ، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو. ويستلزم هذا التنزيل التعجيب من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم.

وجملة (يُجادِلُونَكَ) حال من (فَرِيقاً) فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع. وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها ، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى : (يُجادِلُنا) من قوله : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] إذ قال (يُجادِلُنا) ولم يقل «جادلنا».

وقوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص ، وهو الخروج

٢٥

للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبيّن هو بيّن في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عربا أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بيّنا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا اختاروا العير ، فكان ذلك كافيا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة ، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوض شوكتهم بنصر بدر ، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته ، ومن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائه عليه.

ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر ، وقد غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعد أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لك أو لأخيك أو للذئب. فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تمعّر وجهه وقال «مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها» وروى مالك ، في «الموطأ» ، أن أبا هريرة مرّ بقوم محرمين فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناسا أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بم أفتيتهم قال : أفتيتهم بأكله فقال : «لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك».

وجملة : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) في موضع الحال من الضمير المرفوع في (يُجادِلُونَكَ) أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت ، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر ، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سبع في قوله :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

وكما تخيل ، تأبط شرا الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل :

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا

به كدحة والموت خزيان ينظر

فقوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) تشبيه لحالهم ، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين ، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت.

٢٦

وهذا التفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العدد ، وهم في قلة ، إرجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون ، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفا بالتقييد.

وجملة : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حال من ضمير (يُساقُونَ) ومفعول (يَنْظُرُونَ) محذوف دل عليه قوله : (إِلَى الْمَوْتِ) أي : وهم ينظرون الموت ، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظورا إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يراه ، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل ، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن علبة :

يرى غمرات الموت ثم يزورها

وفي عكسه في المسرة قوله تعالى :(وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)[البقرة :٥٠].

[٧ ، ٨] (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

الأحسن أن تكون (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) معطوفا على (كَما أَخْرَجَكَ) [الأنفال : ٥] عطف المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبها به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى : كاخراجك الله من بيتك وكوقت يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتؤول بمصدر ، والتقدير : وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ، ف (إِذْ) اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ، وجعل صاحب «الكشاف» (إِذْ) مفعولا لفعل (اذكر) محذوف شأن (إِذْ) الواقعة في مفتتح القصص ، فيكون عطف جملة الأمر المقدر على جملة (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ) [الأنفال : ١] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم.

و «الطائفة» الجماعة من الناس ، وتقدم عند قوله (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النساء [١٠٢].

٢٧

وجملة : (أَنَّها لَكُمْ) في تأويل مصدر ، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ، أي : يعدكم مصير إحدى الطائفتين لكم ، أي كونها معطاة لكم ، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة.

واللام للملك وهو هنا ملك عرفي ، كما يقولون كان يوم كذا لبني فلان على بني فلان ، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة.

(وَتَوَدُّونَ) إما عطف على (يَعِدُكُمُ) أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ، وإما في موضع الحال والواو واو الحال ، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف (وَإِذْ يَعِدُكُمُ) ، مجرور الكاف في قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥] فهو مما شبه به حال سؤالهم عن الأنفال سؤالا مشوبا بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها.

و «الود» المحبة و (ذاتِ الشَّوْكَةِ) صاحبة الشوكة ووقع (ذاتِ) صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال.

و (الشَّوْكَةِ) أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبر ، فإذا نزغت جلد الإنسان أدمته أو آلمته ، وإذا علقت بثوب أمسكته ، وذلك مثل ما في ورق العرفج ، ويقال هذه شجرة شائكة ، ومن الكناية عن ظهور الشر قولهم : «إن العوسج قد أورق» ، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها.

وشاع استعارة الشوكة للبأس ، يقال : فلان ذو شوكة ، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للباس في قولهم : أبدى قرنه ، والناب أيضا في قولهم : كشّر عن نابه ، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم.

وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بانصراف عير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما العير وإمّا النفير وعدا معلقا على اختيارهم إحداهما ، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعير أم يقصدون نفير قريش ، فقال الناس : إنما خرجنا لأجل

٢٨

العير ، وراموا اللحاق بالعير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ، وكانت العير لا تشتمل إلا على أربعين رجلا وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ، فذلك معنى قوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي تودون غنيمة بدون حرب ، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة.

وقوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) عطف على جملة (وَتَوَدُّونَ) على احتمالي أن واوها للعطف أو للحال ، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم. فهذا تلطف من الله بهم.

والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات. فهذا كقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] أي يسّر بكم.

ومعنى (يُحِقَّ الْحَقَ) : يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال : حق الشيء ، إذا ثبت قال تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) [الزمر : ١٩].

والمراد بالحق. هنا : دين الحق وهو الإسلام ، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله : (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) [الزخرف : ٢٩] الآية.

وإحقاقه باستيصال معانديه ، فأنتم تريدون نفعا قليلا عاجلا ، وأراد الله نفعا عظيما في العاجل والآجل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وفي قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) جناس الاشتقاق. وفيه دلالة على أن أصل مادة الحق هو فعل حق. وأن أصل مادة الباطل هي فعل بطل. ونظيره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذين قالوا في التشهد السلام على الله فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الله هو السلام.

وكلمات الله ما يدل على مراده وعلى كلامه النفسي ، حقيقة من أقوال لفظية يخلقها خلقا غير متعارف ليفهمها أحد البشر ويبلغها عن الله ، مثل القرآن ، أو مجازا من أدلة غير لفظية ، مثل ما يخاطب به الملائكة المحكي في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] وفسره قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٩

«إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قال للذي قال : الحق وهو العلي الكبير.

والجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم ، فقوله : (بِكَلِماتِهِ) يعم أنواع الكلام الذي يوحي به الله الدال على إرادته تثبيت الحق. مثل آيات القرآن المنزلة في قتال الكفار وما أمر به الملائكة من نصرتهم المسلمين يوم بدر.

والباء في (بِكَلِماتِهِ) للسببية ، وذكر هذا القيد للتنويه بإحقاق هذا الحق وبيان أنه مما أراد الله ويسره وبينه للناس من الأمر ، ليقوم كل فريق من المأمورين بما هو حظه من بعض تلك الأوامر ، وللتنبيه على أن ذلك واقع لا محالة لأن كلمات الله لا تتخلف كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ)[الفتح : ١٥]، ولمدح هذا الإحقاق بأنه حصل بسبب كلمات الله.

وقطع دابر الشيء إزالة الشيء كله إزالة تأتي على آخر فرد منه يكون في مؤخرته من ورائه وتقدم في قوله (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) في سورة الأنعام [٤٥].

والمعنى : أردتم الغنيمة وأراد الله إظهار أمركم وخضد شوكه عدوكم وإن كان ذلك يحرمكم الغنى العارض فإن أمنكم واطمئنان بالكم خير لكم وأنتم تحسبون أن لا تستطيعوا هزيمة عدوكم.

واللام في قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) لام التعليل. وهي متعلقة بقوله (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطل.

وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وشان العلة أن تكون مخالفة للمعلل ، ولو في الجملة ، إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله ، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل ، لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلا إلا وهو مراد له ، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك الفعل ، كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذات الفعل ، لا لغرض آخر عائد عليه ، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بنفس المعلّل.

والحصر هنا من مستتبعات التركيب ، وليس من دلالة اللفظ ، فافهمه فإنه دقيق وقد

٣٠

وقعت فيه غفلات.

ويجوز أن يكون الاختلاف بين المعلل والعلة بالعموم والخصوص أي يريد الله أن يحق الحق في هذه الحادثة لأنه يريد إحقاق الحق عموما.

وأما قوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) فهو ضد معنى قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) وهو من لوازم معنى ليحق الحق ، لأنه إذا حصل الحق ذهب الباطل كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨] ، ولما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر. ومن لطائف عبد الله بن عباس أنه قال لعمر بن أبي ربيعة : كم سنّك فقال ابن أبي ربيعة ولدت يوم مات عمر بن الخطاب ، فقال ابن عباس : «أي حق رفع وأيّ باطل وضع» أي في ذلك اليوم ، ففائدة قوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) التصريح بأن الله لا يرضى بالباطل ، فكان ذكر بعد قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بمنزلة التوكيد لقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ) لأن ثبوت الشيء قد يؤكد بنفي ضده كقوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١٤٠].

ويجيء في قوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) من معنى الكلام ، ومن جناس الاشتقاق ، ما جاء في قوله : (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) ثم في مقابلة قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَ ـ بقوله ـ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) محسن الطباق.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) شرط اتصالي. و (لَوْ) اتصالية تدل على المبالغة في الأحوال ، وهو عطف على (يُرِيدُ اللهُ) ، أو على (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي يريد ذلك لذلك لا لغيره ، ولا يصد مراده ما للمعاندين من قوة بأن يكرهه المجرمون وهم المشركون.

والكراهة هنا كناية عن لوازمها وهي الاستعداد لمقاومة المراد من تلك الإرادة ، فإن المشركين ، بكثرة عددهم وعددهم ، يريدون إحقاق الباطل ، وإرادة الله تنفذ بالرغم على كراهة المجرمين ، وأمّا مجرد الكراهة فليس صالحا أن يكون غاية للمبالغة في أحوال نفوذ مراد الله تعالى إحقاق الحق : لأنه إحساس قاصر على صاحبه ، ولكنه إذا بعثه على مدافعة الأمر المكروه كانت أسباب المدافعة هي الغاية لنفوذ الأمر المكروه على الكاره.

وتقدم الكلام على (لَوِ) الاتصالية عند قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١] وقوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) في سورة البقرة [١٧٠].

٣١

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩))

يتعلق ظرف (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بفعل (يُرِيدُ اللهُ) [الأنفال : ٧] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمان استغاثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ربّهم على عدوهم ، حين لقائهم مع عدوهم يوم بدر ، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة ، من مظاهر إرادته تحقيق الحق فكانت الاستغاثة يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يحق الحق حصلت في المدينة يوم وعدهم الله إحدى الطائفتين ، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة ، وبين وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدة أيام ، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها ، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها ، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه.

وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال «نظر نبيء الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبيء الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام [لا] (١) تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبيء الله كفاك مناشدة ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة. وعلى هذه الرواية يكون ضمير (تَسْتَغِيثُونَ) مرادا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأن كان يدعو لأجلهم ، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه ، فهم بحال من يدعون ، وقد جاء في «السيرة» أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملا لهم.

والاستغاثة : طلب الغوث ، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة.

(فَاسْتَجابَ لَكُمْ) أي وعدكم بالإغاثة.

__________________

(١) زيادة من «سنن الترمذي» ٥ / ٢٦٩. كتاب «تفسير القرآن» (٩) باب ، ومن سورة الأنفال ، رقم (٣٠٨١).

٣٢

وفعل استجاب يدل على قبول الطلب ، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب.

وقوله : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في «الكشاف» بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه (فَاسْتَجابَ) فنصب محله.

وأرى أن حرف (أن) المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد (ما) فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد ، فمن البيّن أن (أن) المفتوحة الهمزة مركبة من (أن) المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب ، يجوز أن يعتبر تركيبها من (أن) التفسيرية إذا وقعت بعد (ما) فيه معنى القول دون حروفه ، وذلك مظنة (أن) التفسيرية ، وأعتضد بما في «اللسان» من قول الفراء : «إذا جاءت (أن :) بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية ، فلم يقع عليها (أي القول) فهي مكسورة ، وإن كانت تفسيرا للقول نصبتها ومثله : قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف ، فتحت أن لأنها فسرت الكلام. قلت : ووقوع (أن) موقع التفسير كثير : في الكلام. وفي القرآن ، ومنه قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] الآية ، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) في كون (أن) تفسيرية ، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف. مع أن معنى ذلك الحرف غير بين.

والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بفتح الدال من (مُرْدِفِينَ) أي يرد فهم غيرهم من الملائكة ، وقرأ البقية : بكسر الدال أي تكون الألف رادفا لغيرهم قبلهم.

والإرداف الاتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مددا ، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران ، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله : (بِثَلاثَةِ آلافٍ) في سورة آل عمران [١٢٤] ، وهم مردفون بألفين ، فتلك خمسة آلاف ، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيما أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو.

ويوجه سيوفهم ، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى : إما

٣٣

بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيتهم ، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يرى عادة.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

عطف على (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩] فالضمير المنصوب في قوله : (جَعَلَهُ) عائد إلى القول الذي تضمنه (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) [الأنفال : ٩] أي ما جعل جوابكم بهذا الكلام إلّا ليبشركم ، وإلّا فقد كان يكفيكم أن يضمن لكم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة.

وفائدة التبشير بإمداد الملائكة أن يوم بدر كان في أول يوم لقي فيه المسلمون عدوا قويا وجيشا عديدا ، فبشرهم الله بكيفية النصر الذي ضمنه لهم بأنه بجيش من الملائكة ، لأن النفوس أميل إلى المحسوسات ، فالنصر معنى من المعاني يدق إدراكه وسكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم.

وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلّا لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور :

أحدها : أنه قال في آل عمران [١٢٦] : (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) وحذف (لكم) هنا دفعا لتكرير لفظه لسبق كلمة (لَكُمْ) قريبا في قوله : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ)[الأنفال : ٩] فعلم السامع أن البشرى لهم ، فأغنت (لَكُمْ) الأولى ، بلفظها ومعناها ، عن ذكر (لَكُمْ) مرة ثانية ، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف ، فكان تقييد (بُشْرى) بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي : جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وأما آية الأنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر ، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة ، فجرد (بُشْرى) عن أن يعلق به (لَكُمْ) إذ كانت البشرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين ، وقد تقدم ذلك في آل عمران.

ثانيها : تقديم المجرور هنا في قوله : (بِهِ قُلُوبُكُمْ) وهو يفيد الاختصاص ، فيكون المعنى : ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره ، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغنم العروض التي كانت مع العير ، فعرض لهم

٣٤

بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين استشارهم ، وأخبرهم بأن العير سلكت طريق الساحل فكان ذلك كافيا في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير ، وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال ، فلما أراد الله تسكين روعهم ، وعدهم بنصرة الملائكة علما بأنه لا يطمئن قلوبهم إلّا ذلك ، وجعل الفخر : التقديم هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد ، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجّه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول.

ثالثها : أنه قال في سورة آل عمران [١٢٦] (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فصاغ الصفتين العليتين في صيغة النعت ، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد ، إذ قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فنزّل المخاطبين منزلة من يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين : وهما العزة ، المقتضية أنه إذا وعد بالنصر لم يعجزه شيء ، والحكمة ، فما يصدر من جانبه غوص الإفهام في تبيّن مقتضاه ، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظفر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفر بالنفير.

وجملة : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مستأنفة استينافا ابتدائيا جعلت كالإخبار بما ليس بمعلوم لهم.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائل عناية الله تعالى برسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين ، فقرنها ، في قرن زمانها ، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذ الزمانية ، وهذا من أبدع التخلص ، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب.

ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولا فيه لقوله : (وَمَا النَّصْرُ) [الأنفال : ١٠] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر ، فلا جرم أن يكون وقت حصوله طرفا للنصر.

والغشي والغشيان كون الشيء غاشيا أي غاما ومغطيا ، فالنوم يغطي العقل.

والنعاس النوم غير الثقيل ، وهو مثل السّنة.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر : (يُغَشِّيكُمُ) ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب (النُّعاسَ) والتقدير : إذ يغشيكم الله النعاس ، والنعاس

٣٥

مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف ، وبرفع النعاس ، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل ، وقرأه الباقون : بضم التحتية وفتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس ، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان.

فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف ، ولا يكون عامّا سائر الجيش ، فهو نوم منحهم الله إياه لفائدتهم.

وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله (أَمَنَةً مِنْهُ).

و (الأمنة) الأمن ، وتقدم في آل عمران ، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب (النعاس) ، وعلى الحال على قراءة من رفع (النعاس).

وإنما كان (النعاس) أمنا لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة ، ولما استيقظوا وجدوا نشاطا ، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب.

وصيغة المضارع في (يُغَشِّيكُمُ) لاستحضار الحالة.

و (من) في قوله : (مِنْهُ) للابتداء المجازي ، وهو وصف ل (أمنة) لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القدس ، فهو لطف وسكينة ورحمة ربانية ، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله ، على قراءة من نصبوا (النعاس) ، تنبيها على أنه إسناد مخصوص ، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها ، وعلى قراءة من رفعوا (النعاس) يكون وصف الأمنة بأنها منه ساريا إلى الغشي فيعلم أنه غشي خاص قدسي ، وليس مثل سائر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يوم بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أحد لطائفة من الجيش قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) وتقدم في سورة آل عمران [١٥٤] ، وفي «صحيح البخاري» عن أبي طلحة قال : «كنت فيمن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا».

وذكر الله منة أخرى جاءت في وقت الحاجة : وهي أنه أنزل عليهم المطر يوم بدر ، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت

٣٦

احتياجهم إلى الماء ، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أفقهم ، قال أهل السير : كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر ، وكان طريقهم دهساء أي رملا لينا ، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة ، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أمكن لهم ، واستوحلت الأرض للمشركين فصار السير فيها متعبا ، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيرا من ماء المطر ، وتطهروا وشربوا ، فذلك قوله تعالى: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ).

و (الرجز) القذر ، والمراد الوسخ الحسي وهو النجس ، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحدث. والمراد الجنابة ، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال : (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) ، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعا في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح ، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان.

وتقدير المجرور في قوله : (عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) للرعاية على الفاصلة ، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم.

وقوله : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشا وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل ، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل ، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر.

و (الربط) حقيقته شد الوثاق على الشيء وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم : فلان رابط الجأش وله رباطة جأش.

وعلى مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز.

[١٢ ، ١٣] (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣))

(إِذْ) ظرف متعلق بقوله : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)

٣٧

[الأنفال : ٩].

وجعل الخطاب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلطفا به ، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر ، وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعا له ، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) [الأنفال : ٩] ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أول من استغاث الله ، ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليوافق أسلوب (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) [الأنفال : ٩] ولما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفا به ورفعالشأنه.

والوحي إلى الملائكة المرسلين : إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص ، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة.

و (أَنِّي مَعَكُمْ) قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي ، أي يوحي إليهم ثبوت معيّته لهم ، فيكون المصدر ، منصوبا على المفعول به ليوحي ، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر.

وأنت على ذكر مما قدمناه قريبا في قوله تعالى : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [الأنفال : ٩] من تحقيق أن تكون (أن) المفتوحة الهمزة المشددة النون مفيدة معنى (أن) التفسيرية ، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه.

والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائقة بالله تعالى أعني المعية المجازية ، فقد يكون معناها توجه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم ، وقد تكرر إطلاق (مع) بمثل هذا في القرآن كقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤].

وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به ، لأن المعية تؤذن إجمالا بوجود شيء يستدعي المصاحبة ، فكان قوله لهم : (أَنِّي مَعَكُمْ) مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام ، أي أني معكم في عملكم الذي أكفلكم به.

ومن هنا ظهر موقع فاء الترتيب في قوله : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث ما دل عليه (أَنِّي مَعَكُمْ) من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة ، والخوف إقداما

٣٨

والهلع ثباتا ، في جانب المؤمنين ، ويجعل العزة رعبا في قلوب المشركين ، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عهد للملائكة عملها خوارق عادات.

والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه.

وعرف المثبتون بالموصول لما تومئ إليه صلة (آمَنُوا) من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية ، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان.

وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاما وتثبيتا ، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع ، وإزالة للاضطراب الشيطاني ، وإنما يكون خيرا إذا كان جاريا على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطرا كاذبا ، وإلّا صار غرورا ، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوقى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة ، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل.

ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب ، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم ، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة.

وأسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقة الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه ، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته ، وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة ، فإن خوارق العادات قد تصدر من القوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج ، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة ، لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين ، فهو مبارك أيضا ، وإنما كان إلقاء الرعب في قلوب المشركين خارق عادة ، لأن أسباب ضده قائمة ، وهي وفرة عددهم وعددهم وإقدامهم على الخروج إلى المسلمين ، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير.

فجملة : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا) مستأنفة استئنافا ابتدائيا إخبارا لهم بما

٣٩

يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كلف الملائكة بعمله ، فليست جملة (سَأُلْقِي) مفسرة لمعنى (أَنِّي مَعَكُمْ).

ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سببا في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمت آنفا.

وتفريع (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) على جملة : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) المفرعة هنا أيضا على جملة : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) في المعنى ، يؤذن بما اقتضته جملة (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالا قوله : (أَنِّي مَعَكُمْ) كما تقدم (فَوْقَ الْأَعْناقِ) على الظرفية لا ضربوا.

و (الْأَعْناقِ) أعناق المشركين وهو بيّن من السياق ، واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).

والبنان اسم جمع بنانة وهي الأصبع وقيل طرف الأصبع ، وإضافة (كل) إليه لاستغراق أصحابها.

وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان ، يبطل صلاحية المضروب للقتال ، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع ، ومن ثم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع ، عن ذكر السيف ، قال النابغة :

وأن تلادي أن نظرت وشكّتي

ومهري وما ضمّت إليّ الأنامل

يعني سيفه ، وقال أبو الغول الطهوي :

فدت نفسي وما ملكت يميني

فوارس صدّقت فيهم ظنوني

يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضربت اليد كلها فذلك أجدر.

وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى ، فإسناد الضرب حقيقة. ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه

٤٠