تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

إسرائيل ، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية (١).

ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣]. وقد يجيء بمعنى أنه لا يصلح ، كما هنا ، لأن هذا الكلام جاء تمهيدا للعتاب فتعيّن أن يكون مرادا منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة.

ومعنى هذا الكون المنفي بقوله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى هو بقاؤهم في الأسر، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء. وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى ، لأنّ أخذ الأسرى من شئون الحرب ، وهو من شئون الغلب ، إذا استسلم المقاتلون ، فلا يعقل أحد نفيه عن النبي ، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره ، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين : وهما المنّ عليهم بإطلاقهم ، أو قتلهم ، ولا يصلح المنّ هنا ، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض ، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده ، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضعف المؤمنين ، خضدا لشوكة أهل العناد ، وقد صار حكم هذه الآية تشريعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن يأسرهم في غزواته.

والإثخان الشدة والغلظة في الأذى. يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه ، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح. وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة. فالمعنى : حتى يتمكّن في الأرض ، أي يتمكّن سلطانه وأمره.

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية ، أي يتمكّن في الدنيا. وحمله في «الكشّاف» على معنى إثخان الجراحة ، فيكون جريا على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقاتل الذي يجرح قرنه جراحا قوية تثخنه ، أي حتّى يثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع ، ويكون قوله : (فِي الْأَرْضِ) قرينة التمثيلية.

والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميل إليه ، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين ، فإنّ في هلاكهم خضدا لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضى السياسي العرضي على المقتضى الذي بني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شئون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) في الفقرة ١٣ منه «وإذا دفعها (الضمير عائد إلى مدينة) الرب إلهك إلى يدك جميع ذكورها بالسيف.

١٦١

[الفتح : ٢٩]. وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّا حتّى كأنه ممّا استأثر الله به ، وفي الترمذي ، عن الأعمش : أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم ، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشارهم ، وهو في الصحيح.

وقرأ الجمهور (أَنْ يَكُونَ لَهُ) ـ بتحتية ـ على أسلوب التذكير. وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو جعفر ـ بمثناة فوقية ـ على صيغة التأنيث ، لأنّ ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة.

والخطاب في قوله : (تُرِيدُونَ) للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام غير معاتب لأنّه إنّما أخذ برأي الجمهور وجملة : (تُرِيدُونَ) إلى آخرها واقعة موقع العلّة للنهي الذي تضمّنته آية ما كان لنبي فلذلك فصلت ، لأنّ العلّة بمنزلة الجملة المبيّنة.

و (عَرَضَ الدُّنْيا) هو المال ، وإنّما سمّي عرضا لأنّ الانتفاع به قليل اللبث ، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيّؤ. والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به.

والإرادة هنا بمعنى المحبّة ، أي : تحبون منافع الدنيا والله يحبّ ثواب الآخرة ، ومعنى محبّة الله إيّاها محبّته ذلك للناس ، أي يحبّ لكم ثواب الآخرة ، فعلّق فعل الإرادة بذات الآخرة ، والمقصود نفعها بقرينة قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) فهو حذف مضاف للإيجاز ، وممّا يحسنه أنّ الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضرّ ولا مشقّة ، بخلاف نفع الدنيا.

وإنما ذكر مع (الدُّنْيا) المضاف ولم يحذف : لأنّ في ذكره إشعارا بعروضه وسرعة زواله.

وإنّما أحبّ الله نفع الآخرة : لأنّه نفع خالد ، ولأنّه أثر الأعمال النافعة للدين الحقّ ، وصلاح الفرد والجماعة.

وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات ، هي أمارات أمره ونهيه ، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة ، فهو غير محبوب لله تعالى ، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى ، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه ، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على

١٦٢

اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش ، حين تخيّروا الفداء أي أنهم ما راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقا عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم ، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة ، فإنّ أبا بكر قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الاستشارة «قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك» فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش.

ويجوز عندي أن يكون قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) مستعملا في معنى الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : لعلّكم تحبّون عرض الدنيا فإنّ الله يحبّ لكم الثواب وقوة الدين ، لأنّه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي ؛ لكان حفظ أنفس الناس مقدّما على إسعافهم بالمال ، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد. فالمعنى : يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحبّ إلّا عرض الدنيا ، تحذيرا لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة.

وجملة : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عطف على جملة : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) عطفا يؤذن بأنّ لهذين الوصفين أثرا في أنّه يريد الآخرة ، فيكون كالتعليل ، وهو يفيد أنّ حظ الآخرة هو الحظّ الحقّ ، ولذلك يريده العزيز الحكيم.

فوصف العزيز يدلّ على الاستغناء على الاحتياج ، وعلى الرفعة والمقدرة ، ولذلك لا يليق به إلّا محبة الأمور النفيسة ، وهذا يومئ إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزّاء كقوله في الآية الأخرى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربئوا بنفوسهم عن التعلّق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها.

ووصف الحكيم يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه ، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه.

وجملة : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) إلخ مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنّ الكلام السابق يؤذن بأنّ مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه ، فيستثير سؤالا في نفوسهم عمّا يترقّب من ذلك ، فبيّنه قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية.

والمراد بالكتاب المكتوب ، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير ، وقد نكر

١٦٣

الكتاب تنكير نوعية وإبهام ، أي : لو لا وجود سنّة تشريع سبق عن الله. وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ ، فقد استشارهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولو لا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبّه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسّهم عذاب عظيم.

وهذه الآية تدل على أن لله حكما في كل حادثة ، وأنه نصب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر.

و «في» للتعليل ، والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة.

ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذابا في الدنيا ، أي : لو لا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذابا كان من شأن أخذهم الفداء أن يسبّبه لهم ويوقعهم فيه. وهذا العذاب عذاب دنيوي ، لأنّ عذاب الآخرة لا يترتّب إلّا على مخالفة شرع سابق ، ولم يسبق من الشرع ما يحرّم عليهم أخذ الفداء ، كيف وقد خيّروا فيه لمّا استشيروا ، وهو أيضا عذاب من شأنه أن يجرّه عملهم جرّ الأسباب لمسبباتها ، وليس عذاب غضب من الله ، لأنّ ذلك لا يترتّب إلّا على معاص عظيمة ، فالمراد بالعذاب أنّ أولئك الأسرى الذين فادوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلّصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقا فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين ، ولكنّ الله سلم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبّة أخذ الثأر ، وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين ، فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى.

وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة ، وبذلك كانت تشريعا للمستقبل كما ذكرناه آنفا.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله. وفي هذا التفريع وجهان :

أحدهما : الذي جرى عليه كلام المفسّرين أنّه تفريع على قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) [الأنفال : ٦٨] إلخ ... أي لو لا ما سبق من حلّ الغنائم لكم لمسّكم عذاب عظيم ، وإذ قد سبق الحلّ فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء. وقد روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧] الآية ، أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء ،

١٦٤

فنزل قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) وعلى هذا الوجه قد سمّي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي ؛ لأنّ الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكّه المسلمون من مال العدوّ بالإيجاف عليهم.

والوجه الثاني : يظهر لي أنّ التفريع ناشئ على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل ، وأنّ المعنى : فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض. وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي.

ولمّا تضمّن قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) [الأنفال : ٦٨] امتنانا عليهم بأنّه صرف عنهم بأس العدوّ ، فرّع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم ، ويتوسّعوا به في نفقاتهم ، دون نكد ولا غصّة ، فإنّهم استغنوا به مع الأمن من ضرّ العدوّ بفضل الله. فتلك نعمة لم يشبها أذى.

وعبّر عن الانتفاع الهنيء بالأكل : لأنّ الأكل أقوى كيفيّات الانتفاع بالشيء ، فإنّ الآكل ينعم بلذاذة المأكول وبدفع ألم الجوع عن نفسه ـ ودفع الألم لذاذة ـ ويكسبه الأكل قوة وصحّة ـ والصحة مع القوّة لذاذة أيضا ـ.

والأمر في (فَكُلُوا) مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا : لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر ، وليكون قوله : (حَلالاً) حالا مؤسسة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة.

و (غَنِمْتُمْ) بمعنى فاديتم لأنّ الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم.

والطيب : النفيس في نوعه ، أي حلالا من خير الحلال.

وذيّل ذلك بالأمر بالتقوى : لأنّ التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم.

وجملة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر بالتقوى ، وتنبيه على أنّ التقوى شكر على النعمة ، فحرف التأكيد للاهتمام ، وهو مغن غناء فاء التفريع ، كقول بشار :

إنّ ذاك النجاح في التبكير

وقد تقدّم ذكره غير مرة.

وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيّدا لرأي عمر بن الخطاب. فقد روى

١٦٥

مسلم عن عمر ، قال : «وافقت ربّي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر».

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠))

استئناف ابتدائي ، وهو إقبال على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء يتعلّق بحال سرائر بعض الأسرى ، بعد أن كان الخطاب متعلقا بالتحريض على القتال وما يتبعه ، وقد كان العباس في جملة الأسرى وكان ظهر منه ميل إلى الإسلام. قبل خروجه إلى بدر ، وكذلك كان عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وقد فدى العباس نفسه وفدى ابني أخويه : عقيلا ونوفلا. وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تركتني أتكفّف قريشا. فنزلت هذه الآية في ذلك ، وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل ، ولذلك قيل لهم هذا القول قبل أن يفارقوهم.

فمعنى (لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) من في ملكتكم ووثاقكم ، فالأيدي مستعارة للملك. وجمعها باعتبار عدد المالكين. وكان الأسرى مشركين ، فإنّهم ما فادوا أنفسهم إلّا لقصد الرجوع إلى أهل الشرك.

والمراد بالخير محبّة الإيمان والعزم عليه ، أي : فإذا آمنتم بعد هذا الفداء يؤتكم الله خيرا ممّا أخذ منكم. وليس إيتاء الخير على مجرّد محبة الإيمان والميل إليه ، كما أخبر العبّاس عن نفسه ، بل المراد به ما يترتّب على تلك المحبّة من الإسلام بقرينة قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ). وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان : لأنّ ذلك لم يدّعوه ولا عرفوا به ، قال ابن وهب عن مالك : كان أسرى بدر مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأقاموا.

و «ما أخذ» هو مال الفداء ، والخير منه هو الأوفر من المال بأن ييسّر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أموال الغنائم وغيرها. فقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس بعد إسلامه من فيء البحرين. وإنّما حملنا الخير على الأفضل من المال ؛ لأنّ ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلا في خصائص النوع ، ولأنّه عطف عليه قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) وذلك هو خير الآخرة المترتّب على الإيمان ، لأنّ المغفرة لا تحصل إلّا للمؤمن.

والتذييل بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم ، لأنّها

١٦٦

مغفرة شديد الغفران رحيم بعباده ، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوة المغفرة وكثرتها ، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعظم المغفرة لكلّ واحد منهم.

وقرأ الجمهور (مِنَ الْأَسْرى) ـ بفتح الهمزة وراء بعد السين ـ مثل أسرى الأولى ، وقرأها أبو عمرو ، وأبو جعفر من الأسارى ـ بضمّ الهمزة وألف بعد السين وراءه ـ فورودهما في هذه الآية تفنّن.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

الضمير في (يُرِيدُوا) عائد إلى من في أيديكم من الأسرى. وهذا كلام خاطب به الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطمئنانا لنفسه ، وليبلغ مضمونه إلى الأسرى ، ليعلموا أنّهم لا يغلبون الله ورسوله. وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [الأنفال : ٦٩] ، فكل ذلك الإذن والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم ، إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال ، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرة أخرى ، كما أمكنهم منهم في هذه المرة ، أي : أن ينووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتك ، وإنّما وعدوا بذلك لينجوا من القتل والرقّ ، فلا يضرّكم ذلك ، لأنّ الله ينصركم عليهم ثاني مرة. والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة.

فالعهد ، الذي أعطوه ، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين. وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه.

وخيانتهم الله ، التي ذكرت في الآية ، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم [الأعراف : ١٧٢] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة ، وما من نفس إلّا وهي تشعر به ، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم.

وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما)[الأعراف : ١٨٩ ، ١٩٠].

١٦٧

ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة ، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ). وتقديره : فلا تضرّك خيانتهم ، أو لا تهتمّ بها ، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل.

قوله : (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب ، وبيان اشتقاقه ، وألمّ به بعضهم إلماما خفيفا ؛ بأن فسروا (أمكن) بأقدر ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر. ووقع في «الأساس» «أمكنني الأمر معناه أمكنني من نفسه» وفي «المصباح» «مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة».

والذي أفهمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل ، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكانا أي مقرا ، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مجالا للكائن فيه.

و «من» التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم : لست منك ولست منّي. فقوله تعالى : (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) حذف مفعوله لدلالة السياق عليه ، أي أمكنك منهم يوم بدر ، أي لم ينفلتوا منك.

والمعنى : أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل ، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢))

هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا ، وعدم موالاتهم للذين كفروا ، نشأ عن قول العباس بن عبد

١٦٨

المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم ، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر ، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين ، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم ، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك. قال ابن عطية : «مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار ، والمهاجرين بعد الحديبية وذكر نسب بعضهم عن بعض».

وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد ، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين. فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن. والأنصار امتازوا بإيوائهم ، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهله ، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا ، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا ، وكان فضل المهاجرين أقوى ؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم ، وبادر إليه أكثرهم ، فكانوا قدوة ومثالا صالحا للناس.

والمهاجرة هجر البلاد ، أي الخروج منها وتركها ، قال عبدة بن الطبيب :

إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم ، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم ، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم.

وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين ، فقد هاجر إبراهيمعليه‌السلام (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. وهاجر لوطعليه‌السلام: (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت : ٢٦] ، وهاجر موسى عليه‌السلام بقومه ، وهاجر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة يثرب ، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقام التفضيل : «لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» وقال للأعرابي : «ويحك إنّ شأنها شديد ـ وقال ـ لا هجرة بعد الفتح».

١٦٩

والإيواء تقدّم عند قوله تعالى : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) في هذه السورة [٢٦].

والنصر تقدّم عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ـ إلى قوله ـ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) في سورة البقرة [١٢٣].

والمراد بالنصر في قوله : (وَنَصَرُوا) النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم ، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار.

واسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لإفادة الاهتمام بتمييزهم للإخبار عنهم ، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم ، ولذلك لم يؤت بمثله في الإخبار عن أحوال الفرق الأخرى.

ولمّا أطلق الله الولاية بينهم احتمل حملها على أقصى معانيها ، وإن كان موردها في خصوص ولاية النصر ، فإنّ ذلك كورود العامّ على سبب خاص قال ابن عباس : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، حتّى أنزل الله قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] أي في الميراث فنسختها ، وسيأتي الكلام على ذلك. فحملها ابن عبّاس على ما يشمل الميراث ، فقال : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر ، فنسخ الله ذلك بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥]. وهذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن. وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ، وقال كثير من المفسّرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتدادا بأنّها خاصّة بهذا الغرض ، وهو قول مالك بن أنس والشافعي.

وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة ، ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس : كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه (وهو مؤمن) ولا يرث الأعرابي المهاجر ـ أي ولو كان عاصبا.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده ، ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران ، وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله ، آية

١٧٠

واحدة نهايتها قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك ، وأنّ وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك ، فلمّا بيّن أول الآية ما لأصحاب الوصفين : الإيمان والهجرة ، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث ، فبيّنت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان ، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبري من ولايتهم حتّى يهاجروا ، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوارث ولا النصر إلّا إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم.

وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم ، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا ، دليل على أنّهم معتبرون مسلمين ، ولكنّ الله أمر بمقاطعتهم حتّى يهاجروا ؛ ليكون ذلك باعثا لهم على الهجرة.

و «الولاية» ـ بفتح الواو ـ في المشهور وكذلك قرأها جمهور القرّاء ، وهي اسم لمصدر تولاه ، وقرأها حمزة وحده ـ بكسر الواو ـ. قال أبو علي : الفتح أجود هنا ، لأنّ الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة. وقال الزّجاج : قد يجوز فيها الكسر ، لأنّ في تولّى بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة كالقصارة والخياطة ، وتبعه في «الكشّاف» وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أنّ الفتح هنا أجود. وما قاله أبو علي الفارسي باطل ، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها.

والظرفية التي دلت عليها (في) من قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) ظرفية مجازية ، تؤول إلى معنى التعليل ، أي : طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين ، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم ؛ لأنّ نصرهم للدّين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصره ، وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفّر داعي القتال ، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد.

و (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) من صيغ الوجوب ، أي : فواجب عليكم نصرهم ، وقدم الخبر وهو (فَعَلَيْكُمُ) للاهتمام به.

وأل في (النَّصْرُ) للعهد الذكري لأنّ (اسْتَنْصَرُوكُمْ) يدلّ على طلب نصر

١٧١

والمعنى : فعليكم نصرهم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) استثناء من متعلّق النصر وهو المنصور عليهم ، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلّا إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين ، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلّا بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد ، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار ، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم ، ولا يدخلون فيما جرّوه لأنفسهم من عداوات وإحن ، لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين ، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين ، وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعدّ نكثا من الكفار لعهد المسلمين ، لأن من عذرهم أن يقولوا : لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم ، لأنّ الإيمان لا يطلع عليه إلّا بمعاشرة ، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير للمسلمين لئلّا يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوما بينهم وبينهم ميثاق.

وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد ، وأنّه لا ينفضه إلّا أمر صريح في مخالفته.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا)[الأنفال : ٧٢] وما عطف عليه. والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين ، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضا ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لو لا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم ، وبقرينة قوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي : إن لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير تفعلوه عائد إلى ما في قوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بتأويل : المذكور ، لظهور أن ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضا ، لو لا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم.

والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢] ـ وقوله ـ (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة

١٧٢

[١٩١] ، وقد تقدّم القول فيها آنفا في هذه السورة.

والفتنة تحصل من مخالطة المسلمين مع المشركين ، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيرا لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر. فكان إيجاب مقاطعتهم ؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلّا حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلّا بما يقوّيها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين ، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض ، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي ، فلذا كان هذا حسما لوسائل الفتنة.

والتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد والمراد أرض المسلمين.

و «الفساد» ضدّ الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

و «الكبير» حقيقته العظيم الجسم. وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥].

والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضا بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية ، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافا واحدا ، وتجنّب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة. وذلك فساد كبير.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤))

الأظهر أنّ هذه جملة معترضة بين جملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)

١٧٣

[الأنفال : ٧٣] ، وجملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا) [الأنفال : ٧٥] الآية ، والواو اعتراضية للتنويه بالمهاجرين والأنصار ، وبيان جزائهم وثوابهم ، بعد بيان أحكام ولاية بعضهم لبعض بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال : ٧٢] فليست هذه تكريرا للأولى ، وإن تشابهت ألفاظها : فالأولى لبيان ولاية بعضهم لبعض ، وهذه واردة للثناء عليهم والشهادة لهم بصدق الإيمان مع وعدهم بالجزاء.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) لمثل الغرض الذي جيء به لأجله في قوله : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال : ٧٢] كما تقدّم.

وهذه الصيغة صيغة قصر ، أي قصر الإيمان عليهم دون غيرهم ممّن لم يهاجروا ، والقصر هنا مقيّد بالحال في قوله : (حَقًّا). فقوله : (حَقًّا) حال من (الْمُؤْمِنُونَ) وهو مصدر جعل من صفتهم ، فالمعنى : أنّهم حاقّون ، أي محقّقون لإيمانهم بأن عضّدوه بالهجرة من دار الكفر ، وليس الحقّ هنا بمعنى المقابل للباطل ، حتّى يكون إيمان غيرهم ممّن لم يهاجروا باطلا ، لأنّ قرينة قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] مانعة من ذلك ، إذ قد أثبت لهم الإيمان ، ونفى عنهم استحقاق ولاية المؤمنين.

والرزق الكريم هو الذي لا يخالط النفع به ضرّ ولا نكد ، فهو نفع محض لا كدر فيه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ).

بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهجروا بالصراحة ، ابتداء ونفى عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان ، وكان ذلك مثيرا في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم برأب هذه الثّلمة عنهم ، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ).

فكانت هذه الآية بيانا ، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة ، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليبا لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات.

١٧٤

ودخول الفاء على الخبر وهو (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنّه جاء كالجواب عن سؤال السائل ، فكأنّه قيل : وأمّا الذين آمنوا من بعد وهاجروا إلخ ، أي : مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا ، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا ، ف (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) وبذلك صار فعل (آمَنُوا) تمهيدا لما بعده من (هاجَرُوا وَجاهَدُوا) لأن قوله : (مِنْ بَعْدُ) قرينة على أنّ المراد : إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلا في وقت نزول الآيات السابقة ، ليكون أصحاب هذه الصلة قسما مغايرا للأقسام السابقة. فليس المعنى أنّهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية ، لأنّ الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم ، فإنّ من المعلوم أنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، وإنّما المقصود : بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين ، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوف الذي يشير إليه بناء (بَعْدُ) على الضمّ أن تقديره : من بعد ما قلناه في الآيات السابقة ، وإلّا صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدّم ، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردّد فيها بعض المفسّرين في تقدير ما أضيف إليه (بعد).

وفي قوله : (مَعَكُمْ) إيذان بأنّهم دون المخاطبين الذين لم يستقرّوا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون ، وأنّهم فرطوا في الجهاد مدة.

والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعد وهاجروا ، دون الضمير ، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم.

و «من» في قوله : (مِنْكُمْ) تبعيضية ، ويعتبر الضمير المجرور بمن ، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم ، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أنّ ولايتهم للمسلمين.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

قال جمهور المفسّرين قوله : (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي مثلكم في النصر والموالاة ، قال مالك : إنّ الآية ليست في المواريث ، وقال أبو بكر بن العربي : قوله : (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) «يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال ، أي اختلاف القائلين في أنّ المهاجر يرث الأنصاري والعكس ، وهو قول فرقة. وقالوا : إنّها نسخت بآية المواريث.

عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتّحادا بين المعطوفة والمعطوف عليها ، ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأنّ لها حظّا في إتمام التقسيم ، وقد جعلت في

١٧٥

المصاحف مع التي قبلها آية واحدة.

فيظهر أنّ التقاسيم السابقة لمّا أثبتت ولاية بين المؤمنين ، ونفت ولاية من بينهم وبين الكافرين ، ومن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتّى يهاجروا ، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دار الكفر مدّة ، فبيّنت أنّهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين ، وكان ذلك قد يشغل السامعين عن ولاية ذوي أرحامهم من المسلمين ، جاءت هذه الآية تذكّر بأنّ ولاية الأرحام قائمة وأنّها مرجّحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط ، وشأن الصفات والغايات بعد الجمل المتعاطفة أنّها تعود إلى جميع تلك الجمل ، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيّدة الإطلاق الذي فيها.

وظاهر لفظ (الْأَرْحامِ) جمع رحم وهو مقرّ الولد في بطن أمّه ، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة ، فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة ، وهو ما درج عليه جمهور المفسّرين ، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم. قاله القرطبي ، واستدلّ له بأنّ لفظ الرحم يراد به العصابة ، كقول العرب في الدعاء «وصلتك رحم» ، وكقول قتيلة بنت النضر بن الحارث :

ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تمزّق

حيث عبرت عن نوش بني أبيه بتمزيق أرحام.

وعلم من قوله : (أَوْلى) هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أولى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة ، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان ، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولاية النسب ، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة ، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضا ، بحيث لا تزاحم إحدى الولايتين الأخرى ، والاعتناء بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة ، فلذلك علقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه.

وكتاب الله قضاؤه وشرعه ، وهو مصدر ، إمّا باق على معنى المصدرية ، أو هو بمعنى

١٧٦

المفعول ، أي مكتوبة كقول الراعي :

كان كتابها مفعولا (١)

وجعل تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كناية عن عدم تعبيره ، ا لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه. قال الحارث بن حلّزة :

حذر الجور والتّطاخي وهل ين

قض ما في المهارق الأهواء

فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم ، كما ورد في الحديث : «إن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة» الحديث. فلمّا كانت ولاية الأرحام أمرا مقررا في الفطرة ، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تبطل ولاية الرحم إلّا إذا تعارضتا ، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد ، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضا ، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية ، حيث تكون الولاية ، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها ، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين.

واختلف العلماء في أنّ ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث : فقال مالك بن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة ، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاصّ إذ ليست صيغتها صيغة عموم ، لأن مناط الحكم قوله : (أَوْلى بِبَعْضٍ).

وقال جماعة تشمل ولاية الميراث ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : نسخت هذه الولاية بآية المواريث ، فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» فيكون تخصيصا للعموم عندهم.

وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام ، وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة ، فتكون هذه الآية مقيّدة لإطلاق آية المواريث ، وقد علمت ممّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضا جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال. وأيّا ما كانت فقد

__________________

(١) أول البيت.

حتى إذا قرت عجاجة فتنة

عمياء كان كتابها مفعولا

١٧٧

جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل هو مؤذن بالتعليل ؛ لتقرير أولويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية ، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية ، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقّا في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع ، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم ، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة.

١٧٨

محتوى الجزء التاسع من كتاب التحرير والتنوير

٨ ـ سورة الأنفال

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إلى (مُؤْمِنِينَ).......................................... ٨

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)............................... ١٤

(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً)......................................... ١٦

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)........................................................ ١٨

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّل اةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).................................. ١٩

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) إلى (كَرِيمٌ)....................................... ٢٠

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) إلى (يَنْظُرُونَ)............................ ٢٢

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) إلى (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)..................... ٢٧

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) إلى (مُرْدِفِينَ)........................................... ٣٢

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) إلى (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)................................... ٣٤

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) إلى (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).......................... ٣٥

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) إلى (شَدِيدُ الْعِقابِ)............................. ٣٧

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)...................................... ٤٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)..................................... ٤٣

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ)............................................... ٤٩

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)........................................... ٥٠

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ) إلى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)......................................... ٥٢

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)............................................ ٥٣

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إلى (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)........................... ٥٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (وَهُمْ مُعْرِضُونَ)..................................... ٥٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (لِما يُحْيِيكُمْ)....................................... ٦٦

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)....................... ٦٨

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) إلى (شَدِيدُ الْعِقابِ)............ ٧١

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) إلى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)................................. ٧٣

١٧٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (أَجْرٌ عَظِيمٌ)........................................ ٧٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)................................. ٧٩

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).......................... ٨٠

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) إلى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)................................ ٨٢

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَ) إلى (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)....................................... ٨٤

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) إلى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)....................... ٨٨

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) إلى (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).......................... ٩١

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (ثُمَّ يُغْلَبُونَ)............................................ ٩٣

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).................................... ٩٤

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (الْأَوَّلِينَ).............................................. ٩٦

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) إلى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ)............................. ٩٨

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) إلى (قَدِيرٌ).................................. ١٠٠

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) إلى (لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).................................. ١٠٩

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) إلى (بِذاتِ الصُّدُورِ)........................ ١١٥

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ) إلى (تُرْجَعُ الْأُمُورُ).................... ١١٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) إلى (مَعَ الصَّابِرِينَ).................. ١٢١

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) إلى (مُحِيطٌ).......................... ١٢٤

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) إلى (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).................... ١٢٦

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلى (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)..................................... ١٢٨

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).......................... ١٣٠

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) إلى (شَدِيدُ الْعِقابِ).................................... ١٣٣

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) إلى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)........... ١٣٥

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) إلى (ظالِمِينَ).......................................... ١٣٦

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (يَذَّكَّرُونَ).......................... ١٣٧

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) إلى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)................... ١٤١

(ولا تحسبن الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ).............................. ١٤٣

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) إلى (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)..................... ١٤٤

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) إلى (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)......................... ١٤٧

١٨٠