تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨))

عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة ، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم ، فأمره الله أن يردّ إليهم عهدهم ، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة.

والخوف توقع ضر من شيء ، وهو الخوف الحقّ المحمود. وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهوس والتوهّم. وخوف الخيانة ظهور بوارقها. وبلوغ إضمارهم إيّاها ، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء : ٣].

وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) في سورة البقرة [٢٢٩].

و (قَوْمٍ) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة.

والخيانة : ضد الأمانة ، وهي هنا : نقض العهد ، لأنّ الوفاء من الأمانة. وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) في هذه السورة [٢٧].

والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء. وقد مضى عند قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) في سورة البقرة [١٠٠].

وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة ، دون وقوعها ، لأن شئون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريّث ولاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر ، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة ، ولا تدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق ، لأنّ

١٤١

الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد ، وأمكن تدارك فائتها. ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها ، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء ، ومن أمثال العرب : «خذ اللص قبل يأخذك» ، أي وقد علمت أنّه لص.

و (عَلى سَواءٍ) صفة لمصدر محذوف ، أي نبذا على سواء ، أو حال من الضمير في (انبذ) أي حالة كونك على سواء.

و (عَلى) فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه.

و (سَواءٍ) وصف بمعنى مستو ، كما تقدم في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) في سورة البقرة [٦]. وإنما يصلح للاستواء مع معنى (على) الطريق ، فعلم أن (سَواءٌ) وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه ، كما في قوله تعالى : (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) [القمر : ١٣] ، أي سفينة ذات ألواح. وقوله النابغة :

كما لقيت ذات الصّفا من حليفها

أي الحية ذات الصفا.

ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء ، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها ، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] وهذا كما يقال ، في ضدّه : هو يتبع بنيات الطريق ، أي يراوغ ويخاتل.

والمعنى : فانبذ إليهم نبذا واضحا علنا مكشوفا.

ومفعول (انبذ) محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) [الأنفال : ٥٦] وقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أي انبذ عهدهم.

وعدّي «انبذ» ب (إلى) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم ، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم.

وجملة : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تذييل لما اقتضته جملة : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) إلخ تصريحا واستلزاما. والمعنى : لأنّ الله لا يحبّهم ، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرّ على عهدهم فتكون معاهدا لمن لا يحبّهم الله ؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ

١٤٢

خَوَّاناً أَثِيماً) في سورة النساء [١٠٧]. وذكر القرطبي عن النّحاس أنّه قال : «هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه».

قلت : وموقع (إنّ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر ، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما بدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة ، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر ، وطمأنة له وللمسلمين بأنّهم سيدالون منهم ، ويأتون على بقيتهم ، وتهديد للعدوّ بأنّ الله سيمكّن منهم المسلمين.

والسبق مستعار للنجاة ممّن يطلب ، والتلفّت من سلطته. شبه المتخلّص من طالبه بالسابق كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا)[العنكبوت : ٤] وقال بعض بني فقعس :

كأنك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

أي كأنّك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك ، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن ، فما هي إلّا نجاة في وقت قليل ، فهم لا يعجزون الله ، أو لا يعجزون المسلمين ، أي لا يصيّرون من أفلتوا منه عاجزا عن نوالهم ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :

ألم تر أنّ الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزنّي بقعة من بقاعها

وحذف مفعول (يُعْجِزُونَ) لظهور المقصود.

وقرأ الجمهور ولا تحسبن ـ بالتاء الفوقية ـ. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وأبو جعفر (وَلا يَحْسَبَنَ) ـ بالياء التحتية ـ وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب ، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحنا ، وهذا اجتراء منه على أولئك الأئمة وصحة روايتهم ، واحتجّ لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدلّ عليه قوله : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، واحتج لها الزجاج بتقدير (أنّ) قبل (سَبَقُوا) فيكون المصدر سادّا مسدّ المفعولين ، وقيل : حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه.

١٤٣

والتقدير : ولا يحسبنّ حاسب.

وقوله : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قرأه الجمهور ـ بكسر همزة (إِنَّهُمْ) استئناف بياني جوابا عن سؤال تثيره جملة : ولا تحسبن (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) وقرأ ابن عامر أنهم بفتح همزة (أنّ) على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي ، أي لأنّهم لا يعجزون ، قال في «الكشّاف» : كلّ واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلّا أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

عطف جملة : (وَأَعِدُّوا) على جملة : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) [الأنفال : ٥٧] أو على جملة : ولا تحسبن (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) [الأنفال : ٥٩] ، فتفيد مفاد الاحتراس عن مفادها ، لأنّ قوله : ولا تحسبن (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) يفيد توهينا لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتراس أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعل الله إيّاهم لا يعجزون الله ورسوله ، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها.

والإعداد التهيئة والإحضار ، ودخل في (مَا اسْتَطَعْتُمْ) كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العدّة.

والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم ، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها.

والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفا عند قوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٥٢] وعند قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وتطلق القوة مجازا على شدّة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضا على سبب شدّة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ ، وقوته أيضا سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين ، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا. وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال «ألا

١٤٤

إنّ القوة الرمي» قالها ثلاثا ، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي ، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي.

وعطف (رِباطِ الْخَيْلِ) على القوة من عطف الخاصّ على العام ، للاهتمام بذلك الخاصّ.

والرباط صيغة مفاعلة أتي بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو، أي احتباسها وربطها انتظارا للغزو عليها ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ارتبط فرسا في سبيل الله كان روثها وبولها حسنات له» الحديث. يقال : ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه ، وقد سمّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطا ، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك لبيد في قوله :

ولقد حميت الحي تحمل شكّتي

فرط وشاحي إن ركبت زمامها

إلى أن قال :

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

أسهلت وانتصبت كجذع منيفة

جرداء يحصر دونها جرّامها

ثم أطلق الرباط على محرس الثغر البحري ، وبه سمّوا رباط (دمياط) بمصر ، ورباط (المنستير) بتونس ، ورباط (سلا) بالمغرب الأقصى.

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) في سورة آل عمران [٢٠٠].

وجملة : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) إمّا مستأنفة استئنافا بيانيا ، ناشئا عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه ، وهو القوة ، وإمّا في موضع الحال من ضمير (وَأَعِدُّوا).

وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة ، لأنّها أخصر طريق لتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمّهم ، أن كانوا أعداء ربّهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عدّوا أعداء لهم ، فهم أعداء الله ؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين ، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره ، فعطف (وَعَدُوَّكُمْ) على (عَدُوَّ اللهِ) من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :

١٤٥

إلى الملك القرم وابن الهما

م وليث الكتيبة في المزدحم

والإرهاب جعل الغير راهبا ، أي خائفا ، فإنّ العدوّ إذا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه ، ولم يجرأ عليه ، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمنا من أن يغزوهم أعداؤهم ، فيكون الغزو بأيديهم : يغزون الأعداء متى أرادوا ، وكان الحال أوفق لهم ، وأيضا ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم.

والمراد بالآخرين من دونهم أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيدا ، ويتربّص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل. فقوله : (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالا ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ، ولكنّكم تعلمون وجودهم إجمالا مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة ، ولهذا نصب مفعولا واحدا.

وقوله : (مِنْ دُونِهِمْ) مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر (مِنْ دُونِهِمْ) بمعنى : من جهات أخرى ، لأنّ أصل (دون) أنّها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة (دون) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب (آخَرِينَ).

وجملة (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقّبهم والإغراء بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يحصي أعداءهم وينبّههم إليهم.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوّي ، أي تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : (لا تَعْلَمُونَهُمُ) فلو قيل : ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين.

وإذ قد كان إعداد القوّة يستدعي إنفاقا ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته.

١٤٦

والتوفية : أداء الحقّ كاملا ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجر في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس.

وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفّى هو الثواب. والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلا لدينه. وقريب منه قولهم : قضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف.

والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلما حقيقة. وليس هو كالذي في قوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣].

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١))

انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين ، والأمر

بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفّوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم.

والجنوح : الميل ، وهو مشتقّ من جناح الطائر : لأنّ الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش :

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

فمعنى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائر الجانح. وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم ، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا ، فهذا مقابل قوله: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم.

واللام في قوله : (لِلسَّلْمِ) واقعة موقع (إلى) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم

١٤٧

ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ، لأنّ حقّ جنح أن يعدّى ب (إلى) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلّا لغرض ، وفي «الكشّاف» : أنّه يقال جنح له وإليه.

والسلم ـ بفتح السين وكسرها ـ ضدّ الحرب. وقرأه الجمهور ـ بالفتح ـ ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بكسر السين ـ وحقّ لفظه التذكير ، ولكنّه يؤنّث حملا على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثا في كلامهم كثيرا.

والأمر بالتوكّل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمدا في جميع شأنه على الله تعالى ، ومفوّضا إليه تسيير أموره ، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد ، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم ، أي السميع لكلامهم في العهد ، العليم بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم. وقوله : (فَاجْنَحْ لَها) جيء بفعل اجنح لمشاكلة قوله (جَنَحُوا ...).

وطريق القصر في قوله : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم. وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره. وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ : دليل بيّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس ، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك.

واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلها ، منهم مشركون في قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨] ، ومنهم من قيل : إنّهم من أهل الكتاب ، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) [الأنفال : ٥٥ ، ٥٦] الآية. قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير (جَنَحُوا) عائدا إلى المشركين. أو عائدا إلى أهل الكتاب ، أو عائدا إلى الفريقين كليهما.

فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، ورواه عطاء عن ابن عبّاس ، وقيل : عاد إلى أهل

١٤٨

الكتاب ، قاله مجاهد.

فالذين قالوا : إنّ الضمير عائد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة براءة [٥] (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية. ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة.

والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلّا الإسلام بعد نزول آية براءة ، فهي مخصّصة العموم الذي في ضمير (جَنَحُوا) أو مبيّنة إجماله ، وليست من النسخ في شيء. قال أبو بكر بن العربي : «أما من قال إنها منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] فدعوى ، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه».

وهؤلاء قد انقضى أمرهم. وأمّا المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أولى : فإن دعوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين. قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة :

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا

وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه. قد صالح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل خيبر ، ووادع الضمري ، وصالح أكيد ردومة ، وأهل نجران ، وهادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده».

أمّا ما همّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مصالحة عيينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثمار المدينة فذلك قد عدل عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، في جماعة الأنصار : لا نعطيهم إلّا السيف.

فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك ، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف. قال قتادة وعكرمة : نسخت براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن

١٤٩

عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين.

[٦٢ ، ٦٣] (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية ، ليغرّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة ، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم ، ويحملهم على الصدق ، لأنّه الخلق الإسلامي ، وشأن أهل المروءة ، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد ، فإذا بعث العدوّ كفرهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل ، فإنّ الله تكفّل ، للوفي بعهده ، أن يقيه شرّ خيانة الخائنين. وهذا الأصل ، وهو أخذ الناس بظواهرهم ، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : ٤] وفي الحديث : آية المنافق ثلاث ، منها : وإذا وعد أخلف. ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدوّ بعهد.

والمعنى : إن كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعة فإنّ الله كافيك شرّهم. وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] فإنّ ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدوّ ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه.

فجملة : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) دلّت على تكفّل كفايته ، وقد أريد منه أيضا الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال ، وأن لا يتوجّس منه خيفة ، وأنّ ذلك لا يضرّه.

والخديعة تقدّمت في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) من سورة البقرة [٩].

«وحسب» معناه كاف وهو صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل ، أي حاسبك ، أي كافيك وقد تقدّم قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

وتأكيد الخبر ب (إن) مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي ، لأنّ معناه الصريح ممّا لا يشكّ فيه أحد.

وجعل (حَسْبَكَ) مسندا إليه ، مع أنّه وصف ، وشأن الإسناد أن يكون للذات ، باعتبار أنّ الذي يخطر بالبال بادئ ذي بدء هو طلب من يكفيه.

١٥٠

وجملة (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال : على أنّه حسبه ، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحرّج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجّس من ذلك الاحتمال خيفة ، والمعنى : فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم ، فنصرك على العدوّ وهو مجاهر بعدوانه ، فنصره إيّاك عليهم مع مخاتلتهم ، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك ، أولى وأقرب.

وتعدية فعل (يَخْدَعُوكَ) إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه وليّ أمر المسلمين ، والمقصود : وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله ، وقد بدّل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليتوصّل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفا أمّة كاملة.

والتأييد التقوية بالإعانة على عمل. وتقدّم في قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في سورة البقرة [٨٧].

وجعلت التقوية بالنصر : لأنّ النصر يقوي العزيمة ، ويثبت رأي المنصور ، وضدّه يشوش العقل ، ويوهن العزم ، قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في بعض خطبه «وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان حتّى قالت قريش : ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب».

وإضافة النصر إلى الله : تنبيه على أنّه نصر خارق للعادة ، وهو النصر بالملائكة والخوارق ، من أوّل أيّام الدعوة.

وقوله : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) عطف على (بِنَصْرِهِ) وأعيد حرف الجرّ بعد واو العطف لدفع توهّم أن يكون معطوفا على اسم الجلالة فيوهم أنّ المعنى ونصر المؤمنين مع أنّ المقصود أنّ وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفّقهم لاتّباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشا ثابتي الجنان ، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييدا.

والتأليف بين قلوب المؤمنين منّة أخرى على الرسول ، إذ جعل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم ، وأرجى لاجتناء النفع بهم ، إذ يكونون على قلب رجل واحد ، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة ، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم.

وهو أيضا منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن ، التي كانت دأب

١٥١

الناس في الجاهلية ، فكانت سبب التقاتل بين القبائل ، بعضها مع بعض ، وبين بطون القبيلة الواحدة. وأقوالهم في ذلك كثيرة. ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهبي :

مهلا بني عمّنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

الله يعلم أنّا لا نحبكمو

ولا نلومكمو أن لا تحبونا

فلمّا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] ، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلّا بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائج الأنساب ، ولا بدعوات ذوي الألباب.

ولذلك استأنف بعد قوله : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) استئنافا ناشئا عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف ، فهو بياني ، أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم.

فقوله : (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف (لو) الدالّ على عدم الوقوع. وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه ، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين ، لما نظّم الله من ألفتهم ، وأماط عنهم من التباغض. ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بعاث بينهم ، ثم أصبحوا بعد حين إخوانا أنصارا لله تعالى ، وأزال الله من قلوبهم البغضاء بينهم.

و (جَمِيعاً) منصوبا على الحال من (ما فِي الْأَرْضِ) وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع ، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) في سورة هود [٥٥].

وموقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر.

والخطاب في (أَنْفَقْتَ) و (أَلَّفْتَ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله. وإذ كان هذا التكوين صنعا عجيبا ذيّل الله الخبر عنه بقوله : (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء ، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر ، ويجعله كالأمر المسنون المألوف.

١٥٢

والتأكيد ب «إنّ» لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلا على بديع صنع الله تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))

استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة ، مهّد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين ، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله ، من أوّل السورة إلى هنا ، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كامل الاتّساق والانتظام ، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حسبه وكافيه ، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين ، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون ، فكانت جملة : (يا أَيُّهَا) النبي (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كالفذلكة للجملة التي قبلها.

وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله.

والقول في وقوع «حسب» مسندا إليه هنا كالقول في قوله آنفا (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الأنفال : ٦٢].

وفي عطف المؤمنين «على اسم الجلالة هنا : تنويه بشأن كفاية الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، إلّا أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاق المشترك على معنيين ، فهو كقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ).

وقيل يجعل (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) مفعولا معه لقوله : (حَسْبُكَ) بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر ، أو يجعل معطوفا على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف. وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا التشريف ، والتفسير الأول أولى وأرشق.

وقد روي عن ابن عبّاس : أنّ قوله : يا أيها النبي (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب. فتكون مكّيّة ، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة ، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه أنسب لها.

وعن النقّاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر ، قبل ابتداء القتال ، فيكون نزولها متقدّما على أوّل السورة ثم جعلت في هذا الموضع من السورة.

والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتّفاقهم على أنّ الآية التي بعدها

١٥٣

نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحقّقوا كفايتهم الرسول.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥))

أعيد نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله ، لأنّه لما تكفّل الله له الكفاية ، وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم ، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم ، وتلك هي الكفاية بالذبّ عن الحوزة وقتال أعداء الله ، فالتعريف في (الْقِتالِ) للعهد ، وهو القتال الذي يعرفونه ، أعني : قتال أعداء الدين.

والتحريض : المبالغة في الطلب.

ولمّا كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتلين ـ بفتح التاء ـ وكان في ذلك إجمال من الأحوال ، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقلّ منهم ، بيّن هذا الإجمال بقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الآية.

وضمير (مِنْكُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين.

وفصلت جملة (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) لأنها لمّا جعلت بيانا لإجمال كانت مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عمّا يعمل إذا كان عدد العدوّ كثيرا ، فقد صار المعنى : حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية.

و (صابِرُونَ) ثابتون في القتال ، لأنّ الثبات على الآلام صبر ، لأنّ أصل الصبر تحمّل المشاقّ ، والثبات منه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) وفي الحديث : «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا». وقال النابغة :

تجنب بني حن فإنّ لقاءهم

كريه وإن لم تلق إلّا بصابر

وقال زفر بن الحارث الكلابي :

سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا

١٥٤

والمعنى : عرفوا بالصبر والمقدرة عليه ، وذلك باستيفاء ما يقتضيه من أحوال الجسد وأحوال النفس ، وفيه إيماء إلى توخّي انتقاء الجيش ، فيكون قيدا للتحريض ، أي : حرّض المؤمنين الصابرين الذين لا يتزلزلون ، فالمقصود أن لا يكون فيهم من هو ضعيف النفس فيفشل الجيش ، كقول طالوت (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩].

وذكر في جانب جيش المسلمين في المرّتين عدد العشرين وعدد المائة ، وفي جانب جيش المشركين عدد المائتين وعدد الألف ، إيماء إلى قلّة جيش المسلمين في ذاته ، مع الإيماء إلى أنّ ثباتهم لا يختلف باختلاف حالة عددهم في أنفسهم ، فإنّ العادة أنّ زيادة عدد الجيش تقوي نفوس أهله ، ولو مع كون نسبة عددهم من عدد عدوّهم غير مختلفة ، فجعل الله الإيمان قوّة لنفوس المسلمين تدفع عنهم وهن استشعار قلّة عدد جيشهم في ذاته.

أمّا اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة : فلعل وجهه أنّ لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأنّ للفظه مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة ، ولذلك ذكر المائة مع الألف ، لأنّ بعدها ذكر مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة ، وهو قوله : (لا يَفْقَهُونَ) فتعيّن هذا اللفظ قضاء لحقّ الفصاحة.

فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله ، من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم ، لعشرة أمثاله ، وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدوّ الواقع في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥] ، وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] الآية كما تقدّم. وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاقّ اقتضته قلّة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين ، ولم يصل إلينا أنّ المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم ، وقصارى ما علمنا أنّهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر ، فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف ، ثمّ نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التّالية.

والتعريف بالموصول في (الَّذِينَ كَفَرُوا) للإيماء إلى وجه بناء الخير الآتي : وهو سلب الفقاهة عنهم.

والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ) للسببية. أي بعدم فقههم. وإجراء نفي الفقاهة صفة

١٥٥

ل (قَوْمٌ) دون أن يجعل خبرا فيقال : ذلك بأنّهم لا يفقهون ، لقصد إفادة أنّ عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم ، لئلّا يتوهّم أنّ نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن ، وهو شأن الحرب المتحدّث عنه ، للفرق بين قولك : حدّثت فلانا حديثا فوجدته لا يفقه ، وبين قولك : فوجدته رجلا لا يفقه.

والفقه فهم الأمور الخفية ، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم.

وإنّما جعل الله الكفر سببا في انتفاء الفقاهة عنهم : لأنّ الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر ، وعلى تعطيل حركات فكره ، فهم لا يؤمنون إلّا بالأسباب الظاهرية ، فيحسبون أنّ كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلّين لقولهم : «إنما الغرة للكاثر» ، ولأنّهم لا يؤمنون بما بعد الموت من نعيم وعذاب ، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلّا في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح ، والمؤمنون يعوّلون على نصر الله ، ويثبتون للعدوّ رجاء إعلاء كلمة الله ، ولا يهابون الموت في سبيل الله ، لأنّهم موقنون بالحياة الأبدية المسرّة بعد الموت.

وقرأ الجمهور (إِنْ يَكُنْ) ـ بالتاء المثناة الفوقية ـ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وذلك الأصل ، لمراعاة تأنيث لفظ مائة. وقرأها الباقون بالمثنّاة التحتية ، لأنّ التأنيث غير حقيقي ، فيجوز في فعله الاقتران بتاء التأنيث وعدمه ، لا سيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه. والفصل مسوّغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدّة. قال في «الكشّاف» : «وذلك بعد مدّة طويلة». ولعلّه بعد نزول جميع سورة الأنفال ، ولعلّها وضعت في هذا الموضع لأنّها نزلت مفردة غير متّصلة بآيات سورة أخرى ، فجعل لها هذا الموضع لأنّه أنسب بها لتكون متّصلة بالآية التي نسخت هي حكمها ، ولم أر من عيّن زمن نزولها. ولا شكّ أنّه كان قبل فتح مكّة فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا محضا لأنّها آية مستقلة.

و (الْآنَ) اسم ظرف للزمان الحاضر. قيل : أصله أوان بمعنى زمان ، ولمّا أريد تعيينه للزمان الحاضر لازمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري ، فصار مع اللام كلمة

١٥٦

واحدة ولزمه النصب على الظرفية.

وروى الطبري عن ابن عبّاس : «كان لكلّ رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفرّ منهم ، وكانوا كذلك حتّى أنزل الله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)» الآية ، فعبّأ لكلّ رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي ، قال ابن عطية : وذهب بعض الناس إلى أنّ ثبوت الواحد للعشرة إنّما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حطّ ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. قلت : وكلام ابن عبّاس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول.

والوقت المستحضر بقوله : (الْآنَ) هو زمن نزولها. وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين ، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين ، لا أكثر ، رفقا بالمسلمين واستبقاء لعددهم.

فمعنى قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) أنّ التخفيف المناسب ليسر هذا الدين روعي في هذا الوقت ، ولم يراع قبله لمانع منع من مراعاته فرجّح إصلاح مجموعهم.

وفي قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ). وقوله : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين كان وجوبا وعزيمة وليس ندبا خلافا لما نقله ابن عطية عن بعض العلماء. ونسب أيضا إلى ابن عباس كما تقدّم آنفا ، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين ، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفا ، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحا مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة.

وجملة : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) في موضع الحال ، أي : خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفا ، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم ، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب (قد).

وجعل المفسّرون موقع و (عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت ، مع أنّ ضعفهم متحقّق ، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف ، لما كثر عددهم ، وعلمه الله ، فخفّف عنهم ، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ.

ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعف حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع

١٥٧

القليل منهم للكثير من المشركين ، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر.

والضعف : عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة ، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع ، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة ، وجعله مدخول (في) الظرفية يومئ إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في التكليف.

ويجوز في ضاد (ضعف) الضمّ والفتح ، كالمكث والمكث ، والفقر والفقر ، وقد قرئ بهما ؛ فقرأه الجمهور ـ بضمّ الضاد ـ وقرأه عاصم ، وحمزة ، وخلف ـ بفتح الضاد ـ.

ووقع في كتاب «فقه اللغة» للثعالبي أنّ الفتح في وهن الرأي والعقل ، والضم في وهن الجسم ، وأحسب أنّها تفرقة طارئة عند المولّدين.

وقرأ أبو جعفر ضعفاء ـ بضمّ الضاد وبمدّ في آخره ـ جمع ضعيف.

والفاء في قوله : فإن تكن (مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) لتفريع التشريع على التخفيف.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب تكن بالمثناة الفوقية. وقرأه البقية ـ بالتحتية ـ للوجه المتقدّم آنفا.

وعبّر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليه من المشركين بلفظي عددين معيّنين ومثليهما : ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ ، فقوبل ثبات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثبات مائة واحدة للمائتين فأبقي مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة ، إيماء إلى أنّ موجب التخفيف كثرة المسلمين ، لا قلّة المشركين ، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أنّ المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعدّ بالآلاف.

وأعيد وصف مائة المسلمين ب (صابِرَةٌ) لأنّ المقام يقتضي التنويه بالاتّصاف بالثبات.

ولم توصف مائة الكفّار بالكفر وبأنّهم قوم لا يفقهون : لأنّه قد علم ، ولا مقتضي لإعادته.

و (بِإِذْنِ اللهِ) أمره فيجوز أن يكون المراد أمره التكليفي ، باعتبار ما تضمّنه الخبر من الأمر ، كما تقدّم ، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد.

١٥٨

والمجرور في موقع الحال من ضمير (يَغْلِبُوا) الواقع في هذه الآية. وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة. وإنّما صرّح به هنا ، دون ما سبق ، لأنّ غلب الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة ، فيعلم بدءا أنّه بإذن الله ، وأمّا غلب الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئا عن قوة أجساد المسلمين ، فنبّه على أنّه بإذن الله : ليعلم أنّه مطّرد في سائر الأحوال ، ولذلك ذيّل بقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [٦٧ ، ٦٨]

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)).

استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ.

والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد ، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر. لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها.

وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقا بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراما لهم على ذلك النصر المبين ، وسدّا لخلّتهم التي كانوا فيها ، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر. وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس ، والترمذي عن ابن مسعود ، ما مختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفاديهم بالمال وعاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين «ما ترون في هؤلاء الأسارى» ، قال أبو بكر : «يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام» وقال عمر : أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فهوي رسول الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله ما كان لنبي (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية.

ومعنى قوله : هوي رسول الله ما قال أبو بكر : أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك ؛ لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين ، وهم في حاجة إلى المال. ولمّا استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مشورته تعيّن

١٥٩

أنّه لم يوح الله إليه بشيء في ذلك ، وأنّ الله أوكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجّح أحد الرأيين باجتهاد ، وقد أصاب الاجتهاد ، فإنّهم قد أسلم منهم ، حينئذ ، سهيل بن بيضاء ، وأسلم من بعد العباس وغيره ، وقد خفي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء لم يعلمه إلّا الله وهو إضمار بعضهم ـ بعد الرجوع إلى قومهم ـ أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد.

وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يوم أحد ، فلأجل هذا جاء قوله تعالى : ما كان لنبي (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). قال ابن العربي في «العارضة» : روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ، ويقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم» ، فقالوا : يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا.

والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة ، هي نصر الدين ودفع عدائه ، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلا لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال ، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة. فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله : ما كان لنبي.

والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء ، وليس موجّها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه ما فعل إلّا ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: ١٥٩] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء ، وليس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك حظّ.

فمعنى ما كان لنبي أن يكون له أسرى نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون.

وجيء ب (نبيء) نكرة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني

١٦٠