تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

المشركين كانوا عددا كثيرا فناسب أن يحكي تقليلهم بإراءتهم قليلا ، المؤذنة بأنّهم ليسوا بالقليل. وأمّا المسلمون فكانوا عددا قليلا بالنسبة لعدوّهم ، فكان المناسب لتقليلهم : أن يعبّر عنه بأنّه «تقليل» المؤذن بأنّه زيادة في قلّتهم.

وجملة : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تذييل معطوف على ما قبله عطفا اعتراضيا ، وهو اعتراض في آخر الكلام ، وهذا العطف يسمّى : عطفا اعتراضيّا ، لأنّه عطف صوريّ ليست فيه مشاركة في الحكم ، وتسمّى الواو اعتراضية. والتعريف في قوله : (الْأُمُورُ) للاستغراق ، أي جميع الأشياء.

والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء ، والمراد رجوع أسبابها ، أي إيجادها ، فإنّ الأسباب قد تلوح جارية بتصرّف العباد وتأثير الحوادث ، ولكن الأسباب العالية ، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسباب المعتادة ، لا يتصرّف فيها إلّا الله وهو مؤثّرها وموجدها. على أنّ جميع الأسباب ، عاليها وقريبها ، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائع ، فرجوع الجميع إليه ، ولكنّه رجوع متفاوت على حسب جريه على النظام المعتاد ، وعدم جريه ، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد ، وهو عند التأمّل الحقّ راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كلّ صانع. والذوات وأحوالها كلّها من الأمور ، ومآلها كلّه رجوع ، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرّف ، كالذي في قوله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦].

والمعنى : ولا عجب في ما كوّنه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر ، فإنّ الإراءة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة ، والإراءة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب (تُرْجَعُ) ـ بضمّ التاء وفتح الجيم ـ أي يرجعها ، راجع إلى الله ، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه. وقرأ البقية (تُرْجَعُ) ـ بفتح التاء وكسر الجيم ـ أي : ترجع بنفسها إلى الله ، ورجوعها هو برجوع أسبابها.

[٤٥ ، ٤٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦))

لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته ، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم ،

١٢١

وكيف خذل أعداءهم ، وصرفهم عن أذاهم ، فاستتبّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم ، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيّئ لهم النصر في المواقع كلّها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييده إيّاهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قوام النصر في الحروب. وهذه الجمل معترضة بين جملة : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) [الأنفال : ٤٤] وجملة : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨].

وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماما بها ، وجعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى ، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاء أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١].

واللقاء : أصله مصادفة الشخص ومواجهته ، باجتماع في مكان واحد ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣]. وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال ، فيرادف القتال والنزال.

وقد تقدم اللقاء قريبا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ١٥] وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة : فئة خاصّة وهي فئة العدوّ ، يعني المشركين.

و «الفئة» الجماعة من الناس ، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) في سورة البقرة [٢٤٩].

وذكر الله ، المأمور به هنا : هو ذكره باللسان ، لأنّه يتضمّن ذكر القلب ، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه ، وسمع الذكر بسمعه ، وذكّر من يليه بذلك الذّكر ، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد ، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهر وصفه ب «كثير» لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة ، والمقصود تذكر أنّه الناصر. وهذان أمران أمروا بهما وهما يخصّان المجاهد في نفسه ، ولذلك قال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فهما لإصلاح الأفراد ، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم ، وهي علائق بعضهم مع بعض ، وهي الطاعة وترك التنازع ، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين ، مثل الغنائم. وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آراء الحرب ، كقوله للرّماة يوم أحد : «لا تبرحوا من مكانكم ولو تخطّفنا الطير». وتشمل طاعة الرسول عليه

١٢٢

الصلاة والسلام طاعة أمرائه في حياته ، لقوله : «ومن أطاع أميري فقد أطاعني» وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغيبة عن شخصه.

وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك : بالتفاهم والتشاور ، ومراجعة بعضهم بعضا ، حتّى يصدروا عن رأي واحد ، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣]. وقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩]. والنهي عن التنازع أعمّ من الأمر بالطاعة لولاة الأمور : لأنّهم إذا نهوا عن التنازع بينهم ، فالتنازع مع ولي الأمر أولى بالنهي.

ولمّا كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء ، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسط القرآن القول فيه ببيان سيّئ آثاره ، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله : (فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) فحذّرهم أمرين معلوما سوء مغبتهما : وهما الفشل وذهاب الريح.

والفشل : انحطاط القوة وقد تقدّم آنفا عند قوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) [الأنفال : ٤٣] وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدوّ ، ويصحّ أن يكون تمثيلا لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه ، في انعدام إقدامه على العمل. وإنّما كان التنازع مفضيا إلى الفشل ؛ لأنّه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم ، ويحدث فيهم أن يتربّص بعضهم ببعض الدوائر ، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتّقاء بعضهم بعضا ، وتوقع عدم الفاء النصير عند مآزق القتال ، فيصرف الأمّة عن التوجّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم ، فيتمكّن منهم العدوّ ، كما قال في سورة آل عمران [١٥٢] (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ).

والريح حقيقتها تحرّك الهواء وتموّجه ، واستعيرت هنا للغلبة ، وأحسب أنّ وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أنّ الريح لا يمانع جريها ولا عملها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية ، لعبيد بن الأبرص :

كما حميناك يوم النعب من شطب

والفضل للقوم من ريح ومن عدد

وفي «الكشّاف» قال سليك بن السلكة :

١٢٣

يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي

إلّا عبيد قعود بين أذواد

هل تنظران قليلا ريث غفلتهم

أو تعدوان فإنّ الريح للعادي (١)

وقال الحريري ، في ديباجة «المقامات» : «قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه».

والمعنى : وتزول قوتكم ونفوذ أمركم ، وذلك لأنّ التنازع يفضي إلى التفرّق ، وهو يوهن أمر الأمّة ، كما تقدّم في معنى الفشل.

ثم أمرهم الله بشيء يعمّ نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ، ويسهل عليهم الأمور الأربعة ، التي أمروا بها آنفا في قوله : (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) وفي قوله :(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا) الآية. ألا وهو الصبر ، فقال : (وَاصْبِرُوا) لأنّ الصبر هو تحمّل المكروه ، وما هو شديد على النفس ، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره ، فالصبر يجمع تحمّل الشدائد والمصاعب ، ولذلك كان قوله : (وَاصْبِرُوا) بمنزلة التذييل.

وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) إيماء إلى منفعة للصبر إلهية ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالا لأمره ، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها.

وجملة (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) قائمة مقام التعليل للأمر ، لأنّ حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع ، كما تقدّم في مواضع.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

جملة : (وَلا تَكُونُوا) معطوفة على (وَلا تَنازَعُوا) [الأنفال : ٤٦] عطف نهي على نهي.

ويصحّ أن تكون معطوفة على جملة (فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥] عطف نهي على أمر ، إكمالا لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء ، بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر ، وأن يتجنّبوا

__________________

(١) تنظران من النظرة ، أي الانتظار. والمعنى هل تترقبان ساعة غفلة العبيد فتختلسا الذود أو تعدوان على العبيد غصبا.

١٢٤

ما يفسد إخلاصهم في الجهاد.

وجيء في نهيهم عن البطر والرئاء بطريقة النهي عن التشبّه بالمشركين إدماجا للتشنيع بالمشركين وأحوالهم ، وتكريها للمسلمين تلك الأحوال ، لأنّ الأحوال الذميمة تتّضح مذمتها ، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند آخرين ، وذلك أبلغ في النهي ، وأكشف لقبح المنهي عنه. ونظيره قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] وقد تقدّم آنفا. فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبدر إذ خرجوا بطرا ورئاء الناس ، لأنّ حقّ كلّ مسلم أن يريد بكلّ قول وعمل وجه الله ، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية.

والموصول مراد به جماعة خاصّة ، وهم أبو جهل وأصحابه ، وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر ، فإنّهم خرجوا من مكة بقصد حماية غيرهم فلمّا بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان ، وهو كبير العير يخبرهم أنّ العير قد سلمت ، فقال أبو جهل : «لا نرجع حتّى نقدم بدرا نشرب بها وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب حتّى يتسامع العرب بأنّنا غلبنا محمدا وأصحابه». فعبّر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر ، بالخروج لأنّه تكملة لخروجهم من مكة.

وانتصب (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) على الحالية ، أي بطرين مراءين ، ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكّن الصفتين منهم لأنّ البطر والرياء خلقان من خلقهم.

و «البطر» إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة ، والاستكبار والفخر بها ، فالمشركون لمّا خرجوا من الجحفة ، خرجوا عجبا بما هم فيه من القوة والجدّة.

«والرئاء» ـ بهمزتين ـ أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة. ووزنه فعال مصدر راءى فاعل من الرؤية ويقال : مراءاة ، وصيغة المفاعلة فيه مبالغة ، أي بالغ في إراءة الناس عمله محبّة أن يروه ليفخر عليهم.

و (سَبِيلِ اللهِ) الطريق الموصلة إليه ، وهو الإسلام ، شبّه الدين في إبلاغه إلى رضى الله تعالى ، بالسبيل الموصّل إلى بيت سيّد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه.

وجيء في (يَصُدُّونَ) بصيغة الفعل المضارع للدلالة على حدوث وتجدّد صدّهم الناس عن سبيل الله ، وأنّهم حين خرجوا صادّين عن سبيل الله ومكرّرين ذلك ومجدّدينه. وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة ، وأمّا التجدّد فمستفاد من المضارعية ولا يجعل

١٢٥

الحال مقدّرة.

وقوله : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تذكير للمسلمين بصريحه ، ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي ، لأنّ إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى ، ويلزمه أنّه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليم القدير من اعتدى على حرمه ، والجملة حال من ضمير (كَالَّذِينَ خَرَجُوا) [الأنفال : ٤٧].

وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى مجاز عقلي ، لأنّ المحيط هو علم الله تعالى فإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨))

(وَإِذْ زَيَّنَ) عطف على (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) [الأنفال : ٤٤] الآية. وما بينهما اعتراض ، رتّب نظمه على أسلوبه العجيب ؛ ليقع هذا الظرف عقب تلك الجمل المعترضة ، فيكون له إتمام المناسبة بحكاية خروجهم وأحواله ، فإنّه من عجيب صنع الله فيما عرض للمشركين من الأحوال في خروجهم إلى بدر ، ممّا كان فيه سبب نصر المسلمين ، وليقع قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الأنفال : ٤٧] عقب أمر المسلمين بما ينبغي لهم عند اللقاء ، ليجمع لهم بين الأمر بما ينبغي والتحذير ممّا لا ينبغي ، وترك التشبه بمن لا يرتضى ، فيتمّ هذا الأسلوب البديع المحكم الانتظام.

وأشارت هاته الآية إلى أمر عجيب كان من أسباب خذلان المشركين إذ صرف الله عن المسلمين كيدا لهم حين وسوس الشيطان لسراقة بن مالك بن جعشم الكناني أن يجيء في جيش من قومه بني كنانة لنصر المشركين حين خرجوا للدفاع عن عيرهم ، فألقى الله في روع سراقة من الخوف ، ما أوجب انخزاله وجيشه عن نصر المشركين ، وأفسد الله كيد الشيطان بما قذفه الله في نفس سراقة من الخوف وذلك أنّ قريشا لمّا أجمعوا أمرهم على السير إلى إنقاذ العير ذكروا ما كان بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد أن يثبّطهم عن الخروج ، فلقيهم في مسيرهم سراقة بن مالك في جند معه راية وقال لهم : لا غالب لكم اليوم ، وإنّي مجيركم من كنانة ، فقوي عزم قريش على المسير ، فلمّا أمعنوا السير وتقارب المشركون من منازل جيش المسلمين ، ورأى سراقة الجيشين ، نكص سراقة بمن معه

١٢٦

وانطلقوا ، فقال له الحارث بن هشام ، أخو أبي جهل : «إلى أين أتخذلنا في هذه الحال» فقال سراقة «إني أرى ما لا ترون» فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير ، حتّى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر ، وكان خروج سراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان ، لئلا ينثني قريش عن الخروج ، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتمّ نصر المسلمين ، وكان خاطر رجوع سراقة خاطرا ملكيا ساقه الله إليه ؛ لأنّ سراقة لم يزل يتردّد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق الهجرة ، حين شاهد معجزة سوخ قوائم فرسه في الأرض ، وأخذه الأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة ، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح.

وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم ، يجوز أن يكون إسنادا مجازيا ، وإنّما المزيّن لهم سراقة بإغراء الشيطان ، بما سوّل إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم ، وأن لا يخشوا غدر كنانة بهم ، وقيل تمثّل الشّيطان للمشركين في صورة سراقة ، وليس تمثّل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنّما روي ذلك عن قول ابن عبّاس ، وتأويل ذلك : أنّ ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان ، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنّه فعل فعل الشيطان كما يقولون : فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسنادا حقيقا أي زيّن لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته ، وكذلك إسناد قوله : (لا غالِبَ لَكُمُ) إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سراقة المتأثر بوسوسة الشيطان. وكذلك قوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ).

وقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه ، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنّهم يسمعونه ، فقال قوله هذا ، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضرّوه بإذن الله وقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) بيان لقوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله. وإن كان ذلك كلّه من قول سراقة فهو إعلان لهم بردّ جواره إيّاهم لئلا يكون خائنا لهم ، لأنّ العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه ، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم ردّ جواره من أبي بكر ، ومنه قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨] فالمعنى : إنّي بريء من جواركم ، ولذلك قال له الحارث بن هشام : «إلى أين أتخذلنا» فيكون قد اقتصر على

١٢٧

تأمينهم من غدر قومه بني كنانة. وتكون الرؤية علمية ومفعولها الثاني محذوفا اقتصارا.

وأمّا قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) فعلى احتمال أن يكون الإسناد إلى الشيطان حقيقة فالمراد من خوف الله توقع أن يصيبه الله بضرّ ، من نحو الرجم بالشهب ، وإن كان مجازا عقليا وأنّ حقيقته قول سراقة فلعلّ سراقة قال قولا في نفسه ، لأنّه كان عاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يدلّ عليه المشركين ، فلعلّه تذكّر ذلك ورأى أنّ فيما وعد المشركين من الإعانة ضربا من خيانة العهد فخاف سوء عاقبة الخيانة.

و «التزيين» إظهار الشيء زينا ، أي حسنا ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨] ، وفي قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٢١٢]. والمعنى : أنّه أراهم حسنا ما يعملونه من الخروج إلى إنقاذ العير ، ثم من إزماع السير إلى بدر.

و (تَراءَتِ) مفاعلة من الرؤية ، أي رأت كلتا الفئتين الأخرى.

و (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع من حيث جاء. وعن مؤرج السدوسي : أنّ نكص رجع بلغة سليم ، ومصدره النكوص وهو من باب رجع.

وقوله : (عَلى عَقِبَيْهِ) مؤكّد لمعنى نكص إذ النكوص لا يكون إلّا على العقبين ، لأنّه الرجوع إلى الوراء كقولهم : رجع القهقرى ، ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمنين [٦٦] : (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ).

و (عَلى) مفيدة للتمكّن من السير بالعقبين. والعقبان : تثنية العقب ، وهو مؤخّر الرجل ، وقد تقدّم في قوله : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) في سورة الأنعام [٧١].

والمقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر لأنّ عقب الرجل أخسّ القوائم لملاقاته الغبار والأوساخ.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

يتعلّق (إِذْ يَقُولُ) بأقرب الأفعال إليه وهو قوله : (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨] مع ما عطف عليه من الأفعال ، لأنّ (إِذْ) لا تقتضي أكثر من المقارنة في الزمان بين ما تضاف إليه وبين متعلّقها ، فتعين أن يكون قول المنافقين واقعا في وقت تزيين

١٢٨

الشيطان أعمال المشركين فيتم تعليق وقت قول المنافقين بوقت تزيين الشيطان أعمال المشركين ، وإنّما تطلب المناسبة لذكر هذا الخبر عقب الذي وليه هو ، وتلك هي أنّ كلا الخبرين يتضمّن قوّة جيش المشركين ، وضعف جيش المسلمين ، ويقين أولياء الشيطان بأنّ النصر سيكون للمشركين على المسلمين. فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين بتأمينهم من عدوّ يخشونه فانحازت إليهم علنا ، وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء. والخبر الثاني : عن طائفتين شوّهتا صنيع المسلمين حمّقتاهم ونسبتاهم إلى الغرور فأسرّوا ذلك ولم يبوحوا به ، وتحدّثوا به فيما بينهم ، أو أسرّوه في نفوسهم.

فنظم الكلام هكذا : وزيّن الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلّة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا.

و «القول» هنا مستعمل في حقيقته ومجازه : الشامل لحديث النفس ، لأنّ المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين ، بل هم من لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم. فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشكّ في صدق وعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّهم غير موالين للمنافقين ، ويجوز أن يتحدّثوا به بين جماعتهم.

و «المرض» هنا مجاز في اختلال الاعتقاد ، شبه بالمرض بوجه سوء عاقبته عليهم. وقد تقدّم في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في أول البقرة [١٠].

وأشاروا ب (هؤُلاءِ) إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر ، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد ، لأنّهم مذكورون في حديثهم أو مستحضرون في أذهانهم ، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين.

والغرور : الإيقاع في المضرّة بإيهام المنفعة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في سورة آل عمران [١٩٦] ، وقوله : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في سورة الأنعام [١١٢].

والدين هو الإسلام ، وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] الآية ، أي غرّهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير ، والمعنى : إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل

١٢٩

حصول النصر. فإطلاق الغرور هنا مجاز ، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية.

وجملة : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) معطوفة على جملة : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨] لأنّها من جملة الأخبار المسوقة ؛ لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين ، وللامتنان عليهم ، فالمناسبة بينها وبين الجملة التي قبلها : أنها كالعلّة لخيبة ظنون المشركين ونصرائهم ، أي أنّ الله خيّب ظنونهم لأنّ المسلمين توكّلوا عليه وهو عزيز لا يغلب ، فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره ، وهو حكيم يكوّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر.

والتوكّل : الاستسلام والتفويض ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

وجعل قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جوابا للشرط باعتبار لازمه وهو عزّة المتوكّل على الله وإلفائه منجيا من مضيق أمره ، فهو كناية عن الجواب وهذا من وجوه البيان وهو كثير الوقوع في القرآن ، وعليه قول زهير :

من يلق يوما على علاته هرما

يلق السماحة فيه والندى خلقا

أي ينل من كرمه ولا يتخلّف ذلك عنه في حال من الأحوال ، وقول الربيع بن زياد العبسي :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه

بالليل قبل تبلّج الأسفار

أي من كان مسرورا بمقتله فسروره لا يدوم إلّا بعض يوم ثم يحزنه أخذ الثأر إمّا من ذلك المسرور إن كان هو القاتل أو من أحد قومه وذلك يحزن قومه.

[٥٠ ، ٥١] (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١))

لمّا وفّي وصف حال المشركين حقّه ، وفصّلت أحوال هزيمتهم ببدر ، وكيف أمكن الله منهم المسلمين ، على ضعف هؤلاء وقوة أولئك ، بما شاهده كلّ حاضر حتّى ليوقن السامع أنّ ما نال المشركين يومئذ إنّما هو خذلان من الله إيّاهم ، وإيذان بأنّهم لاقون

١٣٠

هلاكهم ما داموا مناوئين لله ورسوله ، انتقل إلى وصف ما لقيه من العذاب من قتل منهم يوم بدر ، ممّا هو مغيب عن الناس ، ليعلم المؤمنون ويرتدع الكافرون ، والمراد بالذين كفروا هنا الذين قتلوا يوم بدر ، وتكون هذه الآية من تمام الخبر عن قوم بدر.

ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا جميع الكافرين حملا للموصول على معنى العموم فتكون الآية اعتراضا مستطردا في خلال القصّة بمناسبة وصف ما لقيه المشركون في ذلك اليوم ، الذي عجّل لهم فيه عذاب الموت.

وابتدئ الخبر ب (وَلَوْ تَرى) مخاطبا به غير معين ، ليعمّ كلّ مخاطب ، أي : لو ترى أيّها السامع ، إذ ليس المقصود بهذا الخبر خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى يحمل الخطاب على ظاهره ، بل غير النبي أولى به منه ، لأن الله قادر أن يطلع نبيه على ذلك كما أراه الجنّة في عرض الحائط.

ثمّ إن كان المراد بالذين كفروا مشركي يوم بدر ، وكان ذلك قد مضى يكن مقتضى الظاهر أن يقال : ولو رأيت إذ توفّى الذين كفروا الملائكة. فالإتيان بالمضارع في الموضعين مكان الماضي ؛ لقصد استحضار تلك الحالة العجيبة ، وهي حالة ضرب الوجوه والأدبار ، ليخيّل للسامع أنّه يشاهد تلك الحالة ، وإن كان المراد المشركين حيثما كانوا كان التعبير بالمضارع على مقتضى الظاهر.

وجواب (لَوْ) محذوف تقديره : لرأيت أمرا عجيبا. وقرأ الجمهور : يتوفّى ـ بياء الغائب ـ وقرأه ابن عامر : تتوفّى ـ بتاء التأنيث ـ رعيا لصورة جمع الملائكة.

والتوفّي : الإماتة سمّيت توفّيا ؛ لأنها تنهي حياة المرء أو تستوفيها (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١].

وجملة : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) في موضع الحال إن كان المراد من التوفّي قبض أرواح المشركين يوم بدر حين يقتلهم المسلمون ، أي : يزيدهم الملائكة تعذيبا عند نزع أرواحهم ، وهي بدل اشتمال من جملة : (يَتَوَفَّى) إن كان المراد بالتوفّي توفيا يتوفّاه الملائكة الكافرين.

وجملة : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) معطوفة على جملة : (يَضْرِبُونَ) بتقدير القول ، لأنّ هذه الجملة لا موقع لها مع التي قبلها ، إلّا أن تكون من قول الملائكة ، أي : ويقولون : ذوقوا عذاب الحريق كقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ

١٣١

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] ، وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢].

وذكر الوجوه والأدبار للتعميم ، أي : يضربون جميع أجسادهم. فالأدبار : جمع دبر وهو ما دبر من الإنسان. ومنه قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)[القمر : ٤٥].

وكذلك الوجوه كناية عمّا أقبل من الإنسان ، وهذا كقول العرب : ضربته الظهر والبطن ، كناية عمّا أقبل وما أدبر أي ضربته في جميع جسده.

و «الذوق» مستعمل في مطلق الإحساس ، بعلاقة الإطلاق.

وإضافة العذاب إلى الحريق من إضافة الجنس إلى نوعه ، لبيان النوع ، أي عذابا هو الحريق ، فهي إضافة بيانية.

و (الْحَرِيقِ) هو اضطرام النار ، والمراد به جهنّم ، فلعلّ الله عجّل بأرواح هؤلاء المشركين إلى النار قبل يوم الحساب ، فالأمر مستعمل في التكوين ، أي : يذيقونهم ، أو مستعمل في التشفّي ، أو المراد بقول الملائكة (وَذُوقُوا) إنذارهم بأنّهم سيذوقونه ، وإنّما يقع الذوق يوم القيامة ، فيكون الأمر مستعملا في الإنذار كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠] بناء على أنّ التمتّع يؤذن بشيء سيحدث بعد التمتّع مضاد لما به التمتّع.

واسم الإشارة (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) إلى ما يشاهدونه من العذاب ، وجيء بإشارة البعيد لتعظيم ما يشاهدونه من الأهوال.

والجملة مستأنفة لقصد التنكيل والتشفّي. والباء للسببية ، وهي ، مع المجرور ، خبر عن اسم الإشارة.

و «ما» في قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) موصولة ، ومعنى (قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أسلفته من الأعمال فيما مضى ، أي من الشرك وفروعه من الفواحش.

وذكر الأيدي استعارة مكنية بتشبيه الأعمال التي اقترفوها ، وهي ما صدق (بِما قَدَّمَتْ) بما يجتنيه المجتني من الثمر ، أو يقبضه البائع من الأثمان ، تشبيه المعقول بالمحسوس ، وذكر رديف المشبه وهو الأيدي التي هي آلة الاكتساب ، أي : بما قدّمته أيديكم لكم.

١٣٢

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) والتقدير : وبأنّ الله ليس بظلام للعبيد ، وهذا علّة ثانية لإيقاع تلك العقوبة عليهم ، فالعلة الأولى ، المفادة من باء السببية تعليل لإيقاع العقاب. والعلّة الثانية ، المفادة من العطف على الباء ومجرورها ، تعليل لصفة العذاب ؛ أي هو عذاب معادل لأعمالهم ، فمورد العلّتين شيء واحد لكن باختلاف الاعتبار.

ونفي الظلم عن الله تعالى كناية عن عدله ، وأنّ الجزاء الأليم كان كفاء للعمل المجازى عنه دون إفراط.

وجعل صاحب «الكشّاف» التعليلين لشيء واحد ، وهو ذلك العذاب ، فجعلهما سببين لكفرهم ومعاصيهم ، وأنّ التعذيب من العدل مثل الإثابة ، وهو بعيد ، لأنّ ترك الله المؤاخذة على الاعتداء على حقوقه إذا شاء ذلك ، ليس بظلم ، والموضوع هو العقاب على الإشراك والفواحش ، وأمّا الاعتداء على حقوق الناس فترك المؤاخذة به على تسليم أنّه ليس بعدل ، وقد يعوض المعتدى عليه بترضية من الله ، فلذلك كان ما في «الكشّاف» غير خال عن تعسف حمله عليه الإسراع لنصرة مذهب الاعتزال من استحالة العفو عن العصاة ، لأنّه مناف للعدل أو للحكمة.

ونفي ظلّام ـ بصيغة المبالغة ـ لا يفيد إثبات ظلم غير قوي ؛ لأنّ الصيغ لا مفاهيم لها ، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأنّ المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيرا في مثل هذا ، ويزاد هنا الجواب باحتمال أنّ الكثرة باعتبار تعلّق الظلم المنفي ، لو قدر ثبوته ، بالعبيد الكثيرين ، فعبّر بالمبالغة عن كثرة إعداد الظلم باعتبار تعدّد أفراد معموله.

والتعريف باللام في العبيد عوض عن المضاف إليه ، أي : لعبيده كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] ويجوز أن يكون العبيد أطلق على ما يرادف الناس كما أطلق العباد في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في سورة يس [٣٠].

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))

(كَدَأْبِ) خبر مبتدأ محذوف ، وهو حذف تابع للاستعمال في مثله ، فإنّ العرب إذا تحدّثوا عن شيء ثم أتوا بخبر دون مبتدأ علم أنّ المبتدأ محذوف ، فقدّر بما يدل عليه الكلام السابق.

١٣٣

فالتقدير هنا : دأبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ، أي من الأمم المكذّبين برسل ربّهم ، مثل عاد وثمود.

والدأب : العادة والسيرة المألوفة ، وقد تقدّم مثله في سورة آل عمران. وتقدّم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر. ولا فرق بين الآيتين إلّا اختلاف العبارة ، ففي سورة آل عمران [١١] (كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهنا (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) ، وهنالك (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [آل عمران ١١] وهنا (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ).

فأمّا المخالفة بين (كَذَّبُوا) [آل عمران : ١١] و (كَفَرُوا) فلأنّ قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبّر بالكفر بالآيات عن جحد الآيات الدالّة على وحدانية الله تعالى ، لأنّ الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى. وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها ، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات ، أي التكذيب بآيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وجحد الآيات الدالّة على صدقه. فأمّا في سورة آل عمران [١١] فقد ذكر تكذيبهم بالآيات ، أي الدالّة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنّ التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبر ، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به ، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه ، فعبّر عن الذين شابهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب.

فأمّا الإظهار هنا في مقام الإضمار ، فاقتضاه أنّ الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة ؛ ليدلّ على الذات بعنوان الإله الحقّ وهو الوحدانية.

وأمّا الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيبا لآيات دالّة على ثبوت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلّم.

وأمّا الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا ، دونه في سورة آل عمران [١١] ، فلأنّه قصد هنا التعريض بالمشركين ، وكانوا ينكرون قوّة الله عليهم ، بمعنى لازمها ، وهو إنزال الضرّ بهم ، وينكرون أنّه شديد العقاب لهم ، فأكّد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين ، وفي سورة آل عمران [١١] لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب ، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله ، عقبه : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢] الآية.

١٣٤

وزيد وصف «قوي» هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد. والقوي الموصوف بالقوة ، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها ، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك.

وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٤٥]. وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهي منتهى القدرة على فعل ما تتعلّق به إرادته تعالى من الممكنات. والمقصود من ذكر هذين الوصفين : الإيماء إلى أنّ أخذهم كان قويا شديدا ، لأنّه عقاب قوي شديد العقاب ، كقوله : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: ٤٢] ، وقوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢].

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ)

(سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣))

استئناف بياني. والإشارة إلى مضمون قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٥٢] أي ذلك المذكور بسبب أنّ الله لم يك مغيّرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم.

والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه ، وبالخبر. والتسبيب يقتضي أنّ آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة ، وأنّ ذلك جرى على سنة الله أنّه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ذلك بأنفسهم ، وأنّ قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسبّبوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨].

وهذا إنذار لقريش يحلّ بهم مثل ما حلّ بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة. فقوله : (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) مؤذن بأنّه سنة الله ومقتضى حكمته ، لأنّ نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيّه.

و «التغيير» تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديل صورة جسم كما يقال : غيّرت داري ، ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغه ، وكأنه مشتقّ من الغير وهو المخالف ، فتغيير النعمة إبدالها بضدّها وهو النقمة وسوء الحال ، أي تبديل حالة حسنة بحالة سيّئة.

١٣٥

ووصف النعمة ب (أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) للتذكير بأنّ أصل النعمة من الله.

و (ما بِأَنْفُسِهِمْ) موصول وصلة ، والباء للملابسة ، أي ما استقرّ وعلق بهم. وما صدق (ما) النعمة التي أنعم الله عليهم كما يؤذن به قوله : (مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) والمراد بهذا التغيير تغيير سببه. وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران.

ذلك أنّ الأمم تكون صالحة ثم تتغيّر أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها ، فذلك تغيير ما كانوا عليه ؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم ، فإذا أصلحوا استمرّت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل (نينوى) ، وإذا كذّبوا وبطروا النعمة غيّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة. فالغاية المستفادة من (حَتَّى) لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متّسعة ، لأنّ الأقوام إذا غيّروا ما بأنفسهم من هدى ؛ أمهلهم الله زمنا ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبّههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدّة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصرّوا على الكفر غيّر نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذلّ أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلّط عليهم الأشوريين.

و (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على قوله : (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) أي ذلك بأنّ الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم. وذكر صفة (سَمِيعٌ) قبل صفة (عَلِيمٌ) يومئ إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرّض بهم متعلّق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

تكرير لقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) المذكور قبله لقصد التأكيد والتسميع ، تقرير للإنذار والتهديد ، وخولف بين الجملتين تفنّنا في الأسلوب ، وزيادة للفائدة ، بذكر التكذيب هنا بعد ذكر الكفر هناك ، وهما سببان للأخذ والإهلاك كما قدّمناه آنفا.

وذكر وصف الربوبية هنا دون الاسم العلم لزيادة تفظيع تكذيبهم ، لأنّ الاجتراء على الله مع ملاحظة كونه ربّا للمجترئ ، يزيد جراءته قبحا لإشعاره بأنّها جراءة في موضع الشكر ، لأنّ الربّ يستحقّ الشكر.

وعبر بالإهلاك عوض الأخذ المتقدّم ذكره ليفسّر الأخذ بأنّه آل إلى الإهلاك ، وزيد

١٣٦

الإهلاك بيانا بالنسبة إلى آل فرعون بأنّه إهلاك الغرق.

وتنوين (كُلٌ) للتعويض عن المضاف إليه ، أي : وكل المذكورين ، أي آل فرعون والذين من قبلهم.

[٥٥ ـ ٥٧] (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧))

استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفّار آخرين هم الذين بيّنهم بقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) الآية. وهؤلاء عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم على كفرهم ، ثم نقضوا عهدهم ، وهم مستمرّون على الكفر ، وإنّما وصفهم ب (شَرَّ الدَّوَابِ) لأنّ دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة ، ومعجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسطع ، ولأنّ الدلالة على أحقّية الإسلام دلالة عقلية بيّنة ، فمن يجحده فهو أشبه بما لا عقل له ، وقد اندرج الفريقان من الكفّار في جنس (شَرَّ الدَّوَابِ).

وتقدّم آنفا الكلام على نظير قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) [الأنفال : ٢٢] الآية.

وتعريف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنّهم شرّ الدوابّ.

والفاء في (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) عطفت صلة على صلة ، فأفادت أنّ الجملة الثانية من الصلة ، وأنّها تمام الصلة المقصودة للإيماء ، أي : الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام. ولمّا كان هذا الوصف هو الّذي جعلهم شرّ الدوابّ عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أنّ سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين ، وأتى بصلة (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) جملة اسمية ؛ لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنّهم غير مرجو منهم الإيمان.

فإنّ تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي ، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم ، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قويا فهم بعداء عنه أشدّ الابتعاد.

وليس التقديم هنا مفيدا للتخصيص ؛ لأنّ التخصيص لا أثر له في الصلة ، ولأنّ

١٣٧

الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي ، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي ، أن لا يفيد تقديمه إلّا التّقوي ، دون التخصيص ، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٢] إذ لا يراد وأنتم دون غيركم لا تظلمون.

فقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا مطابقا ، فالذين عاهدهم هم الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون. وتعدية (عاهَدْتَ) بمن للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزاما من جانبهم ، لأنّه يقال أخذت منه عهدا ، أي التزاما ، فلمّا ذكر فعل المفاعلة ، الدالّ على حصول الفعل من الجانبين ، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوّا ، وليست من تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّها إلى بعض الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون ، وهم الذين ينقضون عهدهم.

وعن ابن عباس ، وقتادة : أنّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه ، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعدّة يوم بدر ، واعتذروا فقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق ، ومالوا مع الأحزاب ، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع.

والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرهم من بعض قبائل المشركين ، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) [التوبة : ١٢] الآية. وقد نقض عبد الله بن أبي ومن معه عهد النصرة في أحد ، فانخزل بمن معه وكانوا ثلث الجيش. وقد ذكر ، في أوّل سورة براءة عهد فرق من المشركين. وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.

والتعبير ، في جانب نقضهم العهد ، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر ، بعد نزول هذه الآية ، وأنهم لا ينتهون عنه ، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم ، ولذلك فرّع عليه قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) إلخ. فالتقدير : ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة.

والمراد ب (كُلِّ مَرَّةٍ) كلّ مرة من المرات التي يحقّ فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرّر العهد أم لم يتكرّر ، لأنّ العهد الأول يقتضي الوفاء كلّما دعا داع إليه.

١٣٨

والأظهر أنّ هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر ، وقبل وقعة الخندق ، فالنقض الحاصل منهم حصل مرّة واحدة ، وأخبر عنه بأنّه يتكرّر مرات ، وإن كانت نزلت بعد الخندق ، بأن امتدّ زمان نزول هذه السورة ، فالنقض منهم قد حصل مرّتين ، والإخبار عنه بأنّه يتكرّر مرّات هو هو ، فلا جدوى في ادّعاء أنّ الآية نزلت بعد وقعة الخندق.

وجملة : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) إمّا عطف على الصلة ، أو على الخبر ، أو في محلّ الحال من ضمير (يَنْقُضُونَ). وعلى جميع الاحتمالات فهي دالّة على أنّ انتفاء التقوى عنهم صفة متمكّنة منهم ، وملكة فيهم ، بما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه ، كما تقدّم في قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ووقوع فعل (يَتَّقُونَ) في حيّز النفي يعمّ سائر جنس الاتّقاء وهو الجنس المتعارف منه ، الذي يتهمّم به أهل المروءات والمتديّنون ، فيعمّ اتّقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة ، ويعمّ اتّقاء العار ، واتّقاء المسبّة واتّقاء سوء السمعة. فإنّ الخسيس بالعهد ، والغدر ، من القبائح عند جميع أهل الأحلام ، وعند العرب أنفسهم ، ولأنّ من عرف بنقض العهد عدم من يركن إلى عهده وحلفه ، فيبقى في عزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين ، فلم يعبئوا بما يجرّه نقض العهد ، من الأضرار لهم.

وإذ قد تحقّق منهم نقض العهد فيما مضى ، وهو متوقّع منهم فيما يأتي ، لا جرم تفرّع عليه أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعلهم نكالا لغيرهم ، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوّه.

وجاء الشرط بحرف (إن) مزيدة بعدها (ما) لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ (إن) عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد. وفي «شرح الرضي على الحاجبية» ، عن بعض النحاة : لا يجيء (إمّا) إلّا بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَ) [مريم : ٢٦]. وقال ابن عطية في قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) دخلت النون مع إما : إمّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو.

وقلت : دخول نون التوكيد بعد (إن) المؤكّدة بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :

إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا

إنّا كذلك ما تحفى وننتعل

١٣٩

فلم يدخل على الفعل نون التوكيد.

والثقف : الظفر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم.

والتشريد : التطريد والتفريق ، أي : فبعّد بهم من خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير.

وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمراد أحوال الذوات مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣]. وقد علم أنّ متعلّق تشريد (مَنْ خَلْفَهُمْ) هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد.

والخلف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتّباع ، ونظيره (الوراء). في قول ضمّام بن ثعلبة :

«وأنا رسول من ورائي». وقال وفد الأشعريين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمرنا بأمر نأخذ به ونخبر به من وراءنا» ، والمعنى : فاجعلهم مثلا وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ما ذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية ، فقتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل.

وقد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ، لأنّهم استحقّوها. وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرّ الناكثين الخائنين. فلا تخالف هذه الشدّة كون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل رحمة للعالمين ، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

وضمير الغيبة في (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) راجع إلى (مِنْ) الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس.

والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد ، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حلّ بناقضي العهد من النكال ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل

١٤٠