تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

يجوز أن يكون عطف قصة على قصة من قصص تأييد الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين فيكون (إِذْ) متعلقا بفعل محذوف تقديره واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، على طريقة نظائره الكثيرة في القرآن.

ويجوز أن يكون عطفا على قوله : (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٢٦] فهو متعلق بفعل (اذكروا) من قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال : ٢٦] ، فإن المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام مكر بالمسلمين ويكون ما بينهما اعتراضا. فهذا تعداد لنعم النصر ، التي أنعم الله بها على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصا ، وهذه نعمة خاصة بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والإنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم ، وهذا تذكير بأيام مقامهم بمكة ، وما لاقاه المسلمون عموما وما لاقاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا وأن سلامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلامة لأمته.

والمكر إيقاع الضر خفية ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في آل عمران [٥٤] ، وعند قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) في سورة الأعراف [٩٩].

والإتيان بالمضارع في موضع الماضي الذي هو الغالب مع (إِذْ) استحضار للحالة التي دبروا فيها المكر ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩].

ومعنى : (لِيُثْبِتُوكَ) ليحبسوك يقال أثبته إذا حبسه ومنعه من الحركة وأوثقه ، والتعبير بالمضارع في (لِيُثْبِتُوكَ) ، و (يَقْتُلُوكَ) ، و (يُخْرِجُوكَ) ، لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال.

وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قبيل هجرته ، فقال أبو البختري : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وسدوا عليه باب بيت غير كوة تلقون إليه منها الطعام ، وقال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها فيأخذون العقل ونستريح منه ، وقال هشام بن عمرو : الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين

٨١

أظهركم فلا يضركم ما صنع.

وموقع الواو في قوله (وَيَمْكُرُونَ) لم أر أحدا من المفسرين عرج على بيانه وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون واو الحال ، والجملة حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي حال مؤسسة غير مؤكدة ، باعتبار ما اتصل بها من الجملة المعطوفة عليها ، وهي جملة : (وَيَمْكُرُ اللهُ) فقوله : (وَيَمْكُرُ اللهُ) هو مناط الفائدة من الحال وما قبله تمهيد له وتنصيص على أن مكرهم يقارنه مكر الله بهم ، والمضارع في (يَمْكُرُونَ) و (يَمْكُرُ) الله لاستحضار حالة المكر.

وثانيهما : أن تكون واو الاعتراض أي العطف الصوري ، ويكون المراد بالفعل المعطوف الدوام أي هم مكروا بك لثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وهم لا يزالون يمكرون كقول كعب بن الأشرف لمحمد بن مسلمة «وأيضا لتملّنه» يعني النبي ، فتكون جملة (وَيَمْكُرُونَ) معترضة ويكون جملة : (وَيَمْكُرُ اللهُ) معطوفة على جملة : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والمضارع في جملة : (وَيَمْكُرُونَ) للاستقبال والمضارع في (وَيَمْكُرُ اللهُ) لاستحضار حالة مكر الله في وقت مكرهم مثل المضارع المعطوف هو عليه.

وبيان معنى إسناد المكر إلى الله تقدم : في آية سورة آل عمران [٥٤] وآية سورة الأعراف [٩٩] وكذلك قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

والذين تولوا المكر هم سادة المشركين وكبراؤهم وأعوان أولئك الذين كان دأبهم الطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي نزول القرآن عليه ، وإنما أسند إلى جميع الكافرين لأن البقية كانوا أتباعا للزعماء يأتمرون بأمرهم ، ومن هؤلاء أبو جهل ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف ، وأضرابهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين ، لم تزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قوله : (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) [الأنفال : ٧] ـ وقوله ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣] ـ وقوله ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال : ١٧] ـ

٨٢

وقوله ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] ـ ثم بقوله ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠].

وهذه الجمل عطف على جملة : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣].

وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحاجته ، والتشغيب عليه : منهم النضر بن الحارث ، وطعمية بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط.

ومعنى (قَدْ سَمِعْنا) : قد فهمنا ما تحتوي عليه ، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق ، فلذلك قال الله تعالى عنهم (كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] أي لا يفقهون ما سمعوا.

ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن ، فعجزوا عن ذلك وأفحموا ، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك ـ قيل : قائل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، كان رجلا من مردة قريش ومن المستهزئين ، وكان كثير الأسفار إلى الحيرة وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته ، فكان يلقى بالحيرة ناسا من العباد (بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى) فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقى من العرب من ينقل أسطورة حروب (رستم) و (إسفنديار) (١) من ملوك الفرس في قصصهم الخرافي ، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية ، فيما أحسب ، إلّا ما وقع في «الكشاف» أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر (رستم) و (اسفندياذ) ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار

__________________

(١) اسفندياذ بهمزة قطع مكسورة ، فسين مهملة ساكنة ، ففاء أخت القاف وقد يكتب بباء موحدة عوض الفاء لأن الباء الفارسية منطقها بين الباء والفاء العربية فكثيرا ما تعرب بالفاء وبالباء وهي مفتوحة وبعضهم يضبطها بالكسر ، ثم دال مهملة مكسورة ، فتحتية ، وآخره ذال معجمة كذا نطق به العرب وكذلك كتب في «تفسير ابن عطية» ، وهو في العجمية براء في آخره قاله التفتازاني في «شرح الكشاف».

قلت : وهو في «الكشاف» وفي «سيرة ابن هشام» بالراء وهو إسفنديار بن (كشتاسب) من العائلة الكيانيين من ملوك الفرس لأن أسماء ملوكها مفتتحه بكلمة (كي) أولهم (كيقباذ) وفي زمن (كشتاسب) ظهر (زرادشت) صاحب الديانة الشهيرة في الفرس قبل الإسلام ، وأخبار حروب إسفنديار مع رستم وكلهم من ملوك الطوائف بفارس وكان رستم ملك بلاد الترك.

٨٣

مكتوبا بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم ، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة ، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب «الشاهنامة» تطويلا مملا على عادة أهل القصص ، وقال الفخر : اشترى النضر من الحيرة أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين : من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويحكونه ويحاكونه ، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن ، وأنه نفّس عليهم بهذه الأغلوطة ، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه ، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه النزاقة.

وقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته ، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة ، وإلّا فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] مع تحيزهم وتآمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم ، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن.

و «الأساطير» جمع أسطورة بضم الهمزة ـ وهي القصة ، وتقدم عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة الأنعام [٢٥].

والمخالفة بين شرط (لَوْ) وجوابها إذ جعل شرطها مضارعا والجزاء ماضيا جرى على الاستعمال في (لو) غالبا ، لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزأي جملتها ماضيا ، أو كلاهما. فإذا أريد التفنن خولف بينهما ، فالتقدير : لو شئنا لقلنا ، ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكا قائما مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية ، فالتقدير لو نشاء أن نقول نقول ، ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه ، فذلك أوعب للأزمان ، ويكون هذا هو الفرق بين قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] ـ وقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١] فهم لما قالوا : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقا في النفاجة والوقاحة.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

٨٤

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣))

عطف على (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] أو على (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) [الأنفال : ٣١] وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة ، وقالها أيضا أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قول النضر (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] فارجع إليه ، وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى.

وكلامهم هذا جار مجرى القسم ، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه ، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة ، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة :

ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي

وقال معدان بن جواس الكندي ، أو حجيّة بن المضرب السّكوني :

إن كان ما بلّغت عني فلامني

صديقي وشلّت من يديّ الأنامل

وكفّنت وحدي منذرا بردائه

وصادف حوطا من أعادي قاتل

وقال الأشتر النّخعي :

بقّيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشنّ على ابن حرب غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس

وقد ضمّن الحريري في «المقامة العاشرة» هذه الطريقة في حكاية يمين وجّهها أبو زيد السروجي على غلامه المزعوم لدى والي رحبة مالك بن طوق حتى اضطرّ الغلام إلى أن يقول : «الاصطلاء بالبلية ، ولا الابتلاء بهذه الأليّة».

فمعنى كلامهم : إن هذا القرآن ليس حقا من عندك فإن كان حقا فأصبنا بالعذاب ، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليس الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقا ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم ، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقا منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقا من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب

٨٥

على أن القرآن ليس من عند الله ، وذلك في معنى القسم كما علمت.

وتعليق الشرط بحرف (إِنْ) لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط ، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق.

وضمير (هُوَ) ضمير فصل فهو يقتضي تقوي الخبر أي : إن كان هذا حقا ومن عندك بلا شك.

وتعريف المسند بلام الجنس يقتضي الحصر فاجتمع في التركيب تقو وحصر وذلك تعبيرهم يحكون به أقوال القرآن المنوهة بصدقه كقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] وهم إنما أرادوا إن كان القرآن حقا ولا داعي لهم إلى نفي قوة حقيته ولا نفي انحصار الحقية فيه ، وإن كان ذلك لازما لكونه حقا ، لأنه إذا كان حقا كان ما هم عليه باطلا فصح اعتبار انحصار الحقية فيه انحصارا إضافيا ، إلّا أنه لا داعي إليه لو لا أنهم أرادوا حكاية الكلام الذي يبطلونه.

وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به ، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم.

و (مِنْ عِنْدِكَ) حال من الحق أي منزلا من عندك فهم يطعنون في كونه حقا وفي كونه منزلا من عند الله.

وقوله : (مِنَ السَّماءِ) وصف لحجارة أي حجارة مخلوقة لعذاب من تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) [الفجر : ١٣] (والصب قريب من الأمطار).

وذكروا عذابا خاصا وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا : (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلا من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقا ومنزلا من عند الله.

وإذ كان هذا القول إنما يلزم قائله خاصة ومن شاركه فيه ونطق به مثل النضر وأبي جهل ومن التزم ذلك وشارك فيه من أهل ناديهم ، كانوا قد عرضوا أنفسهم به إلى تعذيب الله إياهم انتصارا لنبيه وكتابه ، وكانت الآية نزلت بعد أن حق العذاب على قائلي هذا

٨٦

القول وهو عذاب القتل المهين بأيدي المسلمين يوم بدر ، قال تعالى : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٤] وكان العذاب قد تأخر عنهم زمنا اقتضته حكمة الله ، بين الله لرسوله في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا ، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون.

فقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) كناية عن استحقاقهم ، وإعلام بكرامة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده ، لأنه جعل وجوده بين ظهراني المشركين مع استحقاقهم العقاب سببا في تأخير العذاب عنهم ، وهذه مكرمة أكرم الله بها نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل وجوده في مكان مانعا من نزول العذاب على أهله ، فهذه الآية إخبار عما قدره الله فيما مضى.

وقال ابن عطية قالت فرقه نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقال ابن أبزى نزل قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) بمكة إثر قولهم : (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، ونزل قوله: (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) عند خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] بعد بدر.

وفي توجيه الخطاب بهذا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتلاب ضمير خطابه بقوله : (وَأَنْتَ فِيهِمْ) لطيفة من التكرمة إذ لم يقل : وما كان الله ليعذبهم وفيهم رسوله ، كما قال : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١].

وأما قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فقد أشكل على المفسرين نظمها ، وحمل ذلك بعضهم على تفكيك الضمائر فجعل ضمائر الغيبة من (لِيُعَذِّبَهُمْ) ، و (فِيهِمْ) و (مُعَذِّبَهُمْ) للمشركين ، وجعل ضمير (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) للمسلمين ، فيكون عائدا إلى مفهوم من الكلام يدل عليه (يَسْتَغْفِرُونَ) فإنه لا يستغفر الله إلّا المسلمون وعلى تأويل الإسناد فإنه إسناد الاستغفار لمن حل بينهم من المسلمين ، بناء على أن المشركين لا يستغفرون الله من الشرك.

فالذي يظهر أنها جملة معترضة انتهزت بها فرصة التهديد بتعقيبه بترغيب على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد ، فبعد أن هدد المشركين بالعذاب ذكرهم بالتوبة من الشرك بطلب المغفرة من ربهم بأن يؤمنوا بأنه واحد ، ويصدقوا رسوله ، فهو وعد بأن التوبة من الشرك تدفع عنهم العذاب وتكون لهم أمنا وذلك هو المراد بالاستغفار ، إذ من البين أن ليس المراد ب (يَسْتَغْفِرُونَ) أنهم يقولون : غفرانك اللهم ونحوه ، إذ لا عبرة بالاستغفار بالقول والعمل يخالفه فيكون قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) تحريضا وذلك

٨٧

في الاستغفار وتلقينا للتوبة زيادة في الإعذار لهم على معنى قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء : ١٤٧] وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣٨].

وفي قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) تعريض بأنه يوشك أن يعذبهم إن لم يستغفروا وهذا من الكناية العرضية.

وجملة (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) حال مقدرة أي إذا استغفروا الله من الشرك وحسن موقعها هنا أنها جاءت قيدا لعامل منفي ، فالمعنى : وما كان الله معذبهم لو استغفروا.

وبذلك يظهر أن جملة : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] صادفت محزها من الكلام أي لم يسلكوا يحول بينهم وبين عذاب الله ، فليس لهم أن ينتفي عنهم عذاب الله.

وقد دلت الآية على فضيلة الاستغفار وبركته بإثبات بأن المسلمين أمنوا من العذاب الذي عذب الله به الأمم ؛ لأنهم استغفروا من الشرك باتباعهم الإسلام.

روى الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))

عطف على قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم ، بيانا بالصراحة.

و (ما) استفهامية ، والاستفهام إنكاري ، وهي في محل المبتدأ و (لَهُمْ) خبره ، واللام للاستحقاق والتقدير ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله فكلمة (ما) اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : لم يثبت لهم شيء.

و (أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) مجرور بلام جر محذوفة بعد (إن) على الشائع من حذف الجر مع (أن) والتقدير : أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو من عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب ، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم ، أو توقع حلوله بهم ، تقول العرب : ما لك أن لا تكرم ، أي : أنت

٨٨

حقيق بأن تكرم ولا يمنعك من الإكرام شيء ، فاللفظ نفي لمانع الفعل ، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه ، فلم يبق ما يحول بينك وبينه.

وقد يتركون (أن) ويقولون : ما لك لا تفعل فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال وتكون تلك الحال هي مثير الاستفهام الإنكاري ، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال.

وجوزوا أن تكون (ما) في الآية نافية فيكون (أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) اسمها و (لَهُمْ) خبرها والتقدير وما عدم التعذيب كائنا لهم.

وجملة : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في موضع الحال على التقديرين.

والصد الصرف ، ومفعول (يَصُدُّونَ) محذوف دل عليه السياق ، أي يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام بقرينة قوله : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) فكان الصد عن المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة ، لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بناه مؤسسه ليكون علما على توحيد الله ومأوى للموحدين ، فصدهم المسلمين عنه ، لأنهم أمنوا بإله واحد ، صرف له عن كونه علما على التوحيد ، إذ صار الموحدون معدودين غير أهل لزيادته ، فقد جعلوا مضادين له ، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضادا للتوحيد وأهله ، ولذلك عقب بقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) وهذا كقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥] ، والظلم الشرك لقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

وهذا الصد الذي ذكرته الآية : هو عزمهم على صدّ المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعتمروا ، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون مكة. وفي «الكشاف» : «كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء».

قلت : ويشهد لذلك قضية سعد بن معاذ مع أبي جهل ففي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود ، أنه حدث عن سعد بن معاذ : «أنه كان صديقا لأمية بن خلف ، وكان أمية إذا مرّ بالمدينة نزل على سعد ، وكان سعد إذ مرّ بمكة نزل على أمية ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة انطلق سعد معتمرا فنزل على أمية بمكة فقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج قريبا من نصف النهار ، فلقيهما أبو جهل ، فقال : يا أبا صفوان من (كنية أمية بن خلف) هذا معك ـ فقال : هذا سعد ، فقال له أبو جهل : ألا

٨٩

أراك تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم الصباة أما والله لو لا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما» الحديث.

وقد أفادت الآية : أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم بدر ، من القتل والأسر ، هو من العذاب ، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة بل سلط على كل أحد من العذاب ما يجازي كفره وظلمه وإذايته النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفرا عرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم ، مثل النضر بن الحارث ، وطعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي جهل ، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفرا واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا بقرب أو بعد وهؤلاء مثل أبي سفيان ، وحكيم بن حزام ، وخالد بن الوليد ، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه ، وحقق بذلك رجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده».

وجملة : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) في موضع الحال من ضمير (يَصُدُّونَ) والمقصود من هذه الحال إظهار اعتدائهم في صدهم عن المسجد الحرام ، فإن من صدّ عما هو له من الخير كان ظالما ، ومن صدّ عما ليس من حقه كان أشدّ ظلما ، ولذلك قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤] أي لا أظلم منه أحد لأنه منع شيئا عن مستحقه.

وجملة : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) تعيين لأوليائه الحق ، وتقرير لمضمون (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) مع زيادة ما أفاده القصر من تعيين أوليائه ، فهي بمنزلة الدليل على نفي ولاية المشركين ، ولذلك فصلت.

وإنما لم يكتف بجملة القصر مع اقتضائه أن غير المتقين ليسوا أولياء المسجد الحرام ، لقصد التصريح بظلم المشركين في صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بأنهم لا ولاية لهم عليه ، فكانت جملة : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أشد تعلقا بجملة : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من جملة : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) وكانت جملة : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) كالدليل ، فانتظم الاستدلال أبدع انتظام ، ولما في إناطة ولاية المسجد الحرام بالمتقين من الإشارة إلى أن المشركين الذين سلبت عنهم ولايته ليسوا من المتقين ، فهو مذمة لهم وتحقيق للنفي بحجة.

والاستدراك الذي أفاده (لكِنَ) ناشئ عن المقدمتين اللتين تضمنتهما جملتا (وَما

٩٠

كانُوا أَوْلِياءَهُ ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) لأن ذلك يثير فرض سائل يسأل عن الموجب الذي أقحمهم في الصد عن المسجد الحرام ، ويحسبون أنهم حقيقون بولايته لما تقدم عن «الكشاف» ، فحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لدلالة الاستدراك عليه لتعلق الاستدراك بقوله: (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ).

وإنما نفى العلم عن أكثرهم دون أن يقال ولكنهم لا يعلمون فاقتضى أن منهم من يعلم أنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام ، وهم من أيقنوا بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستفاقوا من غفلتهم القديمة ، ولكن حملهم على المشايعة للصادين عن المسجد الحرام ، العناد وطلب الرئاسة ، وموافقة الدهماء على ضلالهم ، وهؤلاء هم عقلاء أهل مكة ومن تهيأ للإيمان منهم مثل العباس وعقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزم وخالد بن الوليد ، ومن استبقاهم الله للإسلام فكانوا من نصرائه من بعد نزول هذه الآية.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

معطوفة على جملة (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الأنفال : ٣٤] فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب ، وموقعها ، عقب جملة : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) [الأنفال : ٣٤] يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام ، لأن من كان يفعل مثل هذا عند مسجد الله لم يكن من المتقين ، فكان حقيقا بسلب ولاية المسجد عنه ، فعطفت الجملة باعتبارها سببا للعذاب ، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصح ذلك ، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح ؛ لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني.

والمكاء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبكاء والنواح ، يقال : مكا يمكو إذا صفّر بفيه ، ومنه سمي نوع من الطير المكّاء بفتح الميم وتشديد الكاف ، وجمعه مكاكيء بهمزة في آخره بعد الياء ، وهو طائر أبيض يكون بالحجاز.

وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان «ما تمكو» فشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ.

والتصدية التصفيق مشتقا من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكيا لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة.

٩١

ولا تعرف للمشركين صلاة ، فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية ؛ لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت. كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمكاء والتصدية ، قال مجاهد : «فعل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته» وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية ، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية ، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين : مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، ويؤيد هذا قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأحقاف : ٣٤] لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله ، والمكاء والتصدية لا يعدان كفرا إلّا إذا كانا صادرين للسخرية بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالدين ، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونه كفرا إلّا على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧].

ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكّون ويصفقون روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصغرون ، وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل ، قال طلحة بن عمرو : أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكّون فيه نحو أبي قبيس ، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو فالعندية في قوله : عِنْدَ الْبَيْتِ) بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده (عند) من شدة القرب.

ودل قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) على عذاب واقع بهم ، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليظ وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر ، من قتل وأسر وحرب (بفتح الراء).

(بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بكفركم ف (ما) مصدرية ، وكان إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة ، كقول عائشة ، «فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه» وقول سعيد بن المسيب في «الموطأ» : «كانوا يعطون النفل من الخمس».

وعبر هنا ب (تَكْفُرُونَ) وفي سورة الأعراف [٣٩] ب (تَكْسِبُونَ) لأن العذاب المتحدث عنه هناك لأجل الكفر. والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال وما يجره الإضلال من الكبرياء الرئاسة.

٩٢

[٣٦ ، ٣٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).

لما ذكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم ، عقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب (سَبِيلِ اللهِ) وجعلت الجملة مستأنفة ، غير معطوفة ، اهتماما بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام ، وأتى بصيغة المضارع في (يُنْفِقُونَ) للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العدد لغزو المسلمين ، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال ، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه.

وهذا الإنفاق : أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم ، وكان المطعمون اثني عشر رجلا وهم أبو جهل ، وأمية بن خلف ، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعمية بن عدي بن نوفل ، وأبو البختري والعاصي بن هاشم ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، ونبيه بن حجاج السهمي ، وأخوه منبه ، وسهيل بن عمرو العامري ، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر. وهذا الإنفاق وقع يوم بدر ، وقد مضى ، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات.

وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم ، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة ، وإلّا فإنهم ينفقون بعض أموالهم.

والفاء في (فَسَيُنْفِقُونَها) تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة ، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل ، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين.

وضمير (فَسَيُنْفِقُونَها) راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفقة بل الأموال الباقية أو

٩٣

بما يكتسبونه.

و (ثُمَ) للتراخي الحقيقي والرتبي ، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم ، والحسرة شدة الندامة والتلهف على ما فات ، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها. ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر ، لأن الأموال سبب التحسر لا سبب الحسرة نفسها.

وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائل فيما أنفقوا لأجله ، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصل له المقصود من إنفاقه. ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلبون ، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يوم أحد : استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أحد. والأحابيش : فرق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشا وسكنوا حول مكة سمّوا أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كفاء لنصر يوم بدر ، بل كان نصر يوم بدر أعظم. ولذلك اقتنع أبو سفيان يوم أحد أن يقول «يوم بيوم بدر والحرب سجال» وكان يحسب أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه ، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائل ، فكان إنفاقهم حسرة عليهم.

وقوله : (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم ، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائل توعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضا يوم بدر ، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاع دابر أمرهم ، وهذا كالإنذار في قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٢] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوما بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لقاحا.

و (ثُمَ) للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.)

كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى جهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٢] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر ، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا

٩٤

الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بأصرح عبارة ، وهذا كقول عويف القوافي :

اللؤم أكرم من وبر ووالده

واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

لقصد زيادة تشنيع وبر المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيها بليغا.

وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر ، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم.

و (لِيَمِيزَ) متعلق ب (يُحْشَرُونَ) لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر ، لأن العلة غير المؤثرة تكون متعددة ، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحكم لحشر الكافرين إلى جهنم.

وقرأ الجمهور ـ (لِيَمِيزَ) ـ بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية ـ مضارع ماز بمعنى فرز وقرأ حمزة والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية. مضارع ميّز إذا محص الفرز وإذ أسند هذا الفعل إلى الله تعالى استوت القراءتان.

والخبيث الشيء الموصوف بالخبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروها مثل القذر ، والوسخ ، ويطلق الخبث مجازا على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيها للمعقول بالمحسوس ، وهو مجاز مشهور ، والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال ، والطيّب الموصوف بالطيب ضد الخبث بإطلاقيه فالكفر خبث لأن أساسه الاعتقاد ، الفاسد ، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقائقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها ، ثم إن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليب حقائق الأمور ، وما من ضلالة إلّا وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها ، والإيمان بخلاف ذلك.

و (من) في قوله : (مِنَ الطَّيِّبِ) للفصل ، وتقدم بيانها عند قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) في سورة البقرة [٢٢٠].

وجعل الخبيث بعضه على بعض : علة أخرى لحشر الكافرين إلى جهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد ، لزيادة تمييزه عن

٩٥

الطيب ، ولتشهير من كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإيمان ، وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام ، إذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا ركاما.

والركم : ضم شيء أعلى إلى أسفل منه ، وقد وصف السحاب بقوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) [النور : ٤٣].

واسم الإشارة ب (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) للتنبيه على أن استحقاقهم الخبر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة ، فإن من كانت تلك حاله كان حقيقا بأنه قد خسر أعظم الخسران ، لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة.

فصيغة القصر في قوله : (هُمُ الْخاسِرُونَ) هي للقصر الادعائي ، للمبالغة في اتصافهم بالخسران ، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))

جرى هذا الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب ، والوعيد بالوعد ، والعكس فأنذرهم بما أنذر ، وتوعّدهم بما توعد ثم ذكّرهم بأنهم متمكنون من التدارك وإصلاح ما أفسدوا ، فأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما يفتح لهم باب الإنابة.

والجملة استيناف يصح جعله بيانيا لأن ما تقدم بين يديه من الوعيد وقلة الاكتراث بشأنهم ، وذكر خيبة مساعيهم ، مما يثير في أنفس بعضهم والسامعين أن يتساءلوا عما إذا بقي لهم مخلص ينجيهم من ورطتهم التي ارتبقوا فيها ، فأمر الرسول بأن يقول لهم هذا المقال ليريهم أن باب التوبة مفتوح ، والإقلاع في مكنتهم.

وأسند الفعل في الجملة المحكية بالقول إلى ضمير الغائبين لأنه حكاية بالمعنى روعي فيها جانب المخاطب بالأمر تنبيها على أنه ليس حظه مجرد تبليغ مقالة ، فجعل حظه حظ لمخبر بالقضية الذي يراد تقررها لديه قبل تبليغها ، وهو إذا بلغ إليهم يبلغ إليهم ما أعلم به وبلغ إليه ، فيكون مخبرا بخبر وليس مجرد حامل لرسالة.

والمراد بالانتهاء : الانتهاء عن شيء معلوم دل عليه وصف الكفر هنا وما تقدمه من أمثاله وآثاره من الانفاق للصد عن سبيل الله ، أي إن ينتهوا عن ذلك ، وإنما يكون الانتهاء

٩٦

عن ذلك كله بالإيمان.

و (ما قَدْ سَلَفَ) هو ما أسلفوه من الكفر وآثاره ، وهذا ، وإن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين ، فهو شامل كل كافر لتساوي الحال.

ولفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة ، وذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة ، ويلحق به هنا عذاب الله في الدنيا لقوله : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).

واستنبط أئمتنا من هذه الآية أحكاما للأفعال والتبعات التي قد تصدر من الكفار في حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يسقط عنه إسلامه التبعات بها.

وذلك يرجع إلى ما استقريته وأصّلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها وتراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير ، فروى ابن العربي في «الأحكام» أن ابن القاسم ، وأشهب ، وابن وهب ، رووا عن مالك في هذه الآية : أن من طلّق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه ، ومن حلف يمينا ثم أسلم فلا حنث عليه فيها ، وروى عن مالك : إنما يعني عزوجل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء ، قال ابن العربي وهو الصواب لعموم قوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ، وإن ابن القاسم ، وابن وهب ، رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد ، ولو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقا لله محضا وما كان فيه حق للناس.

وذكر القرطبي عن ابن المنذر : أنه حكى مثل ذلك عن الشافعي ، وأنه احتج بهذه الآية ، وفي «المدونة» تسقط عنه الحدود كلها.

وذكر في «الكشاف» عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة ، وأما الذميّ فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين ، واحتج بهذه الآية ، وفي كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا ، وحكوا في المرتد إذا تاب وعاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فاته من الصلاة ولا غرم ما أصاب من جنايات ومتلفات. وعن الشافعي يلزم ذلك كله وهو ما نسبه ابن العربي إلى الشافعي بخلاف ما نسبه إليه ابن المنذر كما تقدم وعن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو لله ولا يسقط عنه حق الناس وحجة الجميع هذه الآية تعميما وتخصيصا بمخصصات أخرى.

٩٧

وفي قوله تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) محسن بديعي وهو الاتزان لأنه في ميزان الرجز.

والمراد بالعود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، والتجهز لحربهم ، مثل صنعهم يوم بدر ، وليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا) تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما وهذا كقول العرب بعضهم لبعض : «أسلم أنت أم حرب» ولأن الذين كفروا لما يفارقوا الكفر بعد فلا يكون المراد بالعود عودهم إلى الكفر بعد أن يسلموا.

والسنة العادة المألوفة والسيرة. وقد تقدم في قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) في آل عمران [١٣٧].

ومعنى (مَضَتْ) تقدمت وعرفها الناس.

وهذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون ، والقرينة على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار بمضي سنة الأولين ، وهو من الإخبار بشيء معلوم للمخبرين به ، وبهذا الاعتبار حسن تأكيده بقد إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي.

وبهذا الاعتبار صح وقوع قوله : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) جزاء للشرط. ولو لا ذلك لما كان بين الشرط وجوابه ملازمة في شيء.

والأولون : السابقون المتقدمون في حالة ، والمراد هنا الأمم التي سبقت وعرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل الله فلقوا عذاب الاستيصال مثل عاد وثمود قال تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) [فاطر : ٤٣].

ويجوز أن المراد بالأولين أيضا السابقون للمخاطبين من قومهم من أهل مكة الذين استأصلهم السيف يوم بدر ، وفي كل أولئك عبرة للحاضرين الباقين ، وتهديد بأن يصيروا مصيرهم.

[٣٩ ، ٤٠] (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

عطف على جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) [الأنفال : ٣٦] الآية ، ويجوز أن

٩٨

تكون عطفا على جملة (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣٨] فتكون مما يدخل في حكم جواب الشرط. والتقدير : فإن يعودوا فقاتلوهم ، كقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨] ـ وقوله ـ (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) [التوبة : ٣] والضمير عائد إلى مشركي مكة.

والفتنة اضطراب أمر الناس ومرجهم ، وقد تقدم بيانها غير مرة ، منها عند قوله تعالى: (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) في سورة البقرة [١٠٢] وقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في سورة العقود [٧١].

والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم ، وكان قتالهم مقصودا منه إعدامهم أو إسلامهم ، وبأحد هذين يكون انتفاء الفتنة ، فنتج من ذلك أن الفتنة المراد نفيها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة ، لأنهم إنما يفتنون من خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك.

وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا ، وأنهم لا تقبل منهم الجزية ، ولذلك قال الله تعالى هنا : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ـ وقال في الآية الأخرى ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩].

وهي أيضا دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا : من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعا لأذى المشركين ضعفاء المسلمين ، والتضييق عليهم حيثما حلوا ، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١].

والتعريف في (الدِّينُ) للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة ، إلّا أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو (كُلُّهُ) وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولا من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى ، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصا من هذه الآية عدل عن إعادته في آية البقرة تطلبا للإيجاز.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن

٩٩

القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحول بينه وبين إيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يخلص إليه ، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك.

وقرأ الجمهور : (يَعْمَلُونَ) ـ بياء الغائب ـ وقرأه رويس عن يعقوب ـ بتاء الخطاب.

والتولي : الإعراض وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في سورة العقود [٩٢].

والمولى الذي يتولى أمر غيره ويدفع عنه وفيه معنى النصر.

والمعنى وإن تولوا عن هاته الدعوة فالله مغن لكم عن ولائهم ، أي لا يضركم توليهم فقوله : (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) يؤذن بجواب محذوف تقديره : فلا تخافوا توليهم فإن الله مولاكم وهو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمسيلمة الكذاب «ولئن توليت ليعفرنك الله» وإنما الخسارة عليهم إذ حرموا السلامة والكرامة.

وافتتاح جملة جواب الشرط ب (فَاعْلَمُوا) لقصد الاهتمام بهذا الخبر وتحقيقه ، أي لا تغفلوا عن ذلك ، كما مر آنفا عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤].

وجملة : (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) مستأنفة لأنها إنشاء ثناء على الله فكانت بمنزلة التذييل.

وعطف على (نِعْمَ الْمَوْلى) قوله : (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لما في المولى من معنى النصر كما تقدم وقد تقدم بيان عطف قوله تعالى : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) على قوله : (حَسْبُنَا اللهُ) سورة آل عمران [١٧٣].

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال ، الذي افتتحته السورة ، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين. والجملة معطوفة على جملة (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٣٩].

١٠٠