السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]
المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨
لصاحبه : كم وقف هذه السنة؟ قال له صاحبه : ستمائة ألف ، فلم يقبل منهم إلا ستة أنفس ، قال : فهممت أن ألطم وجهي وأنوح على نفسي ، فقال له : ما فعل الله في الجميع؟ قال : نظر الكريم إليهم بعين الكرم فوهب لكل واحد منهم مائة ألف ، وغفر لستمائة ألف بستة أنفس ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.
وعن علي بن الموفق رضياللهعنه قال : حججت نيفا وخمسين حجة وجعلت ثوابها للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ولأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضياللهعنهم ، ولأبويّ ، وبقيت حجة فنظرت إلى أهل الموقف بعرفات وضجيج أصواتهم فقلت : اللهم إن كان في هؤلاء من لا تقبل حجته فقد وهبت له هذه الحجة ؛ ليكون ثوابها له ، فبتّ تلك الليلة بالمزدلفة فرأيت ربي عزوجل ، فقال لي : يا علي بن الموفق عليّ تتسخى ، قد غفرت لأهل الموقف ومثلهم وأضعاف ذلك ، وشفّعت كل رجل منهم في أهل بيته وخاصته وجيرانه ، وأنا أهل التقوى وأهل المغفرة.
وقال الفضيل مرة ـ والناس وقوف بعرفة ـ : ما تقولون لو قصد هؤلاء الوفد بعض الكرماء ، يطلبون منه دانقا كان يردهم؟! قالوا : لا ، فقال : والله لا المغفرة في جنب كرم الله أهون على الله من الدانق في كرم ذلك الرجل (١).
وسئل سفيان الثوري ـ حين دفع الناس من عرفة ـ عن أخسر الناس صفقة؟ فقال : أخسر الناس صفقة من ظن أن الله تبارك وتعالى لا يغفر لهؤلاء ، انتهى.
__________________
(١) رواها ابن الجوزي في مثير العزم ١ / ٢٥ ، والدانق : سدس الدرهم كما في الصحاح.
[١١٦]
٤ ـ [إجابة الدعاء في موقف مزدلفة]
وأما موقف مزدلفة فيستجاب فيه الدعاء في ليلة العيد إلى قبيل طلوع الشمس ـ كما قال الملّا علي في شرح الحصن الحصين ـ لا سيما في المشعر الحرام ، ويحتمل الإطلاق. وفضل الله واسع.
في نظم العصامي : عند طلوع الشمس ، قال شارحه : أي يستجاب الدعاء فيها من غروب الشمس يوم عرفة إلى طلوع شمس يوم النحر ، ثم قال : ينبغي أن لا يتقيد الدعاء بطلوع الشمس ؛ لأن المراد الأمكنة ، وهذا التقييد خلاف المقصود ، خصوصا والمزدلفة من الحرم ، وهو يستجاب فيه الدعاء ، وهي أماكن الإجابة المشرفة ، وقد ورد في فضلها النص الشريف قال تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٨] ، وقيل : المشعر : جميع المزدلفة ، وهو قزح : وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه المقيدة ، والمشعر : العلم لعباده ، ووصف بالحرام لحرمته. كذا في المدارك ، وفي البحر (١).
__________________
(١) مزدلفة : تقع بين منى وعرفة ، وتسمى جمعا ، وحدّها مما يلي منى : ضفة وادي محسر الشرقية ، ومما يلي عرفات هو : مغيض المأزمين (الجبلان الواقعان فيما بين عرفة ومزدلفة) وحدها العرضي هو : ما بين الجبلين الكبيرين (ثيبر ـ المريخات) ومساحتها نحو ٢٥ ، ١٢ كم ٢ ، والمشعر الحرام هو : قزح ، والمشعر الحرام يعرف الآن بمسجد مزدلفة ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم ينزل عند قبلته.
انظر : الوقوف بمزدلفة ـ مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ، عدد ٢٩.
[١١٧] [الاختلاف في قزح] :
واختلف في جبل قزح ، قيل : هو المشعر الحرام ، وقيل : المشعر : جميع المزدلفة ، وقزح ـ غير منصرف للعدل والعلمية كعمر ، من قزح الشيء ـ : ارتفع ، وقيل : إنه كانون آدم عليهالسلام ، وقد روي أنه عليهالسلام اجتهد في الدعاء لأمته فاستجيب له ما بقى مما لم يستجب له في عرفة من الدماء والمظالم (١).
[١١٨] [تسمية مزدلفة] :
وسميت مزدلفة : من التزلف والازدلاف : وهو التقرب ؛ لأن الحجاج يتقربون منها إلى منى ، وقيل : لأن الناس يأتونها زلفا من الليل ، أي : ساعة منه ، وتسمى جمعا ؛ لأن آدم عليهالسلام اجتمع فيها مع حواء وأزلف إليها ، أي : دنا منها ، أو لأنه جمع فيها بين الصلاتين ، أو لأن الناس يجتمعون فيها ويقرب بعضهم من بعض.
[١١٩] [حدّ مزدلفة] :
وحدّها : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسّر يمينا وشمالا من تلك الشعاب والجبال : وليس المأزمان ولا وادي محسّر منها ، وطولها : قيل : ميل ، وقيل ميلان.
[١٢٠] [ما يستحب لها من الأعمال] :
تتمة : يستحب الاغتسال لدخول مزدلفة ، والمشي إن تيسر ، والنزول بقرب جبل قزح وهو المشعر الحرام ، وإذا أتاها قال : اللهم إن هذه مزدلفة ،
__________________
(١) أخرجه ابن الجوزي في مثير العزم ١ / ٢٧٧.
وجمع جمعت قلوبا مؤتلفة ، فألف بيني وبين جميع المؤمنين والمؤمنات ، واجعلني ممن دعاك فأجبته ، وتوكل عليك فكفيته ، وآمن بك فهديته.
ولا ينبغي النزول على الطريق ، ولا الانفراد عن الناس ، فينزل عن يمينه أو يساره.
[١٢١] [صفة الجمع بمزدلفة] :
ويفترض الجمع بها بين المغرب والعشاء بشروطه ، بأذان وإقامة ، إن لم يفعل ، وإلا ليعد الإقامة للعشاء ، ولم يجز المغرب للعشاء في غيرها ، إلّا إذا طلع الفجر ولم يعد ، فإنه ينقلب جائزا ، ويستحب الجمع قبل حط رحاله بعد إناخة جماله وعقلها ، وإذا فرغ يسن أن يبات بها ، فإن بات بغيرها يأثم ولا شيء عليه (١).
[١٢٢] [ما ينبغي من العمل في هذه الليلة]
وينبغي إحياء هذه الليلة بالصلاة والتلاوة والذكر والتضرع والدعاء ؛ لأنها جمعت شرف الزمان والمكان ، ويسأل الله تعالى إرضاء الخصوم ، ولا يتهاون في ذلك ، فإن الإجابة موعودة ، ويدعو في ليلته بمثل ما دعا بعرفة.
[١٢٣] [صلاة الفجر بمزدلفة] :
فإذا طلع الفجر يستحب أن يصليه بغلس مع الإمام ، أو حيث تيسّر ، ولا يستحب التغليس بالفجر عندنا إلّا في هذا اليوم فقط.
وإذا فرغ يستحب أن يأتي الإمام والناس إلى المشعر : وهو الذي عليه بناء
__________________
(١) انظر : منسك الكرماني ١ / ٥٣٢ ـ ٥٣٣.
اليوم ، ويقف مستقبل القبلة به أو يقرب منه إن تيسّر ، وهذا الوقوف واجب ليس بركن ، وأدناه ساعة لطيفة مطلقا في وقته ، من بعد طلوع الفجر إلى قبيل الشمس ، ولو مارا بأي حال كان وأي مكان من المزدلفة ، فلو تركه بلا عذر ، فعليه دم ، وإن كان بعذر : بأن كانت امرأته تخاف الزحام فلا شيء عليه ، كما في ترك غيره من الواجبات.
ويستحب أن يدعو ويهلل ويكبّر ، ويحمد الله ويثني عليه ، ويصلي على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويكثر التلبية ، ويرفع يديه للدعاء بسطا يستقبل بها وجهه ، ويذكر الله كثيرا ، ويسأل الله حوائجه الدينية والدنيوية ، ويدعو بالأدعية المأثورة وغيرها مما تيسر (١).
[١٢٤] [من الأدعية المأثورة في موقف مزدلفة] :
وعن أبي يوسف ، أنه كان يقول في حالة الوقوف بها : اللهم إن هذا جمع أسألك أن ترزقني جوامع الخير كله ، فإنه لا يعطي ذلك غيرك ، اللهم ربّ المشعر الحرام ، ورب الشهر الحرام ، ورب الحلال والحرام ، ورب الخيرات العظام ، أسألك أن تبلغ روح محمد منا أفضل الصلاة والسلام ، وأسألك أن تصلح لي في ذريتي ، وتشرح صدري ، وتطهر قلبي ، وأن تقيني جوامع الشرك ، فإنك ولي ذلك والقادر عليه ، اللهم أنت خير مطلوب وخير مرغوب ، ولك في كل وفد جائزة ، أسألك أن تجعل جائزتي في هذا اليوم أن تقبل توبتي ، وتجاوز خطيئتي ، وتجمع على الهدى أمري ، واجعل التقوى همي ، انتهى.
__________________
(١) انظر مناسك الكرماني ١ / ٥٤١.
ويقول : اللهم ارحمني وأجرني من النار ، ووسع علي الرزق الحلال ، اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف ، وارزقنيه أبدا ما أحييتني برحمتك يا أرحم الراحمين (١).
وجامع الأدعية المروية قوله صلىاللهعليهوسلم : (اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلىاللهعليهوسلم ، ونعوذ بك من شرّ ما استعاذك منه نبيك محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأنت المستعان وعليك البلاغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله). وهو غير مخصوص فينبغي الدعاء به في كل موطن ؛ ليكون داعيا بالمروي ، وقد أمر الله سبحانه بالذكر في هذا المشعر ، وقد ورد (لا اله إلا الله هي أفضل الذكر) رواه الترمذي (٢) ، وفي رواية أحمد (وهي أفضل الحسنات (٣)) فينبغي الإكثار منها.
__________________
(١) انظر المصدر السابق نفسه.
(٢) أخرجه الترمذي (٣٣٨٣) وقال : «حديث غريب».
(٣) قال الهيثمي : «رواه أحمد ورجاله ثقات» ١٠ / ٣٥٤.
[١٢٥]
٥ ـ [الدعاء عند الحجر الأسود]
[الحجر (١)] ـ بفتح المهملة ـ وهو الحجر الأسود ، أي : كالأماكن المذكورة في حكم الإجابة ، والحجر ، قال صلىاللهعليهوسلم : (ما من أحد يدعو الله عند الركن الأسود إلا استجاب الله له (٢)) أخرجه القاضي ، وقيده ابن علان تبعا للنقاش بنصف اليوم ، يعني : مع الزوال وقريبا منه ، والله أعلم بغيبه.
__________________
(١) الحجر الأسود : حجر من أحجار الجنة ، كان مودعا بجبل أبي قبيس ، ووضع في مكانه بالركن الجنوبي الشرقي من الكعبة المشرفة بأمر الله عزوجل لخليله إبراهيم عليهالسلام في نهاية بنائه الكعبة ، ليكون للناس علما.
انظر : فضل الحجر الأسود للدكتور سائد بكداش ص ٣١.
(٢) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ١ / ٣٢٤.
فينبغي للإنسان أن يكثر الدعاء هناك رجاء القبول ؛ فإنه أشرف أماكن الإجابة وأعظمها.
[١٢٦] [ما ورد من فضل الحجر الأسود وتقبيله] :
وروى عن ابن عمر رضياللهعنهما قال : استقبل النبي صلىاللهعليهوسلم الحجر ، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ، ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي ، فقال : (يا عمر هاهنا تسكب العبرات (١)).
وعن ابن عمر أيضا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحط الخطايا حطا (٢).
وعنه أيضا : على الركن اليماني ملكان يؤمّنان على دعاء من مرّ بهما ، وإن على الحجر الأسود ما لا يحصى (٣).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) ، فمن لم يدرك بيعة النبي ، فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله (٤).
وعن جابر موقوفا : الحجر يمين الله في أرضه يصافح بها عباده (٥).
وعن عكرمة : الحجر يمين الله في أرضه ، فمن مسحه فقد بايع الله.
__________________
(١) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ٤ / ٢١٢ ؛ ابن ماجه (٢٩٤٥).
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ٨٩ ؛ وابن حبان في موارد الظمآن ص ٢٤٧ ، والترمذي وحسنه (٩٥٩).
(٣) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ١ / ٣٤١.
(٤) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ١ / ٣٢٢.
(٥) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ١ / ٣٢٤.
وعن أبي هريرة رضياللهعنه : (من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن (١)).
ومعنى فاوض : لابس ، ومعنى كونه يمين الله في أرضه : أن من صافحه كان له ذلك عند الله عهدا ، وقد جرت العادة بأن العهد الذي [يقدمه] الملك لمن يريد موالاته والاختصاص به ، إنما هو المصافحة ، فخاطبهم بما يعهدونه. قاله الخطابي.
ونقل عن المحب الطبري : أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه ، فنزّل الحجر منزلة يمين الملك (٢).
[١٢٧] [حفظ جناب التوحيد] :
وروى الشيخان عن عمر بن الخطاب رضياللهعنه : أنه قبّل الحجر الأسود ثم قال : والله لقد علمت أنّك لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقبلك ما قبلتك ، وقرأ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١].
[١٢٨] [شهادة الحجر لمن قبّله واستلمه] :
وروي أنه لما قال ذلك ، قال له أبي بن كعب : إنه يضر وينفع ، إنه يأتي يوم القيامة وله لسان زلق يشهد لمن قبّله واستلمه (٣).
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه (٢٩٥٧).
هذه الروايات وإن كانت موقوفة ، إلّا أنها تأخذ حكم الرفع ؛ لأنه لا يمكنهم قوله إلّا بسماع ؛ إذ لا مجال فيها للاجتهاد.
(٢) القرى لقاصد أم القرى ص ٢٨٠.
(٣) أخرجه البخاري (١٥٣٣) ، ومسلم (١٢٧٠).
وفي رواية أيضا : أن عليا كرم الله وجهه قال لعمر : بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع ، وإن الله لمّا أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقّ ، وألقمه الحجر ، وقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : (يأتي الحجر الأسود وله لسان يشهد لمن قبّله بالتوحيد (١)). فقال عمر رضياللهعنه : لا خير في عيش قوم لست فيهم يا أبا الحسن ، لا أحياني الله لمعضلة لا يكون فيها ابن أبي طالب حيا. وفي أخرى : أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
[١٢٩] [سبب قول عمر رضياللهعنه : «إنك لا تضر ..»] :
قيل : إنما قال عمر رضياللهعنه ؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ؛ فخشي أن يظن الجهّال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعله في الجاهلية ، فأراد عمر رضياللهعنه أن يعرّف الناس أن استلامه من باب اتباع فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لا أن الحجر يضر وينفع بذاته كما اعتقدته الجاهلية في الأوثان. كذا نقل عن المحب الطبري.
[١٣٠] [الحجر من الجنة] :
وعن ابن عمر رضياللهعنهما قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول وهو مسند ظهره إلى الكعبة : (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ، ولو لا أن الله طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب (٢)).
__________________
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٦٢٨ ، وأوردها ابن حجر في الفتح وقال : «وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا» ٣ / ٤٦٢.
(٢) أخرجه الترمذي وحسنه (٨٨٧).
[١٣١] [تغير لون الحجر إلى السواد] :
وقد فضّل الله بعض الأحجار على بعض ، كما فضّل بعض البقاع والأيام والبلدان على بعض.
وفي رواية : ولو لا ما مسّهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية : ما بين السماء والأرض ، وما مسّهما من ذي عاهة ولا سقم إلا شفي.
وعن ابن عباس رضياللهعنهما عنه صلىاللهعليهوسلم : (من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم (١)). حديث صحيح.
وفي رواية : خطايا أهل الشرك ، وفي أخرى : من الثلج.
وروي : كأنه لؤلؤة بيضاء. ورواية : كأنه ياقوتة بيضاء. وأخرى : لأشد بياضا من الفضة.
قال العز بن جماعة : وقد رأيته أول حجاتي سنة ثمان وسبعمائة ، وبه نقطة بيضاء ظاهرة لكل أحد ، ثم رأيت البياض من بعد ذلك نقص نقصا بيّنا (٢).
قال ابن خليل في منسكه الكبير : ولقد أدركت في الحجر ثلاثة مواضع : بيض نقية في الناحية التي إلى باب الكعبة المعظمة ، إحداها وهي أكبرهن قدر الذرة الكبيرة ، والأخرى إلى جانبها وهي أصغر منها ، والثالثة إلى جنب الثانية وهي أصغر من الثانية تأتي قدر حبّة ، ثم إني أتلمح تلك النقط فإذا هي كل وقت في نقص. ا. ه.
__________________
(١) أخرجه الترمذي وحسنه (٨٨٧).
(٢) هداية السالك ١ / ٥٩.
[١٣٢] [حكمة تسويد الحجر] :
تعليقة : أكثر ما ذكره في حكمة تسويده بالخطايا أنه للاعتبار ؛ وليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم وأوقع ، فوجب لذلك أن تجتنب.
وروي عن ابن عباس رضياللهعنهما : إنما غير بالسواد ؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة.
قال المحب الطبري : إن صحّ هذا فهو الجواب (١) ، قال ابن حجر : أخرجه الجندي في فضائل مكة بإسناد ضعيف.
ثانية : قال السهيلي : الحكمة في كون خطايا بني آدم سودته دون غيره من حجارة الكعبة : أن العهد الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله ، فكل مولود يولد على الفطرة ، فلو لا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه حتى يسود قلبه بالشرك ، لما حال العبد من العهد ، فقد صار ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق ، وصار الحجر لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق ، فتنافسا ، فاسودّ من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان أبيض لما ولد عليه من ذلك العهد ، واسود الحجر بعد بياضه ، وكانت الخطايا سببا في ذلك حكمة من الله.
ثالثة : اعترض بعض الملحدين على الحديث المتقدم فقال : إذا سوّدته الخطايا ينبغي أن تبيضه الطاعات.
وأجاب ابن قتيبة عن ذلك : بأنه لو شاء الله لكان ، ثم قال : أما علمت أيها المعترض أن السواد يصبغ به ولا ينصبغ ، والبياض ينصبغ ولا يصبغ به. ا ه.
__________________
(١) انظر القرى لقاصد أم القرى ص ٢٩٥.
وقيل : إن شدة سواده أن الحريق أصابه مرتين في الجاهلية والإسلام.
وهل كان يسمى بالأسود قبل الاسوداد أم تجدد ذلك له؟ قال العلامة الفخر بن ظهيرة : لم أر في ذلك نقلا ، ويحتمل أنه كان يسمى بذلك لما فيه من السؤدد ، فيكون المراد بقولهم أسود أي ذو سؤدد ، ويحتمل أنه لم يسم بذلك إلا بعد اسوداده ، والله أعلم.
[١٣٣] [شهادة الحجر على العباد] :
وعن مجاهد : يأتي الحجر والمقام يوم القيامة مثل أبي قبيس كل واحد منهما له عينان وشفتان يناديان بأعلى صوتهما يشهدان لمن وافاهما بالموافاة (١).
وعن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (إن الله تعالى يعيد الحجر إلى ما خلقه أول مرة) ، وقال الفشني في شرحه على الأربعين النووية : الحجر الأسود أصله ملك وكّله الله تعالى بأن يعين آدم بأن لا يأكل من الشجرة فنسي آدم ، وأغفل الله تعالى الملك ، فصيره الله تعالى الحجر الأسود (٢).
__________________
(١) أخرجه الأزرقي ١ / ٣٢٣.
(٢) خواص الحجر الأسود :
غاب ذلك الملك عن آدم عليهالسلام في بعض جهات الجنة ليأتيه ببعض مستطرفات ثمار الجنة ويلهيه بها عن الأكل من الشجرة ، فصادف دخول إبليس ـ لعنه الله ـ الجنة لإغواء آدم وحواء غيبة الملك عن آدم ، فتمكن منه إلى أن أكل منها وحصل منه ما حصل ، فلما رأى الملك انزعاج أهل الجنة وخوفهم رجع مسرعا إلى آدم ، فرآه بتلك الحالة واستفسر منه عن الأكل من الشجرة فذكر له ، ثم نظر الله إلى ذلك الملك بنظر هيبة فصيره ياقوتة بيضاء ، نورها يملأ الخافقين ، وذلك بعد سؤاله عن غيبته عن آدم وجوابه وتوبيخه ، من شرح ملتقى المعارج. انتهى. كما ورد بهامش المخطوطة.
ولا يقال ذلك أنه مسخ بل مكرمة ، ألا ترى أنه جعل له عينين يبصر بهما يوم القيامة يشهد فيه لمن استلمه بحق ، وجعل فيه مخزون العهد الذي أخذه في عالم الذر حيث قال : ألست بربكم؟ فافهم ، فإنه بديع. ا ه.
وعنه عليه الصلاة والسلام : (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن (١)).
وقال ابن سيد الناس : المشهور أنه الحجر الأسود.
وقال ابن حجر في شرح المشكاة : قيل هو الحجر البارز الآن بزقاق المرفق المقابل باب الجنائز.
[١٣٤] [خواص الحجر الأسود] :
ومن خواص الحجر : أنه لا يغرق بل يطفو ، وإذا دخل النار لا يحمى ، وأنه قد أزيل من مكانه غير مرة ثم أعاده الله إليه ، ووقع ذلك من جرهم ، وآباد ، والعمالقة ، وخزاعة ، والقرامطة ، وآخر من أزاله منهم أبو طاهر سليمان بن الحسن القرمطي في موسم سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وحصل منه يوم التروية أذى عام من نهب الحجاج ، وسفك الدماء حتى سال بها الوادي ، ورمى بعض القتلى في بئر زمزم حتى امتلأت ، وأصعد رجلا على أعلى البيت ليقلع الميزاب ، فتردى على أعلى رأسه ومات ، وأخذ الحجر وانصرف به ، فعلقه في الأسطوانة السابقة في جامع الكوفة ؛ لظنّه الفاسد بأن الحج ينتقل إليها ، واستمر عنده إلى أن اشتراه منه المطيع لله أبو الفضل بن المقتدر ، ثم أعيد إلى مكانه سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، ولما ذهب به هلك تحته أربعون جملا وقيل ثلاثمائة ، ولما أعيد إلى مكة حمله على قعود
__________________
(١) أخرجه مسلم (٢٢٧٧).
أعجف فسمن تحته ، قال الجلال السيوطي : ويقال : أنه لما اشتراه منه جاءه عبد الله بن حكيم المحدث ، وقال : إن لنا في حجرنا آيتين ، إنه يطفو على الماء ، ولا يحمى على النار ، فأتى بحجر مضمخ بالطيب مغشى بالديباج ليوهموا بذلك ، فوضع في الماء فغرق ، ثم جعلوه في النّار فكاد أن ينشق ، ثم أتى بحجر آخر ففعل به ما فعل بما قبله فوقع له ما وقع ، ثم أتى بالحجر الأسود فوضعوه في الماء فطفا ، ووضع في النار فلم يحم ، فقال عبد الله : هذا حجرنا ، فعند ذلك عجب أبو طاهر القرمطي وقال : من أين لكم هذا؟ فقال عبد الله : ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (يمين الله في أرضه ، يأتي يوم القيامة وله لسان زلق يشهد لمن قبّله بحق أو باطل ، لا يغرق في الماء ، ولا يحمى بالنار) ، فقال أبو طاهر : هذا دين مضبوط بالنقل. ا. ه.
فإن قيل : ما ذكر عن القرمطي والحجاج والحصين بن نمير ينافي قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧].
أجيب عنه : بما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري : بأن ذلك الأمن المذكور إنما وقع بأيدي المسلمين.
وقال الزركشي في الجواب : إنه لا يلزمه من قوله : (حَرَماً آمِناً) وجود ذلك في كل الأوقات. ا ه.
[١٣٥] [أحكام تقبيل الحجر] :
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضياللهعنهما أنه قال : «يرفع الحجر يوم الاثنين».
تتمة : استلام الحجر الأسود عندنا في أول كل شوط ، وهو الصحيح.
وقيل : في أول شوط من الطواف وآخره ، وفيما بين ذلك مستحب.
وصفة الاستلام : أن يستقبل الحجر ويرفع يديه حذاء أذنيه ومنكبيه كما قيل ، موجها باطنها نحو الحجر ، ويقول : بسم الله والله أكبر ، ويهلل ويحمد الله تعالى ، ويصلي على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويضع يديه على الحجر ويفّرج بينهما ، ويضع فمه بينهما بلا تصويت ولا لحس باللسان ، وهذا تقبيله ، وهو سنة (١) وتكراره ثلاثا مستحب.
واختلف في السجود عليه ولا بأس به.
وإن لم يقدر على الاستلام يقوم بحذائه ، ويرفع يديه حذو منكبيه مستقبلا بباطنهما إياه مشيرا إليه كأنّه واضع يديه عليه ، ويكبر كما مرّ ، ويقبل يديه ولا يشير بالفم ولا بالرأس إلى القبلة.
وينبغي أن يستاك ويغسل فمه إن كان به رائحة كريهة ، ولا يحل تقبيله للمحرم إن كان به طيب.
[١٣٦] [الحكم في حالة إزالة الحجر] :
ولو أزيل الحجر ـ والعياذ بالله تعالى ـ عن موضعه استلم موضعه وقبّله وسجد عليه ، قاله الدارمي من أصحاب الشافعي ، وارتضاه صاحب البحر العميق من أصحابنا ، كذا ذكره القاضي زاد في شرحه على المنسك الصغير وقال العلامة ابن ظهيرة : واستشكله بعض علمائهم ، يعني : علماء الشافعية ، ثم قال رحمهالله : [ووجّهه الجدّ] ، وقال : إن الخصوصية التي ثبتت للحجر من كونه يمين الله في الأرض ، ويشهد لمن استلمه بحق (٢) ، وتقبيله عليه
__________________
(١) انظر : منسك الكرماني ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.
(٢) وفي حاشية الملتقى على شرح الملتقى : وهل يسجد عليه؟ لأن سيدنا العباس كان يسجد عليه ويقول : كان عمر يفعله ويقول : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يفعله. من جامع الشروح ، ويكرر السجود والتقبيل ثلاثا إن استطاع انتهى. كما ورد بهامش المخطوطة.
الصلاة والسلام غير موجود في الركن الذي هو فيه ، انتهى. ثم قال : لم أقف على نقل لأصحابنا في ذلك ، وما ذكره الجد من التوجيه في غاية القبول وبما يوافق أصولنا ؛ لأنه حيث هذا الحكم للحجر اقتصر عليه واختص به دون الركن ، فلا ينتقل الحكم إلى الركن ولا يقوم بدلا عن الحجر ؛ لأن من أصلنا أن نصب البدل بالرأي لا يجوز (١).
أما من أراد الطواف ووقف مستقبل الركن ورفع يديه لأجل النية فينبغي الجواز ؛ لأنه محل البدأة فتأمل. انتهى.
والظاهر ـ والله أعلم ـ : أن قول ابن ظهيرة هو الصواب.
[١٣٧] [ما ورد من الأدعية المأثورة في تقبيل الحجر] :
ومن الأدعية المأثورة : اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة نبيك محمد صلىاللهعليهوسلم ، لا إله إلا الله والله أكبر.
وزاد بعضهم : اللهم إليك بسطت يدي ، وفيما لديك عظمت رغبتي ، فاقبل دعوتي ، وأقل عثرتي ، وارحم تضرعي ، وآمن خوفي ، وجد لي بمغفرتك ، وأعذني من مضلات الفتن.
__________________
(١) انظر : الجامع اللطيف في فضل مكة ص ٤٣ ..
[١٣٨]
٦ ـ [من أماكن الإجابة المطاف]
طواف ، أي : مكانه ، وكان الأولى أن يقول : مطاف ؛ لأن نفس الطواف ومباشرته من جملة أحوال الإجابة ، لا من أماكنها ، والظاهر لأن المراد به المحل المعهود في زمنه صلىاللهعليهوسلم كله يجوز فيه الطواف ، فكذا في شرح الحصن الحصين. قال الشيخ إدريس : وهو ما دار عليه القناديل من حديد ، وهو الصف الأول إذا وقف الإمام خلف مقام إبراهيم. انتهى.
[١٣٩] [إجابة الدعاء مطلقا] :
والمراد : أنه يستجاب الدعاء مطلقا من غير قيد بزمن مخصوص ، أو مكان معين منه ، ثم قال الملّا : ثم الظاهر أن الدعاء يستجاب فيه حال مباشرة الطواف ودعواته المأثورة المشهورة ، ولا يبعد أن يكون مطلقا انتهى.
أقول : والإطلاق أنسب بفضل الخلاف ، وهو من أعظم أماكن الإجابة وأجلّها ، وله فضل عظيم ، قال صلىاللهعليهوسلم : (لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى (١)) وإن كان يعم المسجد كله فهو دليل من حيث الإشارة إذ ذاك.
وقال عليه الصلاة والسلام : (ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة (٢)).
__________________
(١) أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (١١٨٩) ؛ ومسلم في الحج (١٣٣٨).
(٢) رسالة الحسن البصري ، ص ٢٠.
[١٤٠] [من فضل المطاف] :
ومن فضله : ما حواه من دفن كثير من الأنبياء فيه ، وروى الحسن في رسالته عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود سبعون نبيا (١)).
وفي منسك ابن جماعة : (ما بين الركن والمقام وزمزم قبور نحو من ألف نبي (٢)).
قال في مثير شوق الأنام : فإن قلت : ينبغي أن تكون الصلاة مكروهة ثمّ لأنها مقبرة؟ فالجواب : أن محل الكراهة في غير قبور الأنبياء كما قاله البهاء السبكي وعرضه على والده فصوّبه.
فإن قلت : الكراهة بل الحرمة من جهة أخرى وهو أن المصلى ثمّ يستقبل قبر نبي ، وقد ورد النهي عن ذلك. فالجواب : أن محل ذلك مع التيقن ، وما هنا مظنون انتهى.
[١٤١] [ما ورد في فضل الطواف] :
ومن فضله : وقوع الطواف الذي هو كالصلاة ، و [هو] من أعظم القربات فيه ، فيستحب الإكثار منه والدعاء فيه.
__________________
(١) رسالة الحسن البصري ص ٢٠ ، وروى الأزرقي عن عبد الله بن خمرة قوله : (ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا ...) وقال محققه : «إسناده حسن» ١ / ١٢٠.
(٢) هداية السالك ١ / ٦٦ ؛ ورواه الأزرقي من قول عبد الله بن حمزة السلولي بلفظ «ما بين الركن إلى المقام إلى قبل زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا ، جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك عليهم صلوات الله أجمعين».
وقال محققه : (إسناده حسن) ١ / ١٢٠.