السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]
المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨
[٢٦٧] [مسجد الجعرانة] :
ومسجد الجعرانة (١) : معروف ، وهو الذي أحرم منه صلىاللهعليهوسلم بعمرة في مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، وموضع إحرامه : وراء الوادي عند الحجارة المنصوبة بالعدوة القصوى. ذكره الأزرقي عن مجاهد ، واختلف في وقته : والراحج أنه ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة عام الفتح (٢).
__________________
(١) الجعرانة : موضع بين مكة والطائف ، وهو إلى مكة أقرب ، وهو من الحل ، وهي اليوم قرية في صدر وادي سرف ، على بعد نحو ٢٤ كيلومتر من المسجد الحرام في الجهة الشمالية منه ، والمسجد قد أعيد بناؤه وتوسعته في عهد خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد رحمهالله) وأضيفت إليه مرافق كثيرة.
(٢) انظر : الجامع اللطيف ص ٢٩٤.
والجعرانة ـ بجيم مكسورة وعين ساكنة وراء مفتوحة ، وبكسرهما وتشديد الراء ، وقيل بكسر الجيم وفتح الراء المشددة ، وقال الشافعي : التشديد خطأ ـ موضع بين مكة والطائف سمي بريطة بنت سعد ، وكانت تلقب بالجعرانة : وهي امرأة أسد بن عبد العزى ، وعن ابن عباس ـ رضياللهعنه ـ أنها هي التي نزل فيها قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [النحل : ٩٢] الآية.
[٢٦٨] [فضائل الجعرانة] :
ومن فضائل هذا الموضوع : ما أخرجه الجندي في فضائل مكة بسنده إلى يوسف بن ماهك أنه قال اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي (١) ، ومنها : ما ذكره الفاكهي أن في جهة الجعرانة ماء شديد العذوبة ، يقال إن النبي صلىاللهعليهوسلم فحص موضع الماء بيده الكريمة ، وقيل : إنه غرز فيه رمحه الميمون ، فنبع الماء من ذلك المحل ، فشرب منه وسقى الناس (٢).
[٢٦٩] [مسجد الفتح] :
ومسجد بوادي مرّ الظهران قرب الجموم ، يقال له : مسجد الفتح ، مشهور بهذا الاسم إلى هذا الزمان يقال إنه صلىاللهعليهوسلم صلّى فيه (٣). والله أعلم.
__________________
(١) أوردها ابن جماعة في هداية السالك ٣ / ١٢٦٣.
(٢) أخبار مكة للفاكهي ٥ / ٦٩.
(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٥. موقعه : الجموم وادي مر الظهران ، ماء لبني سليم ، يقع على بعد نحو ٢٥ كم شمال مكة المكرمة على طريق المدينة المنورة (طريق الهجرة). انظر : تاريخ مكة قديما وحديثا ص ١٣٨.
[٢٧٠] [جبال مكة] :
وأما الجبال المأثورة :
[٢٧١] [جبل أبي قبيس] :
فمنها : جبل أبي قبيس أحد أخشبي مكة (١) ، سمي برجل من مذحج حدّاد ؛ لأنه أول من بنى فيه ، كذا في القاموس (٢). وقال ابن ظهيرة في تسميته بأبي قبيس : أرجحها أنه سمي باسم رجل من إياد ، يقال له : أبو قبيس ، بنى فيه (٣) ، وكان يسمى الأمين في الجاهلية ؛ لأن الحجر استودع فيه عام الطوفان ، فلما بنى الخليل الكعبة ناداه الجبل : الركن مني بمكان كذا وكذا ، فجاء به جبريل فوضعه ، وهو أصل الجبال وأولها ، كما روي عن ابن عباس وغيره. وذكر الفاكهي : أن الدعاء يستجاب فيه.
وعن وهب بن منبه : أن قبر آدم في غار فيه يقال غار الكنز ، وأن نوحا لما جاء الطوفان استخرجه من الغار وجعله في تابوت وحمله في السفينة ، فلما غاض الماء أعاده ، وهو لا يعرف الآن ، وقيل بمسجد الخيف وتقدم ، وقيل ببيت المقدس ، وقيل بالهند ، وصححه الحافظ ابن كثير. وعن
__________________
(١) وهذا الأخشب الشرقي ، والغربي : قعيقعان (ومكة بينهما) وأمام اليوم فلا يعرف الجبل بالاسم المذكور ، وإنما تطلق عليه عدة أسماء : جبل السليمانية ، والعبادي ، والمدافع ، قرن ، لعلع ، الترك ، المطابخ ، السودان ، وجبل الأحمر وهذه أسماء بعضها قديمة وبعضها حديثة. وكل يشرف على حيّ أو أحياء. انظر البحر العميق ١ / ١٢١ ؛ أودية مكة للبلادي ص ٩٠.
(٢) جبل أبي قبيس ـ بضم القاف ـ وهو الجبل المشرف على الصفا والمسجد الحرام وهو معروف ، وإن كان البناء قد ستر الجهة المقابلة للحرم ، وتفصل الساحة بينه وبين الحرم. القاموس المحيط (قبس).
(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٨.
الذهبي : أن قبر حواء وشيث فيه أيضا. والله أعلم (١).
وعن بعض العلماء : أنه أفضل جبال مكة حتى من حراء لقربه من الكعبة الشريفة واستشكله الفاسي [من تفضيله على حراء](٢) لكونه صلىاللهعليهوسلم كان يكثر إتيانه للعبادة ، ويقيم به لأجلها شهرا في كل عام ، وفيه أكرم بالرسالة ، ولم يتفق له صلىاللهعليهوسلم مثل ذلك في غيره ، وذلك مما يقتضي امتيازه بالفضل.
وما فضل دار خديجة على غيرها من دور الصحابة إلا بطول سكناه صلىاللهعليهوسلم بها ، ونزول الوحي عليه فيها لا لقربه من الكعبة ؛ إذ دار
__________________
(١) المصدر السابق ص ٢٩٧.
(٢) ما بين المعكوفتين أضيفت من الجامع اللطيف ، وبدونها لا تستقيم العبارة. انظر : الجامع اللطيف ص ٢٩٨.
العباس ودار الأرقم أقرب منها (١).
وفي عجائب المخلوقات ـ من خواص جبل أبي قبيس ـ : أن من أكل فيه رأسا مشويا يأمن من وجع الرأس ، وكثير من الناس يفعله. وقال الملّا علي : وأما ما اشتهر من أكل رأس الغنم يوم السبت ، فلا أصل له. والله أعلم بحقيقته! (٢).
[٢٧٢] [جبل الخندمة] :
جبل الخندمة : وهو معروف خلف جبل أبي قبيس ، وروى عن ابن عباس ـ رضياللهعنهما ـ أنه قال : ما أمطرت مكة قط إلا كان للخندمة عزة ؛ وذلك
__________________
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) المصدر السابق نفسه.
أن فيه قبر سبعين نبيا ، أخرجه الفاكهي (١) ، قال العلامة بن ظهيرة بصحته (٢).
وفيه يقول القائل في فتح مكة :
إنك لو شهدت يوم الخندمة |
|
إذ مرّ صفوان وفرّ عكرمة |
[٢٧٣] [جبل حراء] :
وحراء : ككتاب ممدود إن ذكّر صرف ، وإن أنث منع ، ويسمى جبل النور (٣) ؛ وكان ذلك لكثرة إقامة النبي صلىاللهعليهوسلم به ، وتعبد به فيه ،
__________________
(١) أخبار مكة ٤ / ١٣٤ ، وجبل خندمة.
(٢) قال المؤلف : (قال العلامة ابن ظهيرة بصحته) بينما قال : «والله أعلم بصحته» تعليقا على الرواية كما في الجامع اللطيف ص ٢٩٩ ، ومن ثم لا أرى المطابقة ، بين القول وبين المفهوم منه ، ولعل السهو والتسرع أدىّ إلى هذا.
(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٩. حراء ـ غار حراء ـ : ويعرف الجبل (بجبل النور) والغار الذي
ولما خصه الله به من الإكرام بالرسالة ونزول الوحي عليه بالغار الذي بأعلاه ، كما في صحيح البخاري حين فجأه الحق في غار حراء. كذا في الجامع اللطيف (١).
وفي المواهب : والصحيح أن أول ما نزل عليه صلىاللهعليهوسلم من القرآن (اقرأ) كما صح ذلك عن عائشة ، وروي عن أبي موسى الأشعري ، وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف (٢).
__________________
كان يتعبد فيه النبي صلىاللهعليهوسلم في الجبل مشهور ب (غار حراء) ، ومن ثم غلب على الجبل ، ويقع جبل النور شمال شرقي المسجد الحرام ، والغار عبارة عن فجوة بابها نحو الشمال يتوصل إليه بعد المرور من مدخل بين الحجرين سعته نحو ٦٠ سم وطول الغار نحو ٣ م ، في مقدمته فتحة طبيعية ، وعرض الغار متفاوت أقصاه ٣٠ ، ١ م وارتفاعه ٢ م ويتسع لشخصين. انظر : تاريخ مكة قديما وحديثا ص ١٢٤.
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) انظر : زاد المسير لابن الجوزي ، ص ١٥٦٨ (ابن حزم) ؛ وتفسير ابن عطية ص ١٩٩١.
(ابن حزم).
وأما ما روي عن جابر وغيره : أن أول ما نزلت (يا أيها المدثر) ، فقال النووي : ضعيف بل باطل ، وإنما نزلت بعد فترة الوحي ، وأما حديث البيهقي أنه الفاتحة كقول بعض المفسرين ، فقال البيهقي : هذا منقطع ، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] و (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) [المدثر] ، وقال النووي بعد ذكر هذا القول : بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى. وهو مشهور معروف يأثره السلف عن الخلف.
وذكر الأزرقي والفاكهي : أن النبي صلىاللهعليهوسلم اختبأ فيه من المشركين.
قال ابن ظهيرة : والمعروف أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يختبئ من المشركين إلا في غار ثور ، لكن يتأيد ما ذكر بما قاله القاضي عياض ، والسهيلي في روضه : أن قريشا حين طلبوا النبي صلىاللهعليهوسلم كان على ظهر ثبير ، فقال له : اهبط عني يا رسول الله ، فإني أخاف أن تقتل وأنت على ظهري فيعذبني الله تعالى ، فناداه حراء : إليّ يا رسول الله!
وجمع القاضي تقي الدين فقال : إن صحّ اختفاؤه صلىاللهعليهوسلم [بحراء فهو](١) غير اختفائه بثور والله أعلم ، فيكون اختفاؤه بحراء أولا ، وفي ثور حين الهجرة. انتهى (٢).
وفي تذكرة القرطبي عن أنس بن مالك ـ رضياللهعنه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكا ، صار بعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحراء ، وبالمدينة أحد ، وورقان ،
__________________
(١) ما بين المعكوفتين مزيدة من الجامع اللطيف ، والعبارة مأخوذة منه ، وبغيرها لا تستقيم العبارة.
(٢) الجامع اللطيف ، ص ٢٩٩.
ورضوى (١)). والحاصل : أن فضله عظيم وشرفه جسيم ، وهو أحد الجبال التي بني منها البيت الشريف ، ومحل ظهور السر المنيف ، وقد أفرده ابن فهد الهاشمي بالتصنيف ، وما أحسن ما قال العلامة المرجاني فيه شعرا :
تأمل حراء في جمال محياه |
|
فكم من أناس في حلا حسنه تاهو |
فما حوى من جاء لعلياه زائرا |
|
يفرج عنه الهم في حين مرقاه |
به خلوة الهادي الشفيع محمد |
|
وفيه له غار كان يرقاه |
وقبلته للقدس كانت بغاره |
|
وفيه أتاه الوحي في حال مبداه |
وفيه تجلى الروح بالموقف الذي |
|
به الله في وقت البداءة سواه |
وتحت تخوم الأرض في السبع أصله |
|
ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه |
ولما تجلى الله قدس ذكره |
|
لطور ، تشظى فهو إحدى شظاياه |
ومنها ثبير ثم ثور بمكة |
|
كذا قد أتى في فقل تاريخ مبداه |
وفي طيبة أيضا ثلاث فعدها |
|
فعيرا وورقانا وأحدا رويناه |
ويقبل في ساعة الظهر من دعا |
|
به وينادى من دعانا أجبناه |
وفي إحد الأقوال في عقبة حراء |
|
أتى ثمّ قابيل لهابيل غشاه |
ومما حوى سرا حوته صخوره |
|
من التبر إكسيرا يقام بسكناه |
سمعت به تسبيحها غير مرة |
|
وأسمعته غيري فقالوا سمعناه |
وفيه مركز النور الالهي مثبتا |
|
فلله ما أحلا مقاما بأعلاه (٢) |
وقول الناظم : (فعيرا) ، صوابه : فرضوى ؛ كما في الحديث السابق ؛ ولأن (عيرا) مبغوض كما ورد ، والحكمة في كونه صلىاللهعليهوسلم لازم فيه
__________________
(١) رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة ١ / ٧٩ ؛ والأزرقي ٢ / ٢٨٠ ؛ والفاكهي ٤ / ٨١.
(٢) بهجة النفوس والأسرار ، للمرجاني ، ١ / ١٣٣.
التعبد دون غيره ما فيه من السر الإلهي الذي أودعه فيه ؛ لأن لله تعالى في كل شيء أسرارا ربانية ، ولطائف رحمانية يختص بها عن غيره ، أو ما قيل من أنه مختلى أجداده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام ، أو غير ذلك والله أعلم بما هنالك (١).
[٢٧٤] [جبل ثور] :
وجبل ثور (٢) : وهو معروف بأسفل مكة ، بينه وبينها ميلان ، وقيل : ثلاثة ، وارتفاعه نحو ميل ، ويقال له : ثور أطحل ، واسم الجبل أطحل نزله ثور بن عبد مناف ، فنسب إليه ، كذا في القاموس (٣).
وقال الشيخ إدريس : (ثور) ـ بفتح المثلثة وسكون الواو ـ وهو ابن حجفل الهذلي ، وقيل هو ثور بن آدم طايخة بن إلياس بن مضر ، أبو القبيلة المشهورة : رهط.
ومنهم سفيان الثوري ، وهذا الجبل فيه الغار المذكور في قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] الآية الذي اختفى فيه النبي صلىاللهعليهوسلم حين هاجر ، وروى رزين ابن أبي بكر لما رأى القافة ، اشتد حزنه على النبي صلى الله عليه
__________________
(١) انظر الجامع اللطيف ص ٢٩٩ ، ٣٠٠.
(٢) جبل ثور ـ غار ثور ـ يقع الجبل في جنوب المسجد الحرام في جهة المسفلة بحي الهجرة على يمين السائر على الطريق الدائري باتجاه مزدلفة ، ويبعد عن المسجد الحرام ثلاثة كيلو مترات ، ويبلغ ارتفاعه نحو ٧٥٩ مترا ، والغار مساحته نحو مترين مربعين ، وله فتحتان من الأمام والخلف ، والغار عبارة عن صخرة مجوفة كبيرة ، والدخول إليه يكون بانحناء ، وقد غيرت عوامل التعرية فيه الكثير. وهذا الغار دون القمة ، وصعب المرتقى ، ويستغرق الصعود إليه نحو ساعة ونصف.
(٣) القاموس المحيط (نور).
وسلم ، وقال : إن قتلت فإنما أنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة. فعندها قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تحزن إن الله معنا ، يعني : في المعونة ، وفي النصر.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك ـ رضياللهعنه ـ ، قال أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه!! رآنا؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؟ (١).
وروي أن أبا بكر رضياللهعنه قال : نظرت إلى قدمي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الغار وقد تفطرتا دما ، فاستبكيت وعلمت أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن تعود الحفا والحفوة ، وأنه رأى جحرا فيه فألقمه عقبه ؛
__________________
(١) أخرجه البخاري (٣٤٥٣) ومسلم (٢٣٨١).
لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فجعل الأفاعي يضربنه ويلسعنه ، فجعلت دموعه تنحدر.
وفي رواية : فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر فنام ، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك ، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذهب ما يجده (١).
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لما دخل الغار وأبو بكر معه ، أنبت الله على بابه الراه فحجبت عن الغار أعين الكفار (٢).
والراه : أم غيلان ، وقيل : شجرة مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر به يحشى المخاد (٣).
وفي مسند البزار (أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار ، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار ، وأن ذلك مما صد المشركين عنه ، وأن حمام الحرم من نسل تلك الحمامتين ، ولما فقدته قريش طلبوه بمكة كلها ، وبعثوا القافة في كل وجه ، فوجد الذي ذهب قبل ثور ، فلم يزل يتبعه حتى انتهى إلى ثور ، وشق خروجه عليهم ، وجزعوا لذلك وجعلوا مائة ناقة لمن يرده ، فتوجه فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم إلى ثور ، فلما أقبلوا على الغار جعل بعضهم ينظر فيه ، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفمه ، فرجع إلى أصحابه وقالوا : مالك؟ قال : رأيت حمامتين وحشيتين ،
__________________
(١) انظر السيرة النبوية لابن كثير ، ٢ / ٢٣٧.
(٢) انظر عيون الأثر لابن سيد الناس ، ١ / ١٨٢.
(٣) «أم غيلان : شجرة السّمر ، وهو نوع من جنس السنط من الفصيلة القرنية ، ويسمى أيضا الطّلح» المعجم الوسيط (غيل).
فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر : ادخلوا الغار. فقال : وما ألاكم إلى الغار إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد) (١).
وروي أن الحمامتين باضتا في أسفل النقب ، ونسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخلا لتكسر البيض ، وتفسخ العنكبوت.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : (اللهم أعم أبصارهم (٢)) ، فعميت عن دخوله ، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار ، والحاصل : أن كل هذه الآيات الكبرى والأسرار العظمى وقعت عنده ، ولله ما أحسن قول الشريف البوصيري :
وا غيرتا بين أضحى الغار وهو به |
|
كمثل قلبي معمود ومأهول |
كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال |
|
صديق ثان قد آواهما غيل |
وجلل الغار نسج العنكبوت على |
|
وهن فيا حبذا نسج وتحليل |
عناية ضل المشركون بها |
|
وما مكايدهم إلا الأضاليل |
إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما |
|
كأن أبصارهم من زيغها حول |
وكان مكثه صلىاللهعليهوسلم فيه ثلاثا ، كما في صحيح البخاري ، وهو المشهور ، وقيل : بضعة عشر يوما.
__________________
(١) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥ / ٨٧. انظر السيرة النبوية لابن كثير ، ٢ / ٢٣٥.
(٢) أورده الملا علي في مرقاة المفاتيح ١١ / ٤ ، وقال الزيلعي : «لم أجده» تخريج الأحاديث والآثار ٢ / ٧٧ ، وانظر هذه الروايات وغيرها في تفسير ابن عطية ، ص ٨٤٦. (طبعة بن حزم).
[٢٧٥] [فضائل ثور] :
ومن فضائل ثور : ما يروى أنه كلم النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال له : إليّ يا رسول الله فإني قد آويت قبلك سبعين نبيا (١) ، وما قال المرجاني في بهجة النفوس : ذكر لي أن رجلا كان معه مال وبنون ، وأنه أصيب بذلك ، فلم يحزن ولم يجزع على مصائبه بقوة صبره وتحمله ، قال : فسألته عن قوة صبره وحسن تحمله؟ قال : إن من دخل غار ثور الذي آوى النبي صلىاللهعليهوسلم وصاحبه أبا بكر رضياللهعنه ، وسأل الله تعالى أن يذهب عنه الحزن. لم يحزن على شيء ، وقد فعلت ذلك فما وجدت قط حزنا ، قال المرجاني : هذه الخاصة من تأثير قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠].
وما نقل عن البكري ـ رحمهالله ـ أنه قال في جبل ثور : من كل نبات الحجاز ، وفيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه هامة.
ونقل الفاسي عن ابن عباس ـ رضياللهعنهما ـ : أنّ قتل قابيل أخاه هابيل كان في ثور (٢).
وفضل هذا الجبل عظيم ، ولو لم يكن من ذلك إلا ذكر غاره في القرآن لكفى ؛ ولأجل ذلك فضله على حراء [جماعة] ، منهم الفيروزآبادي ، ولابن فهد فيه تأليف حسن سماه : «النور في فضائل جبل ثور» والغار الذي فيه بابان
__________________
(١) انظر : الجامع اللطيف ص ٣٠٠. هذا الحديث ورد في فضل (حراء) والقائل هو حراء ، كما ذكر المرجاني في بهجة النفوس ، ١ / ١٣٢ وابن الضياء في البحر العميق ، ٥ / ٢٦٥٤ ؛ وقال السهيلي في حديث الهجرة : وأحسب في الحديث أن ثورا ناداه أيضا لما قال له ثبير : اهبط عني» كما نقل صاحب البحر العميق ، ٥ / ٢٦٥٤.
(٢) راجع المصدر السابق نفسه.
واسع وضيق ، وكثير من الناس يدخله ، أي الضيق ؛ لما يقال : إن من لم يدخل منه وتعوق فليس لأبيه : باطل لا أصل له ، وقد وسع في عام ثمانمائة ؛ لأن بعض الناس أراد الدخول فانحبس ، فنحت منه وتخلص. كذا في الجامع اللطيف (١).
[٢٧٦] [جبل ثبير] :
وجبل ثبير وتقدم الكلام عليه في الكلام على منى. والله أعلم.
فهذه المآثر الجلية يستحب زيارتها والتردد إليها للتبرك بآثار المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، وللانتشاق من فضل ذوي الفضل والنور الوفاء ، والتعفر بتراب نعل سيد ذوي الاصطفاء بسوائد القلوب ، كشأن أهل الوفاء.
[٢٧٧] [بعض أحوال العارفين] :
يحكى أن الإمام السبكي ـ رحمهالله ـ لما دخل مدرسة النووي وقد أعطي تدريسه ، صار يعفر جلده بالأرض حتى وصل إلى محله وهو ينشد :
وفي دار الحديث لطيف معنى |
|
إلى بسط لها أصبو وآوي |
لعلي أن أنال بحرّ وجهي |
|
مكانا مسه قدم النواوي |
وإذا كان هذا في حق بعض الأولياء من أمته الذين قاموا بخدمته ، فكيف به وبأثره صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرم ومجّد وعظّم ، وما أحسن قول الشيخ إدريس رحمهالله تعالى :
إذا حلت ركابك سوح قوم |
|
وأنت مقصر عاصي الجليل |
__________________
(١) ص ٣٠٠ ، ٣٠١.
فأيقن أنك الناجي وعفر |
|
بسوح حله قدم الرسول |
وقال أيضا :
إذا أفنيت عمرك في معاص |
|
فتب واقلع من الذنب المسيء |
تفوز مع الأكابر ثم عفر |
|
بسوح مسّه نعل النبي |
ويقول الفقير رحمهالله تعالى :
وفي أثر الرسول لنا شفاء |
|
لقلب ذاب من حر السقام |
وروح دائما ولطيف معنى |
|
تطير إليه أرواح الغرام |
فتعفير القلوب لديه فضل |
|
من الرحمن فاشكر بالتزام |
وعفر ديمة فيه خدودا |
|
لتحظى بالسعادة والمرام |
وأكثر دائما فيه صلاة |
|
على المختار من بين الأنام |
ولله ما أنسب بهذا المقام قول أبي اليمن بن عساكر في النعل الشريف وأثره ، رضياللهعنه وأرضاه :
يا منشدا في رسم ربع خال |
|
ومناشدا لدوارس الأطلال |
دع ندب آثار وذكر مآثر |
|
لأحبة بانوا وعصر خال |
والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا |
|
إن فزدت عنه بلثم ذا التمثال |
أثر له بقلوبنا أثر لها |
|
شغل الخلي بحب ذات الخال |
قبل لك الإقبال نعلي أخمص |
|
حل الهلال بها محل قبال |
الصق بها قلبا يقلبه الهوى |
|
وجلا على الأوصاب والأوجال |
صافح بها خدا وعفّر وجنة |
|
في تربها وجدا وفرط ثقال |
وسبيل حرّ جوى ثوى بجوانح |
|
في الحب ما جنحت إلى الإبدال |
يا شبه نعل المصطفى روحي الفدا |
|
لمحلك الأسما الشريف العال |
هملت لمرآك العيون وقدنا |
|
مرمى العيون بغير ما إرسال |
وتذكرت عهد العقيق فناثرت |
|
شوقا عقيق المدمع الهطال |
وصبت فواصلت الحنين إلى الذي |
|
ما زال بالي منه في بلبال |
أذكرتني قدما لها قدم العلا |
|
والجود والمعروف والأفضال |
أذكرتني من لم يزل ذكري له |
|
يعتاد في الأبكار والآصال |
ولها المفاخر والمآثر في الدنا |
|
والدين في الأقوال والأفعال |
لو أن خدي يحتذى نعلا لها |
|
لبلغت من نيل المنى آمالي |
أو أن أجفاني لوطىء نعالها |
|
أرض سمت عزا بهم ندى الإذلال |
فتأمل يا أخي. حال أكابر السادات ، واقتباس أهل العرفان والولايات ، وانتشاق أهل المواهب والعنايات ، فطوبى لهم منحوا من الكرامات وبما أعطوا من صفو المشارب وأعلى المرامات.
[٢٧٨] [مقبرة المعلا] :
وأما المقابر فأعظمها وأشرفها المعلا (١) ؛ لما حوته من سادات الصحابة
__________________
(١) الأزرقي ٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، الجامع اللطيف ص ٣٠٣ ، مقبرة المعلا : تقع في الحجون ملاصقة لسفح جبل البرم (أبو دجانة) على يسار الذاهب إلى منى ، وتمتد المقبرة من الكمالية إلى الخرمانية ثم إلى ريع ذاخر ، وهي من أكبر المقابر بمكة ، وقد شق طريق من وسطها فصارت كأنها مقبرتان ، وهي مسوّرة من جميع الجهات.
والتابعين وكبار العلماء والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو ـ بفتح اللام ـ ضد المسفلة (١) ، واشتهر بين العوام ـ بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة ـ ، وله وجه في العربية كذا قال الملا علي ، وقال أيضا : وهو أفضل مقابر المسلمين بعد البقيع ، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما في المدارك : عنه صلىاللهعليهوسلم : (الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة (٢)). وهما مقبرتا مكة والمدينة.
__________________
(١) المسفلة ـ بفتح الميم وسكون المهملة ـ وتطلق على ما انحدر من المسجد الحرام ، وقد أصبحت الآن علما على حيّ من مكة ، يمتد من المسجد الحرام جنوبا غربا. انظر : معجم معالم الحجاز ٨ / ١٥٤.
(٢) ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة (٣٩٢) ، وقال الزيلعي : «غريب جدا» كما في تخريج الأحاديث الواقعة في الكشاف (٢٠٩) ، وذكره الملا علي القارئ في الأسرار المرفوعة وقال : «لا يعرف له أصل» (١٦٩).
[٢٧٩] [فضل المعلا] :
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (أنه سأل الله تعالى عما لأهل البقيع الغرقد؟ فقال : لهم الجنة ، فقال يا رب ما لأهل المعلا؟ قال : يا محمد تسألني عن جوارك ولا تسألني عن جواري).
وعن ابن مسعود رضياللهعنهما قال : وقف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الثنية ثنية المقبرة وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال : (يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا ، وجوههم كالقمر في ليلة البدر ، فقال أبو بكر : من هم يا رسول الله؟ قال : من الغرباء (١)) ، وهو يحتمل حمله على الحقيقة أو على من تحقق بقوله صلىاللهعليهوسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب (٢)) ، وهم صالحوها ، وهم غير محصورين ؛ لأنها معدن الأولياء وبرزخ الأصفياء. ويقال عن أهل مكة : إن هذه البقعة هي الشعبة التي فيها الشيخ عبد الوهاب الكبير المشهور ، ويسمونها شعبة النور وإنهم يبعثون متوّجين. وقيل : هي التي فيها السيدة خديجة ، والفضيل وغيرهما من الأكابر. والله أعلم بصحة ذلك.
وعن ابن عباس رضياللهعنهما : أنه صلىاللهعليهوسلم قال لمقبرة مكة : (نعم المقبرة هذه (٣)) وروى الفاكهي عن الزهري مرسلا أن النبي صلى
__________________
(١) الحديث بطوله رواه الفاكهي في أخبار مكة ٤ / ٥١ ، وعزاه المتقي الهندي إلى الديلمي ، كنز العمال (٣٤٩٦٠).
(٢) أخرجه البخاري (٦٠٥٣).
(٣) عزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار والطبراني وقال : «وفيه إبراهيم بن أبي خداس حدث عن ابن جريج وابن عيينة كما قال أبو حاتم ، ولم يضعفه أحمد وبقية رجاله رجال الصحيح» مجمع الزوائد ٣ / ٢٩٧.