السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]
المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨
وقد ورد بفضله الكتاب ، والسنة ، والأثر.
أما الكتاب فما تقدم من قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج] وغير ذلك.
وأما السنة فأكثر من أن تحصر ، فمنها : ما روى ابن جماعة عن ابن عمر أنه صلىاللهعليهوسلم قال : (من طاف بالبيت سبعا وصلى ركعتين كان كعتق رقبة (١)).
وعنه أيضا قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : (من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة) ، وسمعته يقول : (لا يضع قدما ولا يرفع قدما أخرى إلّا حطّ الله عنه خطيئة وكتب له بها حسنة) رواه الترمذي محسنا (٢) ، وفي رواية أحمد : (إلّا بها كتب الله له عشر حسنات وحطّ عنه عشر سيئات ، ورفع له بها عشر درجات (٣)).
وقوله : أحصاه ، أي : حفظه بأن لا يغلط فيه.
وفي رواية أبي الفرج : (كتب الله له بكل قدم سبعين ألف حسنة ، وحطّ عنه سبعين ألف سيئة ، ورفع له سبعين ألف درجة ، وشفع في سبعين من أهل بيته (٤)).
__________________
(١) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٢٧٥٣) ، والأزرقي ، وقال محققه : «إسناده صحيح» ١ / ٥١٤.
(٢) أخرجه الترمذي (٩٥٩) ؛ والحاكم وصححه ١ / ٤٨٩ ؛ وابن خزيمة في الصحيح (٢٧٥٣).
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ١١ ؛ والأزرقي في أخبار مكة ١ / ٣٣١.
(٤) أورده المنذري في الترغيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا (١٧٩١).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (من طاف بالبيت سبعا ، وصلّى خلف المقام ركعتين ، وشرب ماء زمزم ، غفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت (١)) أخرجه الواحدي في تفسيره.
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (إذا خرج المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض في الرحمة ، فإذا دخل غمرته ثم لا يرفع قدما ولا يضعها إلّا كتب الله له بكل قدم خمسمائة حسنة ، وحطّ عنه خمسمائة سيئة ، أو قال خطيئة ورفعت له خمسمائة درجة ، فإذا فرغ من الطواف فصلى ركعتين خلف المقام ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل ، واستقبله ملك على الركن فقال له : استأنف العمل فيما يستقبل فقد كفيت ما مضى وشفّع في سبعين من أهل بيته (٢)) أخرجه الأزرقي وغيره.
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (الكعبة محفوفة بسبعين ألف ملك يستغفرون الله لمن طاف بها (٣)).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (أن الله تعالى يباهي بالطائفين ملائكته (٤)).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (لو أن الملائكة صافحت أحدا صافحت الغازي في سبيل الله ، والبار بوالديه ، والطائف ببيت الله الحرام).
وعن ابن عباس رضياللهعنهما : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال :
__________________
(١) أورده الملا علي في الأسرار المرفوعة وقال : «قال السخاوي : لا يصح وقد ولع به العامة كثيرا» ١ / ٣٤٨ ، والحديث رواه الديلمي وابن النجار كما في الكنز ٥ / ٥٣.
(٢) أخرجه الأزرقي وقال محققه : «إسناده ضعيف» ١ / ٤٩٣.
(٣) الأزرقي ١ / ١٩٦ ؛ والفاكهي ١ / ١٩٦.
(٤) أورده الهيثمي في المجمع وقال : «رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط وفي إسناده الطبراني محمد صالح العدوي ولم أجد من ذكره وبقية رجاله رجال الصحيح ...» ٣ / ٢٠٨.
(من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (١)) ، قال العز ابن جماعة : والمراد بخمسين مرة والله أعلم خمسون أسبوعا ؛ لأن الشوط لا يتعبّد به ، ويدل لذلك أن جماعة رووه فقالوا : (من طاف خمسين أسبوعا كان كما ولدته أمه (٢)) ، فهذه الرواية مفسرة للأولى ، وليس المراد بأن يأتي بالخمسين في آن واحد ، بل توجد في صحيفة حسناته (٣) ، وقد سبقه إلى هذا المحب الطبري (٤).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (استكثروا من الطواف بالبيت فإنه أقل شيء تجدونه في صحفكم ، وأغبط عمل تجدونه (٥)).
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلّا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وتغفر له ذنوبه بالغة ما بلغت : طواف بعد الصبح يكون فراغه عند طلوع الشمس ، وطواف بعد العصر يكون فراغه عند غروب الشمس ، فقال رجل : يا رسول الله لم تستحب هاتان الساعتان؟ فقال : إنهما ساعتان لا تعدوهما (٦)).
قال المحب الطبري : يحتمل أن يريد بالبعديّة ما قبل الطلوع والغروب ولو بلحظة تسع أسبوعا ، ويحتمل أنه يريد استيعاب الزمنين بالعبادة ، ولعلّه الأظهر ، وإلّا لقال : طواف قبل الطلوع وقبل الغروب ، وعلى هذا فيكون
__________________
(١) أخرجه الترمذي (٨٦٦) وقال : «حديث غريب».
(٢) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة ٢ / ٢٨٨.
(٣) هداية السالك لابن جماعة ١ / ٥٣ ـ ٥٤.
(٤) انظر القرى لقاصد أم القرى ص ٣٢٤ ـ ٣٢٥.
(٥) أورده ابن الجوزي في مثير العزم الساكن ١ / ٤٠٣ ، وفي تخريج الإحياء «لم أجد له إسنادا».
(٦) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة ١ / ٢٥٣ ؛ الأزرقي ، وقال محققه : «إسناده ضعيف جدا» ١ / ٥٢٠.
حجة على من كرهه في الوقتين. انتهى (١).
[١٤٢] [أجر الطواف] :
وعنه صلىاللهعليهوسلم : (من طاف بالبيت سبعا لا يتكلم إلّا سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، محيت عنه عشر سيئات ، وكتبت له عشر حسنات ، ورفع له عشر درجات ، ومن طاف فتكلم في تلك الحال خاض في الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه (٢)).
وعنه عليه الصلاة والسلام : (الطواف بالبيت خوض في رحمة الله).
والأحاديث في فضل الطواف كثيرة.
وأما الأثر فمنه : ما روى عن ابن عمر رضياللهعنهما قال : كان أحب الأعمال إلى النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قدم مكة الطواف (٣).
وروى الأزرقي : أن ابن عمر كان يطوف سبعة أسابيع بالليل ، وخمسة بالنهار ، وإن آدم عليهالسلام كان يطوف كذلك ـ وعنه أيضا ـ أنه طاف وصلىّ ركعتين ، وقال : هاتان تكفران ما أمامهما (٤).
وعن أبي سعيد الخدري رضياللهعنه : أنه طاف بالبيت على غلام له يسمى طهمان وهو يقول : والله لأن أطوف بهذا البيت أسبوعا ولا أقول
__________________
(١) القرى لقاصد أم القرى ص ٣٢٣.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢٩٥٧).
(٣) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة ١ / ٢٣٨ ؛ وابن عدي في الكامل ٦ / ١٥٣.
(٤) الأزرقي ١ / ٤٤.
فيه هجرا ، وأصلي ركعتين أفضل من عتق طهمان (١) ، و [الهجر] ـ بضم [الهاء] ـ : الفحش في النطق (٢).
وعن سعيد بن جبير : من حجّ البيت فطاف خمسين سبوعا قبل أن يرجع ، كان كما ولدته أمه (٣).
وفي الإحياء : لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال ، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد ، فإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض.
وقد قيل : سبع أسابيع بعمرة ، وفي الحديث : (ثلاث عمر بحجة) وزد عمرتان كحجة ، وهذا في غير عمرة رمضان فإنها تعدل حجة كما ورد ، وفي رواية : (تعدل حجة معه صلىاللهعليهوسلم (٤)).
[١٤٣] [الطواف في المطر] :
والطواف في بعض الأوقات له فضل عظيم ، وأجر جسيم ، فينبغي تحصيله ، فمن ذلك : وقت المطر ، روى عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : (من طاف بالكعبة في وقت مطر كتب الله له بكل قطرة تصيبه حسنة ومحى عنه بالأخرى سيئة (٥)).
وعن أبي عقال قال : «طفت مع أنس رضياللهعنه في مطر فلما
__________________
(١) الأزرقي ٢ / ٢.
(٢) القرى لقاصد أم القرى ٣٢٣.
(٣) أورده المحب الطبري وقال : «سعيد بن منصور» ص ٣٢٤.
(٤) الجزء الأخير من الحديث أخرجه البخاري (١٧٨٢) ومسلم (١٢٥٦).
(٥) أورده الشوكاني في الفوائد المجموعة ، وقال الصنعاني : «باطل» ص ١٠٦.
قضينا الطواف أتينا المقام فصلينا ركعتين ، فقال لنا أنس : ائتنفوا العمل فقد غفر لكم ، هكذا قال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وطفنا معه في مطر» (١).
وعن مجاهد قال : كان كل شيء لا يطيقه الناس من العبادة يتكلفه ابن الزبير ، فجاء سيل فطبق ، فامتنع الناس من الطواف ، فجعل ابن الزبير يطوف سباحة.
وذكر ابن جماعة : أن جده طاف بالبيت سباحة ، وكلما حاذى الحجر غطس لتقبيله ، وذكر أن بعض المالكيين أخبره أنه اتفق له مثل ذلك (٢).
[١٤٤] [الطواف في شدة الحر] :
ومنها في شدة الحر ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : (من طاف بالبيت أسبوعا في يوم صيف شديد الحر ، واستلم الحجر في كل طواف من غير أن يؤذي أحدا ، وأقلّ كلامه إلا بذكر الله تعالى ، كان له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعون ألف حسنة ، ويمحى عنه سبعون ألف سيئة ، ويرفع له سبعون ألف درجة (٣)).
وروى عن ابن عباس رضياللهعنهما أنه صلىاللهعليهوسلم قال : (من طاف بالبيت سبعا في يوم صيف شديد الحر ، وحسر عن رأسه ، وقارب بين خطاه ، وقلّ التفاته ، وغضّ بصره ، وأقلّ كلامه إلّا بذكر الله عزوجل ، واستلم الحجر في كل طواف من غير أن يؤذي أحدا ، كتب الله تعالى له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعين ألف حسنة ، ومحا عنه سبعين
__________________
(١) الحديث أخرجه ابن ماجه (٣١١٨) وفيه من تكلّم فيه.
(٢) هداية السالك ١ / ٥٧.
(٣) ذكره الحسن في رسالته كما في هداية السالك ١ / ٥٧.
ألف سيئة ، ورفع له سبعين ألف درجة ، وعتق عنه سبعين رقبة ، ثمن كل رقبة عشرة آلاف درهم ، ويعطيه الله سبعين شفاعة ، إن شاء في أهل بيته من المسلمين ، وإن شاء في العامة ، وإن شاء عجلت له في الدنيا ، وإن شاء أخرت له في الآخرة (١)).
فإن قيل : هل يستوي في ذلك من طاف حافيا ومتخففا ، أم الأفضل الأول لكثرة المشقة؟.
قلت : أجاب عنه العلامة ابن ظهيرة : بأن إطلاق الحديث يقتضى التسوية بينهما ، لكن سياقه يفهم أن الأول أفضل وأكثر ثوابا ، حيث علل بشدة الحر ؛ لأن المراد تجشم المشقة ، وهو أكثر مشقة (٢).
ثم إنما ينبغي الطواف في الوقتين إذا لم يلحقه به ضرر وإلا فلا يجوز ، وأيضا إذا أمكنه الطواف ولكن يتضرر بكشف رأسه فيغطيه ويحصل له الثواب بفيض فضل الوهاب.
ومنها عند خلوّ المطاف ؛ لأنه يقوم حينئذ بعبادة لا يشاركه فيها أحد في سائر أقطار الأرض ؛ ولذا قال العلماء رحمهمالله تعالى : لو حلف ليعبدن الله تعالى بعبادة لا يشاركه فيها أحد ، فالخلاص أن يخلى له المطاف فيطوف به وحده (٣).
__________________
(١) أورده الملا علي في الأسرار المرفوع ١ / ٣٥٠ ، وأورده الفاسي في شفاء الغرام وقال : «حديث ضعيف الإسناد جدا» ١ / ٢٨٥.
(٢) الجامع اللطيف لابن ظهيرة ص ١١٩.
(٣) المصدر السابق نفسه.
[١٤٥] [الإخلاص والتوجه إلى الله تعالى في الطواف] :
وإذا كان الطواف بهذه المزايا والفضائل ، والطائف له الفضل العظيم والآجر الكامل ، فينبغي له التوجّه إلى الله تعالى بالإخلاص ؛ ليكون أقرب من ذي الفيض والاختصاص ، ولا يكن كما قال بعض العارفين رحمهمالله أجمعين :
يا من يطوف ببيت الله بالجسد |
|
والجسم في بلد والروح في بلد |
ما ذا فعلت وما ذا أنت فاعله |
|
مبهرجا في التقى للواحد الأحد |
إن الطواف بلا قلب ولا بصر |
|
على الحقيقة لا يشفى من الكمد (١) |
[١٤٦] [أقسام الطواف] :
تتمة : الطواف عندنا على أقسام سبعة :
الأول : طواف القدوم : وهو سنة للآفاقي المفرد بالحج.
الثاني : طواف الزيارة : وهو الركن الثاني من أركان الحج.
الثالث : طواف الصدور : وهو واجب على الآفاقي ما لم ينو التوطن بمكة قبل حل النفر الأول.
الرابع : طواف العمرة : وهو ركنها الأعظم.
الخامس : طواف النذر : وهو واجب على من التزمه.
السادس : طواف تحية المسجد : وهو مستحب لكل من دخل المسجد إلا إذا كان عليه غيره فيقوم مقامه ، بل أي طواف طافه عند الدخول كفاه عنه.
__________________
(١) الجامع اللطيف ، ص ١١٥.
السابع : طواف التطوع : وهو ما زاد على ذلك بلا سبب.
وكل واحد من هذه الأنواع له حكم يخصه ، فلينظره في محله من أراده (١).
[١٤٧] [الدعاء والذكر في الطواف] :
تذييل : في بعض الأدعية المأثورة في الطواف ، قال في فتح القدير : «واعلم أنك إذا أردت أن تستوفي ما أثر من الأدعية والأذكار في الطواف ، كان وقوفك في أثناء الطواف أكثر من مشيك بكثير ، وإنما أثرت هذه [في طواف فيه تأنّ ومهلة] ومهل لا رمل ، ثم وقع لبعض السلف من الصحابة والتابعين أن قال في موطن كذا وكذا ؛ [ولآخر في آخر كذا ، ولآخر] في نفس أحدهما شيئا ، فجمع المتأخرون الكل ؛ لا أن الكل في الأصل لواحد ، بل المعروف في الطواف مجرد ذكر الله تعالى ، ولم نعلم خبرا روي فيه قراءة القرآن. انتهى كلامه (٢).
ولعل مراده على طريق التلاوة ، وأما على طريق الدعاء ففيه شيء ، بل وعلى الأول أيضا ؛ إذ لا يعلم القصد إلا الله تعالى إذ ثابت قراءة (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة] الآية ، نعم الأذكار والأدعية الواردة أفضل من قراءة القرآن كما قيل ، والظاهر أن كل ما ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم من دعاء وذكر وقراءة في محل ، فهو أولى وأكمل
__________________
(١) انظر بالتفصيل : المبسوط ، ٤ / ٣٤ ؛ البدائع ٢ / ١٤٦ ؛ منسك الكرماني ١ / ٤٢٠.
(٢) ما بين المعكوفتين أضيفت من نصّ فتح القدير لتصحيح العبارة ، ٢ / ٤٥٢ ، ونقل قبل هذه العبارة عن «محمد رحمهالله [أنه] لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات ؛ لأن التوقيت يذهب بالرقة» وعلق عليها بقوله : «لأنه يصير كمن يكرر محفوظه بل يدعو بما بدا له ، ويذكر الله كيف بدا له متضرعا» ١ / ٤٤٧.
وأشرف وأجمل ، وإذا كان المأثور في ذلك كثير والوقوف في الطواف خطير ؛ لأنه خلاف سنة موالاة النذير البشير ، فينبغي الإتيان منه بما أمكن ، وأفضل الوارد في الطواف الباقيات الصالحات وهي : سبحان الله (١) والحمد لله .. الخ وقد يقال عند استلام الحجر (٢).
ومن المأثور إذا حاذى الملتزم (٣) قال : اللهم إليك مددت يدي ، وفيما عندك عظمت رغبتي ، فاقبل دعوتي ، وأقل عثرتي ، وارحم تضرعي ، وآمن خوفي ، وجد لي بمغفرتك ، وأعذني من مضلات الفتن ، اللهم إنّ لك حقوقا فتصدق بها عليّ.
وإذا كان بين الركن والمقام قال : اللهم قنّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كل غائبة بخير ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير.
قوله : (واخلف) بهمزة وصل وضم اللام ، و (على كل غائبة) جار ومجرور
__________________
(١) المصدر السابق ص ١٢٢.
(٢) ويريد بذلك الدعاء المشهور : «اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، وإيمانا بنبيك ، ووفاء بعهدك ، واتّباعا لسنة نبيك محمد صلىاللهعليهوسلم ، لا إله إلّا الله ، والله أكبر» منسك الكرماني ١ / ٤٠٦.
(٣) هذه الأدعية وغيرها من الأدعية المعينة لموضع معين من الطواف لم يعرف لها أصل من السنة ما عدا ما بين الركنين ، «والأصل فيه أنه يستحب أن يأتي بدعاء وثناء عند ذلك ، ولم يعين أصحابنا دعاء بعينه ، لأن تعيين الدعاء يفضي إلى إزالة الخشوع والرقة عن القلب فيأتي بما تيسر له عند ذلك» ، كما قال الكرماني في منسكه (المسالك في المناسك) ١ / ٣٩٢.
«وعن هذا قال مالك رحمهالله تعالى : لا يقرأ في الطواف القرآن وغيره من الدعوات إلّا قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، وهو أحد قولي أحمد رحمهالله ؛ لأن هذا القدر ثابت بيقين بالنص ، وفي غيره من الدعوات شك واختلاف ، فالإتيان باليقين أولى» مناسك الكرماني ١ / ٤٠٤.
ومضاف إليه ، والمعنى : وكن خليفة على كل نفس غائبة لي ملابسا بخير ، واجعل خلفا على كل غائبة لي خيرا ، فالباء للتعدية كذا ضبطه الملّا في شرح الحصن الحصين.
ثم قال : وأما لهج بعض العامة من قوله : (عليّ) بتشديد الباء فهو تصحيف في المبنى ، وتحريف في المعنى ، كما لا يخفى. انتهى.
يقول الفقير : إذا كانت الرواية كذلك فلا كلام ، فيمكن أن يقال : (أخلف) بهمزة قطع وكسر اللام ، و (علي) جار ومجرور و (كل غائبة) مفعول مضاف ، والمعنى : وأبدل كل حاجة منالة بخير منها أو أخير منها ، ولكن الأول أظهر والله أعلم.
وإذا حاذى الباب قال : اللهم إن هذا البيت بيتك وهذا الحرم حرمك ، وهذا الأمن أمنك ، وهذا مقام العائذ بك من النار (١).
ولا يريد بالعائذ أيضا ، بل يقصد بالمقام هذا المكان ، وبالعائذ جنس المستعيذ ، أو خصوص نفسه كما قال الطرابلسي. وقال السروجي : وإذا حاذى مقام إبراهيم قال : اللهم إن هذا مقام العائذ بك من النار ، اللهم حرّم لحومنا وبشرتنا على النار.
وقال في الكبير : وبين كلام السروجي والطرابلسي تناف ـ انتهى. ويمكن الجمع بينهما غير مناف مما ليس بخلاف.
وإذا أتى الركن العراقي يقول ـ غير مشير إليه ولا مستلم عليه كالشامي ـ اللهم إني أعوذ بك من الشكّ والشّرك ، والشقاق والنفاق ، وسوء الأخلاق ، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد.
وإذا حاذى الميزاب قال : اللهم إني أسألك إيمانا لا يزول ، ويقينا لا ينفد ،
__________________
(١) انظر منسك الكرماني ١ / ٤٠٦.
ومرافقة نبيّك محمد صلىاللهعليهوسلم ، اللهم أظلني تحت ظل عرشك ، يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلّا وجهك ولا فاني إلّا خلقك ، واسقني بكأس نبيك محمد صلىاللهعليهوسلم شربة لا أظمأ بعدها أبدا.
وعند الشامي يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ، وتجارة لن تبور ، يا عزيز يا غفور ، يا عالم ما في الصدور ، وأخرجني من الظلمات إلى النور.
وإذا أتى الركن اليماني يقول : اللهم إني أعوذ بك من الكفر ، وأعوذ بك من الفقر ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، وأعوذ بك من الخزي في الدنيا والآخرة ، (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة] الآية ، اللهم تقبّل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك ، وموسى كليمك ، وعيسى روحك ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم حبيبك ، اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
ويقول بينه وبين الركن الأسود : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة] الآية ، وإذا قرب من الحجر قال : يا واجد لا تنزع مني نعمة أنعمتها عليّ ، وهكذا في كل شوط يفعل ، كما مر.
وينبغي أن يحصل الدعوات المأثورة ؛ لئلا يلحن فيها ، فيخشى عليه دخوله تحت قوله صلىاللهعليهوسلم : (من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (١)) كذا قال الملا علي.
[١٤٨] [كثرة الصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم] :
وينبغي أن يكثر من الصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم في الطواف ،
__________________
(١) أخرجه البخاري (١٢٢٩) ، ومسلم (٣).
فإنها من أفضل القربات وأشرف العبادات ، حتى قال الأخضري في شرح السلم : اتفق العلماء على أن جميع الأعمال منها مقبول ، ومنها مردود إلّا الصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ فإنه مقطوع بقبولها إكراما له. وقال الشيخ عبد السلام بن إبراهيم اللقاني ـ في آخر شرحه على جوهرة التوحيد ـ : ولما كانت الصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم غير مردودة ، ختم كنابه بعد البداءة بها ليكون وسيلة لقبولها بينهما. انتهى.
وحرر الباجي في كنز العفاف : وإنها قد ترد كلمة التوحيد مع أنها أعظم منها وأفضل لحديث الأصبهاني وغيره ، وعن أنس رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (من قالها فتقبلت منه محى الله عنه ذنوب ثمانين سنة (١)) فقيد المأمول بالقبول.
هذا ولم يعين الإمام محمد ـ حامل لواء مذهب أبى حنيفة على كاهله وراويه عنه ـ لمشاهد الحج شيئا من الدعوات ، فإن توقيتها يذهب برقة القلب ؛ لأنه يصير كمن يكرر محفوظه ، بل يدعو بما بداله ، ويذكر الله تعالى كيفما خطر له مما يوافق الشرع ، وإن تبرك بالمأثور منها فحسن أيضا على ما قاله غير واحد من أصحابنا ، لكن الأظهر أن اختيار المأثور عنه صلىاللهعليهوسلم مستحب ، والمروي عن السلف مستحسن ، ويجوز الاكتفاء على من يرد على السالك إن كان أهلا لذلك (٢). انتهى كلام الملّا علي رحمهالله تعالى.
__________________
(١) أورد الشوكاني النص : «من صلّى عليّ مرة واحدة فتقبلت ...» ، وقال : «في إسناده متهم بالوضع» الفوائد ١ / ٣٢٩.
(٢) وقال الكرماني أيضا : «إن أكثر أصحابنا لم يوقّتوا دعاء على التعيين في الطواف والسعي والمروة وغيرها وعللوا ذلك وقالوا : بأن التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب والخشوع ، بل يأتي بثناء ودعاء بأي ثناء ودعاء تيسر له في تلك الحالة عن إخلاص ، فإنه جائز وهو أقوى في الإخلاص والرقة والخشوع» منسك الكرماني ١ / ٤٠٤.
[١٤٩]
٧ ـ [من أماكن الإجابة المسعى]
وسعي أي : مكانه. وكان الأولى أن يقول : ومسعى ؛ لأن المراد المكان وهو ما بين الصفا والمروة ، يعني : ومما يستجاب فيه الدعاء المسعى ، لا سيما بين الميلين الأخضرين ، إما مطلقا كما ذكره الحسن لشرف المكان ، أو بقيد وقت العصر كما في نظم العصامي عن النقاش ، ومقتضى كلام الملا علي : أن الإجابة تتقيد بمباشرة السعي ، ويمكن الإطلاق ، ومال الشيخ إلى الإطلاق حتى عن قيد النقاش ، وقال : لأن الفضيلة للمحل لا بخصوص العمل ، ويظهر أنه الأصوب والأكمل ، وفضل الله أشمل.
والمسعى مكان شريف ومشعر عظيم ، ولو لم يكن من فضله إلّا ما شرع الله فيه من عبادة السعي الذي هو واجب عندنا وفرض عند مالك والشافعي وغيرهما ، لكفى (١).
وذكر القطب الحنفي : أن بعض المسعى من عرضه أدخل في المسجد ، ثم توقف في صحة وقفه مسجدا وفي الاعتكاف فيه ؛ لأنه مستحق لعمل النسك فلا يصح تملكه ولا وقفه ، ثم استبعده بأنه لو وقع لأنكره العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
[١٥٠] [أحكام السعي] :
تتمة : السعي واجب في الحج والعمرة ، والهرولة بين الميلين سنة
__________________
(١) انظر : الهداية ١ / ١٤٢ ، المدونة ١ / ٤٠٩ ، المهذب ١ / ٢٢٩ ، شرح المنتهى ٢ / ٧٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٢ / ١٤٥.
للرجال ، والدعاء فيه سنة ، وبالوارد عنه صلىاللهعليهوسلم مستحب.
ومن المأثور فيه أن يقول في هبوطه من الصفا : اللهم استعملني بسنة نبيك ، وتوفني على ملته ، وأعذني من مضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين.
[١٥١] [الأدعية المأثورة في السعي] :
ويقول بين الميلين : رب اغفر وارحم ، وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز الأكرم ، اللهم اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ، اللهم اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين والمؤمنات ، يا مجيب الدعوات (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧) [البقرة] الآية ، (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة] الآية ، وأمثالها.
[١٥٢]
٨ ـ ٩ ـ [المروتين]
«مروتين» أي : مما يستجاب فيه الدعاء الصفا والمروة ، وثنّاهما تغليبا كعمرين ، والصفا ـ بالقصر ـ طرف جبل أبي قبيس وهو معروف ، والصفا : الحجر الأملس واحده صفاة ، كحصى وحصاة ، ويجوز تذكيره وتأنيثه باعتبار إرادة المكان والبقعة ، كذا في المصباح ، وفي البحر الرائق : وكان الصفا مذكرا ؛ لأن آدم عليهالسلام وقف به فسمى به ، ووقفت حواء على المروة [فسميت باسم المرأة] كذلك ، كذا ذكره القرطبي في تفسيره (١) ، وفي المصباح : المروة : الحجارة البيض واحدها مروة ، وسمي بالواحدة الجبل المعروف بمكة.
[١٥٣] [إجابة الدعاء بالمروة] :
والمراد : أنه يستجاب الدعاء فيهما من غير قيد بوقت ، أو بوقت العصر كما ذكره العصامي وبدعواتهما المأثورة وغيرها.
[١٥٤] [الإجابة بالمسعى مطلق أم مقيد بالنسك] :
وهل يختص بحال مباشرة سعي أحد النسكين أم مطلقا؟ قال الملا في شرح الوسط : الظاهر الأول ، وعلى الثاني العمل ، وقال في شرح الحصن الحصين : فالأول : مجزوم به ، والثاني : محل توقف ، وفضل الله واسع. انتهى.
__________________
(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٧٩.
والذي يظهر والله أعلم : الإطلاق عن الزمان والحال كما أطلقه الحسن ، وتبعه على ذلك أكثر من ذكرها من مشايخنا ؛ لأن الشرف الكمال ، وهذا قصد الحسن الحث بذلك على القرار والثبات ، ولو كان المراد به خلاف عموم الأوقات لما كان فيه كبير حث على ذلك ، والله أعلم بما هنالك.
[١٥٥] [إجابة الدعاء بالصفا والمروة] :
والمروتان : مكانان عظيمان شريفان ، ويكفي في شرفهما قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨].
الشعائر : جمع شعيرة ، وهي العلامة ، والمعنى : أنهما أعلام مناسكه ومتعبداته ، وقال الملا : والأظهر أن يقال : من شعائر دينه مطلقا ، ولا يتوهم من دفع الجناح نقصهما بعد أن مدحهما الله تعالى.
[١٥٦] [أصل الصفا والمروة] :
قيل : كان على الصفا إساف ، وعلى المروة نائلة : وهما صنمان ، يروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة ، فمسخا حجرين ، فوضعا ليعتبر بهما ، فلما طالت عبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام ، كره المسلمون الطواف بينهما ؛ لأجل فعل الجاهلية ، فرفع عنهم الجناح فلا جناح. انتهى.
[١٥٧] [التفاضل بين الصفا والمروة] :
وهل الصفا أفضل أم المروة أفضل؟
لم أر الآن فيه شيئا لعلمائنا ، وحكى الشيخ إدريس عن ابن حجر تبعا لجماعة منهم ، أفضلية الصفا لتقدمه في القرآن. وعن الرملي ، والشربيني ، وشيخ الإسلام تبعا لابن عبد السلام : المروة ، والله تعالى أعلم.
[١٥٨] [ترتيب أعمال السعي وآدابها] :
تتمة : البداءة بالصفا في السعي واجبة ، وقيل : سنة ، وقيل : شرط ، ويستحب إذا أراد السعي بعد طواف أن يخرج من باب الصفا ، والسنة أن يخرج إليه بعد الطواف على فوره ، ثم يتوجه إلى الصفا ، ثم إذا دنى منهما قال : «أبدأ بما بدأ الله تعالى به (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) [البقرة : ١٥٨] الآية» (١).
[١٥٩] [الحث على الإتباع] :
كما ورد في الحديث ، ويصعد على الصفا بقدر ما يرى البيت الشريف من الباب أو من فوق الجدار ، وما زاد على ذلك من الصعود على الجدران والالتصاق بدعة قبيحة.
[١٦٠] [ما يسن في الصفا] :
ويسنّ أن يستقبل القبلة ، وأمّا رؤية البيت فيستحب ، ويرفع يديه حذو منكبيه بسطا للدعاء لا كما يفعله الجهلة من معلمي الغرباء (٢) وغيرهم : من رفع أيديهم إلى آذانهم وأكتافهم ثلاثا كل مرة مع تكبيرة ، فإن السنة بخلافه ،
__________________
(١) الحديث أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل (١٢١٨).
(٢) يقصد المطوفين الذين كانوا يتولون طواف الناس وسعيهم ويلقنونهم الأدعية والتشويش على الطائفين فيغلب على أكثرهم الجهل ، وبفضل الله تعالى بدأت تختفي تلك الظاهرة في المطاف والمسعى.