الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-008-0
الصفحات: ٥٠١
وهي حكاية حال لا عموم لها. ولاحتمال أن يكون المشرك سأل المبارزة ، لا أنّ أبا قتادة طلبها.
ويؤيّده : قول الصادق عليهالسلام : « إنّ الحسن بن علي عليهماالسلام دعا رجلا إلى المبارزة ، فعلم أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال له : لئن عدت إلى مثلها لأعاقبنّك ، ولئن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنّك ، أما علمت أنّه بغى » (١).
وقد ظهر من هذا أن طلب المبارزة ممنوع منه بغير إذن الإمام ، وفعلها سائغ من دون إذنه.
مسألة ٤٠ : إذا خرج علج (٢) يطلب البراز ، استحبّ لمن فيه قوّة ( أن يبارزه ) (٣) بإذن الإمام ، وينبغي للإمام أن يأذن له في ذلك ، لأنّ في تركه ضعف قلوب المسلمين واجتراء المشركين ، وفي الخروج ردّ عن المسلمين وإظهار قوّتهم وشجاعتهم.
فانقسمت (٤) أربعة أقسام :
الأوّل : أن تكون واجبة ، وهي ما إذا ألزم الإمام بها.
الثاني : أن تكون مستحبّة ، وهي أن يخرج ( رجل من المشركين ) (٥) فيطلب المبارزة ، فيستحبّ ( لمن فيه قوّة ) (٦) من المسلمين الخروج إليه.
الثالث : أن تكون مكروهة ، وهي أن يخرج الضعيف من المسلمين
__________________
(١) التهذيب ٦ : ١٦٩ ـ ٣٢٤ ، وفي الكافي ٥ : ٣٤ ـ ٣٥ ـ ٢ : « الحسين بن علي عليهماالسلام ».
(٢) العلج : الرجل القويّ الضخم من الكفّار. لسان العرب ٢ : ٣٢٦ « علج ».
(٣) بدل ما بين القوسين في « ق ، ك » : مبارزته.
(٤) أي : المبارزة.
(٥) بدل ما بين القوسين في « ك » : المشرك.
(٦) بدل ما بين القوسين في « ق » : لذي القوّة.
الذي لا يعلم من نفسه المقاومة.
الرابع : أن تكون مباحة ، وهي أن يخرج ابتداء فيبارز.
مسألة ٤١ : إذا خرج المشرك وطلب المبارزة ، جاز لكلّ أحد رميه وقتله ، لأنّه مشرك لا أمان له ولا عهد إلاّ أن تكون العادة بينهم جارية أن من خرج يطلب المبارزة لا يتعرّض له ، فيجري مجرى الشرط ، فإن خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه ، وجب الوفاء له بالشرط ، لقوله عليهالسلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١).
فإن انهزم المسلم تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح ، جاز قتاله ، لأنّ المسلم إذا صار إلى هذه الحالة فقد انقضى القتال ، والمشرك شرط الأمان ما دام في القتال وقد زال.
ولو شرط المشرك أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفّه ، وجب الوفاء له إلاّ أن يترك المسلم قتاله أو يثخنه بالجراح فيرجع فيتبعه فيقتله ، أو يخشى عليه منه فيمنع ويدفع عن المسلم ويقاتل إن امتنع من الكفّ عنه إلاّ بالقتال ، لأنّه نقض الشرط وأبطل أمانه بمنعهم من تخليصه.
ولو أعان المشركون صاحبهم ، كان على المسلمين إعانة صاحبهم ، ويقاتلون من أعان عليه ، ولا يقاتلونه ، لأنّ النقض ليس من جهته.
وإن كان قد شرط أن لا يقاتله غير مبارزه ، وجب الوفاء له. فإن استنجد أصحابه فأعانوه ، فقد نقض أمانه ، ويقاتل معهم. ولو منعهم فلم يمتنعوا ، فأمانه باق ، فلا يجوز قتاله ولكن يقاتل أصحابه.
هذا إذا أعانوه بغير قوله ، ولو سكت ولم ينههم عن إعانته ، فقد
__________________
(١) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥٩ ، التهذيب ٧ : ٣٧١ ـ ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ ـ ٨٣٥.
نقض أمانه ، لأنّ سكوته يدلّ على الرضى بذلك ، أمّا لو استنجدهم ، فإنّه يجوز قتاله مطلقا.
ولو طلب المشرك المبارزة ولم يشترط (١) ، جاز معونة قرنه. ولو شرط أن لا يقاتله غيره ، وجب الوفاء له. فإن فرّ المسلم وطلبه (٢) الحربي ، جاز دفعه ، سواء فرّ المسلم مختارا أو لإثخانه بالجراح.
ويجوز لهم معاونة المسلم مع إثخانه.
وقال الأوزاعي : ليس لهم ذلك (٣).
وهو غلط ، لأنّ عليّا عليهالسلام وحمزة أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة (٤).
ولو لم يطلبه المشرك ، لم تجز محاربته ، لأنّه لم ينقض شرطا.
وقيل : يجوز قتاله ما لم يشترط (٥) الأمان حتى يعود إلى فئته (٦).
مسألة ٤٢ : تجوز المخادعة في الحرب وأن يخدع المبارز قرنه ليتوصّل بذلك إلى قتله إجماعا.
روى العامّة أنّ عمرو بن عبد ودّ بارز عليّا عليهالسلام ، فقال : ما أحبّ ذلك يا بن أخي ، فقال علي عليهالسلام : « لكنّي أحبّ أن أقتلك » فغضب عمرو وأقبل إليه ، فقال علي عليهالسلام : « ما برزت لأقاتل اثنين » فالتفت عمرو ، فوثب علي عليهالسلام فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ، فقال علي عليهالسلام : « الحرب خدعة » (٧).
__________________
(١) في « ق » : ولم يشرط.
(٢) في « ق » : فطلبه.
(٣ و ٤) المغني ١٠ : ٣٨٩ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٤٠.
(٥) في « ق » : لم يشرط.
(٦) كما في شرائع الإسلام ١ : ٣١٣.
(٧) تاريخ الطبري ٢ : ٢٣٩ ، المغني ١٠ : ٣٩٠ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٤٠.
ومن طريق الخاصّة : قول الباقر عليهالسلام : « إنّ عليّا عليهالسلام كان يقول : لئن تخطفني الطير أحبّ إليّ من أن أقول على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما لم يقل ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : الحرب خدعة » (١).
مسألة ٤٣ : يكره تبييت العدوّ ليلا ، وإنّما يلاقون بالنهار ، إلاّ مع الحاجة إلى التبييت فيبيّتهم.
ويستحبّ أن يلاقوا بالنهار ، ويبدأ بالقتال بعد الزوال ، ويكره قبله إلاّ مع الحاجة.
ويكره أن يعرقب الدابّة ، وإن وقفت به ، ذبحها ولا يعرقبها.
وأمّا نقل رءوس المشركين إلى بلاد الإسلام : فإن اشتمل على نكاية في الكفّار ، لم يكن مكروها. وكذا إن أريد معرفة المسلمين بموته ، فإنّ أبا جهل لمّا قتل حمل رأسه (٢). وإن لم يكن كذلك ، كان مكروها ، لأنّه لم ينقل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأس كافر قطّ.
وللشافعي وجهان : الكراهة وعدمها (٣).
__________________
(١) التهذيب ٦ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ـ ٢٩٨.
(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٨.
(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٥٠.
الفصل الثالث
في الأمان
وفيه مباحث :
الأوّل : في تعريفه وتسويغه.
عقد الأمان ترك القتال إجابة لسؤال الكفّار بالإمهال ، وهو جائز إجماعا.
قال الله تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (١).
وروى العامّة : أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمّن المشركين يوم الحديبيّة ، وعقد معهم الصلح (٢).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه السكوني عن الصادق عليهالسلام ، قال : قلت : ما معنى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يسعى بذمّتهم أدناهم »؟ قال « لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا (٣) قوما من المشركين فأشرب رجل فقال : أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم فأناظره (٤) ، فأعطاه الأمان أدناهم ، وجب على أفضلهم الوفاء به » (٥).
__________________
(١) التوبة : ٦.
(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤٠٩ ـ ١٧٨٣ ، مسند أحمد ١ : ١٣٨ ـ ١٣٩ ـ ٦٥٨ و ٥٦٣ ـ ٥٦٤ ـ ٣١٧٧.
(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حاصر ». وما أثبتناه من المصدر.
(٤) في النسخ الخطّية والحجريّة : « فأنظره ». وما أثبتناه من المصدر.
(٥) الكافي ٥ : ٣٠ ـ ٣١ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٤٠ ـ ٢٣٤.
ولا خلاف بين المسلمين في ذلك.
مسألة ٤٤ : إنّما يجوز عقد الأمان مع اعتبار المصلحة ، فلو اقتضت المصلحة ترك الأمان وأن لا يجابوا إليه ، لم يفعل ، لأنّه مصلحة في بعض الأحوال ومكيدة من مكايد القتال في المبارزة ، فإذا لم تكن مصلحة ، لم يجز فعله ، وسواء في ذلك عقد الأمان لمشرك واحد أو لجماعة كثيرة ، فإنّه جائز مع المصلحة إجماعا.
ومن طلب الأمان من الكفّار ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإسلام ، وجب أن يعطى أمانا ثم يردّ إلى مأمنه ، للآية (١).
ويجوز أن يعقد الأمان لرسول المشركين وللمستأمن ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يؤمن رسل المشركين (٢). ولأنّ الحاجة تدعو إلى المراسلة ، ولو قتلوا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت المصلحة.
ولا تقدّر مدّة العقد لهما بقدر ، بل يجوز مطلقا ومقيّدا بزمان طويل أو قصير نظرا إلى المصلحة.
البحث الثاني : في العاقد.
مسألة ٤٥ : يجوز للإمام عقد الصلح إجماعا ، لأنّ أمور الحرب موكولة إليه كما كانت موكولة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن رأى المصلحة في عقده لواحد ، فعل ، وكذا لأهل حصن أو قرية أو بلد أو إقليم ولجميع الكفّار بحسب المصلحة ، لعموم ولايته ، ولا نعلم فيه خلافا.
__________________
(١) التوبة : ٦.
(٢) سنن أبي داود ٣ : ٨٣ ـ ٨٤ ـ ٢٧٦١ و ٢٧٦٢ ، سنن البيهقي ٩ : ٢١١ ، المغني ١٠ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥٣.
وأمّا نائبه : فإن كانت ولايته عامّة ، كان له ذلك أيضا ، وإن لم تكن عامّة ، جاز عقد أمانه لجميع من في ولايته ولآحادهم ، وأمّا غير ولايته : فحكمه حكم آحاد الرعايا.
وأمّا آحاد الرعية : فيصحّ أمان الواحد منهم للواحد من المشركين وللعدد اليسير ، كالعشرة والقافلة القليلة والحصن الصغير ، لعموم قوله عليهالسلام : « ويسعى بذمّتهم أدناهم » (١).
ولقول الصادق عليهالسلام : « إنّ عليّا عليهالسلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن ، وقال : هو من المؤمنين » (٢).
ولأنّ علّة تسويغه للواحد ـ وهو استمالته إلى الإسلام مع الأمن منه ـ موجود في العدد اليسير.
أمّا العدد الكثير من المشركين فإنّه موكول إلى الإمام خاصّة ، لأنّ في تسويغه للواحد من المسلمين تعطيلا للجهاد على الإمام وتقوية للكفّار.
مسألة ٤٦ : يصحّ عقد الأمان من الحرّ والعبد المأذون له في الجهاد وغير المأذون ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال أكثر العلماء والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ، وهو مروي عن علي عليهالسلام ، وعن عمر (٣) ـ لما رواه العامّة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم
__________________
(١) سنن أبي داود ٤ : ١٨٠ ـ ١٨١ ـ ٤٥٣٠ ، سنن النسائي ٨ : ١٩ ـ ٢٠ و ٢٤ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٣١ ـ ١٥٥ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٩ ، و ٣٠ ، و ٩ : ٩٤ ، مسند أحمد ١ : ١٩١ ـ ٩٦٢ ، الكافي ٥ : ٣٠ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٤٠ ـ ٢٣٥.
(٢) الكافي ٥ : ٣١ ـ ٢ ، التهذيب : ١٤٠ ـ ٢٣٥.
(٣) المغني ١٠ : ٤٢٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٦ ، الامّ ٤ : ٢٨٤ ، الوجيز ٢ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٦ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٢ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٦ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٢ : ١٤٠.
فمن أخفر (١) مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل » (٢).
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام : « إنّ عليّا عليهالسلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن وقال : هو من المؤمنين » (٣).
ولأنّه مسلم مكلّف غير متّهم في حقّ المسلمين ، فصحّ أمانه ، كالحرّ.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يصحّ أمان العبد إلاّ أن يكون مأذونا له في القتال ، لأنّه لا يجب عليه الجهاد ، فلا يصحّ أمانه ، كالصبي (٤).
وينتقض بالمرأة والمأذون له.
مسألة ٤٧ : يصح أمان المرأة إجماعا ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أجاز أمان أمّ هاني ، وقال : « إنّما يجير على المسلمين أدناهم » (٥).
وأمّا المجنون فلا ينعقد أمانه ، لرفع القلم عنه.
وكذا الصبي لا ينعقد أمانه وإن كان مميّزا مراهقا ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (٦) ـ لرفع القلم عنه.
__________________
(١) الخفارة : الذمام. وأخفرت الرجل : إذا نقضت عهده وذمامه. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٥٢ « خفر ».
(٢) صحيح البخاري ٤ : ١٢٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٩٩ ـ ٤٧٠ ، سنن البيهقي ٩ : ٩٤ ، المغني ١٠ : ٤٢٤.
(٣) الكافي ٥ : ٣١ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ١٤٠ ـ ٢٣٥.
(٤) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٢ : ١٤٠ ، المغني ١٠ : ٤٢٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٨ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٢ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٦ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٣ : ١٧٣.
(٥) سنن سعيد بن منصور ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٦١٢ ، المغني ١٠ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٦.
(٦) الامّ ٤ : ٢٨٤ ، الوجيز ٢ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٩ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٢ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٢ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٠٦ ، المغني ١٠ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٧ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٣ : ١٧٣.
وقال مالك وأحمد : يصحّ أمان المراهق (١) ، لقوله عليهالسلام : « إنّما يجير على المسلمين أدناهم » (٢).
وليس حجّة ، لعدم إسلامه حقيقة وإنّما هو تمرين.
وأمّا المكره فلا ينعقد أمانه إجماعا ، وكذا من زال عقله بنوم أو سكر أو إغماء أو غير ذلك ، لعدم معرفته بمصلحة المسلمين ، فأشبه المجنون.
وأمّا الكافر فلا ينعقد أمانه وإن كان ذمّيّا ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » (٣) فجعل الذمّة للمسلمين. ولأنّه متّهم على المسلمين.
وأمّا الأسير من المسلمين فإذا عقد أمانا باختياره ، نفذ ، وبه قال الشافعي وأحمد (٤). وكذا يجوز أمان التاجر والأجير في دار الحرب.
وقال الثوري : لا يصحّ أمان أحد منهم (٥). والعموم يبطله.
والشيخ الهمّ والسفيه ينعقد أمانهما ـ وبه قال الشافعي (٦) ـ للعموم.
مسألة ٤٨ : إذا انعقد الأمان ، وجب الوفاء به على حسب ما شرط فيه من وقت وغيره ما لم يخالف المشروع بالإجماع.
قال الباقر عليهالسلام : « ما من رجل آمن رجلا على ذمّة (٧) ثمّ قتله إلاّ جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر » (٨).
__________________
(١) المنتقي ـ للباجي ـ ٣ : ١٧٣ ، المحرّر في الفقه ٢ : ١٨٠ ، المغني ١٠ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٦ و ٥٤٧.
(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٨٨ ، الهامش (٥).
(٣) تقدمت الإشارة إلى مصادره في ص ٨٨ ، الهامش (٢).
(٤ و ٥) المغني ١٠ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٧.
(٦) الوجيز ٢ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٢.
(٧) في « ق ، ك » : دمه.
(٨) الكافي ٥ : ٣١ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ١٤٠ ـ ٢٣٦.
ولو انعقد فاسدا ، لم يجب الوفاء به إجماعا ، كأمان الصبي والمجنون ، وكما إذا تضمّن الذمام شرطا لا يسوغ الوفاء به.
وفي هذه الحالات كلّها يجب ردّ الحربي إلى مأمنه ، ولا يجوز قتله ، لأنّه اعتقد صحّة الأمان ، وهو معذور ، لعدم علمه بأحكام الإسلام.
وكذا كلّ حربي دخل دار الإسلام بشبهة الأمان ، كمن سمع لفظا فاعتقده أمانا ، أو صحب رفقة فتوهّمها أمانا ، أو طلبوا أمانا فقال المسلمون : لا نذمّكم ، فاعتقدوا أنّهم أذمّوهم ، فلا يجوز قتلهم ، بل يردّون إلى مأمنهم ، لقول الصادق و (١) الكاظم عليهماالسلام : « لو أنّ قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنّوا أنّهم قالوا : نعم ، فنزلوا إليهم ، كانوا آمنين » (٢).
البحث الثالث : فيما ينعقد به الأمان.
مسألة ٤٩ : الأمان ينعقد بالعبارة والمراسلة والإشارة المفهمة والمكاتبة.
وقد ورد في الشرع للعبارة صيغتان : أجرتك ، وأمّنتك.
قال الله تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ) (٣).
وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن » (٤).
__________________
(١) في المصدر : أو.
(٢) الكافي ٥ : ٣١ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ١٤٠ ـ ٢٣٧.
(٣) التوبة : ٦.
(٤) صحيح مسلم ٣ : ١٤٠٨ ـ ٨٦ ، سنن أبي داود ٣ : ١٦٢ ـ ٣٠٢١.
وينعقد الأمان بأي اللفظين وقع ، وبما يؤدي معناهما ، مثل : أذممتك ، أو : أنت في ذمّة الإسلام ، سواء أدّى بالصريح أو بالكناية مع القصد بلغة العرب أو غيرها ، فلو قال بالفارسيّة : « مترس » ـ أي : لا تخف (١) ـ فهو آمن.
أمّا قوله : لا بأس عليك ، أو : لا تخف ، أو : لا تذهل ، أو : لا تحزن ، وما شاكله : فإن علم من قصده الأمان ، فهو أمان (٢) ، لأنّ المراعي القصد لا اللفظ ، وإن لم يقصد ، لم يكن أمانا إلاّ أنّهم لو سكنوا إلى ذلك ودخلوا ، لم يتعرّض لهم ويردّون إلى مأمنهم.
وكذا لو أومأ مسلم إلى مشرك بما توهّمه أمانا فأخلد إليه ودخل دار الإسلام.
ولو أشار المسلم إليهم بما يرونه أمانا وقال : أردت به الأمان ، فهو أمان ، وإن قال : لم أرد به (٣) الأمان ، فالقول قوله ، لأنّه أبصر بنيّته ، فيرجع إليه.
ولو دخل بسفارة أو لسماع كلام الله ، لم يفتقر إلى عقد أمان ، بل ذلك القصد يؤمنه. وقصد التجارة لا يؤمنه وإن ظنّه أمانا.
ولو قال الوالي : أمّنت من قصد التجارة ، صحّ.
ولو خرج الكفّار من حصنهم بناء على هذه الإشارة وتوهّمهم أنّها أمان ، لم يجز قتلهم.
ولو مات المسلم ولم يبيّن أو غاب ، كانوا آمنين وردّوا إلى مأمنهم ثمّ يصيرون حربا.
__________________
(١) جملة : « أي لا تخف » لم ترد في « ق ، ك ».
(٢) في « ك » والطبعة الحجرية : آمن.
(٣) في « ق ، ك » : « منه » بدل « به ».
ولو قال للكافر : قف ، أو : قم ، أو : ألق سلاحك ، فليس أمانا ، خلافا لبعض العامّة (١).
وقال الأوزاعي : إن (٢) ادّعى الكافر أنّه أمان ، أو قال : إنّما وقفت لندائك ، فهو آمن ، وإن لم يدّع ذلك ، فليس أمانا (٣).
وهو غلط ، لأنّه لفظ لا يشعر منه الأمان ولا يستعمل فيه دائما ، فإنّه إنّما يستعمل غالبا للإرهاب والتخويف ، فيصدّق المسلم ، فإن قال : قصدت الأمان ، فهو أمان ، وإن قال : لم أرده ، سئل الكافر فإن قال : اعتقدته أمانا ، ردّ إلى مأمنه ، ولم يجز قتله ، وإن لم يعتقده ، فليس بأمان ، ولو ردّ الكافر الأمان ، ارتدّ الأمان ، وإن قبل صحّ ، ولا يكفي سكوته ، بل لا بدّ من قبوله ولو بالفعل.
ولو أشار عليهم مسلم في صفّ الكفّار فانحاز إلى صفّ المسلمين وتفاهما الأمان ، فهو أمان ، وإن ظنّ الكافر أنّه أراد الأمان والمسلم لم يرده ، فلا يغتال بل يلحق بمأمنه ، ولو قال : ما فهمت الأمان ، اغتيل.
مسألة ٥٠ : يجوز الأمان بالمراسلة.
وينبغي لأمير العسكر أن يتخير للرسالة رجلا مسلما أمينا عدلا ، ولا يكون خائنا ولا ذمّيا ولا حربيّا مستأمنا ، لقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٤).
وأنكر عمر على أبي موسى الأشعري لمّا اتّخذ كاتبا نصرانيّا ، وقال :
__________________
(١) المغني والشرح الكبير ١٠ : ٥٤٩.
(٢) في « ك » والطبعة الحجرية : « لو » بدل « أن ».
(٣) المغني والشرح الكبير ١٠ : ٥٤٩.
(٤) هود : ١١٣.
اتّخذت بطانة من دون المؤمنين وقد قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ) (١) (٢) أي : لا يقصّرون في فساد أموركم.
وينبغي أن يكون بصيرا بالأمور عارفا بمواقع أداء الرسالة.
وإذا أرسل الأمير رسولا مسلما فذهب الرسول إلى أمير المشركين فبلّغه الرسالة ، ثمّ قال له : إنّي أرسل على لساني إليك الأمان ولأهل ملّتك فافتح الباب ، ثمّ ناوله كتابا صنعه على لسان الأمير وقرأه بمحضر من المسلمين ، فلمّا فتحوا ودخل المسلمون وشرعوا في السبي ، فقال لهم أمير المشركين : إنّ رسولكم أخبرنا (٣) أنّ أميركم أمّننا ، وشهد أولئك المسلمون على مقالته ، كانوا آمنين ، ولم يجز سبيهم ، لعسر التمييز بين الحقّ والاحتيال في حقّ المبعوث إليه ، إذا الاعتماد على خبره ، فيجعل كأنّه صدق بعد ما تثبت رسالته ، لئلاّ يؤدّي إلى الغرور في حقّهم وهو حرام.
مسألة ٥١ : لو أرسل الأمير إليهم من يخبرهم بأمانة ثمّ رجع الرسول فأخبره بأداء الرسالة ، فهم آمنون وإن لم يعلم المسلمون التبليغ ، لأنّ البناء إنّما هو على الظاهر فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته ، ولأنّ قول الرسول يحتمل الصدق ، فتثبت شبهة التبليغ.
ولو كتب من ليس برسول كتابا فيه أمانهم وقرأه عليهم وقال : إنّي رسول الأمير إليكم ، لم يكن أمانا من جهته ، لأنّه ليس للواحد من
__________________
(١) آل عمران : ١١٨.
(٢) انظر : أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ : ٣٧ ، وأحكام القرآن ـ للكيا الهراسي ـ ٢ : ٣٠٤ ، والجامع لأحكام القرآن ٤ : ١٧٩.
(٣) في « ق » : خبّرنا.
المسلمين أن يؤمّن حصنا كبيرا ، ولا من جهة الإمام ، لأنّه ليس برسوله ، ولا غرور هنا ، لأنّ التقصير من جهتهم حيث عوّلوا على قول مجهول لم يعتضد بشهادة أحد من المسلمين.
ولو ناداهم من صفّ المسلمين مسلم ـ وهم قليلون يصحّ أمان الواحد لهم ـ إنّي رسول الأمير إليكم وإنّه أمنكم ، كان أمانا من جهته ، لأنّ من يملك الأمان إذا أخبر عمّن يملك الأمان ، كان أمانا صحيحا ، لأنّه على تقدير صدقه يكون أمانا من جهة المخبر عنه ، وعلى تقدير كذبه يكون أمانا من جهته.
مسألة ٥٢ : إذا أمّن الإمام أو نائبه المشركين ثمّ بعث ( إليهم رسولا ) (١) لينبذ إليهم ويخبرهم نقض العهد ، فجاء الرسول وأخبر بإعلامهم ، لم يعرّض لهم حتى يعلموا ذلك بشاهدين ، لأنّ خبره دائر بين الصدق والكذب ، وليس بحجّة في نقض العهد ، لتعلّقه باستباحة السبي واستحلال الأموال والفروج والدماء ، وهو لا يثبت مع الشبهة ، بخلاف الأمان ، فإنّ قوله حجّة فيه ، لتعلّقه بحفظ الأموال وحراسة الأنفس وحقن الدماء ، وهو يثبت مع الشبهة.
فلو أغار المسلمون فقالوا : لم يبلغنا خبر رسولكم ، فالقول قولهم ، لأنّهم أنكروا نبذ الأمان ، والأصل معهم ، فيصار إلى قولهم ، لأنّ في وسع الإمام أن ينفذ إليهم مع الرسول شاهدين.
أمّا لو كتب الإمام إليهم نقض العهد وسيّره مع رسوله وشاهدين ، فقرأه عليهم بالعربيّة واحتاجوا إلى ترجمان يترجم بلسانهم ، وشهد الآخران
__________________
(١) بدل ما بين القوسين في « ق ، ك » : رجلا.
عليهم ، فادّعوا أنّ الترجمان لم يخبرهم بنقض العهد بل أخبرهم (١) بأنّ الإمام زاد في مدّة الأمان ، لم يلتفت إليهم ، لأنّ الإمام أتى بما في وسعه من الإخبار بالنقض والشهادة ، وإنّما التقصير من جهتهم حيث اختاروا للترجمة خائنا ، إلاّ أن يعلم من حضر من المسلمين أنّ الترجمان خان فيقبل قولهم.
ولو خاف الإمام أن يكون الرسول قد رأى عورة للمسلمين يدلّ عليها العدوّ ، جاز له منعه من الرجوع ، وكذا يمنع التاجر لو انكشف على عورة ينبغي إخفاؤها عن المشركين ، ويجعل عليهما حرسا يحرسونهما نظرا للمسلمين ودفعا للفتنة عنهم.
ولو خاف هربهما مع احتياجه إلى حفظهما ، جاز له أن يقيّدهما حتى تنقضي الحاجة.
ولو لم يخف الإمام منهما ، أنفذهما ، فإن خافا من اللصوص ، سيّر معهما من يبلغهما مأمنهما ، لقوله تعالى ( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (٢).
ويجوز الاستئجار عليه من بيت المال ، وكذا مئونتهما من بيت المال حال (٣) منعهما.
البحث الرابع : في وقت الأمان.
مسألة ٥٣ : وقت الأمان قبل الأسر ، فيجوز عقده لآحاد المشركين قبل الأسر إجماعا.
وهل يجوز لآحاد المسلمين عقد الأمان بعد الأسر؟ منعه علماؤنا
__________________
(١) في « ق » : « أخبر » بدل « أخبرهم ».
(٢) التوبة : ٦.
(٣) في « ك » والطبعة الحجريّة : حالة.
وأكثر أهل العلم (١) ، لأنّه قد ثبت للمسلمين حقّ استرقاقه ، فلا يجوز إبطاله. ولأنّ المشرك إذا وقع في الأسر ، يتخيّر الإمام فيه بين أشياء تأتي ، ومع الأمن يبطل التخيير ، فلا يجوز إبطال ذلك عليه.
وقال الأوزاعي : يصحّ عقده بعد الأسر ، لأنّ زينب بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع ، فأجاز النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمانها (٢) (٣).
وليس حجّة ، لأنّ للإمام ذلك فكيف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والنزاع في آحاد المسلمين.
مسألة ٥٤ : يجوز للإمام أن يؤمّن الأسير بعد الاستيلاء عليه والأسر ، لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أجاز أمان زينب لزوجها (٤). ولأنّ للإمام أن يمنّ عليه فيطلقه والأمان دون ذلك (٥) ، بخلاف آحاد المسلمين.
ولو حصل الكافر في مضيق أو في حصن فلحقه المسلمون ، صحّ الأمان ، لأنّه بعد على الامتناع.
ولو أقرّ المسلم بأمان المشرك ، فإن كان في وقت يصحّ منه إنشاء الأمان ، صحّ إقراره وقبل منه إجماعا ، وإن كان في وقت لا يصحّ منه إنشاؤه كما لو أقرّ بعد الأسر ـ لم يقبل قوله إلاّ أن تقوم بيّنة بأمانه قبل الأسر.
ولو شهد جماعة من المسلمين أنّهم أمّنوه ، لم يقبل ، لأنّهم يشهدون
__________________
(١) المغني ١٠ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٨ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٢.
(٢) سنن البيهقي ٩ : ٩٥.
(٣) المغني ١٠ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٨ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٢.
(٤) سنن البيهقي ٩ : ٩٥ ، المغني ١٠ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٨.
(٥) في « ق ، ك » : والأمان دليل ذلك. وفي الطبعة الحجريّة : والأمان دليل على ذلك. وما أثبتناه يقتضيه السياق.
على فعلهم. وبه قال الشافعي (١).
وقال بعض العامّة : يقبل ، لأنّهم عدول من المسلمين غير متّهمين شهدوا بأمانه ، فوجب أن يقبل ، كما لو شهدوا على غيرهم أنّه أمّنه (٢).
أمّا لو شهد بعضهم أنّ البعض الآخر أمّنه ، قبل.
مسألة ٥٥ : لو جاء مسلم بمشرك فادّعى أنّه أسره وادّعى الكافر أنّه أمّنه ، قدّم قول المسلم ، لاعتضاده بأصالة إباحة دمه وعدم الأمان.
وقيل : يقبل قول الأسير ، لاحتمال صدقه ، فيكون شبهة في حقن دمه (٣).
وقيل : يرجع إلى شاهد الحال ، فإن كان الكافر ذا قوّة ومعه سلاحه ، فالظاهر صدقه ، وإلاّ فالظاهر كذبه (٤).
ولو صدّقه المسلم ، لم يقبل ، لأنّه لا يقدر على أمانه ولا يملكه ، فلا يقبل إقراره به.
وقيل : يقبل ، لأنّه كافر لم يثبت أسره ولا نازعه فيه منازع ، فقبل قوله في الأمان (٥). ولا بأس به.
ولو أشرف جيش الإسلام على الظهور فاستذمّ الخصم ، جاز مع نظر المصلحة. ولو استذمّوا بعد حصولهم في الأسر فأذم ، لم يصح على ما قلنا. ولو ادّعى الحربيّ الأمان فأنكر المسلم ، فالقول قول المسلم ، لأصالة
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٥٨ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٢ ، المغني ١٠ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٨.
(٢) المغني ١٠ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٤٨.
(٣ و ٤) المغني ١٠ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥١.
(٥) المغني ١٠ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥١ ـ ٥٥٢.
عدم الأمان وإباحة دم المشرك. ولو حيل بينه وبين الجواب بموت أو إغماء ، لم تسمع دعوى الحربيّ. وفي الحالين يردّ إلى مأمنه ثم هو حرب.
مسألة ٥٦ : شرط الأمان أن لا يزيد على سنة إلاّ مع الحاجة ، ويصحّ على أربعة أشهر وفوق ذلك إلى السنة.
وللشافعي فيما بين السنة وأربعة أشهر قولان (١).
ولو أمّن جاسوسا أو من فيه مضرّة ، لم يصح. ولا تشترط المصلحة في عقد الأمان ، بل يكفي عدم المضرّة في الصحّة.
ويصحّ الأمان بجعل وغيره (١) ، فلو حصر المسلمون حصنا فقال لهم رجل : أمّنوني أفتح لكم الحصن ، جاز أن يعطوه أمانا إجماعا. فإن أمّنوه ، لم يجز لهم نقض أمانه ، فإن أشكل القائل وادّعاه كلّ واحد من أهل الحصن ، فإن عرف صاحب الأمان ، عمل على ما عرف ، وإن لم يعرف ، لم يقتل واحد منهم ، لاحتمال صدق كلّ واحد وقد حصل اشتباه المحرّم بالمحلّل فيما لا ضرورة إليه ، فكان الكلّ حراما ، كالأجنبيّة المشتبهة بالأخت.
قال الشافعي : ويحرم استرقاقهم ، لما قلنا في القتل ، فإنّ استرقاق من لا يحلّ استرقاقه محرّم (٣).
وقال بعض العامّة : يقرع فيخرج صاحب الأمان ويسترق الباقي ، لأنّ الحقّ لواحد وقد اشتبه ، كما لو أعتق عبدا من عشرة ثم اشتبه ، بخلاف
__________________
(١) الوجيز ٢ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٧٣ ، الحاوي الكبير ١٤ : ٢٠٠.
(٢) في « ق ، ك » : وبغيره.
(٣) المغني ١٠ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥٣.
القتل ، فإنّ الاحتياط فيه أبلغ من الاحتياط في الاسترقاق (١).
قال الأوزاعي : لو أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه وكانوا عشرة فاسترقّ (٢) علينا ثمّ أشكل فادّعى كلّ واحد منهم أنّه الذي أسلم ، سعى كلّ واحد منهم في قيمة نفسه ، وترك له عشر قيمته (٣).
البحث الخامس : فيما يدخل في الأمان.
مسألة ٥٧ : إذا نادى المشركون بالأمان ، وكانت المصلحة تقتضيه ، أمّنهم ، وإلاّ فلا. فإذا طلبوا الأمان (٤) لأنفسهم ، كانوا مأمونين على أنفسهم.
وللشافعي في السراية إلى ما معه من أهل ومال لو قال : أمّنتك ، قولان (٥).
ولو طلبوا أمانا (٦) لأهليهم فقالوا : أمّنوا أهلينا ، فقال لهم (٧) المسلمون : أمّنّاهم ، فهم فيء وأهلهم آمنون ، لأنّهم لم يذكروا أنفسهم صريحا ولا كناية ، فلا يتناولهم الأمان.
أمّا لو قالوا : نخرج على أن نراوضكم (٨) في الأمان على أهلنا فقالوا (٩) لهم : اخرجوا ، فهم آمنون وأهلهم ، لأنّهم بأمرهم بالخروج
__________________
(١) المغني ١٠ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥٣.
(٢) أي : خفي علينا. وبدلها في المصدر : أشرف.
(٣) المغني ١٠ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٥٣.
(٤) في « ق » : أمانا.
(٥) الوجيز ٢ : ١٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٦٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٨٥.
(٦) في « ق » : الأمان.
(٧) كلمة « لهم » لم ترد في « ق ».
(٨) فلان يراوض فلانا على أمر كذا : أي يداريه ليدخله فيه. لسان العرب ٧ : ١٦٤ « روض ».
(٩) في « ق » : فقال.
للمراوضة على الأمان أمّنوهم ، ولهذا لو لم يتّفق بينهم أمر ، كان عليهم أن يردّوهم إلى مأمنهم.
مسألة ٥٨ : لو قالوا : أمّنوا على ذرّيّتنا ، فأمّنوهم على ذلك ، فهم آمنون وأولادهم وأولاد أبنائهم وإن سفلوا ، لعموم اسم الذرّيّة جميع هؤلاء.
والأقرب : دخول أولاد البنات ، لقوله تعالى ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) ـ إلى قوله ـ ( وَعِيسى ) (١).
ولأنّ الذرّيّة اسم للفرع المتولّد من الأصل ، والأب والامّ أصلان في إيجاد الولد ، بل التولّد والتفرّع في جانب الامّ أرجح ، لأنّ ماء الفحل يصير مستهلكا في الرحم وإنّما يتولّد منها بواسطة ماء الفحل.
ولو قالوا (٢) : أمّنونا على أولادنا ، ففي دخول أولاد البنات إشكال.
مسألة ٥٩ : لو قالوا : أمّنونا على إخوتنا ولهم إخوة وأخوات ، فهم آمنون ، لتناول اسم الإخوة الذكر والأنثى عند الاجتماع.
قال الله تعالى ( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً ) (٣).
ولا تدخل الأخوات بانفرادهنّ ، لأنّ اسم الذكور لا يتناولهنّ منفردات.
وكذا لو قالوا : أمّنونا على أبنائنا ، دخل فيه الذكور والإناث ولا يتناول الإناث بانفرادهنّ إلاّ إذا كان المضاف إليه أبا القبيلة ، والمراد به النسبة إلى القبيلة.
ولو تقدّم من المستأمن لفظ يدلّ على طلب الأمان (٤) لهنّ ، انصراف
__________________
(١) الأنعام : ٨٤ و ٨٥.
(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قال ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.
(٣) النساء : ١٧٦.
(٤) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : « الإناث » بدل « الأمان ». وما أثبتناه هو الصحيح.