الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦
وأمّا النافون للخلاف فلهم طُرُق :
أحدها : القطع بعدم اللزوم وحُمِل نصّه في الإِملاء على ما إذا ركبه لبعض الأغراض ، فصار أقرب إلى الشط الذي يلي مكة .
والثاني : القطع باللزوم .
والثالث : أنّه إن كان الغالب الهلاك ، لم يلزم ، وإن كان الغالب السلامة ، لزم ، واختلاف القولين محمول على حالين ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد (١) .
والرابع : تنزيل القولين على حالين من وجه آخر : إن كان الرجل ممّن اعتاد ركوب البحر كالملّاحين وأهل الجزائر ، لزمه ، وإلّا فلا ؛ لصعوبته عليه .
ونقل الجويني عن بعض الشافعية : اللزوم عند جرأة الراكب ، وعدمه عند استشعاره .
ومن الشافعية مَنْ قال : لا يجب على المستشعر ، وفي غيره قولان .
ومنهم مَنْ قال : يجب على غير المستشعر ، وفيه قولان .
وعلى القول بعدم وجوب ركوبه هل يستحب ؟ فيه وجهان لهم :
أحدهما : لا ؛ لما فيه من التغرير بالنفس .
وأظهرهما : نعم ، كما يستحب ركوبه للغزو .
والوجهان فيما إذا كان الغالب السلامة ، أمّا إذا كان الغالب الهلاك ، فيحرم الركوب ، نقله الجويني ، وحكى تردّد الشافعية فيما إذا اعتدل الاحتمال .
وإذا لم نوجب الركوب ، فلو توسّط البحر هل له الانصراف أم عليه التمادي ؟ فيه قولان مبنيان على القولين في المحصر إذا أحاط العدوّ به من
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ١٩ ، المغني ٣ : ١٦٧ .
الجوانب هل يجوز له التحلّل ؟ إن قلنا : له التحلّل ، فله الانصراف ، وإن قلنا : لا ـ لأنّه لا يستفيد الخلاص ـ فليس له الانصراف .
والوجهان فيما إذا استوى ما بين يديه وما خلفه في غالب الظنّ ، فإن كان فيما بين يديه أكثر ، لم يلزمه التمادي ، وإن كان أقلّ ، لزم .
قالوا : هذا في حقّ الرجل ، أمّا المرأة ففيها خلاف بينهم مرتّب على الرجل ، وأولى بعدم الوجوب ؛ لأنّها أشدّ تأثّراً بالأهوال ، ولأنّها عورة وربما تنكشف للرجال ؛ لضيق المكان ، وإذا قلنا بعدم الوجوب فنقول بعدم الاستحباب أيضاً .
ومنهم من طرّد الخلاف .
وليست الأنهار العظيمة ـ كـ « جيحون » ـ في معنى البحر ؛ لأنّ المقام فيها لا يطول ، والخطر فيها لا يعظم (١) .
مسألة ٥٨ : المرأة كالرجل متى خافت على نفسها أو المكابرة على فرجها سقط الفرض عنها ، فإن احتاجت إلى المحرم وتعذّر ، سقط الفرض عنها أيضاً ؛ لعدم استطاعتها بدونه .
وليس المحرم شرطاً في وجوب الحجّ عليها مع الاستغناء عنه ، عند علمائنا ، وبه قال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد في إحدى الروايات (٢) .
قال ابن سيرين : تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به (٣) .
وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء (٤) .
__________________
(١) فتح العزيز ٧ : ١٨ ـ ٢٢ ، المجموع ٧ : ٨٣ ـ ٨٥ .
(٢) المغني ٣ : ١٩٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٢ ، المجموع ٨ : ٣٤٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢٣ .
(٣) المغني ٣ : ١٩٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ .
(٤)
الموطّأ ١ : ٤٢٦ ذيل الحديث ٢٥٤ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٣ : ٨٢ ، المغني ٣ : ١٩٢ ،
=
وقال الشافعي : تخرج مع حُرة مسلمة ثقة (١) .
وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول تتّخذ سُلّماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل إلّا أنّه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها (٢) على ذراعه (٣) .
قال ابن المنذر : تركوا القول بظاهر الحديث ، واشترط كلّ واحد منهم شرطاً لا حجّة معه عليه (٤) .
والأصل في ذلك : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله فسّر الإِستطاعة بالزاد والراحة (٥) وقال لعدي بن حاتم : ( يوشك أن تخرج الظعينة (٦) من الحيرة يوم تؤمّ البيت لا جوار معها لا تخاف إلّا الله ) (٧) رواه العامّة (٨) .
ومن طريق الخاصة : قول الصادق عليه السلام : « مَنْ كان صحيحاً في بدنه ، مخلّى سربه ، له زاد وراحلة ، فهو ممّن يستطيع الحج » (٩) .
__________________
=
الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٢ : ٢٧٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣٦٣ ، المجموع ٨ : ٣٤٣ .
(١) الحاوي الكبير ٤ : ٣٦٣ ، المجموع ٨ : ٣٤٣ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٢ : ٢٧٦ ، المغني ٣ : ١٩٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ .
(٢) في جميع النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق ، والطبعة الحجرية والمصدر : رجله . والصحيح ما أثبتناه بدلالة السياق .
(٣ و ٤) المغني ٣ : ١٩٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ .
(٥) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٩٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٠١ .
(٦) أصل الظعينة : الراحلة التي يرحل ويظعن عليها ، أي يُسار . وقيل للمرأة : ظعينة ؛ لأنّها تظعن مع الزوج حين ظعن ، أو لأنّها تُحمل على الراحلة إذا ظعنت . النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ١٥٧ .
(٧) ورد في هامش « ن » هذه الحاشية : قلت : هذا إِخبار منه صلوات الله عليه بالمغيبات كما هو جاري عادته ؛ لأنّ الحيرة لم تفتح في أيام حياته بل بعد انتقاله الى الله تعالى ، وهذا إيماء إلى زمان القائم عليه السلام .
(٨) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٩٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٠١ ، وبتفاوت في سنن الدارقطني ٢ : ٢٢٢ / ٢٨ .
(٩) الكافي ٤ : ٢٦٧ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٣ / ٢ ، الاستبصار ٢ : ١٣٩ / ٤٥٤ .
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن المرأة تحجّ بغير وليها ، قال : « نعم إذا كانت امرأةً مأمونةً تحجّ مع أخيها المسلم » (١) .
وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن المرأة تحجّ بغير محرم ، فقال : « إذا كانت مأمونةً ولم تقدر على محرم فلا بأس بذلك » (٢) .
ولأنّه سفر واجب ، فلا يشترط فيه المحرم ، كالمسلمة إذا تخلّصت من أيدي الكفّار .
وقال أحمد في رواية اُخرى : المحرم من السبيل ، وإنّ المرأة الموسرة إذا لم يكن لها محرم لا يجب عليها الحجّ ـ وبه قال الحسن البصري والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي ـ فلو لم يكن محرم لم يجز لها الخروج إلّا أن يكون بينها وبين مكة مسير ما دون ثلاثة أيام ؛ لما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلّا ومعها ذو محرم ) (٣) .
ولأنّها أنشأت سفراً في دار الإِسلام ، فلم يجز بغير محرم ، كحجّ التطوّع (٤) .
والحديث مخصوص بالمتخلّصة من أيدي الكفّار ، فيكون مخصوصاً بالحجّ ؛ لاشتراكهما في الوجوب .
ويحمل أيضاً على السفر في غير الحجّ الواجب .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ١٣٩٣ .
(٢) التهذيب ٥ : ٤٠١ / ١٣٩٤ .
(٣) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٧ / ٤٢٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٢٧ .
(٤) المغني ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٢ : ٢٧٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢٣ ، النتف ١ : ٢٠٤ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ : ٢٤ .
ونمنع اشتراط المحرم في حجّ التطوّع ؛ فإنّ الزوج إذا أذن لزوجته في الحجّ ، جاز لها المضيّ فيه وإن لم يصحبها .
تذنيبات : المحرم عند المشترطين له هو الزوج أو مَنْ تحرم عليه على التأييد إمّا بنسب أو بسبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع ؛ لما رووه عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال : ( لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلّا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها ) (١) (٢) .
قال أحمد : ويكون زوج اُمّ المرأة محرماً لها يحجّ بها ، ويسافر الرجل مع اُمّ ولد جدّه ، فإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه (٣) .
وقال في اُمّ امرأته : يكون محرماً لها في حجّ الفرض دون غيره (٤) .
وأمّا مَنْ لا تحرم عليه مؤبّداً فليس بمحرم ، كعبدها وزوج اُختها ؛ لأنّهما غير مأمونين عليها ، ولا تحرم عليهما مؤبّداً ، فهما كالأجنبي ، قاله أحمد (٥) .
وقال الشافعي : عبدها محرم لها ؛ لأنّه مباح له النظر إليها ، فكان محرماً لها ، كذي رحمها (٦) .
وهو غلط ؛ فإنّا نمنع إباحة نظره إليها ، وسيأتي (٧) .
وأمّا اُمّ الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتها فليس بمحرم لهما ؛ لأنّ تحريمهما بسبب غير مباح ؛ فلم يثبت به حكم المحرمية ، كالتحريم الثابت باللعان ، وليس له الخلوة بهما ولا النظر إليهما كذلك .
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٧ / ١٣٤٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٧٢ / ١١٦٩ .
(٢) المغني ٣ : ١٩٣ ـ ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ .
(٣ و ٤) المغني ٣ : ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٤ .
(٥) المغني ٣ : ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٤ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٧٠ .
(٦) المهذب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣٦ ، المغني ٣ : ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٤ .
(٧) يأتي في كتاب النكاح ، المقدمة الثامنة من مقدّماته .
قال أحمد : والكافر ليس محرماً للمسلمة وإن كانت ابنته (١) .
وقال أبو حنيفة والشافعي : هو محرم لها ؛ لأنّها محرمة عليه على التأبيد (٢) .
وقول أحمد لا بأس به في كافر يعتقد حلّها ، كالمجوسي .
وقال أحمد : يشترط في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً ؛ لأنّ الصبي لا يقوم بنفسه قبل الاحتلام فكيف يخرج مع امرأة ، ولأنّ المقصود بالمحرم حفظ المرأة ، ولا يحصل إلّا من البالغ العاقل (٣) .
ونفقة المحرم في الحجّ عليها ؛ لأنّه من سبيلها ، فكان عليها نفقته كالراحلة ، فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زاداً وراحلةً لها ولمحرمها ، فإن امتنع محرمها من الحجّ معها مع بذلها له نفقته ، فهي كمن لا محرم لها .
وهل تلزمه إجابتها إلى ذلك ؟ عن أحمد روايتان (٤) .
والصحيح : أنّه لا يلزمه الحجّ معها ؛ لما في الحجّ من المشقّة الشديدة والكلفة العظيمة ، فلا يلزم أحداً لأجل غيره ، كما لم يلزمه أن يحجّ عنها إذا كانت مريضةً .
ولو مات محرم المرأة في الطريق ، قال أحمد : إذا تباعدت ، مضت فقضت الحجّ (٥) .
مسألة ٥٩ : لا يجوز للرجل منع زوجته الموسرة من حجّة الإِسلام إذا حصلت الشرائط ، عند علمائنا ـ وبه قال النخعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأصحاب الرأي والشافعي في أصحّ قوليه (٦) ـ لما رواه العامة عن النبي صلّى
__________________
(١ و ٢) المغني ٣ : ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٥ .
(٣) المغني ٣ : ١٩٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ .
(٤ و ٥) المغني ٣ : ١٩٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٠٦ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٧٠ .
(٦)
المغني ٣ : ١٩٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٧٦ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٧٠ ،
=
الله عليه وآله قال : ( لا تمنعوا إماء الله عن مساجد الله ) (١) .
ومن طريق الخاصة : رواية محمد بن مسلم ـ في الصحيح ـ عن الباقر عليه السلام ، قال : سألته عن امرأة لم تحجّ ولها زوج وأبى أن يأذن لها في الحجّ فغاب زوجها فهل لها أن تحجّ ؟ قال : « لا طاعة له عليها في حجّة الإِسلام » (٢) .
ولأنّه فرض ، فلم يكن له منعها منه ، كالصوم والصلاة الواجبين .
وقال الشافعي في الآخر : له منعها منه ؛ لأنّ الحجّ على التراخي (٣) . وهو ممنوع .
إذا عرفت هذا ، فيستحب أن تستأذنه في ذلك ، فإن أذن وإلّا خرجت بغير إذنه .
وأمّا حجّ التطوّع فله منعها .
قال ابن المنذر : أجمع كلّ مَنْ يحفظ عنه من أهل العلم أنّ له منعها من الخروج إلى حجّ التطوّع ، لأنّ حقّ الزوج واجب ، فليس لها تفويته بما ليس بواجب ، كالسيد مع عبده (٤) .
ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الرضا عليه السلام ، قال : سألته عن المرأة
__________________
=
الحاوي الكبير ٤ : ٣٦٣ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٤٢ ، المجموع ٨ : ٣٢٧ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٥ .
(١) صحيح البخاري ٢ : ٧ ، صحيح مسلم ١ : ٣٢٧ / ١٣٦ ، سنن أبي داود ١ : ١٥٥ / ٥٦٥ و ٥٦٦ ، سنن البيهقي ٣ : ١٣٢ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ٣٦٣ / ١٣٣٥٠ و ٤٢٥ ـ ١٣٥٦٥ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٢ : ٣٨٣ ، مسند أبي عوانة ٢ : ٥٩ ، مسند الحميدي ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٢ ، مسند احمد ٢ : ٤٣٨ .
(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٠ / ١٣٩١ ، الاستبصار ٢ : ٣١٨ / ١١٢٦ .
(٣) الحاوي الكبير ٤ : ٣٦٣ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٤٢ ، المجموع ٨ : ٣٢٧ و ٣٢٨ ، المغني ٣ : ١٩٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٧٦ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٥ .
(٤) المغني ٣ : ١٩٥ ، الإِجماع ـ لابن المنذر ـ ١٦ / ١٣٥ .
الموسرة قد حجّت حجّة الإسلام تقول لزوجها : حجّني من مالي ، أله أن يمنعها من ذلك ؟ قال : « نعم ويقول لها : حقّي عليك أعظم من حقّك عليّ في هذا » (١) .
وأمّا الحجّة المنذورة ، فإن كانت قد نذرت الحجّ المعيّن بزمان معيّن حالة خلوّها من الزوج ، أو قيّدت النذر بزمان معيّن بإذنه لو كانت مزوّجةً به ، فإنّه ليس له منعها منه ؛ لأنّه واجب عليها ، فأشبه حجّة الإِسلام .
وإن نذرت حال الزوجية به ، فإن أذن لها في النذر وكان مطلقاً ، فالوجه : أنّه يجوز له منعها في ذلك العام ؛ لأنّه واجب مطلق .
ويحتمل عدم المنع ؛ لأنّه أداء الواجب .
تذنيب : حكم العبد حكم المزوّجة ، فإن اُعتق فكالمطلّقة بائناً ، والأمة المزوّجة يشترط في حجّها التطوّع ونذره إذن المولى والزوج .
مسألة ٦٠ : المعتدة عدّة رجعية كالزوجة ؛ لأنّ للزوج الرجوع في طلاقها والاستمتاع بها ، والحجّ يمنعه عن ذلك لو راجع ، فيقف على إذنه .
ولأنّ الصادق عليه السلام قال : « المطلّقة إن كانت صرورةً ، حجّت في عدّتها ، وإن كانت حجّت ، فلا تحجّ حتى تقضي عدّتها » (٢) .
ولها أن تخرج في حجّة الإِسلام من غير إذن الزوج ؛ لأنّ الزوجة لها ذلك فالمطلّقة أولى ؛ لقول أحدهما عليهما السلام : « المطلّقة تحجّ في عدّتها » (٣) .
أمّا التطوّع فليس لها ذلك إلّا بإذنه ؛ لما تقدّم .
ولما رواه معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام ، قال : « لا تحجّ
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠٠ / ١٣٩٢ ، والفقيه ٢ : ٢٦٨ / ١٣٠٧ .
(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٢ / ١٣٩٩ ، الاستبصار ٢ : ٣١٨ / ١١٢٥ .
(٣) التهذيب ٥ : ٤٠٢ / ١٣٩٨ ، الاستبصار ٢ : ٣١٧ / ١١٢٤ ، والفقيه ٢ : ٢٦٩ / ١٣١١ .
المطلّقة في عدّتها » (١) وحملناه على التطوّع ؛ جمعاً بين الأدلّة .
أمّا المطلّقة طلاقاً بائناً فإنّها تخرج في الواجب والتطوّع من غير إذن الزوج ؛ لانقطاع سلطنته عليها وصيرورته أجنبياً لا اعتبار بإذنه .
وأمّا المعتدّة عدّة الوفاة فإنّها تخرج في حجّ الإِسلام عند علمائنا ؛ لانقطاع العصمة .
ولما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ قال : سألت الصادق عليه السلام عن التي يتوفّى عنها زوجها أتحجّ في عدّتها ؟ قال : « نعم » (٢) .
وقال أحمد : لا يجوز لها أن تخرج ، وتقدّم ملازمة المنزل على الحجّ ؛ لأنّه يفوت (٣) .
والحقّ : اتّباع النقل .
مسألة ٦١ : لو كان في الطريق عدوّ يخاف منه على ماله ، سقط فرض الحجّ ، عند علمائنا ـ وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (٤) ـ لأنّ بذل المال تحصيل لشرط الوجوب وهو غير واجب ، فلا يجب ما يتوقّف عليه .
وفي الرواية الاُخرى عن أحمد : أنّه لا يسقط فرض الحجّ ، ويجب أن يستنيب (٥) .
وليس بمعتمد .
ولا فرق بين أن يكون المال قليلاً أو كثيراً .
ويحتمل أن يقال بالوجوب مع القلّة إذا لم يتضرّر .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠١ / ١٣٩٦ ، الاستبصار ٢ : ٣١٧ / ١١٢٢ .
(٢) الفقيه ٢ : ٢٦٩ / ١٣١٢ ، والتهذيب ٥ : ٤٠٢ / ١٤٠١ بتفاوت يسير فيه .
(٣) المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٧٧ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٧٠ .
(٤) فتح العزيز ٧ : ٢٤ ، المجموع ٧ : ٨١ ـ ٨٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٣ ، المغني ٣ : ١٦٦ .
(٥) المغني ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧ .
ولو لم يندفع العدوّ إلّا بمال أو خفارة ، قال الشيخ رحمه الله : لا يجب ؛ لأنّه لم تحصل التخلية (١) .
ولو قيل بالوجوب مع إمكان الدفع من غير إجحاف ، أمكن ؛ لأنّه كأثمان الآلات .
ولو بذل باذلٌ المطلوبَ فانكشف العدوّ ، لزمه الحجّ ، وليس له منع الباذل ؛ لتحقّق الاستطاعة .
أمّا لو قال الباذل : أقبل المال وادفع أنت ، لم يجب .
ولا فرق بين أن يكون الذي يُخاف منه مسلمين أو كفّاراً .
ولو تمكّن من محاربتهم بحيث لا يلحقه ضرر ولا خوف فهو مستطيع .
ويحتمل عدم الوجوب ؛ لأنّ تحصيل الشرط ليس بواجب .
أمّا لو خاف على نفسه أو ماله من قتل أو جرح أو نهب ، لم يجب .
ولو كان العدوّ كفّاراً وقدر الحاج على محاربتهم من غير ضرر ، استحب قتالهم ؛ لينالوا ثواب الجهاد والحجّ معاً ، أمّا لو كانوا مسلمين ، فإنّه لا يستحب الحجّ ؛ لما فيه من قتل المسلم ، وليس محرّماً .
ولو كان على المراصد مَنْ يطلب مالاً ، لم يلزمه الحجّ .
وكره الشافعية بذل المال لهم ؛ لأنّهم يحرضون بذلك على التعرّض للناس (٢) .
ولو بعثوا بأمان الحجيج وكان أمانهم موثوقاً به ، أو ضمن لهم أمير [ ما يطلبونه ] (٣) وأمن الحجيج ، لزمهم الخروج .
ولو وجدوا من يُبَذْرقُهم (٤) باُجرة ولو استأجروا لأمنوا غالباً ، احتمل وجوب
__________________
(١) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٠١ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٢٤ ، المجموع ٧ : ٨٢ .
(٣) في النسخ الخطية والحجرية : فانطلقوا به . وهي تصحيف ، وما أثبتناه من فتح العزيز .
(٤) البذرقة ، فارسي معرّب : الخفارة . لسان العرب ١٠ : ١٤ .
الاستئجار ـ وهو أحد وجهي الشافعية (١) ـ لأنّ بذل الاُجرة بذل مال [ بحقّ ] (٢) والمُبَذْرِقُ أهبة الطريق ، كالراحلة وغيرها .
ويحتمل عدم الوجوب ـ وهو الوجه الثاني للشافعية (٣) ـ لأنّه خسران لدفع الظلم ، فأشبه التسليم إلى الظالم .
مسألة ٦٢ : يشترط لوجوب الحجّ وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بحمل الزاد والماء منها ، فإن كان العام عام جدب وخلا بعض تلك المنازل عن أهلها أو انقطعت المياه ، لم يلزمه الحجّ ؛ لأنّه إن لم يحمل معه ، خاف على نفسه ، وإن حمله ، لحقته مؤونة عظيمة .
وكذلك الحكم لو كان يوجد الزاد والماء فيها لكن بأكثر من ثمن المثل وهو القدر اللائق في ذلك المكان والزمان .
وإن وجدهما بثمن المثل ، لزم التحصيل ، سواء كانت الأسعار رخيصةً أو غاليةً إذا وفي ماله .
ويحمل منها قدر ما جرت العادة به في طريق مكة كحمل الزاد من الكوفة والماء مرحلتين أو ثلاثاً إذا قدر عليه ووجد آلات الحمل .
وأمّا علف الدواب فيشترط وجوده في كلّ مرحلة .
ويشترط أيضاً في الوجوب : وجود الرفقة إن احتاج إليها ، فإن حصلت له الاستطاعة وحصل بينه وبين الرفقة مسافة لا يمكنه اللحاق أو يحتاج أن يتكلّف إمّا بمناقلة (٤) أو بجعل منزلين منزلاً ، لم يلزمه الحج تلك السنة ، فإن بقي حالته في إزاحة العلّة إلى السنة المقبلة ، لزمه ، وإن مات قبل ذلك لا يجب أن يُحجّ عنه ، فإن فاتته السنة المقبلة ولم يحج ، وجب حينئذٍ أن يُحجّ
__________________
(١) الوجيز ١ : ١٠٩ ، فتح العزيز ٧ : ٢٥ ، المجموع ٧ : ٨٢ .
(٢) في النسخ الخطية والحجرية : يخفّ . وهي تصحيف ، وما أثبتناه من فتح العزيز .
(٣) المصادر في الهامش (١) .
(٤) مناقلة من النقيل : ضرب من السير ، وهو المداومة عليه . الصحاح ٥ : ١٨٣٤ .
عنه ، ولو احتاج إلى حركة عنيفة يعجز عنها ، سقط في عامه ، فإن مات قبل التمكّن ، سقط .
النظر الرابع : في اتّساع الوقت
مسألة ٦٣ : اتّساع الوقت شرط في الوجوب ، وهو أن يكمل فيه هذه الشرائط والزمان يتّسع للخروج ولحوق المناسك ، فلو حصلت الشرائط وقد ضاق الوقت بحيث لو شرع في السير لم يصل إلى مكة ، لم يجب الحج في ذلك العام عند علمائنا ـ وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (١) ـ لأنّ الله تعالى إنّما فرض الحجّ على المستطيع وهذا غير مستطيع ، ولأنّ هذا يتعذّر معه فعل الحج ، فكان شرطاً ، كالزاد والراحلة .
وقال أحمد في الرواية الثانية : إنّه ليس شرطاً في الوجوب ، وإنّما هو شرط للزوم الحج ؛ لأنّه عليه السلام فسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة (٢) .
وهو ضعيف وقد سلف (٣) .
ولو مات حينئذٍ ، لم يُقْض عنه ، ولو علم الإِدراك لكن بعد طيّ المنازل وعجزه عن ذلك ، لم يجب ، ولو قدر ، وجب .
تتمّة تشتمل على مسائل :
الاُولى : هذه الشرائط التي ذكرناها منها ما هو شرط في الصحة والوجوب ، وهو : العقل ؛ لعدم الوجوب على المجنون وعدم الصحة منه ، ومنها ما هو شرط في الصحة دون الوجوب ، وهو : الإِسلام ، فإنّ الكافر يجب عليه الحج وغيره من فروع العبادات عند علمائنا أجمع ، وبه قال الشافعي في
__________________
(١) الحاوي الكبير ٤ : ١٦ ، المجموع ٧ : ٨٨ ـ ٨٩ ، فتح العزيز ٧ : ٢٩ ، المغني ٣ : ١٦٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٥ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٦٦ .
(٢) المغني ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٥ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٦٦ ، المجموع ٧ : ٨٩ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠ .
(٣) راجع : بداية مبحث أمن الطريق .
أحد الوجهين .
وفي الآخر : إنّه غير واجب عليه . وجَعَل الإِسلام شرطاً في الوجوب . وبه قال أبو حنيفة (١) .
لنا : عموم قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ علىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٢) والعارض ـ وهو الكفر ـ لا يصلح للمانعية ، كما لا يمنع من الخطاب بالإِسلام .
واحتجاج أبي حنيفة : بأنّ الكافر إمّا أن يجب عليه حال كفره أو بعد إسلامه ، والأول باطل ؛ لأنّه لو وجب عليه ، لصحّ منه ، وإلّا لزم التكليف بالمحال ، والثاني باطل ؛ لقوله عليه السلام : ( الإِسلام يجبّ ما قبله ) (٣) .
وهو غلط ؛ لأنّ الوجوب حالة الكفر يستلزم الصحة العقلية ، أمّا الشرعية فإنّها موقوفة على شرط هو قادر عليه وهو : الإِسلام ، فكان كالمحدث المخاطب بالصلاة .
إذا عرفت هذا ، فلو أحرم وهو كافر ، لم يصح إحرامه ، فإذا أسلم قبل فوات الوقوف بالمشعر ، وجب عليه الرجوع إلى الميقات وإنشاء الإِحرام منه ، وإن لم يتمكّن ، أحرم من موضعه ، ولو أسلم بعد فوات الوقوف بالمشعر ، وجب عليه في المُقبل .
مسألة ٦٤ : المرتدّ إذا كان قد حجّ حالة إسلامه ثم حصل الارتداد بعد قضاء مناسكه ، لم يعد الحجّ بعد التوبة ـ وبه قال الشافعي (٤) ـ لما رواه العامّة من قوله صلّى الله عليه وآله ، لمّا سُئل أحجّتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ فقال : ( للأبد ) (٥) .
__________________
(١) شرح البدخشي ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، المجموع ٣ : ٤ و ٧ : ١٩ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢٠ .
(٢) آل عمران : ٩٧ .
(٣) أورده الماوردي في الحاوي الكبير ١٤ : ٣١٣ ، وفي مسند أحمد ٤ : ١٩٩ و ٢٠٤ و ٢٠٥ ، ودلائل النبوة ـ للبيهقي ـ ٤ : ٣٥١ ، والطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٧ : ٤٩٧ بتفاوت .
(٤) فتح العزيز ٧ : ٥ ، المجموع ٧ : ٩ .
(٥) أورده الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٦ .
ومن طريق الخاصة : قول الباقر عليه السلام : « مَنْ كان مؤمناً فحجّ ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب يحسب له كلّ عمل صالح عمله ولا يبطل منه شيء » (١) .
ولأنّه أوقع الحجّ بشروطه ، فخرج عن العهدة ؛ لعدم وجوب التكرّر .
وتردّد الشيخ رحمه الله ، وقوّى الإِعادة (٢) وجزم بها أبو حنيفة (٣) ؛ لقوله تعالى : ( وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (٤) .
وهو ممنوع ؛ فإنّ الإِحباط مشروط بالموافاة .
تذنيب : المخالف إذا حجّ على معتقده ولم يُخلّ بشيء من أركان الحجّ ، لم تجب عليه الإِعادة ؛ لأنّ الصادق عليه السلام سُئل عن رجل حجّ وهو لا يعرف هذا الأمر ثم منّ الله عليه بمعرفته والدينونة به تجب عليه حجّة الإِسلام أو قد قضى فريضة ؟ قال : « قد قضى فريضة ، ولو حجّ كان أحبّ إليّ » (٥) . الحديث .
آخر : لو أحرم ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإِسلام ، كان إحرامه باقياً وبنى عليه .
وللشافعي وجهان : أحدهما : الإِبطال (٦) .
وليس بجيّد ؛ لأنّ الإِحرام لا يبطل بالموت والجنون ، فلا يبطل بالردّة .
ومنها : ما هو شرط في الوجوب دون الصحة ، وهو : البلوغ والحرّية والاستطاعة وإمكان المسير ؛ لأنّ الصبي والمملوك ومَنْ ليس معه زاد ولا راحلة
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ / ١٥٩٧ .
(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٠٥ .
(٣) فتح العزيز ٧ : ٥ ، المجموع ٧ : ٩ .
(٤) المائدة : ٥ .
(٥) الكافي ٤ : ٢٧٥ / ٤ ، الفقيه ٢ : ٢٦٣ / ١٢٨١ ، التهذيب ٥ : ١٠ / ٢٥ ، الاستبصار ٢ : ١٤٦ / ٤٧٥ .
(٦) المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٤٢ ، المجموع ٨ : ٣٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٣ .
وليس بمخلّى السرب ولا يمكنه المسير لو تكلّفوا الحج لصحّ منهم وإن لم يكن واجباً عليهم ولا يجزئهم عن حجّة الإِسلام .
مسألة ٦٥ : جامع الشرائط إذا قدر على المشي ، كان المشي أفضل من الركوب مع عدم الضعف عن أداء الفرائض ، ولو خاف الضعف عن إكمال الفرائض واستيفاء الشرائط والدعاء ، كان الركوب أفضل ، لقول الصادق عليه السلام : « ما عبد الله بشيء أشدّ من المشي ولا أفضل » (١) .
وسُئل الصادق عليه السلام عن فضل المشي ، فقال : « الحسن بن علي عليهما السلام قاسَمَ ربّه ثلاث مرّات حتى نعلاً ونعلاً وثوباً وثوباً وديناراً وديناراً ، وحجّ عشرين حجّة ماشياً على قدمه » (٢) .
وقد روي أنّ الصادق عليه السلام سُئل : الركوب أفضل أم المشي ؟ فقال : « الركوب أفضل من المشي لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ركب » (٣) .
وهو محمول على التفصيل الذي ذكرناه ؛ لما روي عنه عليه السلام أيّ شيء أحبّ إليك نمشي أو نركب ؟ فقال : « تركبون أحبّ إليّ ، فإنّ ذلك أقوى على الدعاء والعبادة » (٤) .
تذنيب : لو نذر أن يحجّ حجّة الإِسلام ماشياً ، وجب عليه الوفاء به مع القدرة ، لأنّه نذر في طاعة ، ولو عجز عن المشي ، وجب الركوب .
ولو نذر أن يحجّ ماشياً غير حجّة الإِسلام ، فإن قيّده بوقت ، تعيّن مع القدرة ، فإن عجز في تلك السنة ، احتمل وجوب الركوب مع القدرة ، وعدمه ؛ للعجز عن النذر فيسقط ، ولو لم يكن مقيّداً ، توقّع المكنة .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ١١ / ٢٨ ، الاستبصار ٢ : ١٤١ / ٤٦٠ .
(٢) التهذيب ٥ : ١١ ـ ١٢ / ٢٩ ، الاستبصار ٢ : ١٤١ ـ ١٤٢ / ٤٦١ .
(٣) التهذيب ٥ : ١٢ / ٣١ ، الاستبصار ٢ : ١٤٢ / ٤٦٣ .
(٤) التهذيب ٥ : ١٢ / ٣٢ ، الاستبصار ٢ : ١٤٢ / ٤٦٤ .
مسألة ٦٦ : إذا كملت شرائط الحج فأهمل ، أثم ، فإن حجّ في السنة المقبلة ، برئت ذمته ، ويجب عليه المبادرة على الفور ولو مشياً .
وإن مات ، وجب أن يخرج عنه حجّة الإِسلام وعمرته من صلب المال ، ولا تسقط بالموت عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الحسن وطاوس والشافعي (١) ـ لما رواه العامّة عن ابن عباس أنّ امرأة سألت النبي صلّى الله عليه وآله عن أبيها مات ولم يحج ، قال : ( حجّي عن أبيك ) (٢) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه سماعة بن مهران ، قال : سألت الصادق عليه السلام عن الرجل يموت ولم يحج حجّة الإِسلام ولم يوص بها وهو موسر ، فقال : « يحجّ عنه من صلب ماله لا يجوز غير ذلك » (٣) .
ولأنّه حقّ استقرّ عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدّيْن .
وقال أبو حنيفة ومالك : تسقط بالموت ، فإن وصّى بها ، فهي من الثلث ـ وبه قال الشعبي والنخعي ـ لأنّها عبادة بدنية تسقط بالموت ، كالصلاة (٤) .
والفرق : أنّ الصلاة لا تدخلها النيابة .
مسألة ٦٧ : وفي وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه إمّا من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه قولان :
أحدهما هذا ، وبه قال الحسن البصري وإسحاق ومالك في النذر (٥) .
والثاني : أنّه يجب من أقرب الأماكن إلى مكة وهو الميقات ـ وبه قال
__________________
(١) مختصر المزني : ٦٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣١ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٠٦ ، المجموع ٧ : ١٠٩ و ١١٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٤ ، المغني ٣ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٦ .
(٢) سنن النسائي ٥ : ١١٧ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٨ : ٢٨٤ / ٢٧٢ .
(٣) التهذيب ٥ : ١٥ / ٤١ .
(٤) حلية العلماء ٣ : ٢٤٤ ، المغني ٣ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣٣ ، التفريع ١ : ٣١٥ .
(٥) المغني ٣ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٦ .
الشافعي (١) ـ وهو الأقوى عندي ؛ لأنّ الواجب أداء المناسك في المشاعر المخصوصة ، ولهذا لو خرج بنيّة التجارة ثم جدّد نيّة الحجّ عند المواقيت ، أجزأه فعله ، فعَلِمْنا أنّ قطع المسافة غير مطلوب للشرع .
ولما رواه حريز بن عبد الله عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن رجل أعطى رجلاً حجّةً يحجّ عنه من الكوفة فحجّ عنه من البصرة ، قال : « لا بأس إذا قضى جميع المناسك فقد تمّ حجّه » (٢) .
وسأل علي بن رئاب ، الصادق عليه السلام عن رجل أوصى أن يحجّ عنه حجّة الإِسلام فلم يبلغ جميع ما ترك إلّا خمسين درهماً ، قال : « يحجّ عنه من بعض المواقيت الذي وقّت رسول الله صلّى الله عليه وآله من قرب » (٣) ولم يستفصل الإِمام عليه السلام في الجواب هل يمكن أن يحجّ بها من أبعد من الميقات أم لا ؟
احتجّ الآخرون : بأنّ الحجّ وجب على الميّت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه ؛ لأنّ القضاء يكون على وفق الأداء ، كقضاء الصلاة والصيام (٤) .
ونحن نمنع الوجوب من البلد ، وإنّما ثبت اتّفاقاً ، ولهذا لو اتّفق له اليسار في الميقات ، لم يجب عليه الرجوع إلى بلده لإِنشاء الإِحرام منه ، فدلّ على أنّ قطع المسافة ليس مراداً للشارع .
تذنيبات :
لو كان له موطنان ، قال الموجبون للاستنابة من بلده : يستناب من أقربهما (٥) . فإن وجب عليه الحجّ بخراسان ومات ببغداد ، أو وجب عليه
__________________
(١) المغني ٣ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٦ .
(٢) التهذيب ٥ : ٤١٥ / ١٤٤٥ .
(٣) الاستبصار ٢ : ٣١٨ / ١١٢٨ ، والتهذيب ٥ : ٤٠٥ / ١٤١١ .
(٤) المغني ٣ : ١٩٨ ـ ١٩٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٧ .
(٥) المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٧ .
ببغداد فمات بخراسان ، قال أحمد : يحجّ عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته (١) .
ويحتمل أن يحجّ عنه من أقرب المكانين ؛ لأنّه لو كان حيّاً في أقرب المكانين لم يجب عليه الحجّ من أبعد منه فكذا نائبه .
فإن خرج للحجّ فمات في الطريق ، حُجّ عنه من حيث مات ؛ لأنّه أسقط بعض ما وجب عليه ، فلم يجب ثانياً ، وكذا إن مات نائبه استنيب من حيث مات كذلك .
قال أحمد : ولو أحرم بالحج ثم مات ، صحّت النيابة عنه فيما بقي من النسك ، سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره ؛ لأنّها عبادة تدخلها النيابة ، فإذا مات بعد فعل بعضها ، قُضي عنه باقيها ، كالزكاة (٢) .
ولو لم يخلّف تركةً تفي بالحج من بلده ، حُجّ عنه من حيث تبلغ ، وإن كان عليه دين لآدمي ؛ تحاصّا ، ويؤخذ للحجّ حصّته فيستأجر بها من حيث تبلغ .
ولو أوصى أن يُحجّ عنه ولم تبلغ النفقة ، قال أحمد : يُحجّ عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته ؛ لقوله عليه السلام : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (٣) .
ولأنّه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه ، كالزكاة (٤) .
وعنه رواية اُخرى أنّ الحجّ يسقط عمّن عليه دين ؛ لأنّ حقّ الآدمي المعيّن أولى بالتقديم (٥) .
__________________
(١) المغني ٣ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٧ .
(٢) المغني ٣ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٨ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٧١ .
(٣) صحيح البخاري ٩ : ١١٧ ، مسند أحمد ٢ : ٥٠٨ .
(٤) المغني ٣ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٨ .
(٥) المغني ٣ : ٢٠٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٩ .
وهو باطل ؛ لقوله عليه السلام : ( دين الله أحقّ أن يقضى ) (١) .
ولو أوصى بحجّ تطوّع بثلث ماله فلم يف الثلث بالحج من بلده ، حجّ به من حيث يبلغ .
ويستناب عن الميت ثقة بأقلّ ما يوجد إلّا أن يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشيء فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث .
مسألة ٦٨ : إذا أوصى أن يُحجّ عنه فإمّا أن يكون بحجّ واجب أو مندوب ، أو لا يعلم وجوبه وندبه ، فإن كان بواجب فلا يخلو إمّا أن يعيّن قدراً أو لا ، وإن عيّن فإن كان بقدر اُجرة المثل ، اُخرجت من الأصل ، وإن زادت عن اُجرة المثل ، اُخرجت اُجرة المثل من الأصل والباقي من الثلث ، وإن لم يعيّن ، اُخرجت اُجرة المثل من أصل المال .
وإن كان مندوباً ، اُخرج ما يعيّنه من الثلث إن عيّن قدراً ، وإلّا اُجرة المثل ، وإن لم يعلم ، اُخرج من الثلث اُجرة المثل أو ما عيّنه ؛ حملاً للإِطلاق على الندب ؛ لأصالة البراءة .
ولو أوصى بالحجّ عنه دائماً ، حُجّ عنه بقدر ثلث ماله إمّا مرّة واحدة أو أزيد .
ولو أوصى بالحجّ ولم يبلغ الثلث قدر ما يحجّ عنه من أقرب الأماكن ولم يوجد راغب فيه وكان عليه دين ، صُرف في الدّيْن ، فإن فضل منه فضلة أو لم يكن دين ، فالأولى الصدقة به ؛ لخروجه بالوصية عن ملك الورثة .
ويحتمل صرفه إلى الميراث ؛ لأنّه لمّا تعذّر الوجه الموصى به رجع إلى الورثة كأنّه لا وصية .
مسألة ٦٩ : مَنْ مات قبل الحجّ فإمّا أن يكون قد وجب عليه الحجّ أو
__________________
(١) صحيح البخاري ٣ : ٤٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٠٤ / ١٥٥ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ١٥ / ١٢٣٣٢ .
لا ، فإن كان قد وجب عليه الحجّ فإمّا أن يكون قد استقرّ عليه أو لا ، فإن كان قد استقرّ عليه أوّلاً ثم أهمل وتمكّن من الإِتيان به ولم يفعل ، وجب عليه القضاء ؛ لما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام قال : « يقضى عن الرجل حجّة الإِسلام من جميع ماله » (١) .
وإن لم يكن قد استقرّ عليه بل حال ما تحقّق الوجوب أدركته الوفاة ، فإنّه يسقط عنه فرض الحجّ ، ولا يجب الاستئجار ، وكذا لو لم يجب عليه الحج لم يجب الاستئجار ، لكن يستحب فيهما خصوصاً الأبوين ، رواه العامة (٢) ؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أمر أبا رزين فقال : ( حجّ عن أبيك واعتمر ) (٣) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه عمّار بن عمير ، قال : قلت للصادق عليه السلام : بلغني عنك أنّك قلت : لو أنّ رجلاً مات ولم يحج حجة الإِسلام فأحجّ عنه بعض أهله أجزأ ذلك عنه ، فقال : « أشهد على أبي أنّه حدّثني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه أتاه رجل فقال : يا رسول الله إنّ أبي مات ولم يحج حجّة الإِسلام ، فقال : حجّ عنه فإنّ ذلك يجزئ عنه » (٤) .
وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مات ولم يكن له مال ولم يحج حجة الإِسلام فأحجّ عنه بعض إخوانه هل يجزئ عنه ؟ أو هل هي ناقصة ؟ فقال : « بل هي حجة تامة » (٥) .
ولو أراد أن يحج عن أبويه ، قال أحمد : ينبغي أن يقدّم الحج عن الاُم ؛ لأنّها مقدّمة في البِرّ .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ / ١٤٠٥ .
(٢) المغني ٣ : ٢٠٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٩٩ .
(٣) سنن النسائي ٥ : ١١٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٧٠ / ٩٣٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٧٠ / ٢٩٠٦ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٩ ، مسند أحمد ٤ : ١٠ .
(٤) التهذيب ٥ : ٤٠٤ / ١٤٠٧ .
(٥) التهذيب ٥ : ٤٠٤ / ١٤٠٨ .