السيّد سامي البدري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧
قال المسعودي : ولمّا أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته ، صعد المنبر بالهاشمية ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على محمّد صلىاللهعليهوآله ، ثمّ قال : يا أهل خراسان ، أنتم شيعتنا وأنصارنا ، وأهل دعوتنا ، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا.
إنَّ ولد أبي طالب تركناهم ـ والذي لا إله إلاَّ هو ـ والخلافة ، فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير ؛ فقام فيها علي بن أبي طالب عليهالسلام فما أفلح ، وحكَّم الحكمين ، فاختلفت عليه الأمّة وافترقت الكلمة ، ثمّ وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه.
ثمّ قام بعدَهُ الحسن بن علي عليهالسلام ، فوالله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية أنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه وسلَّمه إليه ، وأقبل على النساء يتزوّج اليوم واحدة ويطلّق غداً اُخرى ، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه.
ثمّ قام من بعده الحسين بن علي عليهماالسلام ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة ، أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء ـ وأشار إلى الكوفة ـ فوالله ما هي لي بحرب فأُحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها ، فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قُتل.
ثمّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمّد بن علي ناشده الله في الخروج ، وقال له : لا تقبل أقاويل أهل الكوفة ، فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب. وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره رحمهالله غدر أهل الكوفة فلم يقبل ، وتمَّ على خروجه ، فقُتل وصُلب بالكناسة (١).
__________________
(١) مروج الذهب ـ المسعودي ٣ / ٣٠١ ، وكانت بوادر التحسّس من الكوفيِّين قبل ذلك ، روى البلاذري
ولمّا قُتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهالسلام ، أمر المنصور أن يُطاف برأسه بالكوفة سنة ١٤٥ هجرية ، وخطب قائلاً :
يا أهل الكوفة ، عليكم لعنة الله ، وعلى بلد أنتم فيه ...
سبئية (١) ،
خشبية (٢) ؛ قائل يقول : جاءت الملائكة ،
وقائل يقول : جاء جبريل ...
لَلَعجب لبني اُميّة وصبرهم عليكم! كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ، ويسبوا ذراريكم ، ويخربوا منازلكم!
أما والله يا أهل المَدَرَة الخبيثة ، لئن بقيتُ لكم لأذلّنكم (٣).
أقول :
وفي ضوء ذلك كان من الضروري التحقيق في الرواية التاريخيّة التي ظهرت في هذه الفترة الخطيرة ؛ سواء كانت رواية أبي مخنف أو رواية غيره ، وتجزئة الرواية إلى أجزاء ،
__________________
في أنساب الأشراف ٣ / ١٥٠ ، قال : قال المدائني : كتب أبو مسلم إلى أبي العباس : أنّ أهل الكوفة قد شاركوا شيعة أمير المؤمنين في الاسم ، وخالفوهم في الفعل ، ورأيهم في آل علي الذي يعلمه أمير المؤمنين ، يؤتى فسادهم من قبلهم بإغوائهم إيّاهم ، وإطماعهم فيما ليس لهم ، فألحظهم يا أمير المؤمنين بلحظة بوار ، ولا تؤهّلهم لجوارك ؛ فليست دارهم لك بدار. وأشار عليه أيضاً عبد الله بن علي بنحو من ذلك ، فابتنى مدينته بالأنبار وتحول إليها ، وبها توفي.
(١) أيّ أتباع عبد الله بن سبأ الذي ادّعي له أنّه مبتدع الوصية لعلي عليهالسلام ، المشابهة لوصية موسى ليوشع عليهالسلام ، الذي يترتّب عليها البراءة ممّن تجاوز على موقعه.
(٢) في النهاية ـ لابن الأثير : الخشبية : هم أصحاب المختار بن أبي عبيد ، ويُقال لضرب من الشيعة : الخشبية. وفي المشتبه ـ للذهبي : الخشبي : هو الرافضي في عرف السلف. أقول : وسيأتي في ترجمة المختار الروايات التي وضعوها في حقّه للغضّ من شخصيته.
(٣) أنساب الأشراف ٣ / ٢٦٩.
واستبعاد الجزء الذي يلتقي مع الهدف الإعلامي للعباسيِّين إن لم يكن لدينا غيرها.
إنّ كُتّاباً وباحثين معاصرين أمثال الشيخ محمود شاكر (١) ، والدكتور أحمد شلبي (٢) ، والشيخ الخضري ونظرائهم قد يكونون معذورين حين يعتمدون على رواية أبي مخنف دون أن يحقّقوا فيها ؛ بسبب خلفيّتهم العقائدية التي تسوّغ لهم قبول ذلك أو الأنس به ، أمّا أن يعتمد الكاتب الشيعي الإمامي (٣) على رواية أبي مخنف دون تحقيق أو دون تجزئة فليس معذوراً (٤).
__________________
(١) كاتب مصري ألّف موسوعة في التاريخ الإسلامي في عدّة مجلّدات.
(٢) كاتب مصري ألّف موسوعة التاريخ الإسلامي في عدّة مجلّدات وطبعت طبعات عديدة ، آخر ما رأيته هو الطبعة السابعة سنة ١٩٨٤ م ، وعنها ننقل في كتابنا هذا.
(٣) قد يعترض البعض علينا باعتماد مرجع الشيعة في وقته الشيخ المفيد رحمهالله على رواية أبي مخنف في كتابه الإرشاد ، أو في كتابه الجمل ، ولكنّه اعتراض غير وارد ؛ لأنّ الشيخ المفيد في الجمل يُصرّح أنّه إنّما أورد أخبار الجمل من مصادر غير إمامية لأجل الاحتجاج.
(٤) أشرنا إلى طرف من هذا الموضوع في كتابنا المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبويّة / ٤٦٩ ـ ٤٨٠ ، نرجو أن نوفّق إلى تفصيلها في دراسة مستقلة.
٣ ـ الوظيفة الإلهيّة للأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام
الإمامة الإلهيّة لأهل البيت عليهمالسلام لها نظير في الاُمم السابقة :
إمامة أهل البيت الإلهيّة بعد النبي صلىاللهعليهوآله التي يحصرها الشيعة بعلي عليهالسلام والطاهرين من ذرّية النبي صلىاللهعليهوآله والحسن والحسين والتسعة من ذرّية الحسين عليهمالسلام ، هي امتداد لإمامة النبي صلىاللهعليهوآله الإلهيّة ، نظير إمامة لوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب التي كانت امتداداً لإمامة إبراهيم الإلهيّة ، ووارثة لها بأمر إلهي ، كما في قوله تعالى : (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إلى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) الأنبياء / ٧١ ـ ٧٣.
وهي أيضاً نظير إمامة هارون وآل هارون الإلهيّة ، التي هي امتداد لإمامة موسى الإلهيّة ، المشار إليها في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة / ٢٣ ـ ٢٤ ، وقوله تعالى : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة / ٢٤٨ ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) المائدة / ١٢.
ويعتقد الشيعة تبعاً للرواية عن الأئمّة عليهمالسلام : أنّ الشهداء على الناس في قوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُو اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُو سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الحج / ٧٨ ، هم هؤلاء الاثنا عشر فقط ، وقد جعلهم النبي صلىاللهعليهوآله عدلَ القرآن بقوله : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ؛ كتاب الله وعِترتي أهل بيتي». وأنّ الآية الكريمة : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) الأنعام / ٨٩ ـ ٩٠ ، تشير إليهم وإلى وظيفتهم ، والكفر بالرسالة هو رفضها أو تحريفها. لقد وكّل الله تعالى بدينه ورسالته بعد النبي صلىاللهعليهوآله هؤلاء الاثني عشر من أهل بيته ؛ ليدافعوا عنها ويحفظوها في المجتمع إذا تعرّضت لتحريفٍ ماحِقٍ يستلزم بطلان حجّة الله تعالى على الناس.
التناظر التكويني بين الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام والأئمّة من بني إسرائيل
وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هناك تناظر تكويني بين الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام والأئمّة من بني إسرائيل :
فجعل الله تعالى الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام اثني عشر ، نظير جعل الأئمّة من بني إسرائيل بعد موسى اثني عشر ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) المائدة / ١٢. وقد أكّد النبي صلىاللهعليهوآله هذه المقارنة حين سُئل عن عدد الأئمّة من بعده ، قال : «عدّة نقباء بني إسرائيل اثني عشر ، لا يضرّهم مَنْ عاداهم».
وجعل أغلب أوصياء محمّد صلىاللهعليهوآله من ذرّية أخيه ووزيره وأوّل أوصيائه علي عليهالسلام ، نظير جعله أغلب أوصياء موسى عليهالسلام بعده في ذرّية أخيه ووزيره هارون عليهالسلام ، وهم (آل هارون) (١).
__________________
(١) قضية التناظر بين آل محمّد صلىاللهعليهوآله وآل عمران وآل هارون والحجج الإلهيين في الأمم الماضية مسألة ملفتة
وجعل من بينهم مَنْ يتبّوأ موقع الإمامة وهو دون العاشرة ؛ كالجواد والهادي والمهدي عليهمالسلام ، نظير يحيى الذي اُوتي النبوة والكتاب وهو صبي.
وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل المهدي عليهالسلام من آل محمّد صلىاللهعليهوآله نظيراً لعيسى من آل عمران من ناحية الاختلاف في ولادته والامتحان بغيبته ؛ فقد اختلف بنو إسرائيل في ولادة المسيح بعد أن كانوا ينتظرونه جميعاً للنصوص الثابتة عن أنبيائهم وفي كتبهم (١) ؛ فآمنت طائفة لمّا ولد ، وأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم. واختلفت أمّة محمّد صلىاللهعليهوآله في ولادة المهدي المنتظر عليهالسلام من ولد فاطمة عليهاالسلام بعد أن أخبر النبي صلىاللهعليهوآله عنه ، وبشَّر به (٢) ؛ فآمنت طائفة لمّا ولد سنة ٢٥٥ هجـ ، وهي لا تزال مؤمنة به إلى اليوم ، وأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم أيضاً.
وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل في الحجج من بعد محمّد صلىاللهعليهوآله في اُمّته امرأة حجّة ، وهي فاطمة بنت محمّد صلىاللهعليهوآله ، كما جعل بعد موسى في أمّته امرأة حجّة وهي مريم بنت عمران عليهاالسلام.
ما هي الوظيفة الإلهيّة لأهل البيت عليهمالسلام بعد النبي صلىاللهعليهوآله؟
يمكننا تلخيص وظيفة أهل البيت عليهمالسلام بوصفهم أئمّة إلهيين بعد النبي صلىاللهعليهوآله بأمرين أساسيين هما :
__________________
للنظر ، جعلها الله تعالى من المعالم الهادية إلى حقّانية حركة الأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام ، وبخاصّة بعد أن أصبحت حركتهم عليهمالسلام بما فيها غيبة المهدي عليهالسلام واقعاً تاريخياً ناجزاً ثابتاً تسهل مقارنته مع الواقع التاريخي لحركة الحجج في الأمم السابقة ، كما ذكرها القرآن الكريم والنصوص الموافقة له من أسفار التوراة والإنجيل المتداولة ، وقد درسنا ذلك مفصّلاً وأعددناه في كتاب خاص.
(١) ذكرنا مصادر ذلك في موضعه في الحلقة الثانية من كتابنا شبهات وردود.
(٢) روى أبو داود في سننه عن أبي الطفيل ، عن علي عليهالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «لو لم يبقَ من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً». وفيه أيضاً عن اُمِّ سلمة قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» ج ٢ / ٤٢٢ ط ١.
الأمر الأوّل : المحافظة على سنّة النبي صلىاللهعليهوآله في المجتمع من الضياع والتحريف ، ومواجهة الضلالات والفتن الأساسية التي يُخشى منها على الإسلام ، وبالتالي مواصلة الهداية الخاصة ، والشهادة والحجّة على الناس التي أسسها النبي صلىاللهعليهوآله ، قال الله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) الأنعام / ٨٩ ـ ٩٠ ، [وقال أيضاً :] (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُو سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الحج / ٧٨.
قال النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي».
الأمر الثاني : إعطاء سيرة وتجارب ومواقف معصومة هادية في الجانب الشخصي والاجتماعي والسياسي ، كالدعوة والثورة والحكم والصلح والتعايش مع المخالفين بالرأي داخل المجتمع الإسلامي ، بحسب الموقع الذي يحتله المعصوم في المجتمع ، إلى جنب ما أعطاه النبي صلىاللهعليهوآله من مواقف معصومة هادية في الدعوة والثورة والحكم والصلح مع المجتمع المشرك بحسب المواقع التي تبوّأها.
نظرية الحكم الإسلامي في الفكر الإمامي الاثني عشري :
تقوم نظرية الحكم الإسلامي في الفكر الإمامي الاثني عشري على النص والبيعة والشورى.
أمّا النصّ فيعيّن المؤهلين الذين لهم حقّ الحكم بالاسم أو بالمواصفات ، وأشهر النصوص قوله تعالى في سورة المائدة الآية ٤٤ : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ). وهذا النص من أوضح النصوص وأشملها في بيان ذلك ، والربانيون في الآية هي منزلة الأئمّة (١).
__________________
(١) وقد فصّلنا البحث في الآية في كتابنا شبهات وردود.
أمّا البيعة فتمكن المنصوص عليه من النهوض بالحكم فعلاً ، وسيرة النبي صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام توضّح دور البيعة وأهميّتها في التمكين والقدرة ، وليس في تأسيس الحقّ.
أمّا الشورى فهي اُسلوب ممارسة الحكم من الحاكم فيما لا نصّ فيه ، وسيرة النبي صلىاللهعليهوآله والإمام علي عليهالسلام غنية بالشواهد على ذلك.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) المائدة / ٤٤. فالحكم في زمن النبي صلىاللهعليهوآله مختصّ به ومَنْ يأذن له فيه ، وفي زمن أوصيائه عليهمالسلام مختصّ بهم ومَنْ يأذنوا له فيه ، وفي عصر الغيبة مختصّ بالفقهاء العدول.
إنّ مسألة إقامة الحدود في عصر الغيبة مسألة فقهية لا ربط بها بغيبة الإمام عليهالسلام ، فلا تتعطل الأحكام عند غيبته نظير وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، وقد أفتى الشيخ المفيد رحمهالله منذ القرن الرابع الهجري أنّها للقادر من الفقهاء العدول في عصر الغيبة.
قال في كتابه المقنعة : أمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى ، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد عليهمالسلام ، ومَنْ نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام ، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان ... ولهم أن يقضوا بينهم بالحقّ ، ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البيّنات ، ويفعلوا جميع ما جعل إلى القضاة في الإسلام ؛ لأنّ الأئمّة عليهمالسلام قد فوّضوا إليهم ذلك عند تمكّنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار ، وصحّ به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار (١).
__________________
(١) الشيخ المفيد المقنعة / ٨١٠.
المراحل التاريخيّة لعمل الأئمّة عليهمالسلام في مواجهة الفتن والضلالات الأساسيّة :
أخبر القرآن الكريم بوقوع انقلاب على الأعقاب ، وفتن وضلالات بعد النبي صلىاللهعليهوآله : (وما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران / ١٤٤ ، وقوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الانشقاق / ١٩. وأكَّد النبي صلىاللهعليهوآله ذلك بأحاديث كثيرة ، اختصر في بعضها وفصَّل في بعضها الآخر ؛ وممّا فصّل فيه إخباره صلىاللهعليهوآله بانقلاب بني اُميّة ودولة بني مروان ومُدَّتهم ، وانقلاب بني العباس على أهل البيت عليهمالسلام ، وفتنة الدَّجّال في آخر الزمان والسفياني. وقد أكَّد النبي صلىاللهعليهوآله أنّ النجاة من هذه الفتن وضلالاتها الناتجة عنها هو التمسك بالقرآن والعترة ، ذكرهما مقترنين مرّة كما في حديث الثقلين ، وذكر أهل بيته عاصمين من الضلالة منفردين أخرى كما في حديث السفينة : «مثل أهل بيتي كسفينة نوح مَنْ ركبها نجا»
ونحن في دراستنا لواقع الفتن من الناحية التاريخيّة ، ومواجهة أهل البيت عليهمالسلام لها ، وتطويقها وتأصيل خطّ الهدى لتبقى معالمه واضحة لمَنْ أراد أن يهتدي بهديهم ، نجد أنّ حركة الهداية التي اضطلع بها الأئمّة الاثنا عشر عليهمالسلام يمكن تقسيمها إلى أربعة مراحل (١) :
المرحلة الأولى : ورجالها علي والحسن عليهماالسلام ، ومعهم الزهراء عليهاالسلام. استهدفت حركتهم الهادية مواجهة انقلاب قريش المسلمة (وآثاره المباشرة) ، وقد توفيت الزهراء المطهّرة عليهاالسلام وهي غاضبة على رجالات الانقلاب ؛ لكي لا يتصور أحد أنَّ بإمكانه الاستدلال بشيء من سيرتهم على شيء من مفاهيم الإسلام وأحكامه. وفارق علي والحسن عليهماالسلام الحياة بعد أن أكملا نشر سنّة النبي صلىاللهعليهوآله في المجتمع الإسلامي كلّه ، وحفظاً لوحدته ووحدة
__________________
(١) هناك تقسيمات اُخرى لمراحل عمل الأئمّة سوف نتناولها إن شاء الله تعالى في دراستنا التفصيلية في هذا الموضوع.
القبلة ووحدة الكتاب من خطر تعدّد محتم ، وتربّى على يدهم جيل جديد من حَمَلَة السنّة النبويّة الصحيحة.
المرحلة الثانية : ورجالها الحسين والسجّاد والباقر والصادق عليهمالسلام.
وقد استهدفت مواجهة فتنة بني اُميّة وآثارها ، فأنتجت حركة الحسين عليهالسلام تهديم الإمامة الدينية لبني اُميّة ، وإعادة انتشار الأحاديث النبويّة التي تدعو إلى إمامة أهل البيت عليهمالسلام في المجتمع من جديد ، ثمّ استطاع من بعده ولده السجّاد ثمّ الباقر والصادق أن ينشروا السنّة النبويّة بتدوين علي عليهالسلام وإملاء النبي صلىاللهعليهوآله ، وتأسيس كيان علمي يحملها للأمّة رواية وفقهاً وتاريخاً.
المرحلة الثالثة : ورجالها الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي في الغيبة الصغرى عليهمالسلام. وقد استهدفت مواجهة فتنة بني العباس وآثارها ، فأنتجت تهديم الإمامة الدينية لبني العباس ، والمحافظة على التأسيس الشيعي الذي بناه الإمام الصادق عليهالسلام ، كوجود في الأمّة له محدّثوه وفقهاؤه ومراجعه ، وله عقيدته باثني عشر إماماً آخرهم المهدي عليهالسلام صاحب الغيبتين.
المرحلة الرابعة : ورجلها المهدي عليهالسلام ومعه المسيح عليهالسلام بعد ظهوره ؛ لمواجهة فتنة الدجّال والسفياني ، وتحقيق ما وعد الله تعالى أنبياءه من انتصار الحقّ في الأرض كلّها ، ووراثة الصالحين لها.
٤ ـ خلاصة بالواقع التاريخي لسيرة النبي صلىاللهعليهوآله وعلي والحسن عليهمالسلام في أداء وظيفتهم الإلهيّة قبل حركة الحسين
عهد النبوّة الخاتمة :
قال تعالى : (هُو الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الجمعة / ٢ ـ ٥.
الاُمّيون هم (قريش) ساكنو مكّة ومَنْ دانَ بدينهم من القبائل العربية في الحجاز ، ودينهم هو دين إبراهيم ، وقد حُرِّف على مراحل كان أخطرها نصب الأصنام على الكعبة ، وتحويل بيت إبراهيم الذي شُيِّد على التوحيد إلى بيت عبادة للأصنام. وكان آخر مراحل التحريف لدين إبراهيم هو ما قامت به قريش بعد حادثة الفيل من ابتداعها بدعة الحُمْس ، وفصلها بين العمرة والحج ، وفرضها على الناس أن يحجّوا بثياب قريش ليُقبَل حجُّهم ، وتسمَّوْا جميعاً باسم (آل الله) بدلاً من حصر ذلك في بيت عبد المطلب ، الذي أجرى الله تعالى على يده آياته ليميّزه بها عن بقية قريش.
وإلى جانب الأمِّيين هؤلاء حرَّف اليهود من أهل الكتاب كتاب الله (التوراة) ، وأدخلوا فيه الأساطير ، وكذلك حرَّف المسيحيون الإنجيل ، واتّخذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
وكذلك القبائل العربية في الحجاز اتّخذت قريشاً أرباباً من دون الله حين كانوا يشرعون لهم من الدين ما فيه تحريف لشريعة إبراهيم ، ويقبلون ذلك منهم.
بعث الله تعالى محمداً صلىاللهعليهوآله وأنزل عليه القران كتاب هدى ، ونسخ به كتب أهل الكتاب ، كما هدم به الإمامة الدينية لهم ولقريش.
وشاءت حكمة الله أن يجعل القرآن بحاجة إلى شرح وتفصيل : (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة / ١٨ ـ ١٩ ، وشاءت حكمته تعالى أن يكون النبي صلىاللهعليهوآله مصدر البيان : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِم) النحل / ٤٤. وبعبارة اُخرى : أن يؤخذ تفصيل القرآن وبيانه من سنة النبي (قوله وفعله وتقريره) ، وبذلك صار الإسلام عبارة عن كتاب الله وسنة النبي صلىاللهعليهوآله.
بلَّغ النبي صلىاللهعليهوآله القرآن وبيانه ، وقام المجتمع الإسلامي على اتّباع كتاب الله وسنة النبي صلىاللهعليهوآله.
وكَتَبَ علي عليهالسلام بأمر النبي صلىاللهعليهوآله كلَّ السنّة النبوية المطهّرة من خلال لقاءات خاصّة بينهما ، وجعلها في صُحُف لتكون تراثاً إلهياً للأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام ، نظير تراث آل هارون المذكور في القرآن (١) ؛ وبذلك صار علي عليهالسلام والطاهرون من ذرّيته عليهمالسلام المدخلَ الأمين والوحيد إلى سنة النبي صلىاللهعليهوآله الكاملة ، والعِدلَ الوحيد للقرآن لتحقيق الهداية
__________________
(١) قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ... إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة / ٢٤٦ ـ ٢٤٨.
التفصيلية التي جاء بها النبي صلىاللهعليهوآله. وقد أشار النبي صلىاللهعليهوآله إلى ذلك بقوله : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي» ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «أنا مدينة العلم وعلي بابها» ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «يا علي ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ إنّه لا نبي بعدي» ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «يا علي ، لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» ، وجعل النبي صلىاللهعليهوآله ولاية أوّل أهل بيته علي عليهالسلام هي ولايته إلى آخر الدنيا حين قال : «مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه».
وهكذا صار الدين عبارة عن الولاية لله تعالى وللرسول صلىاللهعليهوآله ولعلي عليهالسلام ، ثمّ الأئمّة من ولده عليهمالسلام ، وولاية الله عز وجل تعني اتّباع كتابه ، وولاية الرسول صلىاللهعليهوآله تعني اتّباع سنّته والاقتداء به ، وولاية علي عليهالسلام والأئمّة من ولده عليهمالسلام تعني أخذ سنّة النبي صلىاللهعليهوآله منهم ، والاقتداء بهم ، والاحتكام إليهم في زمانهم.
حاربت قريش المشركة بكلّ قواها دعوة النبي عليهالسلام ، وعاونها في ذلك يهود المدينة ، واستغلّت قريش حروب النبي صلىاللهعليهوآله التي كانت دفاعاً عن نفسه وعن أصحابه ؛ لتشويه صورته لدى القبائل العربية على أنّه رجل أساء إلى البيت الحرام ، وقطع الطرق الآمنة وسفك الدماء ، وأنّها تريد الأمن وخدمة البيت الحرام وخدمة الحجيج ، ونجحت قريش في تحشيد عشرة آلاف إنسان لحرب النبي صلىاللهعليهوآله في غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق ، وباءت جهودها بالفشل ، ورجعت تلك الأحلاف والأحزاب منهزمة.
ثمّ رأى النبي صلىاللهعليهوآله بعد فشل قريش في الأحزاب أنّ استمرار أسلوب الحرب معها ومع حلفائها لا ينفع ، فعدَلَ عنه إلى الصلح ، وفاجأ قريشاً في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة بقدومه صلىاللهعليهوآله ومعه ألف وخمسمئة من أصحابه ، وقد ساقوا معهم الهدي ليعتمروا ويصالحوا قريشاً ، ولكن قريش أخذتها حمية الجاهليّة فأصرَّت على رفض دخوله مكة ذلك العام ، وصالحته على الأمان عشر سنين ، وعلى أن يرجع تلك السنة ويعتمر العام القادم ، وبذلك افتضحت قريش عند القبائل بكونها هي التي تصدّ عن البيت الحرام وليس النبي صلىاللهعليهوآله. وانتشر الإسلام في قبائل الجزيرة العربية ، وبلغ عدد المسلمين
خلال سنتين ونصف عشرة آلاف ، ثمّ غدرت قريش بشروط الصلح ، وفاجأها النبي صلىاللهعليهوآله بجيش قوامه عشرة آلاف مسلم ، ونصر الله تعالى نبيّه ودخلت قريش الإسلام وهي راغمة.
عهد خلافة قريش المسلمة :
خطّطت قريش المسلمة للالتفاف على الإسلام واحتوائه بعد النبي صلىاللهعليهوآله تحت شعار (حسبنا كتاب الله) في حياة النبي صلىاللهعليهوآله من أجل فصل الكتاب عن السنّة. ونجحت في استلاب السلطة من صاحبها الشرعي الإمام علي عليهالسلام ، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) آل عمران / ١٤٤ ، وفرضت على المسلمين أن تكون الإمامة الدينية والسياسية في رجالات قريش وليست في أهل البيت عليهمالسلام ، وأعادت الأمر جاهليّة باسم الإسلام. وقال رجالاتها في السقيفة : إنّ العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش. ثمّ فرضت بيعة أبي بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان بالقوّة (١) ، وكانت سياستهم هي أن تتداول بطون قريش وقبائلها الإمامة الدينية
__________________
(١) روى البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب وهو يتحدّث عن مجريات الاُمور في السقيفة قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتّى فرّقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ، فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثمّ بايعته الأنصار. ونَزَوْنا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة! فقلت : قتل الله سعد بن عبادة. وروى الطبري في تاريخه ٤ / ٢٢٤ ، عن عمر بن شبة بسنده عن عمر بن ميمون : قال عمر لأبي طلحة الأنصاري : اختر خمسين رجلاً من الأنصار ، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم ، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه ، وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب [رأسيهما] ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر ، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس. وفي طبقات ابن سعد ٣ / ٣٤٢ بسنده عن سماك : أنّ عمر قال للأنصار : ادخلوهم بيتاً ثلاثة أيام ، فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم. وفي أنساب الأشراف للبلاذري ٤ / ٥٠٣ ، قال عمر : ليتبع الأقل الأكثر ، فمَنْ خالفكم فاضربوا عنقه. ومثله في كنز العمال ١٢ / ٦٨١. وقال عبد
والسياسية ويمنعونها بني هاشم (١).
رفع الخلفاء القرشيّون الثلاثة شعار (حسبنا كتاب الله) ، وأنَّ العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش ، في قبال شعار النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي». واجتهد الخلفاء القرشيون الثلاثة بأمور خالفوا فيها سنّة النبي صلىاللهعليهوآله ، وكان من أكثر اجتهاداتهم ضرراً على الإسلام والمسلمين منعهم نشر حديث النبي صلىاللهعليهوآله وتفسير القرآن ، وإحراقهم مدوّنات الصحابة في الحديث ، وفسح المجال لعلماء أهل الكتاب الذين أسلموا من نشر أساطيرهم بين المسلمين باسم الإسلام. وكان من أبرز مخالفاتهم لسنّة النبي صلىاللهعليهوآله بعد نكثهم وصيته صلىاللهعليهوآله في علي عليهالسلام هو تحريمهم متعة الحج. وفي ضوء هذه الاجتهادات الخاطئة فتحت البلاد شرقاً وغرباً ، وتعلّم أهل البلاد المفتوحة الإسلام على
__________________
الرحمن لعلي : بايع وإلاّ ضربت عنقك. أنساب الأشراف ٤ / ٥٠٨. واللفظ في صحيح البخاري ٩ / ٩٨ ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً.
(١) قال الطبري : حدَّثني ابن حميد قال : حدَّثنا سلمة ، عن محمّد بن إسحاق ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بينما عمر بن الخطاب وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر ، فقال بعضهم : فلان أشعر. وقال بعضهم : بل فلان أشعر. قال : فأقبلتُ ، فقال عمر : قد جاءكم أعلم الناس بها. فقال عمر : مَنْ شاعر الشعراء يابن عباس؟ قال : فقلت : زهير بن أبي سلمى. فقال عمر : هلمّ من شعره ما نستدلّ به على ما ذكرت. فقلت : امتدح قوماً من بني عبد الله بن غطفان ، فقال :
لو كانَ يقعدُ فوقَ الشمسِ من كرمٍ |
|
قومٌ بأوّلهم أو مجدهم قعدوا |
قومٌ أبوهم سنانٌ حين تنسِبُهم |
|
طابوا وطابَ من الأولادِ ما ولدوا |
إنسٌ إذا أمنوا ، جنٌ إذا فزعوا |
|
مرزَّؤونَ بهاليلٌ إذا حشدوا |
محسَّدونَ على ما كانَ من نعمٍ |
|
لا ينزع اللهُ منهم ما لهُ حُسِدوا |
فقال عمر : أحسن ، وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم ؛ لفضل رسول الله وقرابتهم منه. فقلت : وُفّقت يا أمير المؤمنين ، ولم تزل موفّقاً. فقال : يابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد؟ فكرهت أن أجيبه ، فقلتُ : إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني. فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة ، فتبجّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت. الطبري ٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٤.
أنّه ولاء لله وللخليفة من قريش ، وأنّ الدين هو كتاب الله وما شرّعه الخليفة القرشي ، ومن هنا عَرَضَ عبد الرحمن بن عوف على علي عليهالسلام أن يبايعه على كتاب الله والعمل بسيرة الشيخين ، ورفض علي عليهالسلام ذلك قائلاً : «إنّ سيرة النبي صلىاللهعليهوآله لا تحتاج إلى إجّيرى أحد» (١) ، وبويع عثمان على ذلك (٢). وهكذا عاش الناس خمساً وعشرين سنة بعد النبي صلىاللهعليهوآله في جاهليّة وضلالة مقنَّعة باسم الإسلام.
خالف عثمان سيرة الشيخين في قضية الولايات حيث آثر أقاربه بها ؛ فقد بدأ عهده باستقدام عمّه الحكم والد مروان ، وكان النبي صلىاللهعليهوآله قد نفاه إلى الطائف ، ثمّ جعل مروان بن الحكم (٣) كاتبه الخاصّ بعد أن زوّجه ابنته ، ثمّ عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة سنة
__________________
(١) الإجّيرى بالكسر والتشديد : العادة. انظر تاج العروس مادة (أجر).
(٢) قال اليعقوبي في تاريخه ٢ / ١٦٢ : وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري لمّا توفي عمر واجتمعوا للشورى سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً ، ففعلوا ذلك ، فأقام ثلاثة أيام ، وخلا بعلي بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال : لنا الله عليك إن ولّيت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال عليهالسلام : «أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ما استطعت». فخلا بعثمان فقال له : لنا الله عليك إن ولّيت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال : لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر. ثمّ خلا بعلي عليهالسلام فقال له مثل مقالته الأولى ، فأجابه مثل الجواب الأوّل ، ثمّ خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى ، فأجابه مثل ما كان أجابه ، ثمّ خلا بعلي عليهالسلام فقال له مثل المقالة الأولى ، فقال : «إنّ كتاب الله وسنّة نبيّه لا يحتاج معهما إلى إجّيرى أحد ، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي». فخلا بعثمان فأعاد عليه القول ، فأجابه بذلك الجواب ، وصفّق على يده.
(٣) قال ابن حجر : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس ، وهو ابن عمّ عثمان وكاتبه في خلافته ، يُقال : ولد بعد الهجرة بسنتين ، وقيل : بأربع. وقال ابن شاهين : مات النبي صلىاللهعليهوآله وهو ابن ثمان سنين ، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين. وكان مع أبيه بالطائف إلى أن أذن عثمان للحكم في الرجوع إلى المدينة فرجع مع أبيه ، ثمّ كان من أسباب قتل عثمان ، ثمّ شهد الجمل مع عائشة ، ثمّ صفين مع معاوية ، ثمّ ولي إمرة المدينة لمعاوية ، ثمّ لم يزل بها إلى أن أخرجهم ابن الزبير في أوائل إمرة يزيد بن معاوية ، فكان ذلك من أسباب وقعة الحرّة. وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية فبايعه بعض أهل الشام في قصّة طويلة. ثمّ كانت الوقعة بينه وبين الضحاك بن قيس ، وكان أميراً لابن الزبير ، فانتصر مروان وقتل الضحاك ، واستوثق له ملك الشام ، ثمّ توجّه إلى مصر فاستولى عليها ،
٢٥ هجرية وعيَّن أخاه لاُمّه الوليد بن عقبة الفاسق بنص القرآن. وفي سنة ٢٦ هجرية جمع الشام كلّها لمعاوية ، وفي سنة ٢٧ هجرية جمع مصر كلّها لأخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان النبي صلىاللهعليهوآله قد أهدر دمه في فتح مكّة وأجاره عثمان. وفيها أيضاً عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولّى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس ، وهو ابن أربع وعشرين سنة ، وضم إليه ولاية فارس ؛ وبسبب ذلك شاع التذمّر في قريش ، وصار المتذمّرون وهم عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وعائشة حزباً ، وعثمان ومعه بنو أبيه بنو اُميّة حزباً. وتعاظم الخلاف بين الحزبين القرشيين سنة ٢٨ هجرية حين أعلن عبد الرحمن بن عوف المرشّح الأكيد لخلافة عثمان قطيعته لعثمان ، وبدأ الخصوم يذكرون من سيرة النبي صلىاللهعليهوآله وأحاديثه ما يضعِّفون به جانب عثمان وبني اُميّة ، وبذلك انكسرت سياسة منع الحديث ، وضعفت سيطرة السلطة.
حركة علي عليهالسلام لإحياء السنّة النبويّة :
في مثل هذا الظرف السياسي قرَّر علي عليهالسلام البدء بحركته الإحيائية لسنّة النبي صلىاللهعليهوآله في المجتمع ، وأعلن عن عزمه الحجّ تلك السنّة ، ولبّى بحج التمتّع الذي أمر به النبي وحرَّمته الخلافة القرشية (١) ، وأوعز إلى أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله الذين على رأيه ، وهم أبو ذر وعمّار
__________________
ثمّ بغته الموت فعهد إلى ولده عبد الملك. وفي التعديل والتجريح للحافظ الباجي ٢ / ٨٠٤ ، قال عمرو بن علي : بويع مروان بن الحكم وهو ابن إحدى وستين سنة ، في النصف من ذي القعدة سنة أربع وستين ، فعاش خليفة تسعة أشهر وثماني عشرة ليلة ، ومات لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين.
(١) روى مالك في الموطّأ : أنّ المقداد بن الأسود دخل على علي عليهالسلام بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقاً وخبطاً ، فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى أن يُقرن بين الحجّ والعمرة ، فخرج علي عليهالسلام وعلى يديه أثر الدقيق والخبط ، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه حتّى دخل على عثمان ، فقال : «أنت تنهى عن أن يُقْرَنَ بين الحجّ والعمرة؟!». فقال عثمان : ذلك رأيي. فخرج عليٌّ عليهالسلام مغضباً وهو يقول : «لبيك اللّهمّ لبيك بحجّة وعمرة معاً». وفي سنن النسائي ، ومستدرك الصحيحين ، ومسند أحمد ـ واللفظ للأول ـ
والمقداد ونظراؤهم أن يبدؤوا نشر الحديث النبوي ، ويعرِّفوا الناس بمفتاح العلم والهداية بعد النبي صلىاللهعليهوآله وهم أهل بيته عليهمالسلام.
انتهى الانشقاق الداخلي لقريش بنجاح طرف عائشة وطلحة في التحريض على عثمان ، ثمّ نجاحهم في قتل عثمان ، وكانوا يترقّبون أن يتّجه الناس إلى طلحة ليبايعوه ، غير أنّهم فوجئوا أنّ الناس اتّجهوا إلى علي عليهالسلام ، يقودهم عمّار وأبو الهيثم بن التّيهان وأبو سعيد الخُدري وغيرهم من الصحابة الأنصار ، ومعهم مالك الأشتر ونظراؤه من التابعين ، وأصرّوا على علي عليهالسلام أن يبايعوه.
وقام علي عليهالسلام بواجبه كوصي للنبي صلىاللهعليهوآله ، وإمام هدى بأمر الله تعالى ، وشاهد إلهي على الناس ، مسؤول عن حفظ الرسالة ونشرها في المجتمع خير قيام ؛ [حيث] نهض بالأمر بعد قتل عثمان وبيعة الأمّة له ، فأكمل عمله الذي بدأه في اُخريات عهد عثمان ؛ أكمل نشر سنّة النبي صلىاللهعليهوآله وإحياء العمل بها ، والحثّ على تدوينها ، والمنع من التحديث بالأساطير الإسرائيلية ، وتثقف الناس ثقافة إسلاميّة صحيحة. ولم تطب قريش بذلك نفساً فنكثت بيعة علي ، وعملت على تفريق الأمّة ، وتصدّى لذلك وجوه قريش آنذاك ، وهم ؛ عائشة وطلحة ، والزبير ومعاوية ، وحاربوه في البصرة في الحرب المعروفة بحرب الجمل. ولمّا انكسروا فيها التفّوا حول معاوية في الشام وحاربه في صفّين ، ثمّ وقعت الفتنة
__________________
عن سعيد بن المسيب قال : حجّ علي وعثمان ، فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتّع ، فقال علي عليهالسلام : «إذا رأيته ارتحل فارتحلوا». فلبّى علي وأصحابه بالعمرة .... قال الإمام السندي بهامشه : قال : «إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا» ، أي ارتحلوا معه ملبّين بالعمرة ؛ ليعلم أنّكم قدّمتم السنّة على قوله ، وأنّه لا طاعة له في مقابل السنّة. وفي صحيح البخاري ، وسنن النسائي ، وسنن الدارمي ، وسنن البيهقي ، ومسند أحمد ، ومسند الطيالسي وغيرها ، عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعلياً ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى علي عليهالسلام أهلّ بهما «لبيك بعمرة وحجّة معاً». قال : «ما كنت لأدع سنّة النبي صلىاللهعليهوآله لقول أحد». وفي لفظ النسائي : فقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى عنها؟ فقال علي عليهالسلام : «لم أكن لأدع سنّة رسول الله لأحد من الناس». انظر تفصيل المصادر في كتابنا شبهات وردود ط ٤ / ٢١٤ ـ ٢٢٤ بحث متعة الحج.
في جيش علي عليهالسلام وتجمهر الأوفياء لسنن عمر في العبادة وغيرها (١) فحاربوه في النهروان.
استطاع معاوية أن يطوّق نهضة علي عليهالسلام ، وحُصرت عملية إحياء سنّة النبي صلىاللهعليهوآله ونشرها بين أهل البلاد المفتوحة في الجانب الشرقي من البلاد الإسلاميّة ، وصارت الكوفة مركز تلك النهضة الإحيائية لسنّة النبي صلىاللهعليهوآله والعمل بها.
__________________
(١) افتتن قسم من المسلمين الذين في جيش علي عليهالسلام بعد أن رفع معاوية وأصحابه القرآن داعين إلى الاحتكام إليه ، وانطلت عليهم حيلة معاوية وعمرو بن العاص. وهذا القسم كان قد تعوَّد على السنن التي أجراها عمر وخالف فيها الرسول ، ولم يستجيبوا للتصحيح الذي قاده علي عليهالسلام في إحياء السنّة النبويّة ، وقد روى لنا الكليني في الكافي ٨ / ٥٩ قطعة من كلام علي عليهالسلام يتحدّث عن هؤلاء : «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها ، وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي ، وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجل وسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليهالسلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليهاالسلام ، ورددت صاع رسول صلىاللهعليهوآله كما كان ... ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهنّ إلى أزواجهن ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأرحام ، ... ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعطي بالسوية ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ... وسوّيت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب ، وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفّين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ... ، وحملت الناس على حكم القرآن ، وعلى الطلاق على السنّة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ... إذاً لتفرقوا عنّي! والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يُقاتل معي : يا أهل الإسلام ، غُيّرت سنّة عمر ؛ ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. ما لقيت من هذه الأمة ...». أقول : كلامه عليهالسلام في أواسط خلافته قبل قصة النهروان.
أمّا الجانب الغربي من البلاد الإسلاميّة فقد بقيت منغلقة على هذه النهضة ، وتبنّت الشام محاربة علي والكيد له ، ومحاربة الأحاديث النبويّة الصحيحة ، وشوََّه معاوية عن طريق الأخبار الكاذبة صورة علي لدى الشاميين ، وصوَّره لهم شخصاً مجرماً بحقّ الإسلام ، وأنّ دم عثمان بعهدته ، وسوَّغ لهم لعنه ومحاربته ، نظير ما فعلت قريش المشركة مع النبي صلىاللهعليهوآله لمّا هاجر إلى المدينة. وصار يشنّ الغارات على أطراف بلاد علي عليهالسلام لسلب الأموال وإرعاب الناس ؛ ليطوّق تجربة علي عليهالسلام الإحيائية للسنّة النبويّة ، ويحدّها من الانتشار. واستشهد علي عليهالسلام وهو يعبِّئ الناس لخوض معركة جديدة مع معاوية.
صلح الحسن عليهالسلام لحفظ وحدة القبلة وتثقيف أهل الشام بالسنّة :
بايع أهل العراق الحسن عليهالسلام تبعاً للنصوص النبويّة الواردة في حقّ أهل البيت عليهمالسلام التي تعيّنهم أئمّة هدى وحجج إلهيين بعد النبي صلىاللهعليهوآله التي أحيا نشرها علي عليهالسلام ، وكانت حكومته مشروعة ؛ لأنّ بيعة الأمّة وقعت في محلّها الشرعي ، وبايع أهل الشام معاوية ، ولم تكن بيعة مشروعة لأنّها
انقسمت [فيها] الأمّة بذلك إلى كيانين سياسيين أحدهما : كيان سياسي عراقي يرأسه الحسن عليهالسلام الموصول بكتاب الله وسنّة نبيّه ، وهو عازم على مواصلة مسيرة أبيه في إحياء السنّة النبوية ، والعمل بها ونشرها بين المسلمين.
وثانيهما : كيان سياسي شامي يرأسه معاوية الموصول بسيرة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهو عازم على إحيائها من جديد.
عرض معاوية الصلح على الحسن عليهالسلام لحقن الدماء ، وأن يبقى كلّ طرف على البلاد التي بايعته واقتنعت به.
وكان الحسن عليهالسلام أمام هذا العرض بين إحراجين :
[الأوّل :] فهو إن رفض اُطروحة الصلح يكون قد سجّل على نفسه أمام الشاميين مخالفة لقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللَّهِ