تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

وَاشْرَبُوا) ، أكلا وشربا ، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإفراد والتذكير. وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب.

و (ما) موصولة ، والباء سببية ، أي بسبب العمل الذي كنتم تعملونه وهو العمل الصالح الذي يومئ إليه قوله : (الْمُتَّقِينَ) وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أوتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه : لا فضل لي عليك وإنما هو مالك ، أو نحو ذلك.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠))

حال من ضمير (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [الطور : ١٩] ، أي يقال لهم كلوا واشربوا حال كونهم متكئين ، أي وهم في حال إكلة أهل الترف المعهود في الدنيا ، فقد كان أهل الرفاهية يأكلون متكئين وقد وصف القرآن ذلك في سورة يوسف [٣١] بقوله : (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي لحز الطعام والثمار. وفي الحديث «أمّا أنا فلا آكل متكئا» وكان الأكاسرة ومرازبة الفرس يأكلون متكئين وكذلك كان أباطرة الرومان وكذلك شأنهم في شرب الخمر ، قال الأعشى :

نازعتهم قضب الريحان متكئا

وخمرة مزة راووقها خضل

والسّرر : جمع سرير ، وهو ما يضطجع عليه.

والمصفوفة : المتقابلة ، والمعنى : أنهم يأكلون متكئين مجتمعين للتأنس كقوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الصافات : ٤٤].

وجملة (وَزَوَّجْناهُمْ) عطف على (مُتَّكِئِينَ) فهي في موضع الحال.

ومعنى (زَوَّجْناهُمْ) : جعلنا كل فرد منهم زوجا ، أي غير مفرد ، أي قرنّاهم بنساء حور عين. والباء للمصاحبة ، أي جعلنا حورا عينا معهم ، ولم يعد فعل (زَوَّجْناهُمْ) إلى (بِحُورٍ) بنفسه على المفعولية كما في قوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] ، لأن (زوجنا) في هذه الآية ليس بمعنى : أنكحناهم ، إذ ليس المراد عقد النكاح لنبوّ المراد عن هذا المعنى ، فالتزويج هنا وارد بمعناه الحقيقي في اللغة وهو جعل الشيء المفرد زوجا وليس واردا بمعناه المنقول عنه في العرف والشرع ، وليس الباء لتعدية فعل (زَوَّجْناهُمْ) بتضمينه معنى : قرنّا ، ولا هو على لغة أزد شنوة فإنه لم يسمع في فصيح الكلام : تزوج بامرأة.

وحور : صفة لنساء المؤمنين في الجنة ، وهنّ النساء اللاتي كنّ أزواجا لهم في الدنيا

٦١

إن كنّ مؤمنات ومن يخلقهن الله في الجنة لنعمة الجنة وحكم نساء المؤمنين اللاتي هن مؤمنات ولم يكن في العمل الصالح مثل أزواجهن في لحاقهن بأزواجهن في الدرجات في الجنة تقدم عند قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) في سورة الزخرف [٧٠] وما يقال فيهن يقال في الرجال من أزواج النساء الصالحات.

و (عِينٍ) صفة ثانية ، وحقها أن تعطف ولكن كثر ترك العطف.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

اعتراض بين ذكر كرامات المؤمنين ، والواو اعتراضية.

والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها ، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكون الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقّنون أبناءهم الإيمان.

والمعنى : والمؤمنون الذين لهم ذريات مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم.

وقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، وهل يستطيع أحد أن يقي النار غيره إلا بالإرشاد. ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته.

والتنكير في قوله : (بِإِيمانٍ) يحتمل أن يكون للتعظيم ، أي بإيمان عظيم ، وعظمته بكثرة الأعمال الصالحة ، فيكون ذلك شرطا في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد.

ويحتمل أن يكون للنوعية ، أي بما يصدق عليه حقيقة الإيمان.

وقرأ الجمهور (وَاتَّبَعَتْهُمْ) بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل. وقرأه أبو عمرو وحده (وَأَتْبَعْناهُمْ) بهمزة قطع وسكون التاء.

وقوله : (ذُرِّيَّتُهُمْ) الأول قرأه الجمهور بصيغة الإفراد. وقرأه أبو عمرو ذرياتهم بصيغة جمع ذرية فهو مفعول (أَتْبَعْناهُمْ). وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضا

٦٢

لكن مرفوعا على أنه فاعل (اتَّبَعَتْهُمْ) ، فيكون الإنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعملوا مثل عملهم.

وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عديّ وأبو نعيم وابن مردويه حديثا مسندا إلى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه (أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي) لتقرّ بهم عينه ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) إلى قوله : (مِنْ شَيْءٍ).

وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرّة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به.

وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المرسي الأندلسي نزيل تونس سنة ١٠١٣ ثلاث عشرة وألف في كتاب له سمّاه «الأنوار النبوية في آباء خير البرية» (١) قال في خاتمة الكتاب «قد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام فكنت أتعلم فيهما (كذا) معا وسني حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحا من عود الجوز كأني انظر الآن إليه مملّسا من غير طفل (اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيته طفال كغراب) ، فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفا حرفا تدريبا وتقريبا فإذا سميت له حرفا أعجميا يكتب لي حرفا عربيا حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمّي وأخي مع أنه رحمه‌الله قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة وقد كان يلقّنني ما أقوله عند رؤيتي الأصنام ، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جيّان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء ، فتخلص لي من معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري ...» إلخ.

__________________

(١) مخطوط عندي.

٦٣

وإيثار فعل (أَلْحَقْنا) دون أن يقال : أدخلنا معهم ، أو جعلنا معهم لعله لما في معنى الإلحاق من الصلاحية للفور والتأخير ، فقد يكون ذلك الإلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده. وفعل الإلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم. وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ.

و (أَلَتْناهُمْ) نقصناهم ، يقال : آلته حقه ، إذا نقصه إياه ، وهو من باب ضرب ومن باب علم.

فقرأه الجمهور بفتح لام (أَلَتْناهُمْ). وقرأه ابن كثير بكسر لام (أَلَتْناهُمْ) ، وتقدم عند قوله تعالى : (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) في سورة الحجرات [١٤]. والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى (الَّذِينَ آمَنُوا).

والمعنى : أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلا منه على الذين آمنوا دون عوض احتراسا من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير ، وحمالة الديات ، وخلاص الغارمين ، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم ، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة.

و (مِنْ عَمَلِهِمْ) متعلق ب (ما أَلَتْناهُمْ) و (من) للتبعيض ، و (من) التي في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) لتوكيد النفي وإفادة الإحاطة والشمول للنكرة.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ).

جملة معترضة بين جملة (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ) وبين جملة (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) [الطور : ٢٢] ، قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل ، و (كُلُّ امْرِئٍ) يعمّ أهل الآخرة كلهم. وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة.

والمعنى : انتفى إنقاصنا إياهم شيئا من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهن عنده والمتقون لمّا كسبوا العمل الصالح كان لازما لهم مقترنا بهم لا يسلبون منه شيئا ، والمراد بما كسبوا : جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس

٦٤

العمل نفسه فقد انقضى في إبانه.

وفي هذا التعليل كنايتان : إحداهما : أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم ، وثانيتهما : أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولو لا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسنا مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.

والكسب : يطلق على ما يحصله المرء بعلمه لإرادة نفع نفسه.

ورهين : فعيل بمعنى مفعول من الرهن وهو الحبس.

[٢٢ ، ٢٣] (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

عطف على (فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) [الطور : ١٧] إلخ.

والإمداد : إعطاء المدد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه ، أي زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهة ولحما مما يشتهون من الفواكه واللحوم التي يشتهونها ، أي ليوتي لهم بشيء لا يرغبون فيه فلكل منهم ما اشتهى.

وخص الفاكهة واللحم تمهيدا لقوله : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفته نفوسهم ، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر كسروا سورة حدتها في البطن بالشواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور :

سفّود شرب نسوه عند مفتأد

ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النّقل ـ بضم النون وفتحها ـ ويكون من ثمار ومقاث.

ولذلك جيء بقوله : (يَتَنازَعُونَ) حالا من ضمير الغائب في (أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) إلخ. والتنازع أطلق على التداول والتعاطي. وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلوا من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع ، ويسمى الماتح بمثناة فوقية.

٦٥

وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه‌السلام لا بنتي شعيب لما رأى انقباضهما عن الاندماج في الرعاء. وذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤياه نزعه على القليب ثم نزع أبي بكر رضي‌الله‌عنه ثم نزع عمررضي‌الله‌عنه. ثم استعير أو جعل مجازا عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب ، قال الأعشى:

نازعتهم قضب الريحان متكئا

وخمرة مزّة راووقها خضل

والمعنى : أن بعضهم يصبّ لبعض الخمر ويناوله إيثارا وكرامة.

وقيل : تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام :

فظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهدّاب الدمقس المفتّل

والكأس : إناء تشرب فيه الخمر لا عروة له ولا خرطوم ، وهو مؤنث ، فيجوز أن يكون هنا مرادا به الإناء المعروف ومرادا به الجنس ، وتقدم قوله في سورة الصافات [٤٥] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ، وليس المراد أنهم يشربون في كأس واحدة بأخذ أحدهم من آخر كأسه. ويجوز أن يراد بالكأس الخمر ، وهو من إطلاق اسم المحل على الحالّ مثل قولهم : سال الوادي وكما قال الأعشى :

نازعتهم قضب الريحان (البيت السابق آنفا).

وجملة (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) يجوز أن تكون صفة ل «كأس» وضمير (لا لَغْوٌ فِيها) عائدا إلى «كأس» ووصف الكأس ب (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ). إن فهم الكأس بمعنى الإناء المعروف فهو على تقدير : لا لغو ولا تأثيم يصاحبها ، فإن (في) للظرفية المجازية التي تؤوّل بالملابسة ، كقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) [الحج : ٧٨] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ففيهما ـ أي والديك ـ فجاهد» ، أي جاهد ببرهما ، أو تأوّل (في) بمعنى التعليل كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا».

وإن فهم الكأس مرادا به الخمر كانت (في) مستعارة للسببية ، أي لا لغو يقع بسبب شربها. والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغو والإثم بالسباب والضرب ونحوه ، أي أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا ، ويجوز أن تكون جملة (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) مستأنفة ناشئة عن جملة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) ، ويكون ضمير (فِيها) عائدا إلى (جَنَّاتٍ) من قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) [الطور : ١٧] مثل

٦٦

ضمير (فِيها كَأْساً) ، فتكون في الجملة معنى التذييل لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شرب أهل الجنة.

ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً) إلى قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) في سورة النبأ [٣١ ـ ٣٥].

واللغو : سقط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل.

والتأثيم : ما يؤثّم به فاعله شرعا أو عادة من فعل أو قول مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالبا ، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله لأنهم من عالم الحقائق والكمالات فهم حكماء علماء ، وقد تمدّح أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك ، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرّم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم.

وقرأ الجمهور (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) برفعهما على أن (لا) مشبّهة ب (ليس). وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن (لا) مشبهة ب (إنّ) وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غير محتملة ومثله قولها في حديث أم زرع : «زوجي كليل تهامة لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سامة» رويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

عطف على جملة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) [الطور : ٢٣] فهو من تمامه وواقع موقع الحال مثله ، وجيء به في صيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر ، أي ذلك لا ينقطع بخلاف لذات الدنيا فإنها لا بد لها من الانقطاع بنهايات تنتهي إليها فتكرّه لأصحابها الزيادة منها مثل الغول ، والإطباق ، ووجع الأمعاء في شرب الخمر ومثل الشبع في تناول الطعام وغير ذلك من كل ما يورث العجز عن الازدياد عن اللذة ويجعل الازدياد ألما.

ولم يستثن من ذلك إلا لذات المعارف ولذات المناظر الحسنة والجمال.

ولما أشعر فعل (يَطُوفُ) بأن الغلمان يناولونهم ما فيه لذاتهم كان مشعرا بتجدد المناولة وتجدد الطواف وقد صار كل ذلك لذة لا سامة منها.

والطواف : مشي متكرر ذهابا ورجوعا وأكثر ما يكون على استدارة ، ومنه طواف الكعبة ، وأهل الجاهلية بالأصنام ولأجله سمي الصنم دوارا لأنهم يدورون به. وسمي

٦٧

مشي الغلمان بينهم طوافا لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقا ودوائر ليستووا في مرآهم كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الصافات [٤٤] (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ). ومنه جعلت مجالس الدروس حلقا وكانت مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا. وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل : أدارت الحارثة الخمر ، وهذا الذي يناول الخمر المدير.

وترك ذكر متعلق (يَطُوفُ) لظهوره من قوله : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) وقوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) [الطور : ٢٢] ودل عليه قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) [الزخرف : ٧١] وقوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [الصافات : ٤٥ ، ٤٦] فلما تقدم ذكر ما شأنه أن يطاف به هنا ترك ذكره بعد فعل (يُطافُ) بخلاف ما في الآيتين الأخريين.

والغلمان : جمع غلام ، وحقيقته من كان في سنّ يقارب البلوغ أو يبلغه ، ويطلق على الخادم لأنهم كانوا أكثر ما يتخذون خدمهم من الصغار لعدم الكلفة في حركاتهم وعدم استثقال تكليفهم ، وأكثر ما يكونون من العبيد ومثله إطلاق الوليدة على الأمة الفتية كأنها قريبة عهد بولادة أمها.

فمعنى قوله : (غِلْمانٌ لَهُمْ) : خدمة لهم. وعبر عنهم بالتنكير وتعليق لام الملك بضمير (الَّذِينَ آمَنُوا) دون الإضافة التي هي على تقدير اللام لما في الإضافة من معنى تعريف المضاف بالانتساب إلى المضاف إليه عند السامع من قبل. وليس هؤلاء الغلمان بمملوكين للمؤمنين ولكنهم مخلوقون لخدمتهم خلقهم الله لأجلهم في الجنة قال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الإنسان : ١٩] وهذا على نحو قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء : ٥] أي صنف من عبادنا غير معروفين للناس.

وشبهوا باللؤلؤ المكنون في حسن المرأى. واللؤلؤ : الدرّ. والمكنون : المخزون لنفاسته على أربابه فلا يتحلى به إلا في المحافل والمواكب فلذلك يبقى على لمعانه وبياضه.

[٢٥ ـ ٢٨] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

عطف على جملة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) [الطور : ٢٣]. والتقدير : وقد أقبل بعضهم

٦٨

على بعض يتساءلون ، أي هم في تلك الأحوال قد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

ولما كان إلحاق ذرياتهم بهم مقتضيا مشاركتهم إياهم في النعيم كما تقدم آنفا عند قوله: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] كان هذا التساؤل جاريا بين الجميع من الأصول والذريات سائلين ومسئولين.

وضمير (بَعْضُهُمْ) عائد إلى (الْمُتَّقِينَ) [الطور : ١٧] وعلى (ذُرِّيَّتُهُمْ) [الطور : ٢١].

وجملة (قالُوا) بيان لجملة (يَتَساءَلُونَ) على حد قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] ضمير (قالُوا) عائد إلى البعضين ، أي يقول كل فريق من المتسائلين للفريق الآخر هذه المقالة.

والإشفاق : توقع المكروه وهو ضد الرجاء ، وهذا التوقع متفاوت عند المتسائلين بحسب تفاوت ما يوجبه من التقصير في أداء حق التكليف ، أو من العصيان. ولذلك فهو أقوى في جانب ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بأصولهم بدون استحقاق. ولعله في جانب الذريات أظهر في معنى الشكر لأن أصولهم من أهلهم فهم يعلمون أن ذرياتهم كانوا مشفقين من عقاب الله تعالى أو بمنزلة من يعلم ذلك من مشاهدة سيرهم في الوفاء بحقوق التكليف ، وكذلك أصولهم بالنسبة إلى من يعلم حالهم من أصحابهم أو يسمع منهم إشفاقهم واستغفارهم. وحذف متعلق (مُشْفِقِينَ) لأنه دل عليه (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ).

وعلى هذا الوجه يكون معنى (في) الظرفية. ويتعلق (فِي أَهْلِنا) ب (كُنَّا) ، أي حين كنا في ناسنا في الدنيا. ف (أَهْلِنا) هنا بمعنى آلنا.

ويجوز أن تكون المقالة صادرة من الذين آمنوا يخاطبون ذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم يكونوا يحسبون أنهم سيلحقون بهم : فالمعنى : إنا كنا قبل مشفقين عليكم ، فتكون (في) للظرفية المجازية المفيدة للتعليل ، أي مشفقين لأجلكم.

ومعنى (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) من علينا بالعفو عنكم فأذهب عنا الحزن ووقانا أن يعذبكم بالنار. فلما كان عذاب الذريات يحزن آباءهم جعلت وقاية الذريات منه بمنزلة وقاية آبائهم فقالوا : (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) إغراقا في الشكر عنهم وعن ذرياتهم ، أي فمنّ علينا جميعا ووقانا جميعا عذاب السموم.

والسموم بفتح السين ، أصله اسم الريح التي تهبّ من جهة حارّة جدا فتكون جافّة شديدة الحرارة وهي معروفة في بلاد العرب تهلك من يتنشقها. وأطلق هنا على ريح جهنم

٦٩

على سبيل التقريب بالأمر المعروف ، كما أطلقت على العنصر الناري في قوله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) في سورة الحجر [٢٧] وكل ذلك تقريب بالمألوف.

وجملة (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم ، أي كنا من قبل اليوم ندعوه ، أي في الدنيا.

وحذف متعلق (نَدْعُوهُ) للتعميم ، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا ، وسبب العموم داخل ابتداء ، وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة.

ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلا على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإجابة ، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» فذكر «وولد صالح يدعو له بخير».

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة (أنه) على تقدير حرف الجر محذوفا حذفا مطّردا مع (أنّ) وهو هنا اللام تعليلا ل (نَدْعُوهُ) ، وقرأه الجمهور بكسر همزة (إن) وموقع جملتها التعليل.

والبر : المحسن في رفق.

والرحيم : الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة.

وضمير الفصل لإفادة الحصر وهو لقصر صفتي (الْبَرُّ) و (الرَّحِيمُ) على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق ، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة ، وغير الله برّ في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئا.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩))

تفريع على ما تقدم كله من قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الطور : ٧] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه ، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في

٧٠

استمرار التذكير حكمة أرادها الله ، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلا في إيمانهم ، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدوام على التذكير.

فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. ولما كان أثر التذكير أهمّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإيمان روعي ما يزيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثباتا على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له : هو كاهن أو هو مجنون ، فربط الله جأش رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ). والباء في (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير (أَنْتَ).

ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢] ، ولذلك حسن تعقيبه بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] مصرحا فيه ببعض أقوالهم ، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم.

وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها «ما أنت بكاهن» دون : فلست بكاهن ، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر.

وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو (بِكاهِنٍ) أو (مَجْنُونٍ) لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإخبار عنه بالخبر كقولنا : الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء. وأفاد أيضا قصرا إضافيا بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم : هو كاهن أو مجنون ، على طريقة قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١].

وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان ، وجيء بالحال قبل الخبر ، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر ، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين.

وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإضافة وبوصفه الرب لإفادة

٧١

لطفه تعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ربه فهو يربّه ويدبر نفعه ، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه.

وقوله تعالى : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ردّ على مقالة شيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو كاهن ، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال : هو مجنون ، ويدل لكونه ردا على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] ما سيكون وما خفي مما هو كائن.

والكاهن : الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسجاع قصيرة. وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة ، ونظيرها في العبرية (الكوهين) وهو حافظ الشريعة والمفتي بها ، وهو من بني (لاوي) ، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) في سورة الشعراء [٢١٠].

وقد اكتفي في إبطال كونه كاهنا أو مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه ، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاف في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠))

إن كانت (أَمْ) مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وإلا فهي عطف على جملة (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩].

وعن الخليل كل ما في سورة الطور من (أم) فاستفهام وليس بعطف ، يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات. وهذا ضابط ظاهر. ومراده : أن الاستفهام مقدر بعد (أم) وهي منقطعة وهي للإضراب عن مقالتهم المردودة بقوله : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم : «هو شاعر نتربص به ريب المنون». وعدل عن الإتيان بحرف (بل) مع أنه أشهر في الإضراب الانتقالي ، لقصد تضمن (أَمْ) للاستفهام. والمعنى : بل أيقولون شاعر إلخ. والاستفهام المقرّر إنكاري.

ومناسبة هذا الانتقال أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدوام على التذكير يشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله تعالى : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر.

٧٢

روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس : تربصوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان ، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش.

وعن الضحاك ومجاهد : أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بنو عبد الدار : هو شاعر تربصوا به ريب المنون ، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها ، أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر ، وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون. وجاء (يَقُولُونَ) مضارعا للدّلالة على تجدد ذلك القول منهم. والتربص مبالغة في : الرّبص ، وهو الانتظار.

والريب هنا : الحدثان ، وفسر بصرف الدهر ، وعن ابن عباس : ريب في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور (رَيْبَ الْمَنُونِ).

والباء في (بِهِ) يجوز أن تكون للسبب ، أي بسببه ، أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة ب (نَتَرَبَّصُ) ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق ب (رَيْبَ الْمَنُونِ) حالا منه مقدمة على صاحبها ، أي حلول ريب المنون به.

والمنون : من أسماء الموت ومن أسماء الدهر ، ويذكّر. وقد فسر بكلا المعنيين ، فإذا فسر بالموت فإضافة (رَيْبَ) إليه بيانية ، أي الحدثان الذي هو الموت وإذا فسر المنون بالدهر فالإضافة على أصلها ، أي أحداث الدهر من مثل موت أو خروج من البلد أو رجوع عن دعوته ، فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم : فسيهلك ، فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيان ريب الموت أو إن أرادوه مثالا لريب الدهر ، وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم.

وقد ورد (رَيْبَ الْمَنُونِ) في كلام العرب بالمعنيين ؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب :

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

ومن وروده بمعنى حدثان الدهر قول الأعشى :

أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به

ريب المنون ودهر متبل خبل

أراد أضرّ بذاته حدثان الدهر ، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب.

٧٣

ولما كان انتفاء كونه شاعرا أمرا واضحا يكفي فيه مجرد التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحلّ به ما حلّ بالشعراء الذين هم من جملة الناس.

فأمر الله تعالى نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول : (تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور : ٣١] ، وهو جواب منصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانيين أو حلول المنية مشترك الإلزام لا يدري أحدنا ما ذا يحل بالآخر.

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١))

وردت جملة (قُلْ تَرَبَّصُوا) مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة (يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] إلخ ، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأمر بقوله ، ومثله قوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٥١].

والأمر في (تَرَبَّصُوا) مستعمل في التسوية ، أي سواء عندي تربصكم بي وعدمه. وفرع عليه (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذ لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل.

وتأكيد الخبر ب (إن) في قوله : (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه ، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.

والمعية في قوله : (مَعَكُمْ) ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص.

ولمّا كان قوله : (مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) مقدرا معه «بكم» لمقابلة قولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره ، إشارة إلى أن وقعة بدر إذ أصابهم من الحدثان القتل والأسر ، فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة [٥٢] (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ). وإنما قال هنا : (مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) ليشير إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين ، وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٧٤

وقد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نهّي به من شبه التذييل بقوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) إذ تمت به الفاصلة.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢))

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا).

إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدّر بعد (أَمْ) من معنى التعجيب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدّعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة.

قال الزمخشري : وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى والمعنى : أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول.

والإشارة في قوله : (بِهذا) إلى المذكور من القول المعرّض به في قوله : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] ، والمصرح به في قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، وهذا كما يقول من يلوم عاقلا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد : أعاقل أنت؟ أو هذا لا يفعله عاقل بنفسه ، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧].

والحلم : العقل ، قال الراغب : المانع من هيجان الغضب. وفي «القاموس» هو الأناة. وفي «معارج النور» : والحلم ملكة غريزية تورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة.

ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله ، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له (١). قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العلم جملة ، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي.

__________________

(١) رواه القرطبي عن الحكيم الترمذي صاحب «نوادر الأصول».

٧٥

والأمر في (تَأْمُرُهُمْ) مستعار للباعث ، أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول.

(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).

إضراب انتقالي أيضا متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان. والاستفهام المقدر مستعمل : إما في التشكيك ليكون التشكيك باعثا على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون ، وإمّا مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين.

وإقحام كلمة (قَوْمٌ) يمهّد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم ، كما قدمناه في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال.

[٣٣ ، ٣٤] (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

انتقال متصل بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] إلخ. وهذا حكاية لإنكارهم أن يكون القرآن وحيا من الله ، فزعموا أنه تقوّله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الله ، فالاستفهام إنكار لقولهم ، وهم قد أكثروا من الطعن وتمالئوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة (يَقُولُونَ) المفيدة للتجدد.

والتقول : نسبة كلام إلى أحد لم يقله ، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من ينسب إليه بحرف (على) ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥] الآية. وضمير النصب في (تَقَوَّلَهُ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام.

وابتدئ الرد عليهم بقوله : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) لتعجيل تكذيبهم قبل الإدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرّعا على قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) بمنزلة دليل ثان. ومعنى (لا يُؤْمِنُونَ) : أن دلائل تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تقوّل القرآن بيّنة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترا لمكابرتهم.

ولما كانت مقالتهم هذه طعنا في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت دعواهم أنه تقوّل على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ

٧٦

كانُوا صادِقِينَ) أي صادقين في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقوله من تلقاء نفسه ، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون.

ووجه الملازمة أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد العرب وهو ينطق بلسانهم. فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة ، فلو كان القرآن قد قاله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادرا على تأليف مثله ، فلما تحدّاهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغاؤهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن دالا على عجز البشر عن الإتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود [١٣ ، ١٤] : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ).

كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣].

والإتيان بالشيء : إحضاره من مكان آخر. واختير هذا الفعل دون نحو : فليقولوا مثله ونحوه ، لقصد الإعذار لهم بأن يقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم ، وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة [٢٣] (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أنه يحتمل معنيين ، هما : فأتوا بسورة من مثل القرآن ، أو فأتوا بسورة من مثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي من أحد من الناس.

والحديث : الإخبار بالحوادث ، وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة ، ثم توسع فأطلقت على الواقعات ، ولو كانت قديمة كقولهم : حوادث سنة كذا ، وتبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقا ، وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخبارا ، ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلام مجازا بعلاقة الإطلاق ، أي فليأتوا بكلام مثله ، أي في غرض من الأغراض التي يشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار. ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار ، أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالا لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها ، فإنهم كانوا يقولون إن القرآن «أساطير الأولين» ، أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم : فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قبل لعقولهم به ، وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه.

ومعنى المثلية في قوله : (مِثْلِهِ) المثلية في فصاحته وبلاغته ، وهي خصوصيات

٧٧

يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم. وقد بينا أصول الإعجاز في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

ولام الأمر في (فَلْيَأْتُوا) مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨].

وقوله : (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي في زعمهم أنه تقوّله ، أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون. وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) الواقع موقعا شبيها بالتذييل والمختوم بكلمة الفاصلة ، أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور : ٣١].

[٣٥ ، ٣٦] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦))

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ).

إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث ، وقد علمت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاء على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل ، فإذ وفّي حقّ ما اقتضته تلك المناسبات ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩].

فكان قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) الآيات أدلة على أن ما خلقه الله من بدء الخلق أعظم من إعادة خلق الإنسان. وهذا متصل بقوله آنفا (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الطور : ٧] لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) هي قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩] ، ونحو ذلك.

فحرف (من) في قوله : (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) يجوز أن يكون للابتداء ، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد (أم) تقريريا. والمعنى : أيقرّون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عدما فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى ينشئون من عدم في النشأة الآخرة ، وذلك إثبات لإمكان

٧٨

البعث ، فيكون في معنى قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [الطارق : ٥ ـ ٨] وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ونحو ذلك من الآيات.

ومعنى (شَيْءٍ) على هذا الوجه : الموجود فغير شيء : المعدوم ، والمعنى : أخلقوا من عدم. ويجوز أن تكون (من) للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد (أم) إنكاريا ، ويكون اسم (شَيْءٍ) صادقا على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف (من) التعليلية ، والمعنى : إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة ، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال ، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء ، فيكون في معنى قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقوله : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) [الحجر : ٨٥].

ولحرف (من) في هذا الكلام الوقع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهية العليا. ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري ، أعني صيغة النفي بأن يقال: أما خلقوا من غير شيء ؛ والعدول عن تعيين ما أضيف إليه (غَيْرِ) إلى الإتيان بلفظ مبهم وهو لفظ شيء ، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة.

وإذ كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

وهو إضراب انتقال أيضا ، والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) إنكاري ، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدّعوا ذلك فالانكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون.

وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقه تعريف الجزأين قصرا إضافيا للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله ، لأنهم عدّوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم ، فجعلوه خارجا عن قدرة الله ، فالتقدير : أم هم الخالقون لا نحن. والمعنى : نحن الخالقون لا هم.

٧٩

وحذف مفعول (الْخالِقُونَ) لقصد العموم ، أي الخالقون للمخلوقات وعلى هذا جرى الطبري وقدره المفسرون عدا الطبري : أم هم الخالقون أنفسهم كأنهم جعلوا ضمير (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) دليلا على أن المحذوف اسم معاد ذلك الضمير ولا افتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين ، فلذلك لم يتصدّ إلى الاستدلال على هذا الانتفاء.

وجملة (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يظهر لي أنها بدل من جملة (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) بدل مفصّل من مجمل إن كان مفعول (الْخالِقُونَ) المحذوف مرادا به العموم وكان المراد بالسماء والأرض ذاتيهما مع من فيهما ، أو بدل بعض من كل أن المراد ذاتي السماوات والأرض ، فيكون تخصيص السماوات والأرض بالذكر لعظم خلقهما.

وإعادة حرف (أَمْ) للتأكيد كما يعاد عامل المبدل منه في البدل ، والمعنى : أم هم الخالقون للسماوات والأرض.

والاستفهام إنكاري والكلام كناية عن إثبات أن الله خالق السماوات والأرض.

والمعنى : أن الذي خلق السماوات والأرض لا يعجزه إعادة الأجساد بعد الموت والفناء. وهذا معنى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [الإسراء : ٩٩] أي أن يخلق أمثال أجسادهم بعد انعدامهم.

(بَلْ لا يُوقِنُونَ).

إضراب إبطال على مضمون الجملتين اللتين قبله ، أي لم يخلقوا من غير شيء ولا خلقوا السماوات والأرض ، فإن ذلك بيّن لهم فما إنكارهم البعث إلا ناشئ عن عدم إيقانهم في مظانّ الإيقان وهي الدلائل الدالة على إمكان البعث وأنه ليس أغرب من إيجاد المخلوقات العظيمة ، فما كان إنكارهم إياه إلا عن مكابرة وتصميم على الكفر.

والمعنى : أن الأمر لا هذا ولا ذلك ولكنهم لا يوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة بل رانت المكابرة على قلوبهم.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧))

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ).

انتقال بالعود إلى ردّ جحودهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك غيّر أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الأصل الذي ركّزوا عليه جحودهم توهم أن الله لو أرسل رسولا

٨٠