تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

(قَبْلِهِمْ) عائد إلى مشركي العرب الحاضرين.

وزيادة (مِنْ) في قوله : (مِنْ رَسُولٍ) للتنصيص على إرادة العموم ، أي أن كل رسول قال فيه فريق من قومه : هو ساحر ، أو مجنون ، أي قال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : مجنون ، مثل قوم نوح دون السحر إذ لم يكن السحر معروفا في زمانهم قالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون : ٢٥]. وقد يجمعون القولين مثل قول فرعون في موسى.

وهذا العموم يفيد أنه لم يخل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أحد القولين ، وما حكي ذلك عن بعضهم في آيات أخرى بلفظه أو بمرادفه كقول قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].

وأول الرسل هو نوح كما هو صريح الحديث الصحيح في الشفاعة. فلا يرد أن آدم لم يكذبه أهله ، وأن أنبياء بني إسرائيل مثل يوشع وأشعيا ، لم يكذبهم قومهم ، لأن الله قال : (مِنْ رَسُولٍ) ، والرسول أخص من النبي.

والاستثناء في (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ) استثناء من أحوال محذوفة.

والمعنى : ما أتى الذين من قبلهم من رسول في حال من أحوال أقوالهم إلا في حال قولهم : ساحر أو مجنون.

والقصر المستفاد من الاستثناء قصر ادعائي لأن للأمم أقوالا غير ذلك وأحوالا أخرى ، وإنما قصروا على هذا اهتماما بذكر هذه الحالة العجيبة من البهتان ، إذ يرمون أعقل الناس بالجنون وأقومهم بالسحر.

وإسناد القول إلى ضمير الذين من قبل مشركي العرب الحاضرين إسناد باعتبار أنه قول أكثرهم فإن الأمور التي تنسب إلى الأقوام والقبائل تجري على اعتبار الغالب.

(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣))

الاستفهام مستعمل في التعجيب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ ، أي كأنهم أوصى بعضهم بعضا بأن يقولوه. فالاستفهام هنا كناية عن لازمه وهو التعجيب لأن شأن الأمر العجيب أن يسأل عنه.

والجملة استئناف بياني لأن تماثل هؤلاء الأمم في مقالة التكذيب يثير سؤال سائل

٤١

عن منشإ هذا التشابه.

وضمير (تَواصَوْا) عائد إلى ما سبق من الموصول ومن الضمير الذي أضيف إليه قبلهم ، أي أوصى بعضهم بعضا حتى بلغت الوصية إلى القوم الحاضرين.

وضمير (بِهِ) عائد على المصدر المأخوذ من فعل (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٥٢] ، أي أتواصوا بهذا القول.

وفعل الوصية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء كقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣].

و (بَلْ) إضراب عن مفاد الاستفهام من التشبيه أو عن التواصي به ، ببيان سبب التواطؤ على هذا القول فإنه إذا ظهر السبب بطل العجب. أي ما هو بتواص ولكنه تماثل في منشإ ذلك القول ، أي سبب تماثل المقالة تماثل التفكير والدواعي للمقالة ، إذ جميعهم قوم طاغون ، وأن طغيانهم وكبرياءهم يصدهم عن اتباع رسول يحسبون أنفسهم أعظم منه ، وإذ لا يجدون وصمة يصمونه بها اختلقوا لتنقيصه عللا لا تدخل تحت الضبط وهي ادعاء أنه مجنون أو أنه ساحر ، فاستووا في ذلك بعلة استوائهم في أسبابه ومعاذيره.

فضمير (هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (أَتَواصَوْا).

وفي إقحام كلمة (قَوْمٌ) إيذان بأن الطغيان راسخ في نفوسهم بحيث يكون من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

[٥٤ ، ٥٥] (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

تفريع على قوله : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) إلى قوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ، ٥٣] لمشعر بأنهم بعداء عن أن تقنعهم الآيات والنذر فتولّ عنهم ، أي أعرض عن الإلحاح في جدالهم ، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتمّ من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفينة بعد الفينة كما قال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا

٤٢

يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] ، فالتولي مراد به هذا المعنى ، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجدالهم غير مرة قال تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) في سورة الصافات [١٧٤ ـ ١٧٥].

وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون : لا نلومك ، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي.

وجيء بضمير المخاطب مسندا إليه فقال : (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) دون أن يقول : فلا ملام عليك ، أو نحوه للاهتمام بالتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه.

وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوما.

وعطف (وَذَكِّرْ) على (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) احتراس كيلا يتوهم أحد أن الإعراض إبطال للتذكير بل التذكير باق فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكّر الناس بعد أمثال هذه الآيات فآمن بعض من لم يكن آمن من قبل ، وليكون الاستمرار على التذكير زيادة في إقامة الحجة على المعرضين ، ولئلا يزدادوا طغيانا فيقولوا : ها نحن أولاء قد أفحمناه فكفّ عما يقوله.

والأمر في (وَذَكِّرْ) مراد به الدوام على التذكير وتجديده.

واقتصر في تعليل الأمر بالتذكير على علة واحدة وهي انتفاع المؤمنين بالتذكير لأن فائدة ذلك محققة ، ولإظهار العناية بالمؤمنين في المقام الذي أظهرت فيه قلة الاكتراث بالكافرين قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) [الأعلى : ٩ ـ ١١].

ولذلك فوصف المؤمنين يراد به المتصفون بالإيمان في الحال كما هو شأن اسم الفاعل ، وأما من سيؤمن فعلته مطوية كما علمت آنفا.

والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه ، ولظهور حجة المؤمنين على الكافرين يوما فيوما ويتكرر عجز المشركين عن المعارضة ووفرة الكلام المعجز.

[٥٦ ـ ٥٧] (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧))

الأظهر أن هذا معطوف على جملة (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ)

٤٣

[الذاريات : ٥٢] الآية التي هي ناشئة عن قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) إلى (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الذاريات : ٥٠ ، ٥١] عطف الغرض على الغرض لوجود المناسبة.

فبعد أن نظّر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغرز فيهم.

فقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعا لتضليل المضلين.

والجن : جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠].

والإنس : اسم جمع واحده إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعه.

والمقصود من هذا الإخبار هو الإنس وإنما ذكر الجن إدماجا وستعرف وجه ذلك.

والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ.

واللام في (لِيَعْبُدُونِ) لام العلة ، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. والتقدير : لإرادتي أن يعبدون ، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ).

وهذا التقدير يلاحظ في كل لام ترد في القرآن تعليلا لفعل الله تعالى ، أي ما أرضى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإلهية.

فمعنى الإرادة هنا : الرضى والمحبة ، وليس معناها الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم ، التي اشتق منها اسمه تعالى : «المريد» لأن إطلاق الإرادة على ذلك إطلاق آخر ، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة ، أو عن قدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإرادة الله منهم بمعنى الإرادة الصفة ، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرّف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله ، وأسباب تمكّنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع.

٤٤

وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله : (لِيَعْبُدُونِ) من جعل عموم الجن والإنس مخصوصا بالمؤمنين منهم ، أو تقدير محذوف في الكلام ، أي إلا لآمرهم بعبادتي ، أو حمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلو منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرها ابن عطية.

ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيرا من الإنس غير عابد بدليل المشاهدة ، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين.

ونقول : إن الله خلق مخلوقات كثيرة وجعل فيها نظما ونواميس فاندفع كلّ مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته ، فقد تعود بعض المخلوقات على بعض بنقض ما هيّئ هو له ويعود بعضها على غيره بنقض ما يسعى إليه ، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها ، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقضت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها ، فكثيرا ما تسفر عن خلاف ما أعدّ له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع ، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي.

ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة ، وكلمات أئمة اللغة فيه خفية والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضرّه ملكا ذاتيا مستمرا ، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧].

فالحصر المستفاد من قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قصر علة خلق الله الإنس والجنّ على إرادته أن يعبدوه ، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة ، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول (لِيَعْبُدُونِ) ، أي إلا ليعبدوني وحدي ، أي لا ليشركوا غيري في العبادة ، فهو ردّ للإشراك ، وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى من خلق الخلائق ، لكنّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه ، لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نحيط بها ، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى ، ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) [مريم : ٢١].

٤٥

ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يقشع تكذيبهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم ما كذّبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحدا نبذه ، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلّغهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، فهذا معنى تقتضيه عبادة الله بدلالة الالتزام ، وذلك هو ما سمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السنّة في نحو قوله : «أن تعبد الله كأنك تراه» ؛ وليس يليق أن يكون مرادا في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علة لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإسلام ، وأحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإن لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيرا وأصبح متعارفا بين الأمة من عهد ظهور الإسلام.

وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني بذلك الصلاح ، فلا جرم أنّ الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره. وتلك حكمة إنشائه ، فاستتبع قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي ، فعبادة الإنسان ربّه لا تخرج عن كونها محقّقة للمقصد من خلقه وعلّة لحصوله عادة.

وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بمعنى : إلّا لآمرهم وأنهاهم. وتبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع من كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف «الموافقات» وفي محمل الآية عليه نظر قد علمته فحققه.

وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى. وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) [الجن : ٤].

وتقديم الجن في الذكر في قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن ، ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى ، فهو نظير قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦].

وجملة (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) تقرير لمعنى (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئا يصنعونه أو يتخذونه ، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئا إنما يتخذه لنفع نفسه ، وليست الجملة لإفادة

٤٦

الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج إلى ذكر الضد. ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ.

فقوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال ، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه الإطعام ، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر ، وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه ، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منهم سدنة الأصنام.

والرزق هنا : المال كقوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت : ١٧] وقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦] وقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧] ، ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢] ويمنع من إرادته هنا عطف (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ).

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨))

تعليل لجملتي (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] والرزق هنا بمعنى ما يعمّ المال والإطعام.

والرزاق : الكثير الإرزاق ، والقوة : القدرة.

وذو القوة : صاحب القدرة. ومن خصائص (ذو) أن تضاف إلى أمر مهم ، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص.

والمتين : الشديد ، وهو هنا وصف لذي القوة ، أي الشديد القوة ، وقد عدّ (الْمَتِينُ) في أسمائه تعالى. قال الغزالي : وذلك يرجع إلى معاني القدرة. وفي «معارج النور» شرح الأسماء «المتين : كمال في قوته بحيث لا يعارض ولا يدانى».

فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقا فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وإظهار اسم الجلالة في (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) إخراج للكلام على خلاف مقتضى

٤٧

الظاهر لأن مقتضاه : إني أنا الرزاق ، فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال.

وحذفت ياء المتكلم من (لِيَعْبُدُونِ) و (يُطْعِمُونِ) للتخفيف ، ونظائره كثيرة في القرآن.

وفي قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) طريق قصر لوجود ضمير الفصل ، أي : لا رزّاق ، ولا ذا قوة ، ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي ، أي دون الأصنام التي يعبدونها.

فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها : الإرزاق ، والقوة ، والشدة ، فأبطل ذلك بهذا القصر ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) [العنكبوت : ١٧] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : ٧٣].

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩))

تفريع على جملة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] باعتبار أن المقصود من سياقه إبطال عبادتهم غير الله ، أي فإذا لم يفردني المشركون بالعبادة فإن لهم ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ، وهو يلمح إلى ما تقدم من ذكر ما عوقبت به الأمم السالفة من قوله : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [الذاريات : ٣٢ ـ ٤٦].

والمعنى : فإذا ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيبا عظيما من العذاب مثل نصيب أولئك.

والذين ظلموا : الذين أشركوا من العرب ، والظلم : الشرك بالله.

والذنوب بفتح الذال : الدلو العظيمة يستقي بها السّقاة على القليب كما ورد في حديث الرؤيا «ثم أخذها أبو بكر ففزع ذنوبا أو ذنوبين» ولا تسمى ذنوبا إلا إذا كانت ملأى.

٤٨

والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الورد يكونون متصاحبين.

وهذا التمثيل قابل للتوزيع بأنه يشبّه المشركون بجماعة وردت على الماء ، وتشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء ، ويشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء.

قال علقمة بن عبدة يمدح الملك الحارث بن أبي شمر ، ويشفع عنده لأخيه شأس بن عبدة وكان قد وقع في أسره مع بني تميم يوم عين أباغ :

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحقّ لشأس من نداك ذنوب

فلما سمعه الملك قال : «نعم وأذنبة» وأطلق له أخاه شأس بن عبدة ومن معه من أسرى تميم ، وهذا تسلية لنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود : أن يسمعه المشركون فهو تعريض ، وبهذا الاعتبار أكد الخبر ب (إنّ) لأنهم كانوا مكذبين بالوعيد ، ولذلك فرع على التأكيد قال : (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعارا بأنه وعد مكذوب في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده.

وعدّي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإظهار أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخا لهم وإنذارا بالوعيد. وحذفت ياء المتكلم للتخفيف.

والنهي مستعمل في التهكم إظهارا لغضب الله عليهم.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

فرع على وعيدهم إنذار آخر بالويل ، أو إنشاء زجر.

والويل : الشر وسوء الحال ، وتقدم في قوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩] ، وتنكيره للتعظيم.

والكلام يحتمل الإخبار بحصول ويل ، أي عذاب وسوء حال لهم يوم أوعدوا به ، ويحتمل إنشاء الزجر والتعجيب من سوء حالهم في يوم أوعدوه.

و (من) للابتداء المجازي ، أي سوء حال بترقبهم عذابا آتيا من اليوم الذي أعدوه.

٤٩

والذين كفروا : هم الذين ظلموا ، عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر لما فيه من تأكيد الاسم السابق تأكيدا بالمرادف ، مع ما في صفة الكفر من الإيماء إلى أنهم لم يشكروا نعمة خالقهم.

واليوم الذي أوعدوه هو زمن حلول العذاب فيحتمل أن يراد يوم القيامة ويحتمل حلول العذاب في الدنيا ، وأيّا ما كان فمضمون هذه الجملة مغاير لمضمون التي قبلها.

وإضافة (يوم) إلى ضميرهم للدلالة على اختصاصه بهم ، أي هو معيّن لجزائهم كما أضيف يوم إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٣]. واليوم : يصدق بيوم القيامة ، ويصدق بيوم بدر الذي استأصل الله فيه شوكتهم.

ولما كان المضاف إليه ضمير الكفار المعينين وهم كفار مكة ترجح أن يكون المراد من هذا اليوم يوما خاصا بهم وإنما هو يوم بدر لأن يوم القيامة لا يختص بهم بل هو عام لكفار الأمم كلهم بخلاف اليوم الذي في قوله في سورة الأنبياء [١٠٣] : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) لأن ضمير الخطاب فيها عائد إلى (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] كلهم.

وفي الآية من اللطائف تمثيل ما سيصيب الذين كفروا بالذنوب ، والذنوب يناسب القليب وقد كان مثواهم يوم بدر قليب بدر الذي رميت فيه أشلاء سادتهم وهو اليوم القائل فيه شداد بن الأسود الليثي المكنّى أبا بكر يرثي قتلاهم :

وما ذا بالقليب قليب بدر

من الشيزى تزيّن بالسّنام

تحيّى بالسلامة أمّ بكر

وهل لي بعد قومي من سلام

ولعلّ هذا مما يشمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وقف على القليب يوم بدر (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤].

وفي قوله : (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) مع قوله في أول السورة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥] ردّ العجز على الصدر ، ففيه إيذان بانتهاء السورة وذلك من براعة المقطع.

٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٢ ـ سورة الطور

سميت هذه السورة عند السلف «سورة الطور» دون واو قبل الطور. ففي جامع الطواف من «الموطأ» حديث مالك عن أم سلمة قالت : «فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ ب : الطور وكتاب مسطور» ، أي يقرأ بسورة الطور ولم ترد يقرأ بالآية لأن الآية فيها (وَالطُّورِ) بالواو وهي لم تذكر الواو.

وفي باب القراءة في المغرب من «الموطأ» حديث مالك عن جبير بن مطعم قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بالطور في المغرب».

وفي تفسير سورة الطور من «صحيح البخاري» عن جبير بن مطعم قال : «سمعت النبي يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٧] كاد قلبي أن يطير». وكان جبير بن مطعم مشركا قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ.

وكذلك وقعت تسميتها في ترجمتها من «جامع الترمذي» وفي المصاحف التي رأيناها ، وكثير من التفاسير. وهذا على التسمية بالإضافة ، أي سورة ذكر الطور كما يقال : سورة البقرة ، وسورة الهدهد ، وسورة المؤمنين.

وفي ترجمة هذه السورة من تفسير «صحيح البخاري» «سورة والطور» بالواو على حكاية اللفظ الواقع في أولها ، كما يقال : «سورة قل هو الله أحد».

وهي مكية جميعها بالاتفاق. وهي السورة الخامسة والسبعون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة نوح وقبل سورة المؤمنين.

٥١

وعدّ أهل المدينة ومكة آيها سبعا وأربعين ، وعدّها أهل الشام وأهل الكوفة تسعا وأربعين ، وعدها أهل البصرة ثمانيا وأربعين.

أغراض هذه السورة

أول أغراض هذه السورة التهديد بتحقيق وقوع العذاب يوم القيامة للمشركين المكذبين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من إثبات البعث وبالقرآن المتضمن ذلك فقالوا : هو سحر.

ومقابلة وعيدهم بوعد المتقين المؤمنين وصفة نعيمهم ووصف تذكرهم خشية ، وثنائهم على الله بما منّ عليهم فانتقل إلى تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطال أقوالهم فيه وانتظارهم موته.

وتحدّيهم بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن.

وإبطال خليط من تكاذيبهم بإعادة الخلق وببعثه رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من كبرائهم وبكون الملائكة بنات الله.

وإبطال تعدد الآلهة وذكر استهزائهم بالوعيد.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم وأن لا يحزن لذلك ، فإن الوعيد حال بهم في الدنيا ثم في الآخرة وأمره بالصبر ، ووعده بالتأييد ، وأمر بشكر ربه في جميع الأوقات.

[١ ـ ٨] (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

القسم للتأكيد وتحقيق الوعيد. ومناسبة الأمور المقسم بها للمقسم عليه أن هذه الأشياء المقسم بها من شئون بعثه موسى عليه‌السلام إلى فرعون وكان هلاك فرعون ومن معه من جراء تكذيبهم موسى عليه‌السلام.

و (الطُّورِ) : الجبل باللغة السريانيّة قاله مجاهد. وأدخل في العربية وهو من الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن.

وغلب علما على طور سينا الذي ناجى فيه موسى عليه‌السلام ، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة.

٥٢

فالقسم به باعتبار شرفه بنزول كلام الله فيه ونزول الألواح على موسى وفي ذكر الطور إشارة إلى تلك الألواح لأنها اشتهرت بذلك الجبل فسميت طور المعرّب بتوراة.

وأما الجبل الذي خوطب فيه موسى من جانب الله فهو جبل حوريب واسمه في العربية (الزّبير) ولعله بجانب الطور كما في قوله تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) ، وتقدم بيانه في سورة القصص [٢٩] ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) في سورة البقرة [٦٣].

والقسم بالطور توطئة للقسم بالتوراة التي أنزل أولها على موسى في جبل الطور.

والمراد ب (كِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) التوراة كلها التي كتبها موسى عليه‌السلام بعد نزول الألواح ، وضمّنها كل ما أوحى الله إليه مما أمر بتبليغه في مدة حياته إلى ساعات قليلة قبل وفاته. وهي الأسفار الأربعة المعروفة عند اليهود : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر العدد ، وسفر التثنية ، وهي التي قال الله تعالى في شأنها : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) في سورة الأعراف [١٥٤].

وتنكير (كِتابٍ) للتعظيم. وإجراء الوصفين عليه لتمييزه بأنه كتاب مشرف مراد بقاؤه مأمور بقراءته إذ المسطور هو المكتوب. والسطر : الكتابة الطويلة لأنها تجعل سطورا ، أي صفوفا من الكتاب قال تعالى : (وَما يَسْطُرُونَ) [القلم : ١] ، أي يكتبون.

والرّق (بفتح الراء بعدها قاف مشددة) الصحيفة تتّخذ من جلد مرقق أبيض ليكتب عليه. وقد جمعها المتلمس في قوله :

فكأنما هي من تقادم عهدها

رقّ أتيح كتابها مسطور

والمنشور : المبسوط غير المطوي قال يزيد بن الطثرية :

صحائف عندي للعتاب طويتها

ستنشر يوما ما والعتاب يطول

أي : أقسم بحال نشره لقراءته وهي أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء به للقارئ والسامع.

وكان اليهود يكتبون التوراة في رقوق ملصق بعضها ببعض أو مخيط بعضها ببعض ، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيّا اسطوانيا لتحفظ فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها ، ومنه

٥٣

ما في حديث الرجم «فنشروا التوراة».

وليس المراد بكتاب مسطور القرآن لأن القرآن لم يكن يومئذ مكتوبا سطورا ولا هو مكتوبا في رق.

ومناسبة القسم بالتوراة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإشارة إلى أن القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعا فقد نزلت قبله التوراة وذلك لأن المقسم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) [الطور : ١١ ، ١٢].

والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى : فإمّا أن يكون تأويل ذلك على قول ابن عباس في تفسير معنى قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلا لألفاظ التوراة ، وإمّا أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجبهت اليهود دلالة مواضع من التوراة على صفات النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح.

والبيت المعمور : عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور ، ووصفه ب (الْمَعْمُورِ) لأنه لا يخلو من طائف به ، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨] الآية.

ومناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بالقسم بمواطن نزول القرآن فإن ما نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حراء. وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة ، على أن الوحي كان ينزل حول الكعبة. وفي حديث الإسراء «بينا أنا نائم عند المسجد الحرام إذ جاءني الملكان» إلخ ، فيكون توسيط القسم بالكعبة في أثناء ما أقسم به من شئون شريعة موسى عليه‌السلام إدماجا.

وفي «الطبري» : أن عليا سئل : ما البيت المعمور؟ فقال : «بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ، يقال : له الضراح» (بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة) ، وأن مجاهدا والضحاك وابن زيد قالوا مثل ذلك. وعن قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل تدرون ما البيت المعمور؟ قال : فإنه مسجد في السماء تحته

٥٤

الكعبة» إلى آخر الخبر. وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعا يقال له : البيت المعمور ، لكن الروايات في كونه المراد من هذه الآية ليست صريحة.

وأما السقف المرفوع : ففسروه بالسماء لقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢] وقوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] فالرفع حقيقي ومناسبة القسم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن. وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ.

والبحر : يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية. وعندي : أن المراد بحر القلزم ، وهو البحر الأحمر ومناسبة القسم به أنه به أهلك فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون.

و (الْمَسْجُورِ) : قيل المملوء ، مشتقا من السّجر ، وهم الملء والإمداد. فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءا ماء دون أن تملأه أودية أو سيول ، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة. والظاهر عندي : أن وصفه بالمسجور للإيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره ، أي أفاضه على فرعون وملئه.

وعذاب الله المقسم على وقوعه هو عذاب الآخرة لقوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) إلى قوله : (تُكَذِّبُونَ) [الطور : ٩ ـ ١٤]. وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطور : ٤٧]. وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريق الكناية القريبة ، وتهديد للمشركين بطريق الكناية التعريضية.

والواوات التي في هذه الآية كلها واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر ، ولذلك كثيرا ما يعيدون المقسم به نحو قول النابغة :

والله والله لنعم الفتى

وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادوا صفات المقسم به.

ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم ، والمعطوف على القسم قسم.

والوقوع : أصله النزول من علوّ واستعمل مجازا للتحقق وشاع ذلك ، فالمعنى : أن عذاب ربك لمتحقق.

٥٥

وحذف متعلق (لَواقِعٌ) ، وتقديره : على المكذبين ، أو بالمكذبين ، كما دل عليه قوله بعد (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [الطور : ١١] ، أي المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم لأنه ربك وهم كذّبوك فقد كذبوا رسالة الرب. وتضمن قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) إثبات البعث بعد كون الكلام وعيدا لهم على إنكار البعث وإنكارهم أن يكونوا معذبين.

وأتبع قوله : (لَواقِعٌ) بقوله : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ، وهو خبر ثان عن (عَذابَ) أو حال منه ، أي : ما للعذاب دافع يدفعه عنهم.

والدفع : إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازا بعلاقة الإطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة.

وزيدت (مِنْ) في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله ، أي نفي جنس الدافع.

روى أحمد بن حنبل عن جبير بن مطعم قال : «قدمت المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلّي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي» ، وفي رواية «فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب».

[٩ ـ ١٢] (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢))

يجوز أن يتعلق (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ) بقوله : (لَواقِعٌ) [الذاريات : ٧] على أنه ظرف له فيكون قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تفريعا على الجملة كلها ويكون العذاب عذاب الآخرة.

ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٧] ، فيكون (يَوْمَ) متعلقا بالكون الذي بين المبتدأ والخبر في قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وقدم الظرف على عامله للاهتمام ، فلما قدم الظرف اكتسب معنى الشرطية وهو استعمال متبع في الظروف والمجرورات التي تقدم على عواملها فلذلك قرنت الجملة بعده بالفاء على تقدير : إن حلّ ذلك اليوم فويل للمكذبين.

وقوله : (يَوْمَئِذٍ) على هذا الوجه أريد به التأكيد للظرف فحصل تحقيق الخبر

٥٦

بطريقين طريق المجازاة ، وطريق التأكيد في قوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) الآية ، تصريح بيوم البعث بعد أن أشير إليه تضمنا بقوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) فحصل بذلك تأكيده أيضا.

والمور بفتح الميم وسكون الواو : التحرك باضطراب ، ومور السماء هو اضطراب أجسامها من الكواكب واختلال نظامها وذلك عند انقراض عالم الحياة الدنيا.

وسير الجبال : انتقالها من مواضعها بالزلازل التي تحدث عند انقراض عالم الدنيا ، قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) إلى قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ١ ـ ٦].

وتأكيد فعلي (تَمُورُ) و (تَسِيرُ) بمصدري (مَوْراً) و (سَيْراً) لرفع احتمال المجاز ، أي هو مور حقيقي وتنقل حقيقي.

والويل : سوء الحال البالغ منتهى السوء ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩] وتقدم قريبا في آخر الذاريات.

والمعنى : فويل يومئذ للذين يكذبون الآن. وحذف متعلق للمكذبين لعلمه من المقام ، أي الذين يكذبون بما جاءهم به الرسول من توحيد الله والبعث والجزاء والقرآن فاسم الفاعل في زمن الحال.

والخوض : الاندفاع في الكلام الباطل والكذب. والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] وهو المراد بقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨].

و (فِي) للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف ، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنه أحاط بهم.

و (يَلْعَبُونَ) حاليّة. واللعب : الاستهزاء ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) [التوبة : ٦٥].

[١٣ ـ ١٦] (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ

٥٧

إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

(يَوْمَ يُدَعُّونَ) بدل من (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) وهو بدل اشتمال.

والدعّ : الدفع العنيف ، وذلك إهانة لهم وغلظة عليهم ، أي يوم يساقون إلى نار جهنم سوقا بدفع ، وفيه تمثيل حالهم بأنهم خائفون متقهقرون فتدفعهم الملائكة الموكلون بإزجائهم إلى النار.

وتأكيد (يُدَعُّونَ) ب (دَعًّا) لتوصل إلى إفادة تعظيمه بتنكيره.

وجملة (هذِهِ النَّارُ) إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه السياق. والقول المحذوف يقدر بما هو حال من ضمير (يُدَعُّونَ). وتقديره : يقال لهم ، أو مقولا لهم ، والقائل هم الملائكة الموكلون بإيصالهم إلى جهنم. والإشارة بكلمة (هذِهِ) الذي هو للمشار إليه القريب المؤنث تومئ إلى أنهم بلغوها وهم على شفاها ، والمقصود بالإشارة التوطئة لما سيرد بعدها من قوله : (الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) إلى (لا تُبْصِرُونَ).

والموصول وصلته في قوله : (الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) لتنبيه المخاطبين على فساد رأيهم إذ كذبوا بالحشر والعقاب فرأوا ذلك عيانا.

وفرع على هذا التنبيه تنبيه آخر على ضلالهم في الدنيا بقوله : (أَفَسِحْرٌ هذا) إذ كانوا حين يسمعون الإنذار يوم البعث والجزاء يقولون : هذا سحر ، وإذا عرض عليهم القرآن قالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ، فللمناسبة بين ما في صلة الموصول من معنى التوقيف على خطئهم وبين التهكّم عليهم بما كانوا يقولونه دخلت فاء التفريع وهو من جملة ما يقال لهم المحكي بالقول المقدر.

و (أَمْ) منقطعة ، والاستفهام الذي تقتضيه (أَمْ) بعدها مستعمل في التوبيخ والتهكم. والتقدير : بل أأنتم لا تبصرون.

ومعنى (لا تُبْصِرُونَ) : لا تبصرون المرئيات كما هي في الواقع فلعلكم تزعمون أنكم لا ترون نارا كما كنتم في الدنيا تقولون : (بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] أي فلا نراك ، وتقولون : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [الحجر : ١٥].

وجيء بالمسند إليه مخبرا عنه بخبر فعلي منفي لإفادة تقوّي الحكم ، فلذلك لم يقل : أم لا تبصرون ، لأنه لا يفيد تقويا ، ولا : أم لا تبصرون أنتم ، لأن مجيء الضمير المنفصل

٥٨

بعد الضمير المتصل يفيد تقرير المسند إليه المحكوم عليه بخلاف تقديم المسند إليه فإنه يفيد تأكيد الحكم وتقويته وهو أشد توكيدا ، وكل ذلك في طريقة التهكم.

وجملة (اصْلَوْها) مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين، أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال : صلي النار يصلاها ، إذا قاسى حرها.

والأمر في (اصْلَوْها) إمّا مكنّى به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها ، وإما مستعمل مجازا في التنكيل. وفرع على (اصْلَوْها) أمر للتسوية بين صبرهم على حرّها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئا من العذاب ، ألا ترى أنهم يقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١] لأن جرمهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه.

و (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : ذلك سواء عليكم.

وجملة (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) مؤكدة لجملة (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) فلذلك فصلت عنها ولم تعطف.

وجملة (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل لجملة (اصْلَوْها) إذ كلمة (إِنَّما) مركبة من (إنّ) و (ما) الكافة ، فكما يصح التعليل ب (إنّ) وحدها كذلك يصح التعليل بها مع (ما) الكافة ، وعليه فجملتا (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) معترضتان بين جملة (اصْلَوْها) والجملة الواقعة تعليلا لها.

والحصر المستفاد من كلمة (إِنَّما) قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع.

وعدي (تُجْزَوْنَ) إلى (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بدون الباء خلافا لقوله بعده (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٩] ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور ، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله ، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل بمنزلة نفس الفعل.

[١٧ ـ ١٩] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩))

استئناف بياني بعد أن ذكر حال المكذبين وما يقال لهم ، فمن شأن السامع أن

٥٩

يتساءل عن حال أضدادهم وهم الفريق الذين صدقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به القرآن وخاصة إذ كان السامعون المؤمنين وعادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير وعكسه ، والجملة معترضة بين ما قبلها وجملة (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠].

وتأكيد الخبر ب (إن) للاهتمام به وتنكير (جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) لتعظيم ، أي في أيّة جنات وأيّ نعيم.

وجمع (جَنَّاتٍ) تقدم في سورة الذاريات.

والفاكه : وصف من فكه كفرح ، إذا طابت نفسه وسرّ.

وقرأ الجمهور (فاكِهِينَ) بصيغة اسم الفاعل ، وقرأه أبو جعفر (فَكِهِينَ) بدون ألف.

والباء في (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) للسببية ، والمعنى : أن ربهم أرضاهم بما يحبون.

واستحضار الجلالة بوصف (رَبُّهُمْ) للإشارة إلى عظيم ما آتاهم إذ العطاء يناسب حال المعطي ، وفي إضافة (رب) إلى ضميرهم تقريب لهم وتعظيم وجملة (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) في موضع الحال ، والواو حالية ، أو عاطفة على (فاكِهِينَ) الذي هو حال ، والتقدير : وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم ، وهو حال من المتقين. والمقصود من ذكر هذه الحالة : إظهار التباين بين حال المتقين وحال المكذبين زيادة في الامتنان فإن النعمة تزداد حسن وقع في النفس عند ملاحظة ضدها.

وفيه أيضا أن وقايتهم عذاب الجحيم عدل ، لأنهم لم يقترفوا ما يوجب العقاب. وأما ما أعطوه من النعيم فذلك فضل من الله وإكرام منه لهم.

وفي قوله : (رَبُّهُمْ) ما تقدم قبيله.

وجملة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضا ، تقديره : يقال لهم ، أو مقولا لهم. وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٦].

وحذف مفعول (كُلُوا وَاشْرَبُوا) لإفادة النعيم ، أي كلوا كل ما يؤكل واشربوا كلّ ما يشرب ، وهو عموم عرفي ، أي مما تشتهون.

و (هَنِيئاً) اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفا لمصدرين لفعلي (كُلُوا

٦٠