تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

[٤ ـ ١٠] (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠))

استئناف بياني لجملة (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣].

وضمير (هُوَ) عائد إلى المنطوق به المأخوذ من فعل (يَنْطِقُ) كما في قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] أي العدل المأخوذ من فعل (اعْدِلُوا).

ويجوز أن يعود الضمير إلى معلوم من سياق الرد عليهم لأنهم زعموا في أقوالهم المردودة بقوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ٢] زعموا القرآن سحرا ، أو شعرا ، أو كهانة ، أو أساطير الأوّلين ، أو إفكا افتراه.

وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينطق بغير القرآن عن وحي كما في حديث الحديبية في جوابه للذي سأله : ما يفعل المعتمر؟ وكقوله : «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها» ، ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها قال الله تعالى ونحوه.

وفي «سنن أبي داود» و «الترمذي» من حديث المقدام بن معد يكرب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته ، يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه».

وقد ينطق عن اجتهاد كأمره بكسر القدور التي طبخت فيها الحمر الأهلية فقيل له : أو نهريقها ونغسلها؟ فقال : «أو ذاك».

فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها كان نزولها في أول أمر الإسلام وإن كان الأصح أن يجوز له الاجتهاد وأنه وقع منه وهي من مسائل أصول الفقه.

والوحي تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) في سورة النساء [١٦٣]. وجملة (يُوحى) مؤكدة لجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي ٌ) مع دلالة المضارع على أن ما ينطق به متجدد وحيه غير منقطع.

١٠١

ومتعلّق (يُوحى) محذوف تقديره : إليه ، أي إلى صاحبكم.

وترك فاعل الوحي لضرب من الإجمال الذي يعقبه التفصيل لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

وجملة (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) إلخ ، مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان كيفية الوحي.

وضمير الغائب في (عَلَّمَهُ) عائد إلى الوحي ، أو إلى ما عاد إليه ضمير (هُوَ) من قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ). وضمير (هُوَ) يعود إلى القرآن ، وهو ضمير في محلّ أحد مفعولي (علّم) وهو المفعول الأول ، والمفعول الثاني محذوف ، والتقدير : علمه إياه ، يعود إلى (صاحِبُكُمْ) [النجم : ٢] ويجوز جعل هاء (عَلَّمَهُ) عائدا إلى (صاحِبُكُمْ) والمحذوف عائد إلى (وَحْيٌ) إبطالا لقول المشركين (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣].

و (علّم) هنا متعدّ إلى مفعولين لأنه مضاعف (علم) المتعدي إلى مفعول واحد.

و (شَدِيدُ الْقُوى) : صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شئون الملائكة ، أي ملك شديد القوى. واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه‌السلام.

والمراد ب (الْقُوى) استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقيلة والجسمانية ، فهو الملك الذي ينزل على الرّسل بالتبليغ.

والمرّة ، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة ، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته ، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله وصفه بشديد القوى ، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء ، ولذلك لما ناول الملك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء كأس لبن وكأس خمر ، فاختار اللبن قال له جبريل : اخترت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك.

وقوله : (فَاسْتَوى) مفرع على ما تقدم من قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى).

والفاء لتفصيل (عَلَّمَهُ) ، والمستوي هو جبريل. ومعنى استوائه : قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله ، كما يقال : استقل قائما ، ومثل : بين يدي فلان ، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيّؤ لقبول الرسالة من عند الله ، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى). والضمير لجبريل لا محالة ، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي.

والأفق : اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طرف منتهى النظر من الأرض وبين

١٠٢

منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء ، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب.

ووصفه ب (الْأَعْلى) في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء. وذكر هذا ليرتب عليه قوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى).

و (ثُمَ) عاطفة على جملة (فَاسْتَوى) ، والتراخي الذي تقيده (ثُمَ) تراخ رتبيّ لأن الدنوّ إلى حيث يبلّغ الوحي هو الأهم في هذا المقام.

والدنوّ : القرب ، وإذ قد كان فعل الدنوّ قد عطف ب (ثُمَ) على (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) علم أنه دنا إلى العالم الأرضي ، أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتدلّى : انخفض من علو قليلا ، أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدليا ، وهو ينزل من السماء غير منقضّ.

وقاب ، قيل معناه : قدر. وهو واوي العين ، ويقال : قاب وقيب بكسر القاف ، وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين. وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس (أي وسط عوده المقوس) وما بين سيتيها (أي طرفيها المنعطف الذي يشدّ به الوتر) فللقوس قابان وسيتان ، ولعل هذا الإطلاق هو الأصل للآخر ، وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيّب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد.

وعلى كلا التفسيرين فقوله : (قابَ قَوْسَيْنِ) أصله قابي قوس أو قابي قوسين (بتثنية أحد اللفظين المضاف والمضاف إليه ، أو كليهما) فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنبا لثقل المثنى كما في قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] أي قلباكما.

وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذراع يذرع به (ولعله إذن مصدر قاس فسمي به ما يقاس به).

والقوس : آلة من عود نبع ، مقوسة يشد بها وتر من جلد ويرمي عنها السهام والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب.

وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدال عليه التفريع

١٠٣

بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوءة فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يتجشم شيئا يشق عليه ، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فغطّني حتى بلغ مني الجهد» ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] ، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة أنه «جلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيامئذ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته ، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيان الإيمان والإسلام بقوله : «إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم بعد مفارقته «يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

وقوله : (أَوْ أَدْنى أَوْ) فيه للتخيير في التقدير ، وهو مستعمل في التقريب ، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى ، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه.

وتفريع (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) على قوله : (فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) المفرّع على المفرّع على قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له ، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبيّن لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالا ، وهذه كيفية من صور الوحي.

وضمير (أَوْحى) عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) كما تقدم ، والمعنى : فأوحى الله إلى عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا كاف في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإيحاء لإبطال إنكارهم إياه.

وإيثار التعبير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان (عَبْدِهِ) إظهار في مقام الإضمار في اختصاص الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.

١٠٤

وفي قوله : (ما أَوْحى) إبهام لتفخيم ما أوحى إليه.

[١١ ، ١٢] (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

الأظهر أن هذا ردّ لتكذيب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الملك جبريل وهو الذي يؤذن به قوله بعد : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى).

واللام في قوله : (الْفُؤادُ) عوض عن المضاف إليه ، أي فؤاده وعليه فيكون تفريع الاستفهام في قوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) استفهاما إنكاريا لأنهم ماروه.

ويجوز أن يكون قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) تأكيدا لمضمون قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) [النجم : ٩] فإنه يؤذن بأنه بمرأى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرفع احتمال المجاز في تشبيه القرب ، أي هو قرب حسي وليس مجرد اتصال روحاني فيكون الاستفهام في قوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) مستعملا في الفرض والتقدير ، أي أفستكذبونه فيما يرى بعينيه كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله ، كما يقول قائل : «أتحسبني غافلا» وقول عمر بن الخطاب للعباس وعليّ في قضيتهما «أتحاولان مني قضاء غير ذلك».

وقرأ الجمهور (ما كَذَبَ) بتخفيف الذال ، وقرأه هشام عن ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الذال ، والفاعل والمفعول على حالهما كما في قراءة الجمهور.

والفؤاد : العقل في كلام العرب قال تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) [القصص : ١٠].

والكذب : أطلق على التخييل والتلبيس من الحواس كما يقال : كذبته عينه.

و (ما) موصولة ، والرابط محذوف ، وهو ضمير عائد إلى (عَبْدِهِ) في قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) [النجم : ١٠] أي ما رآه عبده ببصره.

وتفريع (أَفَتُمارُونَهُ) على جملة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى).

وقرأ الجمهور (أَفَتُمارُونَهُ) من المماراة وهي الملاحاة والمجادلة في الإبطال. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف أفتمرونه بفتح الفوقية وسكون الميم مضارع مراه إذا جحده ، أي أتجحدونه أيضا فيما رأى ، ومعنى القراءتين متقارب.

وتعدية الفعل فيهما بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة ، أي هبكم غالبتموه على

١٠٥

عبادتكم الآلهة ، وعلى الإعراض عن سماع القرآن ونحو ذلك أتغلبونه على ما رأى ببصره.

[١٣ ـ ١٨] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

أي إن كنتم تجحدون رؤيته جبريل في الأرض فلقد رآه رؤية أعظم منها إذ رآه في العالم العلوي مصاحبا ، فهذا من الترقي في بيان مراتب الوحي ، والعطف عطف قصة على قصة ابتدئ بالأضعف وعقب بالأقوى.

فتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق لأجل ما في هذا الخبر من الغرابة من حيث هو قد رأى جبريل ومن حيث أنه عرج به إلى السماء ومن الأهمية من حيث هو دال على عظيم منزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضمير الرفع في (رَآهُ) عائد إلى (صاحِبُكُمْ) [النجم : ٢] ، وضمير النصب عائد إلى جبريل.

و (نَزْلَةً) فعلة من النزول فهو مصدر دال على المرة : أي في مكان آخر من النزول الذي هو الحلول في المكان ، ووصفها ب (أُخْرى) بالنسبة لما في قوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨] فإن التدلّي نزول بالمكان الذي بلغ إليه.

وانتصاب (نَزْلَةً) على نزع الخافض ، أو على النيابة عن ظرف المكان ، أو على حذف مضاف بتقدير : وقت نزلة أخرى ، فتكون نائبا عن ظرف الزمان.

وقوله : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) متعلق ب (رَآهُ). وخصت بالذكر رؤيته عند سدرة المنتهى لعظيم شرف المكان بما حصل عنده من آيات ربه الكبرى ولأنها منتهى العروج في مراتب الكرامة.

و (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) : اسم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة ، وقد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة.

ولعله شبه ذلك المكان بالسدرة التي هي واحدة شجر السدر إما في صفة تفرعه ، وإما في كونه حدا انتهى إليه قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موضع لم يبلغه قبله ملك. ولعله مبني على اصطلاح عندهم بأن يجعلوا في حدود البقاع سدرا.

١٠٦

وإضافة (سِدْرَةِ) إلى (الْمُنْتَهى) يجوز أن تكون إضافة بيانية. ويجوز كونها لتعريف السدرة بمكان ينتهي إليه لا يتجاوزه أحد لأن ما وراءه لا تطيقه المخلوقات.

والسدرة : واحدة السدر وهو شجر النبق قالوا : ويختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فجعلت السدرة مثلا لذلك المكان كما جعلت النخلة مثلا للمؤمن.

وفي قوله : (ما يَغْشى) إبهام للتفخيم الإجمالي وأنه تضيق عنه عبارات الوصف في اللغة.

وجنة المأوى : الجنة المعروفة بأنها مأوى المتقين فإن الجنة منتهى مراتب ارتقاء الأرواح الزكية. وفي حديث الإسراء بعد ذكر سدرة المنتهى «ثم أدخلت الجنة».

وقوله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ظرف مستقر في موضع الحال من (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) أريد به التنويه بما حفّ بهذا المكان المسمى سدرة المنتهى من الجلال والجمال. وفي حديث الإسراء «حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي» وفي رواية «غشيها نور من الله ما يستطيع أحد أن ينظر إليها» ، وما حصل فيه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريف بتلقّي الوحي مباشرة من الله دون واسطة الملك ففي حديث الإسراء «حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة» الحديث.

وجملة (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) معترضة وهي في معنى جملة (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) إلى آخرها ، أي رأى جبريل رؤية لا خطأ فيها ولا زيادة على ما وصف ، أي لا مبالغة.

والزيغ : الميل عن القصد ، أي ما مال بصره إلى مرئي آخر غير ما ذكر ، والطغيان : تجاوز الحد.

وجملة (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) تذييل ، أي رأى آيات غير سدرة المنتهى ، وجنة المأوى ، وما غشى السدرة من البهجة والجلال ، رأى من آيات الله الكبرى.

والآيات : دلائل عظمة الله تعالى التي تزيد الرسول ارتفاعا.

[١٩ ـ ٢٣] (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ

١٠٧

الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣))

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام ما دل على شئون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف جبريل عليه‌السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعروج في المنازل العليا ، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي : اللات ، والعزّى ، ومناة التي هي أحجار مقرّها الأرض لا تملك تصرفا ولا يعرج بها إلى رفعة.

فكان هذا التضاد جامعا خياليا يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته.

فانتقل الكلام من غرض إثبات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موحى إليه بالقرآن ، إلى إبطال عبادة الأصنام ، ومناط الإبطال قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [النجم : ١٢] المفرعة على جملة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١].

والروية في (أَفَرَأَيْتُمُ) يجوز أن تكون بصرية تتعدّى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولا ثانيا ويكون الاستفهام تقريريا تهكميا ، أي كيف ترون اللات والعزّى ومناة بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا تهكم بهم وإبطال لإلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى ، ودليله العيان. وأكثر استعمال «أرأيت» أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضيّ الدين.

وتكون جملة (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) إلخ استئنافا وارتقاء في الرد أو بدل اشتمال من جملة (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) لأن مضمونها مما تشتمل عليه مزاعمهم ، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب «الكشاف» وسياق الآيات يقتضيه.

ويجوز أن تكون الرؤية علمية ، أي أزعمتم اللات والعزى ومناة ، فحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) عليه ، والتقدير : أزعمتموهن بنات

١٠٨

الله ، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور ، وتكون جملة (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) إلخ بيانا للإنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم ، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور.

وجعل صاحب «الكشف» قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) سادّا مسدّ المفعول الثاني لفعل «أرأيتم».

وأيضا لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حظي بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعة قدرة الله تعالى وعظيم ملكوته مما يسجّل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناما مثل اللات والعزى ومناة. فساد زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مخيّلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق ، ففرّع (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ فيكون الاستفهام تقريريا إنكاريّا ، والرؤية علمية والمفعول الثاني هو قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها).

وتكون جملة (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) إلخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإنكار ، أي وزعمتموهن بنات لله أو وزعمتم الملائكة بنات لله.

وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعها مقصود في هذا المقام.

ولك أن تجعل فعل «أرأيتم» (على اعتبار الرؤية علمية) معلّقا عن العمل لوقوع (إِنْ) النافية بعده في قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) وتجعل جملة (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) إلى قوله : (ضِيزى) اعتراضا.

واللات : صنم كان لثقيف بالطائف ، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه ، وله شهرة عند قريش ، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء. وقال الفخر : «كان على صورة إنسان ، وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى» كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان.

والألف واللام في أول (اللَّاتَ) زائدتان. و (ال) الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله : لات ، بمعنى معبود ، فلما أرادوا جعله علما على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في (اللهِ) فإن أصله إله. ويوقف عليه بسكون تائه في الفصحى.

وقرأ الجمهور : (اللَّاتَ) بتخفيف المثناة الفوقية. وقرأه رويس عن يعقوب بتشديد

١٠٩

التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيرا من العرب يقولون : أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلتّ السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبدا.

و (الْعُزَّى) : فعلي من العزّ : اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر : «كان على صورة نبات» ولعله يعني : أن الصخرة فيها صورة شجر ، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان جمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أحد يخاطب المسلمين «لنا العزى ولا عزى لكم».

وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذا شرعوا في عمل قالوا : بسم اللات باسم العزى.

وأما (مَناةَ) فعلم مرتجل ، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بهاء تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء ، ويكون ممنوعا من الصرف ، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفا لأن تاء لات مثل باء باب ، وأصله : منواة بالتحريك وقد يمد فيقال : منآة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء ، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعا لخط المصحف ، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذو قديد بين مكة والمدينة ، وكان الأوس والخزرج يطوفون حوله في الحج عوضا عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعوا بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي لأنهم كانوا يسعون بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) كما تقدم عن حديث عائشة في «الموطأ» في سورة البقرة [١٥٨].

وقرأ الجمهور (وَمَناةَ) بتاء بعد الألف. وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين. والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعا لرسم المصحف فتكون التاء حرفا من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء (اللَّاتَ) ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس.

ووصفها بالثالثة لأنها ثالثة في الذّكر وهو صفة كاشفة ، ووصفها بالأخرى أيضا صفة كاشفة لأن كونها ثالثة في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع ، فالحاصل من الصفتين تأكيد ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك ، فاللات في أعلى تهامة بالطائف ، والعزّى في وسطها بنخلة بين مكة والطائف ، ومناة بالمشلل بين مكة

١١٠

والمدينة فهي ثالثة البقاع.

وقال ابن عطية : كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدرا وأكثرها عابدا ولذلك قال تعالى: (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) فأكدها بهاتين الصفتين.

والأحسن أن قوله : (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا : «وفلان هو الآخر» ووجهه هنا أن عبّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه.

وجملة (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ارتقاء في الإبطال والتهكم والتسفيه كما تقدم ، وهي مجاراة لاعتقادهم أن تلك الأصنام الثلاثة بنات الله وأن الملائكة بنات الله ، أي أجعلتم لله البنات خاصة وأنتم تعلمون أن لكم أولادا ذكورا وإناثا وأنكم تفضلون الذكور وتكرهون الإناث وقد خصصتم الله بالإناث دون الذكور والله أولى بالفضل والكمال لو كنتم تعلمون فكان في هذا زيادة تشنيع لكفرهم إذ كان كفرا وسخافة عقل.

وكون العزّى ومناة عندهم اثنتين ظاهر من صيغة اسميهما ، وأما اللات فبقطع النظر عن اعتبار التاء في الاسم علامة تأنيث أو أصلا من الكلمة فهم كانوا يتوهمون اللات أنثى ، ولذلك قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه لعروة بن مسعود الثقفي يوم الحديبية «امصص أو اعضض بظر اللات».

وتقديم المجرورين في (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) للاهتمام بالاختصاص الذي أفادته اللام اهتماما في مقام التهكم والتسفيه على أن في تقديم (وَلَهُ الْأُنْثى) «إفادة الاختصاص» أي دون الذكر.

وجملة (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ، أي قد جرتم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإنكار.

والإشارة ب (تِلْكَ) إلى المذكور باعتبار الإخبار عنه بلفظ (قِسْمَةٌ) فإنه مؤنث اللفظ.

و (إِذاً) حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإنكاري ، أي ترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضيزى ، أي قسمتم قسمة جائرة.

١١١

و (ضِيزى) : وزنه فعلى بضم الفاء من ضازه حقّه ، إذا نقصه ، وأصل عين ضاز همزة ، يقال : ضأزه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا : ضازه بالألف. ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي : يجوز ضاز يضيز ، وضاز يضوز. وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تلحقه بالواو أو الياء ، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا : ضازه حقه ضيزا ولم يقولوا ضوزا لأن الضوز لوك التمر في الفم ، فأرادوا التفرقة بين المصدرين ، وهذا من محاسن الاستعمال وعن المؤرّج السّدوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا : ضيزى. كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد ، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى.

ووزن (ضِيزى) : فعلى اسم تفضيل (مثل كبرى وطوبى) أي شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حرّكوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واوا فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج. وهذا كما فعلوا في بيض جمع أبيض ولو اعتبروه تفضيلا من ضاز يضوز لقالوا : ضوزى ولكنهم أهملوه.

وقيل : وزن (ضِيزى) فعلى بكسر الفاء على أنه اسم مثل دفلى وشعرى ، ويبعّد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر. قال سيبويه : لا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات ، أو على أنه مصدر مثل ذكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية.

وقرأ الجمهور (ضِيزى) بياء ساكنة بعد الضاد. وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفا. وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته.

وجملة (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) استئناف يكر بالإبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم متوهم إنكار نسبتهم البنات لله إنه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولادا ذكورا وإناثا أو أن مصب الإنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات. والضمير (هِيَ) عائد إلى اللات والعزى ومناة. وما صدق الضمير الذات والحقيقة ، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماء لا مسمّيات لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) [يوسف : ٤٠].

والقصر إضافي ، أي هي أسماء لا حقائق عاقلة متصرفة كما تزعمون ، وليس القصر

١١٢

حقيقيا لأنّ لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة.

وجملة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة.

وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه ، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحدا من رسله بأن للأصنام أرواحا أو ملائكة ، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين.

والسلطان : الحجة ، وإنزالها من الله : الإخبار بها ، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها ، فنفي إنزال الحجة بها من باب :

على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا منار له فيهتدى به.

وعبر عن الإخبار الموحى به بفعل (أنزل) لأنه إخبار يرد من العالم العلوي فشبّه بإدلاء جسم من أعلى إلى أسفل.

وكذلك عبّر عن إقامة دلائل الوجود بالإنزال لأن النظر الفكري من خلق الله فشبه بالإنزال كقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٤] ، فاستعمال (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) من استعمال اللفظ في معنييه المجازيين. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) في سورة الحج [٧١] ، وتقدم في سورة يوسف [٤٠] قوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

وأكد نفي إنزال السلطان بحرف (من) الزائدة لتوكيد نفي الجنس.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى).

هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات ، وهو استئناف بياني فضمير (يَتَّبِعُونَ) عائد إلى الذين كان الخطاب موجها إليهم.

١١٣

أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيما يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها ، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأمانيّ محبوبة لهم يعيشون في غرورها.

وجيء بالمضارع في (يَتَّبِعُونَ) للدلالة على أنهم سيسمرّون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل بدلالة لحن الخطاب أو فحواه.

وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم ، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقا بالمغيبات كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٤٦] ، وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) في سورة الأنعام [١١٦] ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وهو المراد هنا بقرينة عطف (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) عليه كما عطف (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) على نظيره في سورة الأنعام ، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالبا كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢].

وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حسن أو ذم على حسب الأدلة ، ولذلك استنبط علماؤنا أن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة.

والمراد ب (ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) : ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني ، دون الأدلة فإن كان الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حبه إلا قبولا كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمساجد» وقال : «وجعلت قرّة عيني في الصلاة».

فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم.

ثم إن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاما ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها ، فمنه محمود ومنه مذموم ، كما قال تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وقيل : الحزم سوء الظن بالناس.

والتعريف في (الْأَنْفُسُ) عوض عن المضاف إليه ، أي وما تهواه أنفسهم و (ما)

١١٤

موصولة.

وعطف (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) على الظن عطف العلة على المعلول ، أي الظن الذي يبعثهم على اتباعه أنه موافق لهداهم وإلفهم.

وجملة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) حالية مقررة للتعجيب من حالهم ، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أرسل إليهم رسولا بالهدى.

ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمرارا لا يظن مثله بعاقل.

والتعبير عن الجلالة بعنوان (رَبِّهِمُ) لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطا بالعصيان والتمرد على خالقهم.

والتعريف في (الْهُدى) للدلالة على معنى الكمال ، أي الهدى الواضح.

[٢٤ ، ٢٥] (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥))

إضراب انتقالي ناشئ عن قوله : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣].

والاستفهام المقدّر بعد (أَمْ) إنكاريّ قصد به إبطال نوال الإنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثا عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه. وهذا متصل بقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [النجم : ٢٣].

وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفا للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به.

وتعريف الإنسان تعريف الجنس ووقوعه في حيّز الإنكار المساوي للنفي جعله عاما في كل إنسان.

والموصول في (ما تَمَنَّى) بمنزلة المعرّف بلام الجنس فوقوعه في حيّز الاستفهام الإنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم ، أي ما للإنسان شيء مما تمنّى ، أي ليس شيء جاريا على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن

١١٥

كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم وذلك ما يؤذن به قوله بعد هذا (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [النجم : ٢٦] الآية. وتمنيهم أن يكون الرسول ملكا وغير ذلك نحو قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥].

وفرع على الإنكار أن الله مالك الآخرة والأولى ، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإنسان. وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم.

وتقديم المجرور في (لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) ، لأن محط الإنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم. فتقديم المعمول هنا لإفادة القصر وهو قصر قلب ، أي ليس ذلك مقصورا عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنّون ، أي بل أماني الإنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى).

وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلا رغبة لو تبصّر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذرا لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أعطي لأحد ما يتمنّاه حرم من يتمنّى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخرة ، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة ، ولكل أحد نصيب ، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضى بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة. وفي الحديث «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعد فإن لها ما كتب لها».

وتفريع (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) تصريح بمفهوم القصر الإضافي كما علمت آنفا. وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي لله لا للإنسان.

و (الْآخِرَةُ) العالم الأخروي ، و (الْأُولى) العالم الدنيوي. والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور ، أي أمور الآخرة وأمور الأولى ، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧].

وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلى أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأن الخطاب في هذه الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، مع ما في هذا التقديم من

١١٦

الرعاية للفاصلة.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإنسان ما تمنّى ، ضرب لذلك مثالا من الأماني التي هي أعظم أمانيّ المشركين وهي قولهم في الأصنام (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فبيّن إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات (فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام) لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع إذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له ، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين الذين يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات ، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله ، وقد نفي الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم ، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملة (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [النجم : ٢٤]. وليس هذا الانتقال اقتضابا لبيان عظم أمر الشفاعة.

و (كَمْ) اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ).

وقد تقدم الكلام على (كَمْ) في قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) في سورة البقرة [٢١١] ، وقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) في الأعراف [٤].

و (فِي السَّماواتِ) صفة ل (مَلَكٍ). والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله ، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار.

وجملة (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) إلخ ، خبر عن (كَمْ) ، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام لوقوع الفعل في سياق النفي ، ولإضافة شفاعة إلى ضميرهم ، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلوّ مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم.

و (شَيْئاً) مفعول مطلق للتعميم ، أي شيئا من الإغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم.

١١٧

ولما كان ظاهر قوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم ، وليس ذلك مرادا لأن المراد أنهم لا يجرءون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، وذلك ما اقتضاه قوله: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٢٥] أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له.

فالمراد ب (لِمَنْ يَشاءُ) من يشاؤه الله منهم ، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته. واللام في قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم على حد قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، وليست اللام متعلقة ب (يَأْذَنَ اللهُ). ومفعول (يَأْذَنَ) محذوف دل عليه قوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) ، وتقديره : أن يأذنهم الله.

ويجوز أن تكون اللام لتعدية (يَأْذَنَ) إذا أريد به معنى يستمع ، أي أن يظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه. ومعنى ذلك أن الملائكة لا يزالون يتقربون بطلب إلحاق المؤمنين بالمراتب العليا كما دل عليه قوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] فإن الاستغفار دعاء والشفاعة توجه أعلى ، فالملائكة يعلمون إذا أراد الله استجابة دعوتهم في بعض المؤمنين أذن لأحدهم أن يشفع له عند الله فيشفع فتقبل شفاعته ، فهذا تقريب كيفية الشفاعة. ونظيره ما ورد في حديث شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موقف الحشر.

وعطف (وَيَرْضى) على (لِمَنْ يَشاءُ) للإشارة إلى أن إذن الله بالشفاعة يجري على حسب إرادته إذا كان المشفوع له أهلا لأن يشفع له. وفي هذا الإبهام تحريض للمؤمنين أن يجتهدوا في التعرض لرضى الله عنهم ليكونوا أهلا للعفو عما فرطوا فيه من الأعمال.

[٢٧ ، ٢٨] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨))

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ).

اعتراض واستطراد لمناسبة ذكر الملائكة وتبعا لما ذكر آنفا من جعل المشركين اللّات والعزى ومناة بنات لله بقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلى قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ

١١٨

وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ١٩ ـ ٢١] ثنّي إليهم عنان الرد والإبطال لزعمهم أن الملائكة بنات الله جمعا بين ردّ باطلين متشابهين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعبر عن المردود عليهم بضمير الغيبة تبعا لقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [النجم : ٢٨] ، فعدل عن الإضمار إلى الإظهار بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التوبيخ لهم والتحقير لعقائدهم إذ كفروا بالآخرة وقد تواتر إثباتها على ألسنة الرسل وعند أهل الأديان المجاورين لهم من اليهود والنصارى والصابئة ، فالموصولية هنا مستعملة في التحقير والتهكم نظير حكاية الله عنهم : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] إلا أن التهكم المحكي هنا لك تهكم المبطل بالمحق لأنهم لا يعتقدون وقوع الصلة ، وأما التهكم هنا فهو تهكم المحق بالمبطل لأن مضمون الصلة ثابت لهم.

والتسمية مطلقة هنا على التوصيف لأن الاسم قد يطلق على اللفظ الدال على المعنى وقد يطلق على المدلول المسمى ذاتا كان أو معنى كقول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

أي السلام عليكما ، وقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وقوله تعالى : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان : ١٨] أي توصف بهذا الوصف في حسن مآبها ، وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] ، أي ليس لله مثيل. وقد مرّ بيانه مستوفى عند تفسير (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في أول الفاتحة [١].

والمعنى : أنهم يزعمون الملائكة إناثا وذلك توصيف قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، وكانوا يقولون الملائكة بنات الله من سروات الجن قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقال : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨].

والتعريف في (الْأُنْثى) تعريف الجنس الذي هو في معنى المتعدد والذي دعا إلى هذا النظم مراعاة الفواصل ليقع لفظ (الْأُنْثى) فاصلة كما وقع لفظ (الْأُولى) ولفظ (يَرْضى) ولفظ (شَيْئاً).

وجملة (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) حال من ضمير (لَيُسَمُّونَ) ، أي يثبتون للملائكة صفات الإناث في حال انتفاء علم منهم بذلك وإنما هو تخيل وتوهم إذ العلم لا يكون إلا عن دليل لهم فنفي العلم مراد به نفيه ونفي الدليل على طريقة الكناية.

١١٩

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

موقع هذه الجملة ذو شعب : فإن فيها بيانا لجملة (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) وعودا إلى جملة (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ، وتأكيدا لمضمونها وتوطئة لتفريع (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩].

واستعير الاتّباع للأخذ بالشيء واعتقاد مقتضاه أي ما يأخذون في ذلك إلا بدليل الظن المخطئ.

وأطلق الظن على الاعتقاد المخطئ كما هو غالب إطلاقه مع قرينة قوله عقبه (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وتقدم نظيره آنفا.

وأظهر لفظ (الظَّنَ) دون ضميره لتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال.

ونفي الإغناء معناه نفي الإفادة ، أي لا يفيد شيئا من الحق فحرف (مِنْ) بيان وهو مقدم على المبين أعني شيئا.

و (شَيْئاً) منصوب على المفعول به ل (يُغْنِي).

والمعنى : أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم (المعرف بأنه تصور المعلوم على ما هو عليه) والظن لا يفيد ذلك الإدراك بذاته فلو صادف الحق فذلك على وجه الصدفة والاتفاق ، وخاصة الظن المخطئ كما هنا.

[٢٩ ، ٣٠] (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).

بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم فرّع عليه أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ذلك لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو التولّي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإعراض إعراضا عنهم فإن الإعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب (مَنْ تَوَلَّى) الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفا بقوله: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ٢] وقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] والمخبر عنهم بقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [النجم : ٢٨] إلخ وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [النجم : ٢٧] إلخ.

١٢٠