تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣))

بدر إلى القليب (١).

٥٢ ـ (وَقالُوا) حين عاينوا العذاب (آمَنَّا بِهِ) بمحمد عليه‌السلام لمرور ذكره في قوله ما بصاحبكم من جنّة ، أو بالله (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) التناوش : التناول أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم ، يريد أنّ التوبة كانت تقبل عنهم (٢) في الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة ، وقيل هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، مثّلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة (٣) كما يتناول الآخر من قيس ذراع (٤). التناؤش بالهمزة أبو عمرو وكوفي غير حفص ، همزت الواو لأنّ كلّ واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل ، نحو قولك أدور وتقاوم (٥) ، وإن شئت قلت أدؤر وتقاؤم ، وعن ثعلب : التناؤش بالهمز التناول من بعد وبغير همز التناول من قرب.

٥٣ ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) من قبل العذاب أو في الدنيا (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) معطوف على قد كفروا على حكاية الحال الماضية ، يعني وكانوا يتكلّمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) عن الصدق ، أو عن الحقّ والصواب ، أو هو قولهم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر ساحر كذاب ، وهذا تكلّم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأنّ أبعد شيء مما جاء به السّحر والشّعر وأبعد شيء من عادته (٦) التي عرفت بينهم وجرّبت الكذب ، ويقذفون محبوب (٧) عن أبي عمرو على البناء للمفعول أي تأتيهم به شياطينهم ويلقّنونهم إياه ،

__________________

(١) القليب : المكان الذي دفن فيه قتلى بدر من المشركين ، وقيل هو جبل لبني عامر (معجم البلدان ٤ / ٤٤٧).

(٢) في (ز) منهم.

(٣) الغلوة : الغاية مقدار رمية.

(٤) الذراع : مقياس يقاس به المذروع.

(٥) أدور : جمع دار. تقاوم : قام بعضهم لبعض في الحرب.

(٦) في (ز) عاداته.

(٧) في (ظ) و (ز) بالغيب. أي يقذفون بضم الياء محبوب.

٤٨١

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

وإن شئت فعلّقه بقوله وقالوا آمنا به على أنه مثّلهم في طلبهم تحصيل ما عطّلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظنّ في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه بعيدا ، ويجوز أن يكون الضمير في آمنا به للعذاب الشديد في قوله : بين يدي عذاب شديد. وكانوا يقولون وما نحن بمعذبين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذّبنا قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا ، فهذا كان قذفهم بالغيب وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة ، لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف.

٥٤ ـ (وَحِيلَ) وحجز (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة ، أو من الردّ إلى الدنيا كما حكى عنهم بقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (١) والأفعال التي هي فزعوا وأخذوا وحيل كلّها للمضي ، والمراد بها الاستقبال لتحقّق وقوعه (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) بأشباههم من الكفرة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) في (٢) أمر الرّسل والبعث (مُرِيبٍ) موقع للريبة (٣) ، من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، هذا ردّ على من زعم أنّ الله لا يعذّب على الشّكّ (٤).

__________________

(١) السجدة ، ٣٢ / ١٢.

(٢) في (ز) من.

(٣) في (ز) في الريبة.

(٤) زاد في (ظ) والله تعالى بالغيب أعلم ، وفي (ز) والله أعلم.

٤٨٢

سورة فاطر

مكية وهي خمس وأربعون آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) حمد ذاته تعليما وتعظيما (فاطِرِ السَّماواتِ) مبتدئها ومبتدعها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها (١) (وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى عباده (أُولِي) ذوي اسم جمع لذو ، وهو بدل من رسلا أو نعت له (أَجْنِحَةٍ) جمع جناح (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وعن تكرير إلى غير تكرير ، وقيل للعدل والوصف والتعويل عليه ، والمعنى أنّ الملائكة طائفة أجنحتهم اثنان اثنان أي لكلّ واحد منهم جناحان ، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة ، ولعلّ الثالث يكون في وسط الظّهر بين الجناحين يمدّهما بقوة ، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ) أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره (ما يَشاءُ) وقيل هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشّعر الحسن ، والخط الحسن ، والملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل ، وجزالة

__________________

(١) مر في الآية ١٤ من سورة الأنعام ، رواه أبو عبيد في غريب الحديث بإسناد حسن.

٤٨٣

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣)

في الرأي ، وذلاقة في اللسان ، ومحبة في قلوب المؤمنين ، وما أشبه ذلك (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر.

٢ ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) نكّر (١) الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال من أية رحمة رزق أو مطر أو صحة أو غير ذلك (فَلا مُمْسِكَ لَها) فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، واستعير الفتح للإطلاق والإرسال ألا ترى إلى قوله (وَما يُمْسِكْ) يمنع ويحبس (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مطلق له (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إمساكه ، وأنّث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمن معنى الشرط على معنى الرحمة ، ثم ذكره حملا على اللفظ المرجوع (٢) إليه ، إذ لا تأنيث فيه ، ولأنّ الأول فسّر بالرحمة فحسن اتّباع الضمير التفسير ، ولم يفسّر الثاني فترك على أصل التذكير ، وعن معاذ مرفوعا : (لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظّم برهم فاجرهم وتعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم) (٣) (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الإرسال والإمساك (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا) باللسان والقلب (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وهي التي تقدّمت من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل لبيان السبيل ، دعوة إليه وزلفة لديه ، والزيادة في الخلق ، وفتح أبواب الرزق ، ثم نبه على رأس النّعم وهو اتحاد المنعم بقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) برفع غير على الوصف لأنّ خالق مبتدأ خبره محذوف أي لكم ، وبالجرّ عليّ وحمزة على الوصف لفظا (يَرْزُقُكُمْ) يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون صفة لخالق (مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بأنواع النبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مفصولة لا محل لها (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أي (٤) وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) نكرت.

(٢) في (ز) المرجع.

(٣) لم أجده.

(٤) في (ز) فبأي.

٤٨٤

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) نعى به على قريش سوء تلقّيهم لآيات الله وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله بأنّ له في الأنبياء قبله إسوة ، ولهذا نكّر رسل ذو عدد كثير (١) ، وأولو آيات ونذر ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم ، لأنه أسلى له ، وتقدير الكلام وإن يكذّبوك فتأسّ بتكذيب الرسل من قبلك ، لأنّ الجزاء يتعقب الشرط ، ولو أجري على الظاهر يكون سابقا عليه ، فوضع فقد كذبت رسل من قبلك موضع فتأسّ استغناء بالسبب عن المسبّب ، أي بالتكذيب عن التأسي (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه ، ترجع بفتح التاء شامي وحمزة وعليّ ويعقوب وخلف وسهل.

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) كائن (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا تخدعنّكم الدنيا ولا يذهلنّكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان فإنه يمنّيكم الأمانيّ الكاذبة ويقول إنّ الله غني عن عبادتك وعن تعذيبك (٢).

٦ ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل ، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله (٣) (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم ، ولا يوجدنّ منكم إلّا ما يدلّ على معاداته في سرّكم وجهركم ، ثم لخص سرّ أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ثم كشف الغطاء فبنى الأمر كلّه على الإيمان وتركه فقال :

٧ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد ،

__________________

(١) في (ز) ذوو عدد كبير.

(٢) في (ظ) و (ز) تكذيبك.

(٣) في (ظ) و (ز) بأحواله.

٤٨٥

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩)

لأنه صار من حزبه أي أتباعه (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ولم يجيبوه ولم يصيروا من حزبه بل عادوه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لكبر جهادهم. ولما ذكر الفريقين قال لنبيه عليه‌السلام :

٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) بتزيين الشيطان كمن لم يزيّن له ، فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وذكر الزّجّاج أنّ المعنى أفمن زيّن له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرة فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه ، أو أفمن زيّن له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء عليه ، فلا تذهب نفسك يزيد ، أي لا تهلكها ، حسرات مفعول له ، يعني فلا تهلك نفسك للحسرات ، وعليهم صلة تذهب كما تقول هلك عليه حبا ومات عليه حزنا ، ولا يجوز أن يتعلّق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

٩ ـ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) الريح مكي وحمزة وعليّ (فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) بالتشديد مدني وحمزة وعليّ وحفص ، وبالتخفيف غيرهم (فَأَحْيَيْنا بِهِ) بالمطر لتقدّم ذكره ضمنا (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يبسها ، وإنما قيل فتثير لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميّت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها لما كانا من الدلائل (١) على القدرة الباهرة ، قيل فسقنا وأحيينا معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه (كَذلِكَ النُّشُورُ) الكاف في محلّ الرفع ، أي مثل إحياء الموات نشور الأموات ، قيل يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمنيّ الرجال تنبت منه أجساد الخلق.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لما كان من الدليل.

٤٨٦

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠)

١٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي العزّة كلّها مختصة بالله ، عزّة الدنيا وعزّة الآخرة ، وكان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (١) والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢) فبيّن أنّ لا عزة إلّا لله (٣) ، والمعنى فليطلبها عند الله ، فوضع قوله لله العزة جميعا موضعه استغناء به عنه (٤) لدلالته عليه ، لأن الشيء لا يطلب إلّا عند صاحبه ومالكه ، ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد فليطلبها عندهم إلّا أنك أقمت ما يدلّ عليه مقامه ، وفي الحديث : (إن ربّكم يقول كلّ يوم أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز) (٥) ثم عرّف أنّ ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ومعنى قوله إليه إلى محلّ القبول والرضا ، وكلّ ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود ، وإلى حيث لا ينفذ فيه إلّا حكمه ، والكلم الطيّب كلمات التوحيد أي لا إله إلا الله ، وكان القياس الطيبة ، ولكن كلّ جمع ليس بينه بين واحده إلا التاء يذكّر ويؤنّث ، والعمل الصالح العبادة الخالصة ، يعني والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، فالرافع الكلم والمرفوع العمل لأنه لا يقبل عمل إلّا من موحد ، وقيل الرافع الله والمرفوع العمل أي العمل الصالح يرفعه الله ، وفيه إشارة إلى أنّ العمل يتوقف على الرفع ، والكلم الطيب يصعد بنفسه ، وقيل العمل الصالح يرفع العامل ويشرّفه ، أي من أراد العز (٦) فليعمل عملا صالحا فإنه هو الذي يرفع العبد (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) هي صفة لمصدر محذوف ، أي المكرات السيئات لأنّ مكر فعل غير متعد ، لا يقال (٧) مكر فلان عمله ، والمراد مكر قريش به عليه‌السلام حين اجتمعوا في دار الندوة ، كما قال الله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) (٨) الآية (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (وَمَكْرُ أُولئِكَ) مبتدأ (هُوَ) فصل (يَبُورُ) خبر ، أي

__________________

(١) مريم ، ١٩ / ٨١.

(٢) النساء ، ٤ / ١٣٩.

(٣) في (ظ) و (ز) بالله.

(٤) في (ز) عنه به.

(٥) لم أجده.

(٦) في (ظ) و (ز) العزة.

(٧) في (أ) لا يقول.

(٨) الأنفال ، ٨ / ٣٠.

٤٨٧

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢)

ومكر أولئك الذين مكروا هو خاصة يبور ، أي يفسد ويبطل دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتّلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقّق فيهم قوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٢).

١١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي أباكم (مِنْ تُرابٍ ثُمَ) أنشأكم (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أصنافا ، أو ذكرانا وإناثا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) هو في موضع الحال ، أي إلا معلومة له (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي وما يعمر من أحد ، وإنما سماه معمّرا بما هو صائر إليه (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني اللوح ، أو صحيفة الإنسان ، ولا ينقص زيد ، فإن قلت الإنسان إما معمّر أي طويل العمر أو منقوص العمر أي قصيره ، فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صحّ قوله وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره قلت هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد ، وعليه كلام الناس يقولون : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحقّ ، أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره ، فذلك نقصان عمره ، وعن قتادة : المعمّر من يبلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة (إِنَّ ذلِكَ) أي إحصاءه ، أو زيادة العمر ونقصانه (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل.

١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا) أي أحدهما (عَذْبٌ فُراتٌ) شديد العذوبة ، وقيل هو الذي يكسر العطش (سائِغٌ شَرابُهُ) مريء سهل الانحدار لعذوبته وبه يرتفع (٣) شرابه (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة ، وقيل هو الذي يحرق بملوحته

__________________

(١) الأنفال ، ٨ / ٣٠.

(٢) فاطر ، ٣٥ / ٤٣.

(٣) في (ز) ينتفع.

٤٨٨

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤)

(وَمِنْ كُلٍ) ومن كلّ واحد منهما (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وهي اللؤلؤ والمرجان (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ) في كلّ (مَواخِرَ) شقاقّ (١) للماء بجريها ، يقال مخرت السفينة الماء أي شقّته وهي جمع ماخرة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من فضل الله ، ولم يجر له ذكر في الآية ، ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ما آتاكم من فضله. ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمته وعطائه ، ويحتمل غير طريقة الاستطراد ، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه ، والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ثم قال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٢).

١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يدخل من ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة والناقص تسعا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّل أضوأ صورة لأسوأ سيرة (٣) (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي يوم القيامة ينقطع جريهما (ذلِكُمُ) مبتدأ (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أخبار مترادفة ، أو الله ربّكم خبر إنّ وله الملك جملة مبتدأة واقعة في قران قوله (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، يدعون قتيبة (٤) (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة.

١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي الأصنام (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من

__________________

(١) في (ظ) و (ز) شواق.

(٢) البقرة ، ٢ / ٧٤.

(٣) في (ز) أضواء صوره لاستواء سيره.

(٤) قتيبة بن مهران سبق ترجمته في ١٩ / ٥٨.

٤٨٩

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦)

الإلهية ويتبرأون منها (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) بإشراككم لهم ، وعبادتكم إياهم ، ويقولون : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١) (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ولا ينبّئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور ، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به ، يريد أنّ الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به ، والمعنى أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحقّ لأني خبير بما أخبرت به.

١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) قال ذو النون : الخلق محتاجون إليه في كلّ نفس وخطرة ولحظة وكيف لا ووجودهم به وبقاؤهم به (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن الأشياء أجمع (الْحَمِيدُ) المحمود بكلّ لسان ، ولم يسمّهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض عن الاستغناء ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء ، وذكر الحميد ليدلّ به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، إذ ليس كلّ غنيّ نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعّما ، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم. قال سهل : لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر فمن ادّعى الغنى حجب عن الله ، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا بالسرّ إليه ومنقطعا عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة ، فالعبودية هي الذّلّ والخضوع وعلامته أن لا يسأل من أحد. وقال الواسطي : من استغنى بالله لا يفتقر ، ومن تعزز بالله لا يذل. وقال الحسين (٢) : على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيا بالله ، وكلما ازداد افتقارا ازداد غنى. وقال يحيى : الفقر خير للعبد من الغنى لأنّ المذلة في الفقر والكبر في الغنى ، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلّة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال. وقيل صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كلّ شيء ، والفقر إليه في كلّ شيء والرجوع إليه من كلّ شيء ، وقال الشبلي : الفقر يجرّ البلاء وبلاؤه كلّه عز.

١٦ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) كلّكم إلى العدم ، فإن غناه بذاته لا بكم في القدم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو بدون حمدكم حميد.

__________________

(١) يونس ، ١٠ / ٢٨.

(٢) الحسين : لم أصل إلى معرفته وإن كان الراجح أنه من الزهاد.

٤٩٠

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

١٧ ـ (وَما ذلِكَ) الإنشاء والإفناء (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بممتنع ، وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئا.

١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، والوزر والوقر أخوان ووزر الشيء إذا حمله ، والوازرة صفة للنفس ، والمعنى أنّ كلّ نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ نفس بذنب نفس ، كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ والجار بالجار ، وإنما قيل وازرة ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى لأنّ المعنى أنّ النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها ، وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (١) وارد في الضالين المضلّين ، فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كلّه أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم ، ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قولهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس مثقلة بالذنوب أحدا (إِلى حِمْلِها) ثقلها ، أي ذنوبها ليتحمل عنها بعض ذلك (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ) أي المدعوّ ، وهو مفهوم من قوله وإن تدع (ذا قُرْبى) ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ ، والفرق بين معنى قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى ومعنى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء أنّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه وأنه (٣) لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها ، والثاني في بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث حتى أنّ نفسا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفّف بعض وقرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان المدعوّ بعض قرابتها (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل ، أو المفعول أي يخشون ربّهم غائبين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائبا عنهم ، وقيل بالغيب في السرّ حيث لا اطلاع للغير عليه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) في مواقيتها (وَمَنْ تَزَكَّى) تطهّر بفعل

__________________

(١) العنكبوت ، ٢٩ / ١٣.

(٢) العنكبوت ، ٢٩ / ١٢.

(٣) في (ز) وأن.

٤٩١

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤)

الطاعات وترك المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) المرجع وهو وعد للمتزكين (١) بالثواب.

١٩ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثل للكافر والمؤمن ، أو للجاهل والعالم.

٢٠ ـ (وَلَا الظُّلُماتُ) مثل الكفر (٢) (وَلَا النُّورُ) الإيمان (٣).

٢١ ـ (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) الحقّ والباطل ، أو الجنة والنار ، والحرور الريح الحارّ كالسّموم إلّا أنّ السّموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار ، عن الفراء.

٢٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه ، وزيادة لا لتأكيد معنى النفي ، والفرق بين هذه الواوات أنّ بعضها ضمّت شفعا إلى شفع ، وبعضها وترا إلى وتر (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه ، فيهدي من يشاء هدايته ، وأما أنت فخفيّ عليك أمرهم ، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين. شبّه الكفار بالموتى حيث لا ينتفعون بمسموعهم.

٢٣ ـ (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما عليك إلا أن تبلّغ وتنذر ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المصرّين فلا عليك.

٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) حال من أحد الضميرين ، يعني محقا أو محقين ، أو صفة للمصدر أي إرسالا مصحوبا بالحقّ (بَشِيراً) بالوعد (وَنَذِيراً) بالوعيد (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) وما من أمة قبل أمتك. والأمة : الجماعة الكثيرة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) (٤) ويقال لأهل كلّ عصر أمة ، والمراد هنا أهل العصر ، وقد كانت آثار النذارة باقية فيما

__________________

(١) في (ز) للمتزكي.

(٢) في (ظ) و (ز) مثل للكفر.

(٣) في (ظ) و (ز) للإيمان.

(٤) القصص ، ٢٨ / ٢٣.

٤٩٢

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧)

بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام فلم تخل تلك الأمم من نذير ، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه‌السلام بعث محمد عليه‌السلام (إِلَّا خَلا) مضى (فِيها نَذِيرٌ) يخوّفهم وخامة الطغيان وسوء عاقبة الكفران ، واكتفي بالنذير عن البشير في آخر الآية بعد (١) ذكرهما لأنّ النذارة مشفوعة بالبشارة ، فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة.

٢٥ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) حال وقد مضمرة (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (وَبِالزُّبُرِ) وبالصحف (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي التوراة والإنجيل والزبور ، ولما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات ، وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب ، وفيه مسلاة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٦ ـ (ثُمَّ أَخَذْتُ) عاقبت (الَّذِينَ كَفَرُوا) بأنواع العقوبة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري عليهم وتعذيبي لهم.

٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب ، وغيرها مما لا يحصر ، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) طرق مختلفة اللون ، جمع جدّة كمدّة ومدد (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) جمع غربيب ، وهو تأكيد للأسود يقال أسود غربيب ، وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ، ومنه الغراب ، وكان من حقّ التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفر فاقع إلا أنه أضمر المؤكّد قبله ، والذي بعده تفسير للمضمر ، وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدلّ على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعا ، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ومن الجبال جدد ، أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال ثمرات مختلفا ألوانها.

__________________

(١) في (ز) بعد ما.

٤٩٣

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٠)

٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يعني ومنهم بعض مختلف ألوانه (كَذلِكَ) أي كاختلاف الثمرات والجبال. ولما قال ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماء وعدّد آيات الله ، وأعلام قدرته ، وآثار صنعته ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته أتبع ذلك (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي العلماء به الذين علموه بصفاته ، فعظّموه ، ومن ازداد علما به ازداد منه خوفا ، ومن كان علمه به أقلّ كان آمن. وفي الحديث : (أعلمكم بالله أشدكم له خشية) (١) وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أنّ معناه أنّ الذين يخشون الله من بين (٢) عباده العلماء دون غيرهم ولو عكس لكان المعنى أنهم لا يخشون إلّا الله كقوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (٣) وبينهما تغاير ، ففي الأول بيان أنّ الخاشين هم العلماء ، وفي الثاني بيان أنّ المخشى منه هو الله تعالى. وقرأ أبو حنيفة وعمر (٤) ابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم إنما يخشى الله من عباده العلماء ، والخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى إنما يعظم الله من عباده العلماء (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية بدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب حقّه أن يخشى.

٢٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) يداومون على تلاوة القرآن (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي مسرّين النفل ومعلنين الفرض ، يعني لا يقنعون (٥) بتلاوته عن حلاوة العمل به (يَرْجُونَ) خبر إنّ (تِجارَةً) هي طلب الثواب بالطاعة (لَنْ تَبُورَ) لن تكسد ، يعني تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله.

٣٠ ـ (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بلن تبور أي ليوفّيهم بنفاقها عنده (أُجُورَهُمْ) ثواب

__________________

(١) في الصحيح : (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية).

(٢) ليس في (ز) بين.

(٣) الأحزاب ، ٣٣ / ٣٩.

(٤) في (ظ) و (ز) وابن عبد العزيز.

(٥) في (ز) يقتنعون.

٤٩٤

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢)

أعمالهم (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بتفسيح القبور ، أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم ، أو بتضعيف حسناتهم ، أو بتحقيق وعد لقائه ، أو يرجون في موضع الحال أي راجين ، واللام في ليوفّيهم تتعلق بيتلون وما بعده ، أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض ، وخبر إنّ (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (١) أي غفور لهم شكور لأعمالهم ، أي يعطي الجزيل على العمل القليل.

٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن ، ومن للتبيين (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لأنّ الحقّ لا ينفك عن هذا التصديق (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لما تقدّمه من الكتب (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلا لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.

٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله ، ثم رتّبهم على مراتب فقال (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المرجأ لأمر الله (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهذا التأويل يوافق :

التنزيل : فإنه تعالى قال : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) (٢) الآية وقال بعده : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (٣) الآية وقال بعده : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) (٤) الآية.

والحديث : فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له) (٥).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) : (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ).

(٢) التوبة ، ٩ / ١٠٠.

(٣) التوبة ، ٩ / ١٠٢.

(٤) التوبة ، ٩ / ١٠٦.

(٥) رواه البيهقي في الشعب عن عمر مرفوعا ، وأخرجه سعيد بن منصور موقوفا ، كنز العمال ٢ / ٢٩٢٥ ، ٤٥٦٢ ، ٤٥٦٣.

٤٩٥

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٣٣)

وعنه عليه‌السلام : (السابق يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظنّ أنه لا ينجو ، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة) (١) رواه أبو الدرداء.

والأثر : فعن ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.

وقول السلف : فقد قال الربيع بن أنس (٢) : الظالم صاحب الكبائر والمقتصد صاحب الصغائر ، والسابق المجتنب لهما. وقال الحسن البصري : الظالم من رجحت سيئاته والسابق من رجحت حسناته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف رحمه‌الله عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون ، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده ، فإنه قال فمنهم ومنهم ومنهم ، والكلّ راجع إلى قوله الذين اصطفينا من عبادنا ، وهم أهل الإيمان ، وعليه الجمهور ، وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم وأنّ المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقلّ من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدّم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل إنما قدّمه ليعرّفه أنّ ذنبه لا يبعده من ربّه ، وقيل إنّ أول الأحوال معصية ، ثم توبة ، ثم استقامة. وقال سهل : السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل ، وقال أيضا : السابق الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل الظالم من أخذ الدنيا حلالا كانت أو حراما ، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلّا من حلال ، والسابق من أعرض عنها جملة. وقيل الظالم طالب الدنيا ، والمقتصد طالب العقبى ، والسابق طالب المولى (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره ، أو بعلمه ، أو بتوفيقه (ذلِكَ) أي إيراث الكتاب (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

٣٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر ثان لذلك ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ والخبر

__________________

(١) كنز العمال ٢ / ٤٥٦٧.

(٢) الربيع بن أنس البكري الحنفي البصري ، سمع أنس بن مالك وأبا العالية وسمع منه عبد الله بن المبارك ، صدوق ، توفي عام ١٣٩ ه‍ (تاريخ الإسلام).

٤٩٦

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧)

(يَدْخُلُونَها) أي الفرق الثلاثة ، يدخلونها أبو عمرو (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة جمع سوار (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي من ذهب مرصع باللؤلؤ ، ولؤلؤا بالنصب والهمزة نافع وحفص عطفا على محلّ من أساور ، أي يحلّون أساور ولؤلؤا (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) لما فيه من اللذة والزينة.

٣٤ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) خوف النار ، أو خوف الموت ، أو هموم الدنيا (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) يغفر الجنايات وإن كثرت (شَكُورٌ) يقبل الطاعات وإن قلّت.

٣٥ ـ (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها ، يقال أقمت إقامة ومقاما ومقامة (مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) تعب ومشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) إعياء من التعب وفترة. وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي (١) لغوب بفتح اللام ، وهو شيء يلغب منه ، أي لا نتكلّف عملا يلغبنا.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) جواب النفي ، ونصبه بإضمار أن ، أي لا يقضى عليهم بموت ثان فيستريحوا (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) من عذاب نار جهنم (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) يجزى كلّ (٢) أبو عمرو.

٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) يستغيثون ، فهو يفتعلون من الصراخ ، وهو الصياح بجهد وشدة (٣) ، واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته (٤) (رَبَّنا) يقولون ربّنا

__________________

(١) أبو عبد الرحمن السلمي : هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة مقرىء الكوفة أخذ القراءة عنه عرضا عاصم بن أبي النجود وغيره مات عام ٧٤ ه‍ (غاية النهاية ١ / ٤١٣).

(٢) زاد في (ظ) و (ز) كفور.

(٣) في (ظ) و (ز) بجهد ومشقة.

(٤) في (ظ) لجهد صوت المستغيث صوته ، وفي (ز) لجهر صوت المستغيث.

٤٩٧

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً) (٣٩)

(أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي أخرجنا من النار ردّنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر ونطع بدل (١) المعصية ، فيجابون (٢) بعد فدر (٣) عمر الدنيا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) يجوز أن يكون ما نكرة موصوفة أي تعميرا يتذكّر فيه من تذكّر ، وهو متناول لكلّ عمر تمكّن فيه المكلّف من إصلاح شأنه وإن قصر ، إلا أنّ التوبيخ في المتطاول أعظم ، ثم قيل (٤) هو ثمان عشرة سنة ، وقيل أربعون ، وقيل ستون (٥) (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) الرسول عليه‌السلام ، أو الشيب (٦) ، وهو عطف على معنى أولم نعمّركم ، لأنّ لفظه لفظ استخبار ومعناه إخبار ، كأنه قيل قد عمّرناكم وجاءكم النذير (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ناصر يعينهم.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب فيهما عنكم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالتعليل ، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كلّ غيب في العالم ، وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جارية ، أي ما في بطنها من الحبل ، لأن الحبل يصحب البطن ، وكذا المضمرات تصحب الصدور ، وذو موضوع بمعنى (٧) الصحبة.

٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) يقال للمستخلف خليفة ، ويجمع على خلائف ، والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه ، قد ملّككم مقاليد التصرف فيها ، وسلّطكم على ما فيها ، وأباح لكم منافعها ، لتشكروه بالتوحيد والطاعة (فَمَنْ كَفَرَ) منكم وغمط مثل هذه النعمة السّنيّة (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) فوبال كفره راجع عليه ، وهو مقت الله وخسار الآخرة ، كما قال (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) وهو أشدّ

__________________

(١) في (ز) بعد.

(٢) في (ز) فيجاوبون.

(٣) فدر : انقطع (انظر القاموس ٢ / ١٠٨).

(٤) في (ظ) وقيل.

(٥) زاد في (ز) سنة.

(٦) في (ز) المشيب.

(٧) في (ظ) و (ز) لمعنى.

٤٩٨

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (٤٢)

البغض (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) هلاكا وخسرانا.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) آلهتكم التي أشركتموهم في العبادة (الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أروني بدل من أرأيتم ، لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قيل أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه دون الله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أم (١) معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. بينات عليّ وابن عامر ونافع وأبو بكر (بَلْ إِنْ يَعِدُ) ما يعد (الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ) بدل من الظالمون وهم الرؤساء (بَعْضاً) أي الأتباع (إِلَّا غُرُوراً) هو قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٢).

٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) يمنعهما من أن تزولا ، لأنّ الإمساك منع (وَلَئِنْ زالَتا) على سبيل الفرض (إِنْ أَمْسَكَهُما) ما أمسكهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إمساكه ، ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي ، والثانية للإبتداء (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا لعظم كلمة الشرك كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) (٣) الآية.

٤٢ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) نصب على المصدر ، أي إقساما بليغا ، أو على الحال أي جاهدين في أيمانهم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) بلغ قريشا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرّسل فكذّبوهم فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم ،

__________________

(١) في (ز) أي.

(٢) يونس ، ١٠ / ١٨.

(٣) مريم ، ١٩ / ٩٠.

٤٩٩

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (٤٤)

أي من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة ، كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ما زادهم مجيء الرسول إلا تباعدا عن الحقّ ، وهو إسناد مجازي.

٤٣ ـ (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) مفعول له وكذا (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) والمعنى وما زادهم إلا نفورا للاستكبار ومكر السيىء ، أو حال يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (١) ، وأصل قوله ومكر السّيّىء هو (٢) أن مكروا السّيّىء أي المكر السّيّىء ، ثم ومكرا السّيّىء ، ثم ومكر السّيّىء ، والدليل عليه قوله (وَلا يَحِيقُ) يحيط وينزل و (الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ولقد حاق بهم يوم بدر ، وفي المثل من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا (٣) (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) وهي (٤) إنزال العذاب على الذين كذّبوا برسلهم من الأمم قبلهم ، والمعنى فهل ينتظرون (٥) بعد تكذيبك إلّا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذّبي الرّسل ، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) بيّن أنّ سنّته التي هي الانتقام من مكذبي الرّسل سنّة لا يبدّلها في ذاتها ولا يحوّلها عن أوقاتها وأنّ ذلك مفعول (٦) لا محالة.

٤٤ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام والعراق واليمن (٧) من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ) من أهل مكة (قُوَّةً) اقتدارا فلم يتمكنوا من الفرار (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) ليسبقه ويفوته (مِنْ شَيْءٍ) أيّ شيء (فِي

__________________

(١) ليس في (ز) والمؤمنين.

(٢) في (ظ) و (ز) وأن.

(٣) في (ز) مكبا.

(٤) في (ز) وهو.

(٥) في (ظ) و (ز) ينظرون.

(٦) ليس في (ز) له.

(٧) في (ظ) و (ز) الشام واليمن والعراق.

٥٠٠