تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

١٨ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي كافرا وهما محمولان على لفظ من ، وقوله (لا يَسْتَوُونَ) على المعنى بدليل قوله :

١٩ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) هي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء ، وقيل هي عن يمين العرش (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) عطاء بأعمالهم ، والنّزل عطاء النازل ثم صار عاما.

٢٠ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي ملجؤهم ومنزلهم (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ) أي تقول لهم خزنة النار (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وهذا دليل على أنّ المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان.

٢١ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي عذاب الدنيا من الأسر وما محنوا به من السّنة (١) سبع سنين (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي عذاب الآخرة ، أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة ، وعن الداراني : العذاب الأدنى الخذلان ، والعذاب الأكبر الخلود في النيران. وقيل العذاب الأدنى عذاب القبر (لَعَلَّهُمْ) لعلّ المعذّبين بالعذاب الأدنى (يَرْجِعُونَ) يتوبون عن الكفر.

٢٢ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ) وعظ (بِآياتِ رَبِّهِ) أي بالقرآن (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي فتولى عنها ولم يتدبر فيها ، وثم للاستبعاد أي أنّ الإعراض عن مثل هذه الآيات في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ، كما تقول لصاحبك وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ولم يقل منه لأنه إذا جعله أظلم كلّ ظالم ، ثم توعّد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دلّ على إصابة الأظلم

__________________

(١) السّنة : الجدب (النهاية ٢ / ٤١٣).

٤٢١

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٢٦)

النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

٢٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) شكّ (مِنْ لِقائِهِ) من لقاء موسى الكتاب ، أو من لقائك موسى ليلة المعراج ، أو يوم القيامة ، أو من لقاء موسى ربّه في الآخرة ، كذا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وجعلنا الكتاب المنزّل على موسى لقومه هدى.

٢٤ ـ (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) بهمزتين كوفي وشامي (يَهْدُونَ) الناس (١) ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه (بِأَمْرِنا) إياهم بذلك (لَمَّا صَبَرُوا) حين صبروا على الحقّ بطاعة الله ، أو عن المعاصي. لما صبروا حمزة وعليّ ، أي لصبرهم عن الدنيا ، وفيه دليل على أنّ الصبر ثمرته إمامة الناس (وَكانُوا بِآياتِنا) التوراة (يُوقِنُونَ) يعلمون علما لا يخالجه شكّ.

٢٥ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٢) بين الأنبياء وأممهم ، أو بين المؤمنين والمشركين (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيظهر المحقّ من المبطل.

٢٦ ـ (أَوَلَمْ) الواو للعطف على معطوف عليه منويّ من جنس المعطوف ، أي أولم يدع (يَهْدِ) يبيّن ، والفاعل الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب نهد (لَهُمْ) لأهل مكة (كَمْ) لا يجوز أن يكون كم فاعل يهد لأنّ كم للاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله ، ومحلّه نصب بقوله (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) كعاد وثمود وقوم لوط (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي أهل مكة يمرّون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) المواعظ فيتعظون (٣).

__________________

(١) في (ز) بذلك الناس.

(٢) في (ظ) و (ز) : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) يقضي (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

(٣) في (ز) فيتعظوا.

٤٢٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

٢٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) نجري المطر والأنهار (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي الأرض التي جرز نباتها ، أي قطع إما لعدم الماء أو لأنه رعي ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدليل قوله (فَنُخْرِجُ بِهِ) بالماء (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ) من الزرع (أَنْعامُهُمْ) من عصفه (١) (وَأَنْفُسُهُمْ) من حبّه (أَفَلا يُبْصِرُونَ) بأعينهم فيستدلّوا به على قدرته على إحياء الموتى.

٢٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) النصر ، أو الفصل بالحكومة من قوله (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) (٢) وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين ، أو يفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون ذلك قالوا : متى هذا الفتح؟ أي في أي وقت يكون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه كائن.

٢٩ ـ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) أي يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، أو يوم نصرهم عليهم ، أو يوم بدر ، أو يوم فتح مكة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وهذا الكلام لم ينطبق جوابا على سؤالهم ظاهرا ، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم ، فقيل لهم لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم ، فلا ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا ، ومن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر فهو يريد المقتولين منهم ، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق.

٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم (٣) وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليكم وهلاككم ، وكان عليه‌السلام لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة ، وتبارك

__________________

(١) العصف : بقل الزرع (القاموس ٣ / ١٧٥).

(٢) الأعراف ، ٧ / ٨٩.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) عليهم.

٤٢٣

الذي بيده الملك (١) ، وقال : (من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام) (٢) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سورة ألم تنزيل هي المانعة تمنع من عذاب القبر (٣).

__________________

(١) كنز العمال ٧ / ١٨٢٥٢.

(٢) قال ابن حجر : لم أجده. وفي كنز العمال : (من قرأ في ليلة ألم تنزيل السجدة واقتربت الساعة وتبارك كن له حرزا من الشيطان) ١ / ٢٤١٣.

(٣) زاد في (ظ) والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وفي (ز) والله أعلم.

٤٢٤

سورة الأحزاب

مدنية وهي ثلاث وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١)

قال أبيّ بن كعب لزرّ رضي الله عنهما : كم تعدون سورة الأحزاب ، قال : ثلاثا وسبعين ، قال : فو الذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن (١) ، وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض (٢).

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) وبالهمز نافع ، أي يا أيها المخبر عنا ، المأمون على أسرارنا ، المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا ، وإنما لم يقل يا محمد ، كما قال يا آدم ، يا

__________________

(١) رواه أحمد عن عاصم بن بهدلة عن زر ، وأخرجه الحاكم عن عاصم عن زر أيضا وصححه وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وفي كنز العمال عن عمر ٢ / ٤٥٥٠.

(٢) قال ابن حجر : بل راويها ثقة غير متهم. قال إبراهيم الحربي في الغريب : حدثنا هارون بن عبد الله ابن الرجم : «أنزل في سورة الأحزاب مكتوبا في خوصة ، فأكلتها شاتها» وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة ، كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. انتهى ، وكأن المصنف فهم أن ثبوت هذه الزيادة يقتضي ما تدعيه الروافض : أن القران ذهب منه أشياء. وليس بلازم ، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه ، وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ.

٤٢٥

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤)

موسى ، تشريفا له ، وتنويها بفضله ، وتصريحه باسمه في قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (١) ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله (اتَّقِ اللهَ) اثبت على تقوى الله ودم عليه وازدد منه ، فهو باب لا يدرك مداه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) ولا تساعدهم على شيء ، واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله والمؤمنين ، وروي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السّلميّ (٢) قدموا المدينة بعد قتال أحد ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ، وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه ، فقالوا : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تنفع وتشفع ، ووازرهم المنافقون على ذلك فهمّ المسلمون بقتلهم فنزلت (٣) ، أي اتق الله في نقض العهد ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخبث أعمالهم (حَكِيماً) في تأخير الأمر بقتالهم.

٢ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في الثبات على التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين (إِنَّ اللهَ) الذي يوحي إليك (كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي لم يزل عالما بأعمالهم وأعمالكم ، وقيل إنما جمع لأنّ المراد بقوله اتّبع هو وأصحابه ، وبالياء أبو عمرو ، أي بما يعمل الكافرون والمنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم.

٣ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا موكولا إليه كل أمر ، وقال الزّجّاج : لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلا.

٤ ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ما جمع الله قلبين (٤) لأنه لا يخلو إمّا أن

__________________

(١) الفتح ، ٤٨ / ٢٩.

(٢) أبو الأعور السلمي : عمرو بن سفيان ، له صحبة ، قاتل مع معاوية في صفين ، توفي في خلافة معاوية (تاريخ الإسلام ـ عهد معاوية ـ ٤١ ـ ٦٠ ه‍ ، الأنساب ٣ / ٢٧٨).

(٣) قال ابن حجر : ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.

(٤) في (ظ) و (ز) زاد : في جوف ولا زوجية وأمومة في امرأة ولا بنوة ودعوة في رجل ، والمعنى أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين.

٤٢٦

يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر (١) من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليه ، وإمّا أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها عالما ظانّا موقنا شاكا في حالة واحدة ، لم يحكم أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له لأنّ الأم مخدومة والمرأة خادمة وبينهما منافاة ، وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل ابنا له لأن البنوة أصالة في النسب والدّعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة (٢) وهو رجل من كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن حزام (٣) لعمته خديجة (٤) ، فلما تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبته له ، فطلبه أبوه وعمّه ، فخيّر فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه وتبناه ، وكانوا يقولون زيد بن محمد ، فلمّا تزوّج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب (٥) وكانت تحت زيد قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه ، فأنزل الله هذه الآية ، وقيل كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان قلب معكم وقلب مع أصحابه ، وقيل كان أبو معمر (٦) أحفظ العرب ، فقيل له ذو القلبين ، فأكذب الله قولهم وضربه مثلا في الظّهار والتبني. والتنكير في رجل وإدخال من الاستغراقية على قلبين وذكر الجوف للتأكيد ، اللائي بياء بعد الهمزة حيث كان كوفي وشامي ، اللاء نافع ويعقوب وسهل ، وهي جمع التي ، تظاهرون عاصم من ظاهر إذا قال لامرأته أنت عليّ كظهر أميّ ، تظاهرون عليّ وحمزة وخلف ، تظّاهرون شامي من الظّاهر بمعنى تظاهر ، غيرهم تظّهّرون من اظّهّر بمعنى تظهّر ، وعدّي بمن لتضمنه معنى البعد ، لأنه كان طلاقا في الجاهلية ، ونظيره آلى من امرأته ، لما ضمّن معنى التباعد عدّى بمن وإلا فآلى في أصله الذي هو معنى حلف وأقسم ليس هذا بحكمه ،

__________________

(١) زاد في (ز) فعلا.

(٢) زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، صحابي من أقدمهم إسلاما استشهد في غزوة مؤتة عام ٨ ه‍ (الأعلام ٣ / ٥٧).

(٣) حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. أبو خالد ، صحابي ، قرشي وهو ابن أخي خديجة أم المؤمنين ، كان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام ، أسلم يوم الفتح توفي عام ٥٤ ه‍ (الأعلام ٢ / ٢٦٩).

(٤) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ، من قريش ، أم المؤمنين أول من أسلم من الرجال والنساء ، أم أولاد النبي عليه‌السلام غير إبراهيم ، ولدت عام ٦٨ ق. ه وتوفيت في مكة عام ٣ ه‍ (الأعلام ٢ / ٣٠٢).

(٥) زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية من أسد خزيمة ، أم المؤمنين وبسببها نزلت آية الحجاب ، روت ١١ حديثا ولدت عام ٣٣ ق. ه وماتت عام ٢٠ ه‍ (الأعلام ٣ / ٦٦).

(٦) أبو معمر ـ ذو القلبين : لم أجد له ترجمة.

٤٢٧

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

والدّعي فعيل بمعنى مفعول ، وهو الذي يدعى ولدا ، وجمع على أفعلاء شاذا لأنّ بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء وشقي وأشقياء ، ولا يكون ذلك في نحو رميّ وسميّ للتشبيه اللفظي (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي أنّ قولكم للزوجة هي أمّ وللدّعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ، إذ الابن أن (١) يكون بالولادة وكذا الأمّ (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي ما هو (٢) حقّ ظاهره وباطنه (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي سبيل الحقّ.

ثم قال ما هو الحقّ وهدى إلى ما هو سبيل الحقّ وهو قوله :

٥ ـ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ) أعدل (عِنْدَ اللهِ) وبيّن أنّ دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل ، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد (٣) الرجل ضمّه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه ، فيقال فلان بن فلان ، ثم انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث وصل الجملة الطلبية ، ثم فصل الخبرية عنها ، ووصل بينها ، ثم فصل الأسمية عنها ووصل بينها ، ثم فصل بالطلبية (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين ، فقولوا هذا أخي وهذا مولاي ، ويا أخي ويا مولاي ، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النّهي (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النّهي ، أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطإ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمّدين ، وما في موضع الجرّ عطف على ما الأولى ، ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على سبيل العموم ، ثم تناول

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) أن.

(٢) في (ز) سقطت هو.

(٣) جلد الرجل : أي ولد غيره. والجلد محركة جلد البوّ ـ ولد الناقة ـ يحشى ثماما ـ نبت ـ ويخيل للناقة فترأم بذلك ـ تعطف ـ على غير ولدها ، أو جلد حوار ـ وقد يكسر ولد الناقة ساعة تضعه أو إلى أن يفصل عن أمه ـ يلبس حوارا آخر لترأمه. (انظر القاموس ١ / ٢٨٣ و ٤ / ٣٠٦ و ٨٦ و ١١٦ و ٢ / ١٥) وفي (ظ) و (ز) ولد الرجل.

٤٢٨

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦)

لعمومه خطأ التبني وعمده ، وإذا وجد التبني ، فإن كان المتبنّى مجهول النسب وأصغر سنا منه ثبت نسبه منه ، وعتق إن كان عبدا له ، وإن كان أكبر سنا منه لم يثبت النسب ، وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني ، وعتق إن كان عبدا (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لا يؤاخذكم بالخطإ ويقبل التوبة من المتعمّد.

٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أحقّ بهم في كلّ شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه ، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) وفي قراءة ابن مسعود النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ، وقال مجاهد : كلّ نبيّ أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبوهم في الدين (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) في تحريم نكاحهنّ ووجوب تعظيمهنّ ، وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ، ولهذا لم يتعدّ التحريم إلى بناتهن (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) وذوو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث ، وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ، ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحقّ القرابة (فِي كِتابِ اللهِ) في حكمه وقضائه ، أو في اللوح (٢) ، أو فيما فرض الله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام ، أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين ، أي الأنصار بحقّ الولاية في الدين ومن المهاجرين بحقّ الهجرة (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) الاستثناء من خلاف الجنس ، أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز ، وهو أن توصوا لمن احببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث ، وعدّي تفعلوا بإلى لأنه في معنى تسدوا ، والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي التوارث بالأرحام كان مسطورا في اللوح.

__________________

(١) التوبة ، ٩ / ١٢٨.

(٢) في (ظ) و (ز) زاد المحفوظ.

٤٢٩

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٩)

٧ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيّم (وَمِنْكَ) خصوصا وقدّم رسول الله على نوح ومن بعده لأنّ هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع ، فلما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل هؤلاء قدّم عليهم ، ولو لا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وثيقا ، وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه ، وإنما فعلنا ذلك :

٨ ـ (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ) أي الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) عما قالوه لقومهم ، أو ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم ، لأنّ من قال للصادق صدقت كان صادقا في قوله ، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به (١) أممهم ، وهو كقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٢) (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) بالرسل (عَذاباً أَلِيماً) وهو عطف على أخذنا ، لأنّ المعنى أنّ الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما ، أو على ما دلّ عليه ليسأل الصادقين ، كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق ، وكان بعد حرب أحد بسنة (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) أي الأحزاب ، وهم قريش (٣) وغطفان (٤) وقريظة (٥) والنضير (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي الصّبا ، قال عليه‌السلام : (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) (٦) (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها)

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) به.

(٢) المائدة ، ٥ / ١٠٩.

(٣) قريش : سميت قريش بهذا الاسم لتجمعهم على قصيّ بن كلاب وسمي قصي مجمعا ، وهي بطنان : قريش البطاح وقريش الظواهر (معجم البلدان ٤ / ٤٨٤).

(٤) غطفان : قبيلة من قيس عيلان وهي بيت قيس عيلان نزلت الكوفة (معجم البلدان ٤ / ٣٠٢).

(٥) قريظة : هو اسم رجل نزل قلعة حصينة بقرب المدينة فنسب إليهم ، وقريظة والنضير أخوان من أولاد هارون عليه‌السلام.

(٦) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

٤٣٠

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠)

وهم الملائكة ، وكانوا ألفا بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم (١) ، وأسفّت (٢) التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب (٣) ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكبّرت الملائكة في جوانب عسكرهم ، فانهزموا من غير قتال ، وحين سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام (٤) واشتد الخوف ، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة (٥) وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد (٦) وقائدهم عيينة بن حصن (٧) وعامر بن الطّفيل في هوازن (٨) وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصّن بالخندق والثبات على معاونة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَصِيراً) وبالياء أبو عمرو ، أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله.

١٠ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من إذ جاءتكم (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من أعلى الوادي من

__________________

(١) الخصر : البارد (القاموس ٢ / ٢٠).

(٢) في (أ) سفت ، وأسفت التراب من وجوههم : أدنته منها (انظر القاموس ٣ / ١٥٢).

(٣) الأطناب : حبال طويلة يشد بها الوتد (القاموس ١ / ٩٨).

(٤) الآطام : كل حصن بني بحجارة وكل بيت مربع مسطح (القاموس ٤ / ٧٤).

(٥) تهامة : قيل حدودها في غربيها بحر القلزم وفي شرقيها جبال متصلة من الجنوب إلى الشمال ، وطول أرض تهامة من الشرجة إلى عدن على الساحل اثنتا عشرين مرحلة وفي شرقيها مدينة صعدة وجرش ونجران ، وفي شمالها مكة وجدة وفي جنوبها صنعاء نحو عشرين مرحلة (معجم البلدان ٢ / ٧٤ هامش).

(٦) نجد : قيل نجد هو اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام (معجم البلدان ٥ / ٣٠٣).

(٧) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر : كان من رؤوس الأحزاب أسلم قبل الفتح بيسير ثم ارتد وتبع طليحة الأسدي المتنبىء ثم رجع إلى الإسلام فأمنه أبو بكر رضي الله عنه ، توفي زمن أو بعد عثمان رضي الله عنه (تاريخ الإسلام ـ عهد الخلفاء الراشدين).

(٨) هوازن : قبيلة بطن من قيس عيلان من العدنانية أغار عليهم النبي عليه‌السلام (نهاية الأرب).

٤٣١

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) (١٢)

قبل المشرق بنو غطفان (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة ، أو عدلت عن كلّ شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوّها لشدة الروع (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) الحنجرة رأس الغلصمة ، وهي منتهى الحلقوم ، والحلقوم مدخل الطعام والشراب ، قالوا إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، وقيل هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة. روي أنّ المسلمين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : (نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا) (١) (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) خطاب للذين آمنوا ومنهم الثّبّت القلوب والأقدام ، والضعاف القلوب (٢) والمنافقون ، فظنّ الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. قرأ أبو عمرو وحمزة الظنون بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبالألف فيهما مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبالألف في الوقف فقط (٣) مكي وعليّ وحفص ، ومثله الرسولا والسبيلا زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية من قال (٤) : أقلى اللوم عاذل والعتابا. وهن كلّهن في «الإمام» (٥) بالألف.

١١ ـ (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) امتحنوا بالصبر على الإيمان (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) وحرّكوا بالخوف تحريكا بليغا.

١٢ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) عطف على الأول (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قيل هو وصف المنافقين بالواو كقوله (٦) :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله ، والطبري عن أبي سعيد.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) الذين هم على حرف.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) فقط.

(٤) البيت لجرير وعجزه : وقولي إن أحبت لقد أصابا.

(٥) في الإمام : أي في المصحف الإمام وهو مصحف عثمان رضي الله عنه.

(٦) سبق الاستشهاد به في سورة البقرة الآية ٤.

٤٣٢

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً) (١٤)

وقيل هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) روي أنّ معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقا ، ما هذا إلا وعد غرور (١).

١٣ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) هو اسم (٢) المدينة (لا مُقامَ لَكُمْ) (٣) وبضمّ الميم حفص أي لا قرار لكم ههنا ، ولا مكان تقومون فيه ، أو تقيمون (فَارْجِعُوا) إلى الكفر (٤) أو من عسكر رسول الله إلى المدينة (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي بنو حارثة (٥) (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي ذات عورة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) العورة الخلل والعورة ذات العورة ، وهي قراءة ابن عباس يقال عور المكان عورا إذا بدا منه خلل يخاف منه العدوّ والسارق ، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة ، اعتذروا أنّ بيوتهم عرضة للعدوّ والسراق (٦) لأنها غير محصّنة ، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار من القتال.

١٤ ـ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة أو بيوتهم من قولك دخلت على فلان داره (مِنْ أَقْطارِها) من جوانبها ، أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفا منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلّها وانثالت (٧) على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين (ثُمَّ سُئِلُوا) عند ذلك الفزع (الْفِتْنَةَ) أي الرّدّة والرّجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين (لَآتَوْها) لأعطوها. لأتوها بلا مدّ حجازي ، أي لجاؤوها وفعلوها (وَما

__________________

(١) رواه الطبري من حديث الخندق وقال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف.

(٢) في (ظ) و (ز) هم أهل المدينة.

(٣) في مصحف النسفي : (لا مُقامَ) بفتح الميم لذلك قال : ...

(٤) في (ز) عن الإيمان إلى الكفر.

(٥) بنو حارثة بن عامر بطن من الأوس من الأزد من القحطانية.

(٦) في (ز) السارق.

(٧) انثالت : انصبت (انظر القاموس ٤ / ٥٤).

٤٣٣

وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٨)

(تَلَبَّثُوا بِها) بإجابتها (إِلَّا يَسِيراً) ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف ، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا فإنّ الله يهلكهم ، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ليفرّوا عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وعن مصافّة الأحزاب الذين ملئوهم هولا ورعبا ، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر ، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعلّلوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبّهم الكفر.

١٥ ـ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي بنو حارثة من قبل الخندق ، أو من قبل نظرهم إلى الأحزاب (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) منهزمين (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) مطلوبا مقتضى حتى يوفى به.

١٦ ـ (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار وإن لم يحضر وفررتم لم تمتّعوا في الدنيا إلا قليلا ، وهو مدة أعماركم ، وذلك قليل ، وعن بعض المروانيّة (١) أنه مرّ بحائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب.

١٧ ـ (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي مما أراد الله إنزاله بكم (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) في أنفسكم من قتل أو غيره (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي إطالة عمر في عافية وسلامة ، أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة ، لما في العصمة من معنى المنع (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ناصرا.

١٨ ـ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي من يعوّق عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يمنع ، وهم المنافقون (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) في الظاهر من المسلمين (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي

__________________

(١) المروانية : نسبة إلى أحد رجلين : مروان بن الحكم وهو والد المروانية وإليه ينسبون وكذلك جميع الخلفاء المروانية تنسب إليه ، والثاني مروان بن غيلان بن خرشة الضبي (الأنساب ٥ / ٢٦٤).

٤٣٤

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً) (٢٠)

قربوا أنفسكم إلينا ودعوا محمدا ، وهي لغة أهل الحجاز فإنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة ، وأما تميم فيقولون هلمّ يا رجل وهلمّوا يا رجال ، وهو صوت سمّي به فعل متعد نحو أحضر وقرّب (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي الحرب (إِلَّا قَلِيلاً) إلا إتيانا قليلا ، أي يحضرون ساعة رياء ، ويقفون قليلا مقدار ما يرى شهودهم ، ثم ينصرفون.

١٩ ـ (أَشِحَّةً) جمع شحيح ، وهو البخيل ، نصب على الحال من الضمير في يأتون ، أي يأتون الحرب بخلاء (عَلَيْكُمْ) بالظفر والغنيمة (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) من قبل العدوّ ، أو منه عليه‌السلام (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) يمينا وشمالا (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) كما ينظر المغشيّ عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا (١) ، ولو اذا (٢) بك (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) زال ذلك الخوف وأمنوا وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام. خطيب مسلق فصيح ، ورجل مسلاق مبالغ في الكلام ، أي يقولون وفّروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوّكم (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة ، وأشحة حال من فاعل سلقوكم (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) في الحقيقة بل بالألسنة (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال (وَكانَ ذلِكَ) إحباط أعمالهم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هيّنا.

٢٠ ـ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي لجبنهم يظنون أنّ الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) البادون جمع البادي ، أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه المؤمنون (٣) من القتال (يَسْئَلُونَ) كلّ قادم منهم من جانب المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ)

__________________

(١) في (ظ) و (ز) خوفا.

(٢) اللواذ : المراوغة (القاموس ١ / ٣٥٨).

(٣) في (ظ) و (ز) الخوف.

٤٣٥

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣)

عن أخباركم وعما جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رياء وسمعة.

٢١ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) بالضم حيث كان عاصم ، أي قدوة وهو المؤتسى به ، أي المقتدى به ، كما تقول في البيضة عشرون منا (١) حديدا ، أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد ، أو فيه خصلة من حقّها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر ، أو يأمل ثواب الله ونعيم الآخرة ، قالوا لمن بدل من لكم وفيه ضعف ، لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب ، وقيل لمن يتعلق بحسنة ، أي أسوة حسنة كائنة لمن كان (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي في الخوف والرجاء والشدّة والرّخاء.

٢٢ ـ (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢) إلى قوله : (قَرِيبٌ) فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) وعلموا أنّ الجنة والنصر قد وجبا (٣) لهم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : (إنّ الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك) (٤) وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء (وَما زادَهُمْ) ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم (إِلَّا إِيماناً) بالله وبمواعيده (وَتَسْلِيماً) لقضاياه (٥) وقدره.

٢٣ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي فيما عاهدوه عليه

__________________

(١) منا : المنا مقصور الذي يوزن به (مختار الصحاح).

(٢) البقرة ، ٢ / ٢١٤.

(٣) في (ظ) أن الجنة والنصرة قد وجبت ، وفي (ز) أن الغلبة والنصرة قد وجبت.

(٤) قال ابن حجر : لم أجده.

(٥) في (ز) لقضائه.

٤٣٦

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٢٥)

فحذف الجارّ كما في المثل صدقني سنّ بكرة أي صدقني في سنّ بكرة (١) بطرح الجار وإيصال الفعل. نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعيد بن زيد (٢) وحمزة ومصعب وغيرهم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي مات شهيدا كحمزة ومصعب. وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأنّ كلّ حيّ من المحدثات لا بدّ له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة (وَما بَدَّلُوا) العهد (تَبْدِيلاً) ولا غيّروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، وفيه تعريض لمن بدّلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب ، كما مر في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ).

٢٤ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) بوفائهم بالعهد (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) إذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) بقبول التوبة (رَحِيماً) بعفو الحوبة ، جعل المنافقون (٣) كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها.

٢٥ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) حال ، أي مغيظين ، كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٤) (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) ظفرا ، أي لم يظفروا بالمسلمين ، وسماه خيرا بزعمهم ، وهو حال أي غير ظافرين (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) قادرا غالبا.

__________________

(١) بكرة : الأنثى الفتية من الإبل (مختار الصحاح).

(٢) سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي ، أبو الأعور ، صحابي من خيارهم ، هاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها إلا بدرا وهو من العشرة المبشرين بالجنة ولد عام ٢٢ ق. ه ومات عام ٥١ ه‍ (الأعلام ٣ / ٩٤) وفي (ز) سعد بن زيد وهو تصحيف.

(٣) في (ظ) و (ز) جعل المنافقين.

(٤) المؤمنون ، ٢٣ / ٢٠.

٤٣٧

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨)

٢٦ ـ (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) عاونوا الأحزاب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من بني قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم ، الصّيصيّة ما تحصّن به ، روي أنّ جبريل عليه‌السلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم ، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، فقال : (ما هذا يا جبريل؟) قال : من متابعة قريش ، فقال : يا رسول الله إنّ الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله داقّهم دقّ البيض على الصّفا ، وإنهم لكم طعمة ، فأذّن في الناس أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلّا في بني قريظة ، فحاصروهم خمسا وعشرين ليلة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تنزلون على حكمي؟) فأبوا ، فقال : (على حكم سعد بن معاذ) فرضوا به ، فقال سعد حكمت فيهم إن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) ثم استنزلهم ، وخندق في سوق المدينة خندقا وقدّمهم فضرب أعناقهم ، وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير (١) (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف ، وبضم العين شامي وعليّ ، ونصب (فَرِيقاً) بقوله (تَقْتُلُونَ) وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذراري.

٢٧ ـ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) أي المواشي والنقود والأمتعة ، روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم : (إنكم في منازلكم) (٢) (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بقصد القتال ، وهي مكة ، أو فارس والروم ، أو خيبر ، أو كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قادرا.

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي السعة (٣) في الدنيا وكثرة الأموال (فَتَعالَيْنَ) أصل تعال أن يقوله من في المكان

__________________

(١) هو في سيرة ابن هشام في غزوة بني قريظة.

(٢) الواقدي في المغازي.

(٣) في (ز) السعادة.

٤٣٨

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠)

المرتفع لمن في المكان المستوطيّ ، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة ، ومعنى تعالين أقبلن بإرادتكنّ واختياركنّ لأحد الأمرين ، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهن كقولك (١) قام يهدّدني (أُمَتِّعْكُنَ) أعطكنّ متعة الطلاق ، وتستحبّ المتعة لكلّ مطلقة إلا المفوّضة (٢) قبل الوطء (وَأُسَرِّحْكُنَ) وأطلّقكنّ (سَراحاً جَمِيلاً) لا ضرار فيه ، أردن شيئا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغمّ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبّهنّ إليه ، فخيّرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختار جميعهنّ اختيارها (٣) ، وروي أنه قال لعائشة : إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، ثم قرأ عليها القرآن ، فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي!؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة (٤) ، وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري ، فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء ، وعن عليّ رضي الله عنه إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة.

٢٩ ـ (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) من للبيان لا للتبعيض (٥) (أَجْراً عَظِيماً).

٣٠ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) سيئة بليغة في القبح (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة فحشها (٦) ، من بيّن بمعنى تبين ، وبفتح الياء مكي وأبو بكر ، قيل هي عصيانهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشوزهن ، وقيل الزّنا والله عاصم رسوله من ذلك (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) يضعّف لها العذاب مكي وشامي ، يضعّف أبو عمرو ويزيد ويعقوب (ضِعْفَيْنِ) ضعفي عذاب غيرهنّ من النساء ، لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن ، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء

__________________

(١) في (ظ) و (ز) كقوله.

(٢) المفوّضة : هي التي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا فإنّ متعتها واجبة لأنها بدل عن نصف مهر المثل (اللباب في شرح الكتاب ٢ / ١٥٢).

(٣) الطبري عن الحسن بنحوه.

(٤) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٥) في (ز) من البيان لا التبعيض.

(٦) في (ز) ظاهر فحشها.

٤٣٩

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣)

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا كان الذمّ للعاصي العالم أشدّ من العاصي الجاهل ، لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذا فضّل حدّ الأحرار على العبيد ، ولا يرجم الكافر (وَكانَ ذلِكَ) أي تضعيف العذاب عليهن (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا.

٣١ ـ (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) القنوت الطاعة (وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها) وبالياء فيهما حمزة وعلي (أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) مثلي ثواب غيرها (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) جليل القدر وهو الجنة.

٣٢ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، إذا تقصّيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكنّ في الفضل. وأحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) إن أردتن التقوى ، أو إن كنتنّ متّقيات (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي إذا كلمتنّ الرجال من وراء حجاب (١) فلا تجئن بقولكنّ خاضعا أي ليّنا خنثا مثل كلام المريبات (فَيَطْمَعَ) بالنصب على جواب النهي (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ريبة وفجور (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا مع كونه خشنا.

٣٣ ـ (وَقَرْنَ) مدني وعاصم غير هبيرة ، وأصله اقررن فحذفت الراء تخفيفا وألقيت فتحتها على ما قبلها ، أو من قار يقار إذا اجتمع ، والباقون قرن من وقر يقر وقارا ، أو من قرّ يقرّ حذفت الأولى من راءي اقررن قرارا من التكرير (٢) ، ونقلت كسرتها إلى القاف (فِي بُيُوتِكُنَ) بضم الباء بصري ومدني وحفص (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي القديمة ، والتبرّج التبختر في المشي أو إظهار الزينة ، والتقدير ولا تبرّجن تبرجا مثل تبرّج النساء في الجاهلية الأولى ، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم ، أو ما بين آدم ونوح ، أو زمن داود وسليمان عليهم‌السلام ، والجاهلية

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الحجاب.

(٢) في (ظ) و (ز) التكرار.

٤٤٠