تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (٤٩)

بغير آلة مشي من أرجل أو غيرها ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) كيف يشاء (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يتعذّر عليه شيء.

٤٦ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بلطفه ومشيئته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) دين (١) الإسلام الذي يوصل إلى جنته ، فالآيات لإلزام حجّته.

لما ذكر إنزال الآيات ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق : فرقة صدّقت ظاهرا وكذّبت باطنا وهم المنافقون ، وفرقة صدّقت ظاهرا وباطنا وهم المخلصون ، وفرقة كذّبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون على هذا الترتيب ، وبدأ بالمنافقين فقال :

٤٧ ـ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) بألسنتهم (وَأَطَعْنا) الله والرسول (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول وأطعنا (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي مخلصين (٢) ، وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا لا إلى الفريق المتولى وحده ، وفيه إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء ، والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلّهم.

٤٨ ـ (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى رسول الله كقولك أعجبني زيد وكرمه تريد كرم زيد (لِيَحْكُمَ) الرسول (بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فاجأ من فريق منهم الإعراض ، نزلت في بشر المنافق (٣) وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض ، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمنافق إلى كعب بن الأشرف ويقول : إنّ محمدا يحيف علينا.

٤٩ ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي إذا كان الحقّ لهم على غيرهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) حال ، أي مسرعين في الطاعة طلبا لحقّهم لا رضا بحكم رسولهم ، قال الزّجّاج : الإذعان الإسراع مع الطاعة ، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس

__________________

(١) في (ز) الحادين.

(٢) في (ظ) و (ز) المخلصين.

(٣) بشر المنافق لم أجد له ترجمة.

٢٢١

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣)

معك إلا الحقّ المرّ والعدل البحت يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحقّ لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حقّ على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم.

٥٠ ـ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين ، أو مرتابين في أمر نبوته ، أو خائفين الحيف في قضائه ، ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله ، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحقّ عليهم ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه.

٥١ ـ (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) وعن الحسن قول بالرفع ، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسما لكان أوغلهما في التعريف ، وأن يقولوا أوغل بخلاف قول المؤمنين (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ) النبيّ عليه الصلاة والسلام ليحكم يزيد ليفعل (١) الحكم (بَيْنَهُمْ) بحكم الله الذي أنزل عليه (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) قوله (وَأَطَعْنا) أمره (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

٥٢ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) في سننه (وَيَخْشَ اللهَ) على ما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما يستقبل (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية ، وهي جامعة لأسباب الفوز ، ويتقه بسكون الهاء أبو عمرو وأبو بكر بنية الوقف ، وبسكون القاف وبكسر الهاء مختلسة حفص ، وبكسر القاف والهاء غيرهم.

٥٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين لأنّهم

__________________

(١) في (ظ) ليحكم يزيد أي ليفعل ، وفي (ز) ليحكم أي ليفعل.

٢٢٢

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤)

بذلوا فيها مجهودهم ، وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها ، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدّتها ووكادتها (١) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال بالله فقد جهد يمينه ، وأصل أقسم جهد اليمين أقسم بجهد اليمين جهدا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول ، كقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (٢) وحكم هذا المنصوب حكم الحال كأنه قال جاهدين أيمانهم (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) أي لئن أمرنا محمد بالخروج إلى الغزو لغزونا ، أو بالخروج من ديارنا لخرجنا (قُلْ لا تُقْسِمُوا) لا تحلفوا كاذبين لأنه معصية (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ، مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشكّ فيها ولا يرتاب كطاعة الخلّص من المؤمنين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.

٥٤ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) يريد فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم ، فإنّ الرسول ليس عليه إلا ما حمّله الله تعالى وكلّفه من أداء الرسالة ، فإذا أدّى فقد خرج عن عهدة تكليفه ، وأما أنتم فعليكم ما كلّفتم من التلقي بالقبول والإذعان ، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط (٣) الله وعذابه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) أي وإن أطعتموه فيما يأمركم وينهاكم فقد أحرزتم نصيبكم من الهدى ، فالضرر (٤) والنفع عائدان إليكم (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وما على الرسول إلّا أن يبلّغ ما له نفع في قبولكم (٥) ، ولا عليه ضرر في توليكم ، والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية ، والمبين الظاهر لكونه مقرونا بالآيات والمعجزات. ثم ذكر المخلصين فقال :

__________________

(١) وكادتها : الجمع وكائد وهي سيور يشد بها (القاموس ١ / ٣٤٦).

(٢) محمد ، ٤٧ / ٤.

(٣) في (أ) سخط.

(٤) زاد في (ظ) و (ز) في توليكم.

(٥) في (ز) قلوبكم.

٢٢٣

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥)

٥٥ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الخطاب للنبيّ عليه الصلاة والسلام ولمن معه ومنكم للبيان ، وقيل المراد به المهاجرون ، ومن للتبعيض (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الكفار ، وقيل أرض المدينة ، والصحيح أنه عام لقوله عليه الصلاة والسلام : (ليدخلنّ هذا الدين على ما دخل عليه الليل) (١) (كَمَا اسْتَخْلَفَ) استخلف أبو بكر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) وليبدلنهم بالتخفيف مكي وأبو بكر (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ، ويورثهم الأرض ، ويجعلهم فيها خلفاء ، كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بهد إهلاك الجبابرة ، وأن يمكّن الدين المرتضى وهو دين الإسلام ، وتمكينه تثبيته وتعضيده ، وأن يؤمّن سربهم ، ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه.

وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ، فنزلت ، فقال عليه الصلاة والسلام : (لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة) (٢) فأنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا.

والقسم المتلقى باللام ، والنون في ليستخلفنهم محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو نزل وعد الله في التحقق (٣) منزلة القسم يتلقى (٤) بما يتلقى به القسم كأنه (٥) أقسم الله ليستخلفنهم (يَعْبُدُونَنِي) إن جعلته استئنافا فلا محلّ له ، كأنه قيل ما لهم يستخلفون ويؤمّنون؟ فقال : يعبدونني موحدين (٦) ، وإن جعلته حالا عن

__________________

(١) لم أجده.

(٢) الطبري في تفسيره عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، وفي الطبري : محتبيا فيه ، ليس فيه حديدة.

(٣) في (ظ) و (ز) تحققه.

(٤) في (ظ) و (ز) فيتلقى.

(٥) زاد في (ز) قيل.

(٦) زاد في (ز) ويجوز أن يكون حالا بدلا من الحال الأولى.

٢٢٤

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٨)

وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم فمحلّه النصب (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من فاعل يعبدونني (١) ، أي يعبدونني موحدين ، ويجوز أن يكون حالا بدلا من الحال الأولى (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الموعد (٢) ، والمراد كفران النعمة كقوله تعالى : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) (٣) (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة الجسيمة وجسروا على غمطها ، قالوا : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه ، فاقتتلوا بعدما كانوا إخوانا وزال عنهم الخوف ، والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ، لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.

٥٦ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يضرّ الفصل وإن طال (وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يدعوكم إليه ، وكررت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي ترحموا ، فإنها من مستجلبات الرحمة ، ثم ذكر الكافرين فقال :

٥٧ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي فائتين الله بأن لا يقدر عليهم فيها ، فالتاء خطاب للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، وهو الفاعل ، والمفعولان الذين كفروا ومعجزين. وبالياء شامي وحمزة ، والفاعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدّم ذكره والمفعولان الذين كفروا ومعجزين (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) معطوف على لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين ، كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع النار.

٥٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أمر بأن يستأذن العبيد

__________________

(١) في (ز) يعبدون.

(٢) في (ظ) و (ز) الوعد.

(٣) النحل ، ١٦ / ١١٢.

٢٢٥

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٩)

أو العبيد (١) والإماء (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) والأطفال (٢) الذين لم يحتلموا من الأحرار ، وقرىء بسكون اللام تخفيفا (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في اليوم والليلة وهي (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ، ولبس ثياب اليقظة (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وهي نصف النهار في القيظ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت التجرّد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هي أوقات ثلاث عورات ، فحذف المبتدأ والمضاف. وبالنصب كوفي غير حفص بدلا من ثلاث مرات ، أي أوقات ثلاث عورات ، وسمّي كلّ واحد من هذه الأحوال عورة لأنّ الإنسان يختلّ تستره فيها ، والعورة : الخلل ، ومنها الأعور المختلّ العين. دخل غلام من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو على عمر رضي الله عنه وقت الظهيرة وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي الله عنه ، وددت أنّ الله نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بالإذن فانطلق إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد نزلت عليه الآية (٣) ، ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات بقوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان بعدهنّ ، ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم طوافون لحوائج (٤) البيت (بَعْضُكُمْ) مبتدأ خبره (عَلى بَعْضٍ) تقديره بعضكم طائف على بعض فحذف طائف لدلالة طوافون عليكم (٥) ، ويجوز أن تكون الجملة بدلا من التي قبلها وأن تكون مبينة مؤكدة ، يعني أنّ بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كلّ وقت لأفضى إلى الحرج وهو مدفوع في الشرع بالنصّ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي كما بيّن حكم الاستئذان يبيّن لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده (حَكِيمٌ) في بيان مراده.

٥٩ ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أي الأحرار دون المماليك (الْحُلُمَ)

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) أو العبيد.

(٢) في (ز) أي الأطفال.

(٣) قال ابن حجر : هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس بغير سند.

(٤) في (ظ) لحاجة ، وفي (ز) بحوائج.

(٥) في (ظ) و (ز) عليه.

٢٢٦

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

الاحتلام (١) ، أي إذا بلغوا وأرادوا الدخول عليكم (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال ، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) (٢) الآية ، والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسنّ وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن والناس عن هذا غافلون ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهنّ الناس الإذن كلّه وقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣) (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) (٤) وعن سعيد بن جبير : يقولون هي منسوخة والله ما هي بمنسوخة ، وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) فيما بيّن من الأحكام (حَكِيمٌ) بمصالح الأنام (٥).

٦٠ ـ (وَالْقَواعِدُ) جمع قاعد لأنها من الصفات المختصة بالنساء كالطالق والحائض أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهنّ (مِنَ النِّساءِ) حال (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه ، وهي في محلّ الرفع صفة للمبتدأ وهي القواعد ، والخبر (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) إثم ، ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط بسبب الألف واللام (أَنْ يَضَعْنَ) في أن يضعن (ثِيابَهُنَ) أي الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار (غَيْرَ) حال (مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير مظهرات زينة ، يريد الزينة الخفية كالشعر والنحر والساق ونحو ذلك ، أي لا يقصدن بوضعها التبرّج ولكن التخفيف ، وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) أي يطلبن العفة عن وضع الثياب فيستترن ، وهو مبتدأ خبره (خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يعلنّ (عَلِيمٌ) بما يقّصدن.

__________________

(١) في (ز) أي الاحتلام.

(٢) الآية ٢٧ من هذه السورة.

(٣) الحجرات ، ٤٩ / ١٣.

(٤) النساء ، ٤ / ٨.

(٥) في (ز) : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح الأنام (حَكِيمٌ) فيما بين من الأحكام.

٢٢٧

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١)

٦١ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) قال سعيد بن المسيب (١) : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، وكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة ، فنزلت الآية رخصة لهم (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي حرج (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أولادكم لأنّ ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، ولذا لم يذكر الأولاد في الآية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (أنت ومالك لأبيك) (٢) أو بيوت أزواجكم لأنّ الزوجين صارا كنفس واحدة فصار بيت المرأة كبيت الزوج (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لأنّ الإذن من هؤلاء ثابت دلالة (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به الغلق ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هو وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ، وأريد بملك المفاتح كونها في يده وحفظه ، وقيل أريد به بيت عبده ، لأنّ العبد وما في يده لمولاه (أَوْ صَدِيقِكُمْ) يعني أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا وهو من يصدقك في مودّته وتصدقه في مودّتك ، وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر

__________________

(١) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي ، أبو محمد ، سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة في المدينة ، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع ، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولد عام ١٣ ومات عام ٩٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٠٢).

(٢) رواه أبو داود وابن ماجه من طريق الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وحجاج مدلس وفيه ضعف.

٢٢٨

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢)

مولاها (١) أعتقها سرورا بذلك ، فأما الآن (٢) فقد غلب الشحّ على الناس فلا يؤكل إلا بإذن (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) مجتمعين (أَوْ أَشْتاتاً) متفرقين ، جمع شتّ ، نزلت في بني ليث بن عمرو (٣) وكانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة ، أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، أو تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت لتأكلوا (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة ، أو بيوتا فارغة ، أو مسجدا ، فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (تَحِيَّةً) نصب بسلّموا لأنها في معنى تسليما ، نحو قعدت جلوسا (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأنّ التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلّم عليه ، والمحيا من عند الله (مُبارَكَةً طَيِّبَةً) وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تعقلوا وتفهموا.

٦٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي الذي يجمع له الناس نحو الجهاد والتدبير في الحرب وكلّ اجتماع في الله حتى الجمعة والعيدين (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ويأذن لهم ، ولما أراد الله عزوجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره وذلك مع تصدير الجملة بإنما ، وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبّرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

__________________

(١) زاد في (ز) فأخبرته.

(٢) خطأ ترقيم في (أ) يبدأ من هنا إلى آخر سورة النور ويتوقف عند الآية ٢٠ من سورة الفرقان ، أثر إرباك في تصوير المخطوطة.

(٣) بنو ليث بن عمرو : حي من أحياء العرب من كنانة (الطبري في التفسير ـ الأنساب ٥ / ٩٨).

٢٢٩

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣)

(وَرَسُولِهِ) وضمنه شيئا آخر ، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذا (١) (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) في الانصراف (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فيه رفع شأنه عليه الصلاة والسلام (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أنّ الأفضل أن لا يستأذنوه (٢) ، قالوا : وينبغي أن يكون الناس كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يتفرقون عنهم إلا بإذن ، قيل نزلت يوم الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان.

٦٣ ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي إذا احتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا (٣) عنه إلا بإذنه ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه ، فلا تقولوا يا محمد ، ولكن يا نبيّ الله ، يا رسول الله ، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) يخرجون قليلا قليلا (مِنْكُمْ لِواذاً) حال ، أي ملاوذين ، اللّواذ والملاوذة هو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا ، أي ينسلّون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار (٤) بعضهم ببعض (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون. يقال خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ، ومنه : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) (٥) وخالفه عن الأمر إذا صدّ عنه دونه ، والضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول عليه الصلاة والسلام ، والمعنى عن طاعته ودينه ، ومفعول يحذر (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) محنة في الدنيا ، أو زلازل وأهوال ، أو تسليط سلطان جائر ، أو قسوة القلب عن معرفة الربّ ، أو إسباغ النّعم استدراجا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في

__________________

(١) لواذا أي لاذ بعضهم ببعض.

(٢) في (ز) يستأذن.

(٣) في (ز) تفرقوا.

(٤) في (ز) واستثار.

(٥) هود ، ١١ / ٨٨.

٢٣٠

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤)

الآخرة ، والآية تدلّ على أنّ الأمر للإيجاب.

٦٤ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ألا تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له ما في السماوات والأرض (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أدخل قد ليؤكّد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدّين ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، والمعنى أنّ جميع ما في السماوات والأرض مختصّ به خلقا وملكا وعلما ، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) وبفتح الياء وكسر الجيم يعقوب ، أي ويعلم يوم يردّون إلى جزائه ، وهو يوم القيامة ، والخطاب والغيبة في قوله قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه ويجوز أن يكونا جميعا للمنافقين على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عامّا ، ويرجعون للمنافقين (فَيُنَبِّئُهُمْ) يوم القيامة (بِما عَمِلُوا) بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حقّ جزائهم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه خافية ، وروي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة النور على المنبر في الموسم وفسّرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٢٣١

سورة الفرقان

مكية وهي سبع وسبعون آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢)

١ ـ (تَبارَكَ) تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ، ومعنى تبارك الله تزايد خيره وتكاثر ، أو تزايد عن كلّ شيء ، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله وحده والمستعمل منه الماضي فحسب (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) هو مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما ، وسمّي به القرآن لفصله بين الحقّ والباطل والحلال والحرام ، أو لأنه لم ينزل جملة ولكن مفرقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال ، ألا ترى إلى قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١) (عَلى عَبْدِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام (لِيَكُونَ) العبد ، أو الفرقان (لِلْعالَمِينَ) للجنّ والإنس ، وعموم الرسالة من خصائصه عليه الصلاة والسلام (نَذِيراً) منذرا أي مخوفا ، أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه قوله تعالى :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢).

٢ ـ (الَّذِي) رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف ، أو على الإبدال من الذي نزل ، وجوّز الفصل بين البدل والمبدل منه بقوله ليكون ، لأن المبدل منه صلته نزل وليكون تعليل له ، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به ، أو نصب على المدح (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

__________________

(١) الإسراء ، ١٧ / ١٠٦.

(٢) القمر ، ٥٤ / ١٦ و ١٨ و ٢١ و ٣٠.

٢٣٢

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤)

(وَالْأَرْضِ) على الخلوص (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح عليهما‌السلام (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما زعمت الثّنوية (١) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أحدث كلّ شيء وحده لا كما يقوله المجوس والثنوية من النور والظلمة ويزدان وآهرمن (٢) ، ولا شبهة فيه لمن يقول (٣) إنّ الله شيء ، ويقول بخلق القرآن لأن الفاعل بجميع صفاته لا يكون مفعولا له (٤) ، على إنّ لفظ شيء اختصّ بما يصحّ أن يخلق بقرينة وخلق ، وهذا أوضح دليل لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه ، كما أنه خلق الإنسان على هذا الشكل الذي تراه ، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في الدين والدنيا ، أو قدّره للبقاء إلى أمد معلوم.

٣ ـ (وَاتَّخَذُوا) الضمير للكافرين لاندراجهم تحت العالمين ، أو لدلالة نذيرا عليهم لأنهم المنذرون (٥) (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والملك والخلق ، والتقدير عبادة عجزة لا يقدرون على خلق شيء وهم يخلقون (٦) (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً) إماتة (وَلا حَياةً) أي إحياء (وَلا نُشُوراً) إحياء بعد الموت ، وجعلها كالعقلاء لزعم عابديها.

٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا) ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) كذب (افْتَراهُ) اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي اليهود وعداس (٧) ويسار (٨) وأبو فكيهة الرومي (٩) ، قاله النضر بن الحارث (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) هذا إخبار من الله ردّا للكفرة ، فيرجع الضمير إلى الكفار ، وجاء يستعمل في

__________________

(١) الثنوية : سبق ترجمتها في ٦ / ١.

(٢) يزدان وآهرمن : إلاها النور والظلام.

(٣) في (ظ) لا يقول.

(٤) في (ظ) مفعوله.

(٥) في (ظ) لأنهم هم المنذرون.

(٦) في (ظ) مخلوقون.

(٧) عداس غلام عتبة.

(٨) يسار : لم أجد له ترجمة.

(٩) أبو فكيهة الرومي : لم أجد له ترجمة.

٢٣٣

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨)

معنى فعل فيعدّى تعديته (١) ، أو حذف الجارّ وأوصل الفعل ، أي بظلم وزور (٢) ، وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقّن من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.

٥ ـ (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي هو أحاديث المتقدمين وما سطروه كرستم وغيره ، جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة (اكْتَتَبَها) كتبها لنفسه (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي تلقى عليه من كتابه (بُكْرَةً) أول النهار (وَأَصِيلاً) آخره ، فيحفظ ما يملى عليه ، ثم يتلوه علينا.

٦ ـ (قُلْ) يا محمد (أَنْزَلَهُ) أي القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يعلم كلّ سر خفي في السماوات والأرض ، يعني أنّ القرآن لما اشتمل على علم الغيوب التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد عليه الصلاة والسلام من غير تعليم ، دلّ ذلك على أنه من عند علّام الغيوب (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فيمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة وإن استوجبوها بمكابرتهم.

٧ ـ ٨ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء وخطّ المصحف سنّة لا تغيّر ، وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا أي شيء لهذا الزاعم إنه رسول (يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) حال والعامل فيها هذا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي إن صحّ أنه رسول الله فما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردّد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردّد ، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيّش ، ثم نزلوا عن ذلك الاقتراح إلى أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا إلى أن يكون مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر

__________________

(١) في (ز) تعديتها.

(٢) في (ظ) وجور.

٢٣٤

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١٢)

به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا إلى أن يكون رجلا له بستان يأكل هو منه كالمياسير ، أو نأكل نحن كقراءة عليّ وحمزة. وحسن عطف المضارع وهو يلقى وتكون على أنزل وهو ماض لدخول المضارع ، وهو فيكون بينهما ، وانتصب فيكون على القراءة المشهورة لأنه جواب لو لا بمعنى هلّا وحكمه حكم الاستفهام ، وأراد بالظالمين في قوله (وَقالَ الظَّالِمُونَ) إياهم بأعيانهم غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا ، وهم كفار قريش (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحر فجنّ ، أو ذا سحر وهو الرئية ، عنوا أنه بشر لا ملك.

٩ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا) بيّنوا (لَكَ الْأَمْثالَ) الأشباه ، أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال من المفتري والمملى عليه والمسحور (فَضَلُّوا) عن الحقّ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) فلا يجدون طريقا إليه.

١٠ ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا ، وهو أن يعجّل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور ، وجنات بدل من خيرا ، ويجعل بالرفع مكي وشامي وأبو بكر ، لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع.

١١ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) عطف على ما حكى عنهم ، يقول بل أتوا بأعجب من ذلك كلّه وهو تكذيبهم بالساعة ، أو متصل بما يليه كأنه قال بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدّقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟ (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) وهيأنا للمكذبين بها نارا شديدة في الاستعار.

١٢ ـ (إِذا رَأَتْهُمْ) أي النار ، أي قابلتهم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرين في البعد (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي سمعوا صوت غليانها ، وشبّه ذلك بصوت المتغيّظ والزافر ، أو إذا رأتهم زبانيتها تغيّظوا وزفروا غضبا على الكفار.

٢٣٥

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦)

١٣ ـ (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) من النار (مَكاناً ضَيِّقاً) ضيقا مكي ، فإنّ الكرب مع الضيق كما أنّ الروح مع السعة ولذا وصفت الجنة بأنّ عرضها السماوات والأرض ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يضيق عليهم كما يضيق الزّجّ (١) في الرمح (مُقَرَّنِينَ) أي وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرّنون في السلاسل قرّنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، أو يقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة ، وفي أرجلهم الأصفاد (دَعَوْا هُنالِكَ) حينئذ (ثُبُوراً) هلاكا ، أي قالوا : وا ثبوراه ، أي تعال يا ثبور فهذا حينك ، فيقال لهم :

١٤ ـ (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير.

١٥ ـ (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ) أي المذكور من صفة النار خير (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي وعدها ، فالراجع إلى الموصول محذوف ، وإنما قال : أذلك خير ، ولا خير في النار توبيخا للكفار (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) ثوابا (وَمَصِيراً) مرجعا ، وإنما قيل كانت لأنّ ما وعد الله كأنه كان لتحققه ، أو كان ذلك مكتوبا في اللوح قبل أن خلقهم.

١٦ ـ (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي ما يشاؤونه (خالِدِينَ) حال من الضمير في يشاؤون ، والضمير في (كانَ) لما يشاؤون (عَلى رَبِّكَ وَعْداً) أي موعودا (مَسْؤُلاً) مطلوبا ، أو حقيقا أن يسأل ، أو قد سأله المؤمنون والملائكة في دعواتهم : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (٢) (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (٣) (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) (٤).

__________________

(١) الزّجّ : الحديدة في أسفل الرمح (القاموس ١ / ١٩١).

(٢) آل عمران ، ٣ / ١٩٤.

(٣) البقرة ، ٢ / ٢٠١.

(٤) غافر ، ٤٠ / ٨.

٢٣٦

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨)

١٧ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (١) للبعث عند الجمهور ، وبالياء مكي ويزيد ويعقوب وحفص (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يريد المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير ، وعن الكلبي : يعني الأصنام ينطقها الله ، وقيل عامّ ، وما يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم (فَيَقُولُ) وبالنون شامي (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) والقياس ضلّوا عن السبيل ، إلا أنهم تركوا الجارّ كما تركوه في هداه الطريق والأصل إلى الطريق أو للطريق ، وضلّ مطاوع أضلّه ، والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحقّ بإدخال الشّبه أم هم ضلّوا عنه بأنفسهم ، وإنما لم يقل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ، وزيد أنتم وهم لأنّ السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لو لا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متولّيه ، فلا بدّ من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ليعلم أنه المسؤول عنه ، وفائدة سؤالهم مع علمه تعالى بالمسؤول عنه أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكّت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم.

١٨ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ) تعجّب منهم مما قيل لهم ، وقصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما ندا ، ثم قالوا (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم أن نتولى أحدا دونك ، فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ نتخذ يزيد ، واتخذ يتعدى إلى مفعول واحد نحو اتخذ وليا ، وإلى مفعولين نحو اتخذ فلانا وليا ، قال الله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) (٢) وقال : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٣) فالقراءة الأولى من المتعدي لواحد وهو من أولياء ، والأصل أن تتخذ أولياء وزيدت من لتأكيد معنى النفي ، والقراءة الثانية من المتعدي إلى المفعولين ، فالمفعول الأول ما بني له الفعل ، والثاني من أولياء ، ومن للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء لأنّ من لا تزاد في المفعول

__________________

(١) في مصحف النسفي : نحشرهم وهي قراءة.

(٢) الأنبياء ، ٢١ / ٢١.

(٣) النساء ، ٤ / ١٢٥.

٢٣٧

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩)

الثاني بل في الأول تقول ما اتخذت من أحد وليا ، ولا تقول ما اتخذت أحدا من ولي (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) بالأموال والأولاد وطول العمر والسلامة من العذاب (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع (وَكانُوا) عند الله (قَوْماً بُوراً) أي هلكى ، جمع بائر كعائذ وعوّذ ، ثم يقال للكفّار بطريق الخطاب عدولا عن الغيبة.

١٩ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة ، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ، ونظيرها : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) إلى قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) (١) وقول القائل (٢) :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

(بِما تَقُولُونَ) بقولكم فيهم إنهم آلهة والباء على هذا كقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) (٣) والجار والمجرور بدل من الضمير ، كأنه قيل فقد كذّبوا بما تقولون ، وعن قنبل بالياء ، ومعناه فقد كذبوكم بقولهم : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء. والباء على هذا كقولك كتبت بالقلم (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) (٤) أي فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وبالتاء حفص ، أي فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم ، ثم خاطب المكلّفين على العموم بقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أي يشرك لأنّ الظّلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومن جعل المخلوق شريك خالقه فقد ظلم يؤيده قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٥) (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) فسّر بالخلود في النار ، وهو يليق بالمشرك دون الفاسق إلّا على قول المعتزلة والخوارج.

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ١٩.

(٢) لم أصل إلى معرفته.

(٣) ق ، ٥٠ / ٥.

(٤) في مصحف النسفي : يستطيعون بالياء وهي قراءة.

(٥) لقمان ، ٣١ / ١٣.

٢٣٨

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١)

٢٠ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) كسرت إنّ لأجل اللام في الخبر ، والجملة بعد إلّا صفة لموصوف محذوف ، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلّا آكلين وماشين ، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور ، أي من المرسلين ، ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) أي وما منّا أحد ، قيل هو احتجاج على من قال : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) وتسلية للنبيّ عليه الصلاة والسلام (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي محنة وابتلاء وهذا تصبير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما عيّروه به من الفقر ومشيه في الأسواق ، يعني أنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء ، فيغني من يشاء ويفقر من يشاء (أَتَصْبِرُونَ) على هذه الفتنة فتؤجروا أم لا تصبرون فيزداد غمّكم ، وحكي أنّ بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجرا ، فرأى خصيّا في مواكب ومراكب ، فخطر بباله شيء ، فإذا بمن يقرأ هذه الآية ، فقال : بل فصبرا ربنا. أو جعلتك فتنة لهم لأنّك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكانت طاعتهم لك الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) عالما بالصواب فيما يبتلي به أو بمن يصبر (٢) ويجزع.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) لا يأملون (لِقاءَنا) بالخير لأنهم كفرة لا يؤمنون بالبعث ، أو لا يخافون عقابنا ، إما لأنّ الراجي قلق فيما يرجوه كالخائف ، أو لأنّ الرجاء في لغة تهامة الخوف (لَوْ لا) هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) رسلا دون البشر ، أو شهودا على نبوّته ودعوى رسالته (أَوْ نَرى رَبَّنا) جهرة فيخبرنا برسالته واتّباعه (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي أضمروا الاستكبار عن الحقّ ، وهو الكفر والعناد في قلوبهم (وَعَتَوْا) وتجاوزوا الحد في الظلم (عُتُوًّا كَبِيراً) وصف العتوّ بالكبير (٣) فبالغ في

__________________

(١) الصافات ، ٣٧ / ١٦٤.

(٢) إلى هنا ينتهي الارتباك في (أ) ويستقيم ترقيم الصفحات.

(٣) في (ز) الكبر.

٢٣٩

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)

إفراطه ، أي أنهم لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا أنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتوّ ، واللام (١) جواب قسم محذوف.

٢٢ ـ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) أي يوم الموت ، أو يوم البعث ، ويوم منصوب بما دلّ عليه (لا بُشْرى) أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى ، وقوله (يَوْمَئِذٍ) مؤكد ليوم يرون ، أو بإضمار اذكر ، أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم أخبر فقال : لا بشرى بالجنة يومئذ ، ولا ينتصب بيرون لأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا ببشرى لأنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله ، ولأنّ المنفيّ بلا لا يعمل فيما قبل لا (لِلْمُجْرِمِينَ) ظاهر في موضع ضمير ، أو عامّ يتناولهم بعمومه ، وهم الذين اجترموا الذنوب ، والمراد الكافرون لأنّ مطلق الأسماء يتناول أكمل المسمّيات (وَيَقُولُونَ) أي الملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً) حراما محرّما عليكم البشرى ، أي جعل الله ذلك حراما عليكم ، إنما البشرى للمؤمنين ، والحجر مصدر والكسر والفتح لغتان ، وقرىء بهما ، وهو من حجره إذا منعه ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها ، ومحجورا لتأكيد معنى الحجر كما قالوا موت مائت.

٢٣ ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) هو صفة لهباء (٢) ولا قدوم هنا ولكن مثّلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ونحو ذلك بحال من خالف سلطانه وعصاه ، فقدم إلى أشيائه وقصد إلى ما تحت يديه فأفسدها ومزّقها كلّ ممزّق ولم يترك لها أثرا ، والهباء ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار ، والمنثور المفرّق وهو استعارة عن جعله بحيث لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.

ثم بيّن فضل أهل الجنة على أهل النار فقال :

٢٤ ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) تمييز ، والمستقرّ المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين (٣) يتجالسون ويتحادثون (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مكانا يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم ، ولا نوم في الجنة ولكنّه سمّى مكان استراحتهم

__________________

(١) زاد في (ز) في لقد.

(٢) ليس في (ز) لهباء.

(٣) ليس في (ز) مستقرين.

٢٤٠