تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزّل عليه ، والنبيّ من لم ينزّل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقيل الرسول واضع شرع والنبيّ حافظ شرع غيره (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) قرأ ، قال (١) :

تمنى كتاب الله أول ليلة

تمني داود الزبور على رسل

(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) تلاوته ، قالوا إنه عليه‌السلام كان في نادي قومه يقرأ (وَالنَّجْمِ) فلما بلغ قوله : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) جرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى (٢) ، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى» ولم يفطن له حتى أدركته العصمة ، فتنبه عليه ، وقيل نبّهه جبريل عليه‌السلام ، فأخبرهم أنّ ذلك كان من الشيطان. وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلو إمّا أن يتكلّم النبيّ عليه‌السلام بها عمدا وإنه لا يجوز لأنه كفر ، ولأنه بعث طاعنا للأصنام لا مادحا لها ، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبيّ عليه‌السلام جبرا بحيث لم (٣) يقدر على الامتناع منه ، وهو ممتنع لأنّ الشيطان لا يقدر على ذلك في حقّ غيره لقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٤) ففي حقّه أولى ، أو جرى ذلك على لسانه سهوا وغفلة وهو مردود أيضا لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ، ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله ، ولأنه تعالى قال في صفة المنزّل عليه : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٥) وقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦) فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحد وهو أنه عليه‌السلام سكت عند قوله ومناة الثالثة الأخرى فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقع عند بعضهم أنه عليه‌السلام هو الذي تكلّم بها ، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبيّ عليه‌السلام ، وكان الشيطان يتكلّم في زمن النبيّ عليه‌السلام ويسمع كلامه ، فقد روي أنه نادى يوم أحد ألا إنّ محمدا قد قتل ، وقال يوم بدر : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) (٧) (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبتها ويحفظها من

__________________

(١) الشاعر مجهول والبيت قاله في أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البزار والطبري والطبراني من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : لا ٠=ةوأعلمه إلا عن ابن عباس ، ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلا وفي أسانيده كلام وأصله في

١٦١

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧)

لحوق الزيادة من الشيطان (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان (حَكِيمٌ) لا يدعه حتى يكشفه ويزيله. ثم ذكر أنّ ذلك ليفتن الله تعالى به قوما بقوله :

٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) محنة وابتلاء (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شكّ ونفاق (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكا وظلمة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي المنافقين والمشركين ، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظّلم (لَفِي شِقاقٍ) خلاف (بَعِيدٍ) عن الحقّ.

٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالله وبدينه وبالآيات (أَنَّهُ) (١) القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالقرآن (فَتُخْبِتَ) فتطمئن (لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيتأولوا (٢) ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة.

٥٥ ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) شك (مِنْهُ) من القرآن ، أو من الصراط المستقيم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج ، أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير ، أو شديد لا رحمة فيه ، أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، وعن الضّحّاك أنه يوم القيامة وأنّ المراد بالساعة مقدماته.

٥٦ ـ ٥٧ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة ، والتنوين عوض عن الجملة ، أي يوم يؤمنون ، أو يوم تزول مريتهم (لِلَّهِ) فلا منازع له فيه (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أي.

(٢) في (ز) فيتأولون .. ويطلبون.

١٦٢

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

يقضي ، ثم بيّن حكمه فيهم بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ثم خصّ قوما من الفريق الأول بفضيلة فقال :

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) خرجوا من أوطانهم مجاهدين (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد ، قتّلوا شامي (أَوْ ماتُوا) حتف أنفهم (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) قيل الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدا (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه المخترع للخلق بلا مثال ، المتكفل للرزق بلا ملال.

٥٩ ـ (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً) وبفتح الميم مدني ، والمراد الجنة (يَرْضَوْنَهُ) لأنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوال من قضى نحبه مجاهدا ، وآمال من مات وهو ينتظر معاهدا (حَلِيمٌ) بإمهال من قاتلهم معاندا. روي أنّ طوائف من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين :

٦٠ ـ (ذلِكَ) أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) سمّى الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثمّ ظلم بعد ذلك فحقّ على الله أن ينصره (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) يمحو آثار الذنوب (غَفُورٌ) يستر أنواع العيوب ، وتقريب الوصفين بسياق الآية أنّ المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١) (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢) فحين (٣) لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرّة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي وعرّض (٤) مع ذلك بما كان أولى به

__________________

(١) الشورى ، ٤٢ / ٤٠.

(٢) البقرة ، ٢ / ٢٣٧.

(٣) في (ز) فحيث.

(٤) في (ز) من الباغي وعرف.

١٦٣

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (٦٣)

من العفو بذكر هاتين الصّفتين ، أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه لما (١) قيل العفو عند القدرة.

٦١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء ، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا ، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرّفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشرّ والبغي والإنصاف ، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات ، بصير بما يفعلون ولا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات.

٦٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) عراقي غير أبي بكر (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار ، وإحاطته بما يجري فيهما ، وإدراكه كل قول وفعل (٢) ، بسبب أنّ الله الحقّ الثابت إلهيته ، وأنّ كلّ ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.

٦٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات بعد ما كانت مسودّة يابسة ، وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول أنعم عليّ فلان فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع ، وإنما رفع فتصبح ولم ينصب جوابا للاستفهام ، لأنه لو نصب لبطل الغرض ، وهذا لأنّ معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك ألم تراني أنعمت عليك ، فتشكر ، إن نصبته نفيت شكره فشكوت من تفريطه فيه ، وإن رفعته أثبتّ شكره

__________________

(١) في (ظ) و (ز) كما.

(٢) في (ز) قولهم وفعلهم.

١٦٤

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٦٧)

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) واصل عمله أو فضله إلى كلّ شيء (خَبِيرٌ) بمصالح الخلق ومنافعهم ، أو اللطيف المختصّ بدقيق التدبير ، والخبير المحيط بكلّ قليل وكثير.

٦٤ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الأرض (الْحَمِيدُ) المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض.

٦٥ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من البهائم مذّللة للركوب في البرّ (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي ومن المراكب جارية في البحر ، ونصب الفلك عطفا على ما ، وتجري حال لها ، أي وسخّر لكم الفلك في حال جريها (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي يحفظها من أن تقع (إِلَّا بِإِذْنِهِ) بأمره أو بمشيئته (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ) بتسخير ما في الأرض (رَحِيمٌ) بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض. عدّد آلاءه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه ، وعن أبي حنيفة رحمه‌الله أنّ اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقارئها (١) البتة.

٦٦ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) في أرحام أمهاتكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) لإيصال جزائكم (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لجحود لما أفاض عليه من ضروب النّعم ودفع عنه من صنوف النّقم ، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ، ولا الإفناء المقرّب إلى الموعود ، ولا الإحياء الموصل إلى المقصود.

٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ) أهل دين (جَعَلْنا مَنْسَكاً) مرّ بيانه ، وهو ردّ لقول من يقول إنّ الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كلّ أمة (هُمْ ناسِكُوهُ) عاملون به (فَلا يُنازِعُنَّكَ) فلا يجادلنّك ، والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكّنهم من أن ينازعوك (فِي الْأَمْرِ) أمر الذبائح أو الدين. نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما

__________________

(١) في (ز) لقرائها.

١٦٥

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢)

لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعني الميتة (وَادْعُ) الناس (إِلى رَبِّكَ) إلى عبادة ربّك (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) طريق قويم ، ولم يذكر الواو في لكلّ أمة بخلاف ما تقدم ، لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك ، فعطفت على أخواتها ، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.

٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ) مراء وتعنتا كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول ، والمعنى أنّ الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو يجازيكم به ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كلّ متعنت.

٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين ، أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان يلقى منهم.

٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي كيف يخفى عليه ما تعملون؟ ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كلّ ما يحدث في السماوات والأرض (إِنَّ ذلِكَ) الموجود فيهما (فِي كِتابٍ) في اللوح المحفوظ (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي علمه بجميع ذلك عليه يسير.

ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحقّ لها بقوله :

٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) ينزل مكي وبصري (سُلْطاناً) حجة وبرهانا (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم.

٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعني القرآن (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ

١٦٦

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)

(كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الإنكار بالعبوس والكراهة ، والمنكر مصدر (يَكادُونَ يَسْطُونَ) يبطشون ، والسطو الوثب والبطش (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم ، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم (النَّارُ) خبر مبتدأ محذوف كأنّ قائلا قال : ما هو؟ فقيل : النار ، أي هو النار (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) استئناف كلام (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

ولما كانت دعواهم بأنّ لله تعالى شريكا جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى :

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ) بيّن (مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) لضرب هذا المثل (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) يدعون سهل ويعقوب (مِنْ دُونِ اللهِ) آلهة باطلة (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) لن لتأكيد نفي المستقبل ، وتأكيده هنا للدلالة على أنّ خلق الذباب منهم مستحيل ، كأنه قال محال أن يخلقوا ، وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره ، وسمّي ذبابا لأنه كلما ذبّ لاستقذاره آب لاستكباره (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) لخلق الذباب ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قيل مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلّها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقلّ ما خلقه الله تعالى وأذلّه ولو اجتمعوا لذلك (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) شيئا ثاني مفعولي يسلبهم (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدورا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ، فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه (ضَعُفَ الطَّالِبُ) أي الصنم بطلب ما سلب منه (وَالْمَطْلُوبُ) الذباب بما سلب ، وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف ، فإنّ الذباب حيوان وهو جماد ، وهو غالب وذلك مغلوب.

٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عرفوه حقّ معرفته حيث جعلوا هذا

١٦٧

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧)

الصنم الضعيف شريكا له (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنّ الله قادر وغالب فكيف يتّخذ العاجز المغلوب شبيها به ، أو لقويّ بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه.

٧٥ ـ (اللهُ يَصْطَفِي) يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم (وَمِنَ النَّاسِ) رسلا كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم‌السلام ، وهذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أنّ رسل الله على ضربين ملك وبشر ، وقيل نزلت حين قالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (١) (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولهم (بَصِيرٌ) بمن يختاره لرسالته ، أو سميع لأقوال الرّسل فيما تقبله العقول ، بصير بأحوال الأمم في الردّ والقبول.

٧٦ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما مضى (وَما خَلْفَهُمْ) ما لم يأت ، أو ما عملوه وما سيعملونه (٢) ، أو أمر الدنيا وأمر الآخرة (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه مرجع الأمور كلّها ، والذي هو بهذه الصفات لا يسأل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله ، ترجع شامي وحمزة وعليّ.

٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) في صلاتكم وكان أول ما أسلموا يصلّون بلا ركوع وسجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أنّ الأعمال ليست من الإيمان ، وأنّ هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قيل لمّا كان للذّكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٣) ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما ، ثم عم بالحثّ على سائر الخيرات ، وقيل أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفوزوا ، أو افعلوا هذا كلّه وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ، ولا تتكلوا على أعمالكم.

__________________

(١) ص ، ٣٨ / ٨.

(٢) في (ز) سيعملوه.

(٣) طه ، ٢٠ / ١٤.

١٦٨

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)

٧٨ ـ (وَجاهِدُوا) أمر بالغزو ، أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر ، أو هو كلمة حقّ عند أمير جائر (فِي اللهِ) أي في ذات الله ومن أجله (حَقَّ جِهادِهِ) وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم ، يقال هو حقّ عالم وجدّ عالم أي عالم حقا وجدا ، ومنه حقّ جهاده ، وكان القياس حقّ الجهاد فيه ، أو حقّ جهادكم فيه ، لكن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه ، ويجوز أن يتّسع في الظرف كقوله (١) : ويوم شهدناه سليما وعامرا (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ونصرته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ضيق بل رخّص لكم في جميع ما كلّفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج ، بالتيمّم ، وبالإيماء وبالقصر ، والإفطار بعذر السفر والمرض ، وعدم الراحلة (٢) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي اتبعوا ملة أبيكم ، أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم ، وسماء أبا وإن لم يكن أبا للأمة كلّها ، لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان أبا لأمته ، لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه‌السلام : (إنما أنا لكم مثل الوالد) (٣) (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) أي الله بدليل قراءة أبيّ : الله سماكم (٤) (مِنْ قَبْلُ) في الكتب المتقدّمة (وَفِي هذا) أي في القرآن ، أي فضّلكم على سائر الأمم وسمّاكم بهذا الاسم الأكرم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلّغكم رسالة ربّكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ الرّسل رسالات الله إليهم ، وإذ خصّكم بهذه الكرامة والأثرة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بواجباتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) بشرائطها (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وثقوا بالله وتوكّلوا عليه لا بالصلاة والزكاة (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى) حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي الناصر هو حيث أعانكم على طاعتكم ، وقد أفلح من هو مولاه وناصره (٥).

__________________

(١) لم أصل إلى أصله.

(٢) في (ز) وعدم الزاد والراحلة.

(٣) كنز العمال ٩ / ٢٦٤٦٦ ، ٢٧٢٠٧.

(٤) زاد في (ز) المسلمين.

(٥) زاد في (ز) والله الموفق للصواب.

١٦٩

سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وثمان وعشرة آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢)

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد نقيضة لمّا ، هي تثبت المتوقع ولمّا تنفيه ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة ، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه ، والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب ، أي فازوا بما طلبوا ونجوا عما (١) هربوا ، والإيمان في اللغة التصديق ، والمؤمن المصدّق لغة ، وفي الشرع كلّ من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن قال عليه‌السلام : (خلق الله الجنة فقال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ، ثلاثا ، أنا حرام على كل بخيل مراء) (٢) لأنه بالرياء أبطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية.

٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها والإعراض عما سواها ، وأن لا يجاوز بصره مصلاه ، وأن لا يلتفت ولا يعبث ولا يسدل (٣) ولا يفرقع أصابعه ولا يقلّب الحصى ونحو ذلك ، وعن أبي الدرداء : هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ،

__________________

(١) في (ز) مما.

(٢) أخرج ابن عدي والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس نحوه ، وليس فيه : أنا حرام ... ، وأخرج ابن جرير نحوه وأتم منه.

(٣) سدل : أرخى ثوبه.

١٧٠

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٦)

وجمع الاهتمام ، وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلّى له لانتفاع المصلّي بها وحده ، وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلّى له فغنيّ عنها.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو كلّ كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والشتم والهزل ، يعني أنّ بهم (١) من الجدّ ما شغلهم عن الهزل ، ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف.

٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) مؤدون ، ولفظ فاعلون يدلّ على المداومة بخلاف مؤدون ، وقيل الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير ، وعلى المعنى وهو فعل المزكّي الذي هو التزكية وهو المراد هنا ، فجعل المزكّين فاعلين له ، لأنّ لفظ الفعل يعمّ جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما ، فتقول للضارب والقاتل والمزكي فاعل (٢) الضرب والقتل والتزكية ، ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ، ودخل اللام لتقدّم المفعول وضعف اسم الفاعل في العمل ، فإنك تقول هذا ضارب لزيد ولا تقول ضرب لزيد.

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج يشمل سوءة الرجال (٣) والمرأة.

٦ ـ (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال ، أي إلّا والين على أزواجهم ، أو قوّامين عليهنّ من قولك كان زياد على البصرة أي واليا عليها ، والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم ، أو تعلق على بمحذوف يدلّ عليه غير ملومين ، كأنه قيل يلامون إلّا على أزواجهم ، أي يلامون على كلّ مباشرة إلّا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه ، وقال الفراء : إلا من أزواجهم أي زوجاتهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي إمائهم ولم يقل من لأنّ المملوك جرى مجرى غير العقلاء ، ولهذا يباع كما تباع البهائم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم.

__________________

(١) في (ز) لهم.

(٢) في (ز) فعل.

(٣) في (ظ) و (ز) الرجل.

١٧١

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢)

٧ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) طلب قضاء شهوة من غير هذين (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الكاملون في العدوان ، وفيه دليل تحريم المتعة والاستمناء (١) بالكفّ لإرادة الشهوة.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) لأمانتهم مكي وسهل ، سمّي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٢) وإنما تؤدى العيون لا المعاني ، والمراد به العموم في كلّ ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عزوجل ومن جهة الخلق (راعُونَ) حافظون والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم.

٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) صلاتهم كوفي غير أبي بكر (يُحافِظُونَ) يداومون في أوقاتها ، وإعادة ذكر الصلاة ، لأنها أهمّ ولأنّ الخشوع فيها غير المحافظة عليها ، أو لأنها وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت ، وجمعت آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل.

١٠ ـ (أُولئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسمّوا ورّاثا دون من عداهم ثم ترجم الوارثون بقوله :

١١ ـ (الَّذِينَ يَرِثُونَ) من الكفار ، في الحديث : (ما منكم من أحد إلّا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل الجنة ورث أهل النار منزله ، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله) (٣) (الْفِرْدَوْسَ) هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر ، وقال قطرب : هو أعلى الجنان (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أنّث الفردوس بتأويل الجنة.

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ سُلالَةٍ) من للابتداء ، والسلالة الخلاصة لأنها تسلّ من بين الكدر ، وقيل إنما سمّي التراب الذي خلق آدم منه سلالة

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الاستمتاع.

(٢) النساء ، ٤ / ٥٨.

(٣) كنز العمال ٢ / ٢٩١٣.

١٧٢

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤)

لأنه سلّ من كلّ تربة (مِنْ طِينٍ) من للبيان كقوله : (مِنَ الْأَوْثانِ) (١).

١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي نسله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، لأن آدم عليه‌السلام لم يصيّر نطفة ، وهو كقوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢) وقيل الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة ، والعرب تسمي النطفة سلالة ، أي ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعني من نطفة مسلولة من طين ، أي من مخلوق من طين وهو آدم عليه‌السلام (نُطْفَةً) ماء قليلا (فِي قَرارٍ) مستقرّ يعني الرّحم (مَكِينٍ) حصين.

١٤ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) أي صيّرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين ، والخلق يتعدى إلى مفعول واحد (عَلَقَةً) قطعة دم ، والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) لحما قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) فصيّرناها عظاما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس عظما ، العظم شامي وأبو بكر ، عظما العظام زيد عن يعقوب ، عظاما العظم عن أبي زيد وضع الواحد موضع الجمع لعدم اللبس ، إذ الإنسان ذو عظام كثيرة (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ) الضمير يعود إلى الإنسان ، أو إلى المذكور (خَلْقاً آخَرَ) أي خلقا مباينا للخلق الأول حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وسميعا وبصيرا ، وكان بضد هذه الصفات ، ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة (فَتَبارَكَ اللهُ) فتعالى أمره في قدرته وعلمه (أَحْسَنُ) بدل أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأنّ المضاف إليه عوض من من (الْخالِقِينَ) المقدرين أي أحسن المقدّرين تقديرا ، ترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه ، وقيل إنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي عليه‌السلام فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اكتب هكذا نزلت) فقال عبد الله إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ ، فارتدّ ولحق بمكة ، ثم أسلم يوم الفتح (٣) ، وقيل هذه الحكاية غير صحيحة لأنّ ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة

__________________

(١) الحج ، ٢٢ / ٣٠.

(٢) السجدة ، ٣٢ / ٧ ـ ٨.

(٣) ذكره الثعلبي عن ابن عباس ، وعزاه الواحدي إلى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

١٧٣

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠)

مكية ، وقيل القائل عمر أو معاذ رضي الله عنهما.

١٥ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما ذكرنا من أمركم (لَمَيِّتُونَ) عند انقضاء آجالكم.

١٦ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) تحيون للجزاء.

١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) جمع طريقة ، وهي السماوات ، لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أراد بالخلق السماوات ، كأنه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها ، أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها ، وما كان غافلا عنهم وعما يصلحهم.

١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (بِقَدَرٍ) بتقدير يسلمون معه من المضرّة ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (١) وقيل جعلناه ثابتا في الأرض ، فماء الأرض كلّه من السماء ، ثم استأدى شكرهم بقوله (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه فقيّدوا هذه النعمة بالشكر.

١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها) في الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) سوى النخيل والأعناب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي من الجنات ، أي من ثمارها ، ويجوز أنّ هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن ضيعة (٢) يغتلّها ، أي أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون (٣) وتتعيّشون.

٢٠ ـ (وَشَجَرَةً) عطف على جنات ، وهي شجرة الزيتون (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ

__________________

(١) الزمر ، ٣٩ / ٢١.

(٢) في (ز) صنعة.

(٣) في (ز) ترزقون.

١٧٤

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٢٣)

(سَيْناءَ) طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس ، وهو جبل فلسطين ، وسيناء غير منصرف بكل حال مكسور السين كقراءة الحجازي وأبي عمرو للتعريف والعجمة ، أو مفتوحها كقراءة غيرهم ، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) قال الزّجّاج الباء للحال ، أي تنبت ومعها الدهن ، تنبت مكي وأبو عمرو إما لأنّ أنبت بمعنى نبت كقوله حتى إذا أنبت البقل ، أو لأن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله تعالى في هذه إداما ودهنا فالإدام الزيتون والدهن الزيت ، وقيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وخصّ هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع.

٢١ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ) وبفتح النون شامي ونافع وأبو بكر ، وسقى وأسقى لغتان (مِمَّا فِي بُطُونِها) أي نخرج لكم من بطونها لبنا سائغا (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) سوى الألبان وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي لحومها.

٢٢ ـ (وَعَلَيْها) وعلى الأنعام في البر (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر (تُحْمَلُونَ) في أسفاركم ، وهذا يشير إلى أنّ المراد بالأنعام الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة فلذا قرنها بالفلك التي هي السفائن ، لأنها سفائن البر ، قال ذو الرّمّة (١) : سفينة برّ تحت خدّي زمامها ، يريد ناقته.

٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) معبود (غَيْرُهُ) بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون عقوبة الله الذي هو

__________________

(١) ذو الرمة : غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي من مضر ، أبو الحارث ، شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره ولد عام ٧٧ ه‍ وتوفي عام ١١٧ ه‍ (الأعلام ٥ / ١٢٤).

١٧٥

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢٧)

ربّكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء.

٢٤ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي أشرافهم لعوامهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يأكل ويشرب (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يطلب الفضل عليكم ويترأس (وَلَوْ شاءَ اللهُ) إرسال رسول (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لأرسل ملائكة (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بإرسال بشر رسولا ، أو بما يأمرنا به من التوحيد وسبّ آلهتنا ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوّة للبشر (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره ، فإن أفاق من جنونه وإلّا قتلتموه.

٢٦ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ، إذ في نصرته إهلاكهم ، أو انصرني بدل ما كذبون ، كقولك هذا بذاك ، أي بدل ذاك ، والمعنى أبدلني من غمّ تكذيبهم سلوة النّصرة عليهم.

٢٧ ـ (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي أجبنا دعاءه ، فأوحينا إليه (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك ، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفّاظا يكلؤنك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ، ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة (وَوَحْيِنا) أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها ، روي أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا بأمرنا (وَفارَ التَّنُّورُ) أي فار الماء ، من تنّور الخبز ، أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار ، روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب ، وكان تنور آدم فصار إلى نوح ، وكان من حجارة ، واختلف في مكانه ، فقيل في مسجد الكوفة ، وقيل بالشام ، وقيل بالهند (فَاسْلُكْ فِيها) فأدخل في السفينة (مِنْ

١٧٦

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠)

(كُلٍّ زَوْجَيْنِ) من كلّ أمتين (١) زوجين ، وهما أمة الذكر وأمة الأنثى ، كالجمال والنوق والحصن والرماك (٢) (اثْنَيْنِ) واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرّمكة ، روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض ، من كلّ حفص والمفضل ، أي من كلّ أمة زوجين اثنين ، واثنين تأكيد وزيادة بيان (وَأَهْلَكَ) ونساءك وأولادك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) من الله بإهلاكه وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، فجيء بعلى مع سبق الضارّ كما جيء باللام مع سبق النافع في قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (٣) ونحوها : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (٤) (مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ولا تسألني نجاة الذين كفروا فإني أغرقهم.

٢٨ ـ (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) فإذا تمكنتم عليها راكبين (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ، ولم يقل فقولوا وإن كان فإذا استويت أنت ومن معك في معنى إذا استويتم ، لأنه نبيّهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة.

٢٩ ـ (وَقُلْ) حين ركبت على السفينة ، أو حين خرجت منها (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً) أي إنزالا ، أو موضع إنزال ، منزلا أبو بكر أي مكانا (مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) والبركة في السفينة النجاة فيها ، وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات.

٣٠ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيم فعل بنوح وقومه (لَآياتٍ) لعبرا ومواعظ (وَإِنْ) هي المخففة من الثقيلة (٥) ، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها ، والمعنى وإنّ الشأن والقصة (كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذّكّر كقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٦).

__________________

(١) في (ز) أمتي ، وفي مصحف النسفي (مِنْ كُلٍ) بكسرة.

(٢) الحصن : جمع حصان. والرماك : جمع رمكة وهي الفرس.

(٣) الصافات ، ٣٧ / ١٧١.

(٤) البقرة ، ٢ / ٢٨٦.

(٥) في (ز) المثقلة.

(٦) القمر ، ٥٤ / ١٥.

١٧٧

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣٤)

٣١ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا) خلقنا (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد قوم نوح (قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد قوم هود ، ويشهد له قول هود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (١) ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء.

٣٢ ـ (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) الإرسال يعدّى بإلى ولم يعدّ بفي هنا وفي قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) (٢) (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) (٣) ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال كقول رؤبة : أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام (رَسُولاً) هودا (٤) (مِنْهُمْ) من قومهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أن مفسرة لأرسلنا ، أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله.

٣٣ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) ذكر مقال (٥) قوم هود في جوابه في الأعراف (٦) وهود (٧) ، بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال قومه؟ فقيل له : قالوا كيت وكيت ، وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحقّ وهذا الباطل وليس بجواب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متصل بكلامه فلم يكن بالفاء وجيء بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه (الَّذِينَ كَفَرُوا) صفة للملأ أو لمن قومه (٨) (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك (وَأَتْرَفْناهُمْ) فنعّمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بكثرة الأموال والأولاد ما هذا أي النبيّ (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي منه ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم.

٣٤ ـ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (إِنَّكُمْ إِذاً) واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم (لَخاسِرُونَ) بالانقياد لمثلكم ،

__________________

(١) الأعراف ، ٧ / ٦٩.

(٢) الرعد ، ١٣ / ٣٠.

(٣) الأعراف ، ٧ / ٩٤.

(٤) في (ز) هو هود.

(٥) في (ز) مقالة.

(٦) الآية ٦٦ من سورة الأعراف (قالَ الْمَلَأُ).

(٧) الآية ٥٣ من سورة هود (قالُوا يا هُودُ).

(٨) في (ز) أو لقومه.

١٧٨

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) (٤٠)

ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.

٣٥ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) بالكسر نافع وحمزة وعليّ وحفص ، وغيرهم بالضم (وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب ، وثنّي أنكم للتأكيد وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف ، ومخرجون خبر عن الأول ، والتقدير أيعدكم أنكم مخرجون إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما.

٣٦ ـ (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) وبكسر التاء يزيد ، وروي عنه بالكسر والتنوين فيهما ، والكسائي يقف بالهاء ، وغيره بالتاء ، وهو اسم للفعل واقع موقع بعد ، فاعلها مضمر ، أي بعد التصديق أو الوقوع (لِما تُوعَدُونَ) من العذاب ، أو فاعلها ما توعدون ، واللام زائدة ، أي بعد ما توعدون من البعث.

٣٧ ـ (إِنْ هِيَ) هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله إن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم وضع هي موضع الحياة لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها ، والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا ، وهذا لأنّ إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها ، فوازنت لا التي لنفي الجنس (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعض ويولد بعض ، ينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت ، وهو قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت.

٣٨ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدّعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدّقين.

٣٩ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) فأجاب الله دعاء الرسول بقوله :

٤٠ ـ (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) (١) ما زائدة أو بمعنى شيء أو زمن ، وقليل بدل منها ، وجواب القسم المحذوف (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) إذا عاينوا ما يحلّ بهم.

__________________

(١) زاد في (ز) : قليل صفة للزمان كقديم وحديث في قولك ما رأيته قديما ولا حديثا وفي معناه عن قريب.

١٧٩

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٤٥)

٤١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل ، صاح عليهم فدمّرهم (بِالْحَقِ) بالعدل من الله ، يقال فلان يقضي بالحقّ أي بالعدل (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) شبههم في دمارهم بالغثاء ، وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان (فَبُعْداً) فهلاكا ، يقال بعد بعدا وبعدا أي هلك ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو هيت لك.

٤٢ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

٤٣ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من صلة ، أي ما تسبق أمة (أَجَلَها) المكتوب لها أو الوقت الذي حدّ لهلاكها وكتب (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) لا يتأخرون عنه.

٤٤ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) فعلى والألف للتأنيث كسكرى ، لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف تترى (١) مكي وأبو عمرو ويزيد على أنّ الألف للإلحاق كأرطى (٢) ، وهو نصب على الحال في القراءتين ، أي متتابعين واحدا بعد واحد ، وتاؤها فيهما بدل من الواو ، والأصل وترى من الوتر وهو الفرد ، فقلبت الواو تاء كتراث (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما (فَأَتْبَعْنا) الأمم والقرون (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أخبارا يسمع بها ويتعجّب منها ، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وتكون جمعا للأحدوثة ، وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا ، وهو المراد هنا (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) به (٣).

٤٥ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ) بدل من أخاه (بِآياتِنا) التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة ظاهرة.

__________________

(١) زاد في (ز) بالتنوين.

(٢) الأرطى : شجر ثمره كالعناب تأكلها الإبل غضة وعروقه حمر (القاموس ٢ / ٣٤٩).

(٣) ليس في (ز) به.

١٨٠