الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

عثمان ابن عفان ؛ المكان الذي ولد فيه صاحب العظمة الأمام جعفر الصديق ومدفن مولانا محجوب ؛ ومدفن القحافة ؛ ومدفن مولانا تاج الإمام الرباني ؛ ومدفن السيد حسني ؛ مدفن تلامذة السيد عبد القادر الكيلاني واخوته الصغار ؛ مدرسة صاحب العظمة[.....]الأعظم رضى الله عنه ، جميع الأماكن المذكورة هي محجات.

بين بوابات مكة المكرّمة ، المسماة باسم الشيخ محمود ابن إبراهيم أدهم حيث يرتدي الحجاج ثياب الاحرام في حال الحج الصغير وبين مكة المكرّمة توجد مدافن أحد عشر ممن استشهدوا في الدهاد وبينهم عبد الله ابن عمر رضى الله عنه ، هذه المدافن هي أيضا محجات.

وليعرف القارئ أيضا امكنة الحج في منطقة منى. مسجد [....]. يقولون أن نبي الله كان هناك وقد الأضاحي. هنا كهف نزلت فيه آيات «والمرسلات». أثناء التضحية بصاحب العظمة إسماعيل عليه‌السلام [الورقة ١٦٣ ـ أ] أرسل الله العظيم لأجل التضحية خروفا (عوضا عنه). تكريما لقبول الضحية ، أدى الصلاة ، وركع ركعتين. ذلك المحراب الذي صلى قربه (إسماعيل) صار مكانا للعبادة.

ليعلم القارئ أيضا جبل الرحمة. إنه مكان توقف فيه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. على جبل الرحمة يوجد مكان القى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخطبة. ويتناقلون في إحدى الأساطير أن والدنا صاحب العظمة آدم ، عليه‌السلام ، وامنا حواء تعارفا هنا. على الجبل يوجد مبنى بديع يذهب إليه للعبادة المنتمون إلى مذهب الإمام الشافعي. أما نحن ، فلا توصينا الشريعة بذلك. وفي مدينة جدّة زرنا قبر صاحبة العظمة حواء. وفي جبل النور يوجد مكان نزلت فيه آيات سورة القرآن «سورة الشرح». وفي جبل النور يوجد كهف نزلت فيه آيات (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). وفي جبل النور يوجد كهف تخفي فيه صاحب العظمة [الورقة ١٦٣ ـ ب] نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحب العظمة أبو بكر الصديق من الكفار. هذا الكهف هو محجة. بعد زيارة هذه الأماكن ،

٣٤١

أيها الأخوة الأعزاء ، انطلقنا صوب المدينة المنورة. الهدف الأساسي من زيارة المدينة المنورة يتلحص بالنسبة لنا في قرع جباهنا الخاطئة على الضريح المقدس لصاحب العظمة ، النبي محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...

نأمل في أن يسمح الله العظيم للنبي بعد إداء هذه الشعائر برعايتنا نحن الخطأة في يوم الحساب.

[الورقة ١٦٤ ـ أ] إن شاء الله ، سنحكي بإيجاز عن مواقف وأماكن العبادة التي رأيناها حيث كنا. أيها الأخوة الأعزاء ، على الطريق السلطاني المؤدي إلى المدينة المنورة ، توجد المواقف التالية : «وادي فاطمة» ، «محسنة» ، «اسفهان» ، «أخلاص» ، «كريمة» ، «رابغ» ، «مستورة» ، «حسالي» ، «صفراء» ، «بئر عباس» ، «بئر شريف». عن السفر إلى المدينة المنورة دفعنا عشرين روبلا. قبل مدخل المدينة المنورة ، توجد محجة ؛ أنها قبة صاحب العظمة الخضر ، عليه‌السلام. دخلنا المدينة المنورة ونزلنا في بيت حيث توضأنا حسب الأصول ، وذهبنا إلى نبي الله لأجل الصلاة والسجود (ومررنا) عبر بوابة باب السلام ، مرددين الآيات : «اللهم أنت السلام ومنك السلام واليك يرجع السلام ، تباركت ربنا وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام». وقرب محراب النبي صلينا في ركعتين ، ثم رحنا إلى السجود أمام ضريح نبي الله ، ثم قمنا بالحج إلى أبو بكر الصديق ، رحمة الله عليه ، ثم كنا عند مدفن صاحب العظمة عمر ، رحمة الله عليه. ثم قمنا بالحج إلى المكان الذي نزلت فيه الملائكة. ثم قمنا بالحج إلى ضريح فاطمة الزهراء ، البريئة من كل خطيئة. بعد الحج إلى جنة الباقي ، سجدنا صوب جبل أحد. وقمنا بالحج إلى مدفن الأمير الحمزة وسائر الشهداء. ثم اقتربنا عن كثب من غرفة صغيرة قائمة تحت مئذنة وصلينا ووجوهنا إلى القبلة. ثم صلينا ووجوهنا صوب الضريح المقدس. ثم ابتعدنا منه أربع أو خمس خطوات وصلينا مرة أخرى ووجوهنا صوب الضريح. ثم صلينا ووجوهنا صوب ضريح صاحب

٣٤٢

العظمة نبي الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانهينا الصلاة ؛ وهكذا بعد كل صلاة قمنا بالسجود بالطريقة الموصوفة أعلاه. يوم الجمعة [الروقة ١٦٥ ـ أ] قمنا بالحج إلى مقبرة «جنة الباقي». القبة الأولى فيها هي قبة الولي عثمان ، عليه بركة الله ، وهي أول مكان للعبادة. القبة التالية ، قبة الولية حليمة السعدية. ثم توجد خارج المقبرة قبتان ، وهما أيضا مكانان للعبادة. الشهداء المدفونون في مقبرة جنة الباقي يعتبرون هم أيضا جديرين بالتقدير والإجلال. ومن الأماكن المقدسة يعتبرون أيضا : قبة الإمام مالك ، عليه بركة الله ، الذي كان مؤسس مذهب ؛ مقبرة خوجه محمد [...] ؛ قبة الولي عباس ، عليه بركة الله العلي ؛ (مقبرة) الائمة الاثني عشر ؛ قبة الولية عائشة ومدفن زوجات النبي ؛ (مقبرة) عم النبي القائمة بين بوابة المقبرة والمدينة أي أنها تقع قرب مدخل المدينة المنورة ؛ إلى اليسار ، على بعد خمس أو ست خطوات ؛ قبة إسماعيل ابن الإمام ابن الإمام جعفر الصادق ، عليه بركة الله ، وتقع في الغرب من باب الرحمة [الورقة ١٦٥ ـ ب] مدرسة [.....] ومدفن عبد الله أي والد نبي الله ؛ مدرسة في دار غوث الأعظم ، عليه بركة الله.

وأعلموا ، أيها الأخوة المؤمنون ، أن الحج إلى الأمير حمزة في جبل أحد وإلى المكان الذي انكسرت فيه سن النبي الكريم بسبب الإيمان يجري يوم الأربعاء. سجدنا أمام قبة ولينا الأمير الحمزة وجميع أولاده وأحفاده الموجودين هناك. وسجدنا أيضا أمام مدفن الولي [.....] والمستشهدين في سبيل الله الأحد. وبئر الولي عثمان ، بركة الله عليه ؛ والمدينتين المقدستين (القدس ومكة) ؛ ومسجد الأربعين ؛ كهف غاز الخزن ؛ مسجد القبة ومسجد [....]. جميع هذه الأماكن تقع في القسم الخلفي من مقبرة جنة الباقي. كما يجدنا أمام محراب نبي الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم محراب فاطمة الزهراء ، والمنبر ؛ المكان الذي ركعت فيه ناقة نبي الله ، والواقع ما وراء مقبرة «جنة الباقي». مسجد علي ؛ والمسجد

٣٤٣

الأخضر [الورقة ١٦٦ ـ أ] لعمر ، بركة الله عليه ؛ أشجار النخيل التي تملك موهبة الكلام ، والتي جاءت بلا أقدام وأدلت بشهاداتها. وتقول الأسطورة أن عثمان أسقط في بئر خاتم النبي ؛ وهذه البئر تسمى بئر الخاتم ؛ جميع الأماكن المذكورة آنفا هي أماكن للعبادة ، وكذلك مسجد جرت فيه صلاة الجمعة وهو أيضا مكان للعبادة.

وليعلم القارئ أيضا انه يوجد في المسجد ثلاثة محاريب. الأول منها محراب نبي الله. صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ المحراب الثاني ، محراب السلطان سليم. المحراب الثالث ، محراب الولي عثمان ، بركة الله عليه. بوابات المسجد خمس ـ باب السلام ، باب الرحمة ، باب المجيد ، باب النساء ، باب جبرائيل. مآذن المسجد ثلاث ـ المئذنة المجيدة ، والمئذنة الرئيسية ، ومئذنة بلال. ثريات المسجد خمسمئة [الورقة ١٦٦ ـ ب] منها اثنتان بيضاوان ، اثنتان حمراوان. قياسها عشر شارقات تقريبا ، الله وحده يعلم. الباقية مختلفة المقاييس. قبب المسجد مائتان. عدد الأعمدة أربعمئة (١).

__________________

(*) المخطوطة رقم ٥٠٤٢ ـ ٩٣٧٢ / III مقتبسة من مجموعة المخطوطات والوثائق الشرقية لدى أكاديمية العلوم في جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفييتية (راجع ص ٥٤ ـ ٥٥ ، المجلد ٧ من كاتالوج المجموعة ، طشقند ، سنة ١٩٦٤). النص مكتوب بخط عربي دقيق على ورق قوقند (١٥؟؟ ٢٥ سنتمترا). تشكل المخطوطة قسما من مجلد كبير (الاوراق ١٥٤ ب ـ ١٥٩ ب) ، وهي ، نظرا للحاشية في الورقة ٨٢ ب ، من خط المؤلف. النص باللغة الاوزبكية. يصدر للمرة الاولى.

٣٤٤

منطقة المسلمين المقدسة في الجزيرة العربية

مقتطفات من ذكريات الحاج سليم غيري سلطانوف

النبذ التي أعرضها على القراء كتبتها بموجب تسجيلات وجيزة قمت بها أثناء السفر ، وبموجب ذكرياتي الشخصية.

المعلومات التاريخية والمرتبة زمنيا اقتبستها من مؤلفات مختلف العلماء المسلمين ، وكذلك من تاريخ الإسلام للمستعرب الألماني البروفسور موللر. فلأجل دراسة الشريعة ، أي علم الدين الإسلامي وقوانينه ، عشت زهاء سنتين في قرية صغيرة تقع في أعماق بشكيريا حيث توجد من قديم الزمان مدرسة دينية إسلامية شهيرة في أقليم أوفا. وهنا تعرّفت على ملّا بشكيري اسمه خير الله راح غير مرة إلى المنطقة المقدسة في الجزيرة العربية. وقد حكى لي الملّا خير الله الكثير عن أسفاره ، وهذه الأحاديث أثارت في نفسي الرغبة في زيارة أماكن المسلمين المقدسة.

في الصباح الباكر من الرابع من آذار (مارس) سنة ١٨٩٣ ، انطلقنا نحن ستة مسلمين من محافظة أوفا ، بعد أن تمنى لنا جمع غفير من المودعين السلامة واغدق علينا النصائح ، من محطة أوفا الحديدية إلى مكة المكرّمة البعيدة لكي نؤدي هناك الفريضة الدينية ـ أي السجود والصلاة أمام المقدسات التي تشغل بينها الكعبة أو بيت الله المرتبة الأولى في عيون اتباع الإسلام.

٣٤٥

بفضل وسائط المواصلات الحالية ، كنا بعد أسبوع في القسطنطينية. لن أصف القرن الذهبي والبوسفور وجمال وروعة ضواحيه العجيبة والمناظر من البحر إلى المدينة العالمية الجليلة. وقد ارجأت مشاهدة المدينة وطرائفها بصورة مفصلة إلى طريق العودة. والاحظ أن الحجاج في القسطنطينية يرون واجبهم الأول في زيارة ضريح أبي أيوب الأنصاري ، الشهير في تاريخ الإسلام ، ومن أخلص أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) [...].

ثم يزور المسافرون المسلمون المساجد ـ مسجد آيا صوفيا ، مساجد السلاطين : سليمان ، محمود ، أحمد ، سليم ، بايزيد ، وغيرهم ، وأخيرا يتسنى لبعض الحجاج فقط مشاهدة المتاحف والقصور ، الأمر الذي قمنا به في طريق العودة بفضل تلطف ياور البلاط العقيد صادق بك [...].

في ٢٩ آذار (مارس) كنا في بيروت حيث غادرنا باخرتنا «ناخيموف» لكي نسافر إلى دمشق. ومن بيروت إلى دمشق كان السفر يجري آنذاك في عربة كبيرة تجرها ستة بغال. أما الآن فقد بنيت هناك سكة حديدية. تعبر الطريق جبال لبنان ، بخط متعرج ، متلو ، أولا ٥٠ فرستا نزولا من الجبال ، ثم الجبال ، ثم ، بعد معبر عبر الجبال ، ٦٠ فرستا نزولا من الجبال ، ثم الفرستات ال ١٠ الباقية في وهدة ، على ضفة سيل مائي ، عابرة أياه غير مرة من ضفة إلى أخرى ...

أعظم طرائف دمشق جامع الأمويين القديم الباقي من حيث خطوطه الكبرى حتى أيامنا هذه. وهو يتميز بعظمته ومهابته الخارجية ، وروعة الزينات من الذهب والفيسفساء في الداخل ، وكبره الذي لا يصدق إذ يتسع ل ١٨ ألفا من المصلّين. وفوق الجامع تنتصب بضع منارات (١) رشيقة اسطوانية الشكل. وأحداها تعتبر الأهم ؛ عليها ، كما تقول

__________________

(*) المنارات في الكلام التركي جمع منارة ؛ وفي الشرق يمونها على الأغلب «مدينة» ـ

٣٤٦

الأسطورة ، سينزل يسوع المسيح حين يحل زمن التنكيل بالمسيح الدجال أي حين يحل يوم القيامة أو يوم الحساب [...].

القصور والجنائن والبساتين ، والكثير من العمارات الفخمة ، والسوق البديعة ، ومخازن الأسلحة (١) ، والمقاهي ، زهاء ٢٠٠ مسجد ـ كل هذه تشكل زينة المدينة القديمة. بيوت المالكين الخصوصيين الذين تسنى لي أن أزورهم لا تسترعي النظر بشيء من الخارج ، ولكنها في الداخل تتغندر بالزخارف وبالفسيفساء المتنوعة الألوان وبالبذخ حسب الذوق الشرقي.

جمال دمشق الرئيسي موقعها. فمن الثلوج الذائبة من الجبال اللبنانية تتشكل كثرة من السواقي التي تصب في واحدة وتشكل مسيلا اسمه بردى ، وعرضه ٣٠ ساجينا تقريبا. يسيل نهر بردى في وسط المدينة ثم ينقسم إلى سواعد ، ويتشعب في عموم المدينة وبذلك يتيح إنشاء الأحواض والفوارات في كل مكان. وفي كل حوش تقريبا توجد فوارة ، وفي كل بستان حوض مائي تتلاعب فيه «اسماك ذهبية» ، وفي كل بيت ، وحتى في كل غرفة تقريبا توجد مجارير المياه.

التربة الخصبة ، ووفرة الماء والمناخ الحار تعطي نباتا سريع النمور ومتنوع الأصناف ، وزهورا وثمارا عجيبة إلى حد أن العرب يسمون دمشق عن حق وصواب «جنة الدنيا».

__________________

ـ والأصح «مئذنة» أي مكان الدعوة إلى الصلاة (مشتقة من فعل «آذن» و «اذّن» تأذينا بالصلاة أي أعلم بها ودعا إليها).

(*) السلاح الأبيض من فولاذ دمشق البديع واسع الانتشار في الشرق. السيوف الفولاذية ، الخناجر والسكاكين من الصنع الدمشقي القديم تسنى لي أن اراها في بولونيا أيضا. فقد جلبوها إلى هذا البلد بعد الحرب ضد الاتراك بجوار فيينا. النبلاء البولونيون يقدرونها رفيع التقدير ويسمونهاSzabla Damascenke (السيوف الدمشقية).

٣٤٧

وفي دمشق تعرّفت على تتري من قازان يعيش ويشتغل هنا من زمان بعيد. وقد رحت معه إلى جبل واقع قرب المدينة يدلون منه على المكان الذي قتل فيه قايين اخاه هابيل. ثم زرنا قبر ولي مسلم يحكون عنه ما يلي.

منذ سنوات عديدة جدّا دفن إمام دمشقي شخصا غير معروف كان يعيش في دمشق. وحين طمروا الجثة بالتراب ، طرح الإمام على الحاضرين السؤال العادي : هل كان المتوفي طيبا. الجميع ذكروه بالخير وتمنوا له المملكة السماوية (الجنة) ، ولكن واحدا منهم قال عن المتوفي الكثير من السوء. في هذه الأثناء اطلت من القبر قدم بسرعة البرق. لم تكن للدهشة حدود بالطبع ، الجميع آمنوا بقداسة المتوفي ، وبنوا فوق رفاته ضريحا لائقا لا يزال يزوره إلى الآن كثيرون من المسلمين.

وانقضت سنوات عديدة. ذات مرة زار باشا تركي عجوز القبر ، وكان يشك ، نظرا للقدم المطلة ، في أن تبقى الجثة مئات السنين. حفروا القبر فتصاعد منه نور ساطع. رأى الباشا وجميع من معه بأم عيونهم جثة الرجل المقدس ، وندموا زمنا طويلا جدّا ، مرددين الصلوات الحارة. وبعد هذا ، لم يطمروا القبر من جديد بل غطوه بالقطن تاركين القدم في وضعها السابق. وأنا رأيتها بأم العين ، وعجبت كثيرا بالطبع ، بنما الفرنسي الواقف بقربي هز رأسه دليل الشك.

في أوائل نيسان (ابريل) عدنا من دمشق إلى بيروت ؛ وفي اليوم نفسه انطلقنا إلى يافا ومنها إلى القدس. من يافا إلى القدستوجد سكة حديدية هي ملك شركة فرنسية. السكة تمتد طوال الوقت كله تقريبا في الجبل والقسم الأخير منها في فج ضيق وعميق.

في القدس أمضينا أسبوعا بكامله ، وشاهدنا الأماكن المقدسة وصلينا في مسجد عمر وفي المسجد الأقصى.

٣٤٨

المسجدان المتجاوران ينتصبان فوق ساحة عريضة ، مطوقة بحائط حجري ـ الحرم الشريف الواقع في قمة جبل [...] الممهدة والمبلطة بصفائح من المرمر والغرانيت ، والمحاطة بكثرة من الانشاءات العجيبة.

وبمسجد عمر المشيد في مكان هيكل سليمان ترتبط الأسطورة عن سفر النبي ليلا من مكة إلى القدس. وفي هذا المسجد يدلون أيضا إلى الصخرة التي تشكل كلّا واحدا مع الجبل الذي صعد منه محمد إلى السماء [...].

الأماكن المقدسة في القدس موصوفة مرارا وتكرارا ؛ وفي الأدب الروسي توجد عنها كتب عديدة مختلفة من حيث المستوى والمزايا ، ولذا اتحاشى تكرار المعروف. ولكن اكتفى بالقول أن الأماكن المقدسة تبدو حسب الوصف كأنما موزعة في مساحة كبيرة بينما هي في الواقع متقاربة بشدة.

لا يمكن ولا يجوز الصمت عن أن مقدسات المدينة العالمية يشوبها أقصى القذر. والمدينة نفسها تحدث بعد دمشق إنطباعا مرهقا سواء بمظهرها الوسخ أم بتجهم وبرود سكانها المتنوعي القوميات والأديان ؛ وبقدر ما نرى سكان دمشق مضيافين ولطفاء وخدمين بقدر ما نرى سكان القدس الحاليين ، بدءا من اليهود وإنتهاء بالروس أو ممن يتظاهرون بأنهم روس ، طماعين ، بخلاء ، ميالين إلى ابتزاز أكثر ما يمكن من المسافرين والحجاج ، وإلى خداعهم بنحو ما. وقد اعتاد السكان النظر إلى الحجاج نظرتهم إلى دجاجات تبيض بيضات ذهبية. ويستحوذ الحياء والغضب على القلب والروح حين يرى المرء كيف يسود الفساد إلى جانب المقدسات ، وإلى ما قيل يجب أن أضيف مناخ القدس الرديء ، غير الصحي ، وغياب الماء الجيد فيها.

من القدس قمنا برحلة إلى بيت لحم وإلى حبرون (الخليل) الواقعة على مسافة ٧ ساعات ركوبا في طريق بديع. وفي بيت لحم رأينا كنيسة

٣٤٩

المهد ، وفي الكنيسة معلف. والمعلف عبارة عن حجر محفور ومنحوت ، من الغرانيت على ما يبدو ، طوله زهاء أرشين واحد. وفي هذه الكنيسة يعرضون أيضا المكان الذي نمت فيه شجرة كانت تجلس تحتها العذراء مريم والطفل يسوع في يديها.

وفضلا عن الكثرة من مختلف المقدسات والطرائف المعمارية ، زرنا في حبرون هيكلا بديعا ترقد فيه ، كما تقول الأسطورة ، رفات بطاركة المقدس الأوائل ـ إبراهيم ، يعقوب ، يوسف ، وغيرهم. والقبور تقع في كهف مستواه أدنى من مستوى أرضية المسجد ، وإليه ينزلون على سلاسل بضعة مشاعل صغيرة مشتعلة.

قضينا الليل في حبرون وعدنا إلى القدس ثم إلى يافا ، ومنها إنطلقنا على متن الباخرة «اوديسا» التابعة لشركة روسية إلى بور سعيد.

وعند وصولنا إلى بور سعيد زرنا في الحال القنصل الروسي لكي نسأل عن البواخر الذاهبة إلى ينبع. وقد تبين أن قنصلنا السيد براون الماني ولا يعرف أية كلمة روسية. أعرب عن استعداده لخدمتنا ومساعدتنا المعلومات التي يملكها ؛ ولكن من جراء عدم فهم اللغة بصورة متبادلة وغياب المترجم في القنصلية ، جائت خدمات السيد براون مثل خدمة الدب بالذات أي جاءت بعكس القصد منها ؛ أي أنها لم تنفع بل أضرت. فمن توضيحاته نجم أن هناك باخرة وحيدة تقلع قبل مضي أسبوعين. وفي الوقت نفسه تطوع السيد براون لتزويدنا بالتذاكر ، توافقنا بطبيعة خاطر. ولكن تبين فيما بعد أن الباخرة الوحيدة التي ستقلع في ١٦ نيسان (ابريل) إلى ينبع ، تخص الشركة النمساوية «لويد» التي يقوم السيد براون بدور عميل لها ؛ وأن هناك بواخر تابعة لشركات أخرى وأننا لو سافرنا على متن أحداها لدفعنا أجرة أقل.

في ١٦ نيسان أقلعت الباخرة «اغلايا» من بور سعيد عبر قناة السويس ؛ وفي صباح اليوم التالي كنا في السويس ، ثم عبرنا البحر

٣٥٠

الأحمر خلال يومين. وأثناء هذه الرحلة ، تقابلنا للمرة الأولى مع مؤشرات الدخول في المنطقة الاستوائية. كان ميزان الحرارة حسب معيار ريومور يشير إلى ٢٧ درجة الظل. الأبخرة التي ترتفع من البحر تترسب ليلا بصورة ندى صمغي يثير إحساسا غير مستطاب إطلاقا ، ولاذعا نوعا ما ، حسب كل احتمال ، لأنه يثير طفحا أحمر سواء على الوجه أم على الأقسام المكشوفة من اليدين المعرضة لتأثيره. ولا يمكن في أي حال من الأحوال القول عن السفر في البحر الأحمر بأنه مستطاب ؛ فإن القيظ نهارا ، وكتمة الهواء ليلا يرافقان المسافرين طوال الوقت كله لأن الندى الذي ذكرته للتو لا يسمح بفتح أبواب ونوافذ ليلا. وسواحل البحر تعرض منظرا صحراويا تماما. وللماء لون محلول الزاج ؛ ولا تقع العين على الطيور ولا حتى على طيور النورس ، ولا نرى الأسماك التي تتلاعب عادة على سطح الماء في البحار الأخرى ؛ ولذا يبدو البحر الحمر نفسه في الطقس الهادئ عديم الحياة كليّا [...].

ينبع قلعة غير كبيرة. عدد سكانها خمسة آلاف. وهنا مقر القائمقام ، معاون عامل المدينة المنورة (الوالي). وفي القلعة حامية تركية من ٥٠٠ جندي.

بأنتظار تشكيل القافلة أمضينا في ينبع خمسة أيام ، واشترينا كل ما يلزم لأجل مواصلة السفر الطويل إلى المدينة المنورة على «سفن الصحراء» [...].

حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر انطلقنا من بوابة القلعة في اتجاه المدينة المقدسة[...].

كانت الوقفات على العموم غير طويلة. كانت القافلة تسير نهارا وليلا. خطوة الجمل كبيرة نسبيّا ، ولكن رغم كل هذا تسير القافلة ببطء. سبب بطء الحركة امتداد القافلة الكبير. يكفي أن يقف جمل لسبب ما

٣٥١

حتى يتعين أن تقف كل السلسلة السائرة وراءه. في اليوم الواحد كنا نقطع بالاجمال ٣٠ ـ ٣٥ فرستا ، لا اكثر.

في ٢٥ نيسان (ابريل) اقتربنا مساء مع غروب الشمس من المدينة المنورة ، أي من اقدم مراكز الإسلام. انتعشت القافلة. أشعل الجميع المصابيح والمشاعل وبدأ إطلاق النار من البنادق ، وانشد البعض أناشيد دينية ، وتلا آخرون غيبا آيات من القرآن الكريم ، وتنادوا بأصوات مدوية ، واطلقت النساء الهنديات والمصريات من الحلق ترانيم غريبة جدّا.

وعلى بعد ١٠ فرستات تقريبا من المدينة ، استقبلنا المسلمون المهاجرون الروس المقيمون هنا على الدوام. وفي الساعة الحادية عشرة كنا جالسين في صالون مواطننا اللطيف المضياف عبد الستار أفندي إلى سماور روسي يفح بمرح وإلى مآكل قومية متنوعة.

في صباح اليوم التالي صليت بدموع الفرح والحنان والرقة وبكل حرارة عند قبر محمد ، الذي كان في التاريخ العالمي كله الإنسان الوحيد الذي جمع في نفسه النبي والشاعر والحقوقي والمشترع والطبيب والخبير الصحي ومؤسس دين وامبراطورية ، وأضفى القوة والوحدة على جميع القبائل في الجزيرة العربية ومن خلالها على العديد من الشعوب الأخرى في آسيا وافريقيا وأوروبا ، ويتقيد بمذهبه وتعاليمه الآن أكثر من ثلث البشرية جمعاء [...].

عامل المدينة المنورة (١) عثمان باشا تحدر من روسيا ؛ فهو شركسي

__________________

(*) قبل هجرة النبي من مكة ، كان سكان يثرب يسمون مقامهم في أغلب الأحوال «بالمدينة» خلافا للضواحي. وأطلقوا على المدينة مع ضواحي اسم يثرب. وهذا الأسم الأخير تراجع مع مر الزمن. وأخذوا يسمون المدينة «بالمدينة» قاصدين «مدينة النبي».

٣٥٢

القومية ، وقد غادر القفقاس طوعا واختيارا. حموه ، الأبن البكر للشخصية الشهيرة شميل ، غازي محمد ، الذي يعيش على الدوام في مدينة النبي ، يتمتع بالشعبية الواسعة ، والإنتباه والاحترام بين العرب. إن مسلما مثقفا ذكيا يشغل مكان الصدارة في رفقتنا الصغيرة زار مرارا شميل عثمان باشا. وهو يقول أن الحديث العام كان غالبا ما يعود إلى الذكريات عن روسيا ، الموطن السابق ، وهي ذكريات مفعمة بالعطف العميق.

تشغل المدينة رقعة غير كبيرة نسبيّا ، ومرد ذلك إلى أقصى تزاحم العمارات ؛ فإن البيت يلتصق بالبيت دون أية فسحة بينهما. لا أحواش. الشوارع ضيقة إلى حد انه لا يمكن في بعضها إلا بصعوبة أن يتلاقى ويتفارق حماران محملان.

ومن غير المريح أبدا بالنسبة لأبن الشمال غياب الزجاج في الغرف ، ولذا يطير الغبار إليها مباشرة من الشارع ؛ والغبار كثير لأن الحركة في الشوارع هائلة ومتواصلة في غضون أربعة أشهر ، بدءا من شهر رمضان (١) حين يتوافد إلى هنا الحجاج من شتى أقطار العالم الإسلامي.

__________________

(*) اسم الشهر الذي يصوم المسلمون في غضونه. الفرس والأتراك يلفظونه «رمظان». التقويم الإسلامي قمري. السنة تتألف من ١٢ دورة قمرية ، وبالتالي من ٣٥٤ يوما أو من ٣٥٥ يوما. في الحالة الأخيرة يضاف إلى الشهر يوم واحد آخر. الشهر في غضون ٣٣ سنة ينتقل دائما عبر جميع أوقات السنة. أسماء الأشهر : محرم ، صفر ، ربيع الأول ، ربيع الثاني ، جمادى الأول ، جمادى الثاني ، رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة. ومن يرغب في معرفة التقويم الإسلامي بمزيد من التفصيل يمكنه أن يراجع مقالة السيد تيرينتييف («بشير آسيا الوسطى. أيار ـ مايو ١٨٩٦) وكتاب «التقويم الشمسي في العالم الإسلامي» لمؤلفه شاكر باشا ، ياور السلطان ، والسفير التركي سابقا لدى البلاط الروسي ، المفوض السامي الحالي للباب العالم لأجل تطبيق الإصلاحات في آسيا الصغرى. ترجمة محمد آغا شاهطاختينسكي (محمد بك) من التركية. موسكو. سنة ١٨٩٧ ، ١٧٣ ص.

٣٥٣

إن الموضوع الذي يجتذب إلى هنا مئات الآلاف من الحجاج إنما هو الجامع الذي يتواجد فيه قبر النبي محمد. قبره يقع في الجانب الجنوبي من الجامع. وفوقه يوجد مرتفع غير كبير مكسو بغطاء حريري مطرز بغني ووفرة ، ومحاط بشبكة من الحديد الصب المطلي بالذهب ، وعاليا فوق السطح تشع قبة (السعادة). وإلى جانب النبي دفن خليفتاه الأولان ـ ، الخليفة أبو بكر (١) والخليفة عمر ـ وإلى أبعد ، ابنة النبي ، زوجة الخليفة علي ، فاطمة [...].

أمضينا في المدينة المنورة خمسة أسابيع بانتظار قافلة دمشق لأننا لم نتجرأ على مواصلة السفر مع قافلة البدو نظرا لغياب التنظيم فيها ، ثم لأن قوافل البدو لا تراعي البتة أية قواعد صحية. والآبار التي تمر بها هذه القوافل في طريقها محاطة بكثرة من الأقذار والأوساخ ، وحتى جثث الذين يموتون في الطريق يطمرونها كيفما اتفق في مكان التوقف بالذات.

اغتنمت فرصة الإقامة المديدة في المدينة المنورة فتعلمت اللغة العربية لأني حسبت أن أبقى بضع سنوات في الجزيرة العربية رغم أني غيرت رأيي فيما بعد. اللغة العربية عسيرة المنال على الكثيرين ولكني كنت أعرفها نوعا ما على الصعيد النظري ، وهذا ما ساعدني في استيعاب الكلام الدارج بسرعة.

يكنّ العرب للكفار ، أي لغير المسلمين اشمء زازا غريزيا ، وفضلا عن ذلك ينظرون بعدم الرضى إلى جميع من لا يتكلمون بالعربية. وهم

__________________

(*) أبو بكر. من قديم الزمان وإلى الآن يعتزم العربي أكبر الاعتزاز بكونه أبا ، ولهذا يخاطبونه باسم ابنه دليلا على التقدير والاحترام. الخليفة أبو بكر ، الذي تسنم الخلافة من سة ٦٣٢ إلى ٦٣٤ ميلادية أي من سنة ١١ إلى سنة ١٣ هجرية لقبه النبي «بالصّديق». أما عمر الذي نعته المؤرخون وكذلك العلماء المسلمون «بالفاروق» لعدالته ، فقد حكم من سنة ٦٣٤ إلى ٦٦٤. والخليفتان ، ولا سيما عمر ، عملا كثيرا على نشر الإسلام وتأسيس الامبراطورية الإسلامية.

٣٥٤

يعتبرون لغتهم ، وليس بدون بعض المبررات أغلب الظن ، لغة فائقة الغنى ، قوية التعبير ، وأحسن لغات العالم وقعا على الاذن ، وأكثرها اناقة.

فضلا عن دراسة اللغة العربية بصورة عملية ، أخذت دروسا في «علم التجويد» الذي يتلخص في صحة نطق آيات القرآن الكريم ، لأن أهل المدينة المنورة يعتبرون خيرة قراء ومفسري الكتاب المقدس. وكثيرون منهم يعرفونه بكليته غيبا. تعلمت عند معلم ، من سلالة النبي ، اسمه علي أفندي زغيري. اخلاف النبي يسمونهم «بالأسياد» ولذا كانوا يسمون معلمي «بالشيخ السيد علي زغيري». ولكل سيد ، عدا ذلك ، لقب «الشريف» ؛ والاسياد يحملون في الحزام خنجرا أعوج دليلا على تميزهم.

وقد تبين أن السيد علي أفندي ، كما كان ينبغي التوقع نظرا لأصله الرفيع ، كان إنسانا متعلما ، محبّا للاطلاع ، ولطيفا جدّا. في سنة ١٨٩٨ جاب في ربوع آسيا الوسطى وروسيا ، وزار مدينة أوفا حيث كان من حسن حظي أن ازوره. وقد عرفني في الحال ، وسرّ باللقاء على ما يبدو. أمضينا معا أمسيتين ، متحادثين عن روسيا وعن الجزيرة العربية ، ومتذكرين ، فيما تذكرنا ، المدينة المنورة ودروسنا. وغني عن البيان انه لقى من جانب المسلمين في كل مكان ، بوصفه ضيفا رفيع المقام ، ومبجلا ، ونادرا ، الاحترام اللائق والاستقبال المناسب [...].

في المدينة المنورة تسنى لي أن احضر محاكمة ، ولكن بصفة شاهد.

قبل سفرنا ببضع سنوات توفي في المدينة المنورة حاج ، بشكيري من انحائنا ، تاركا زوجة وأولادا. وبموجب القاعدة العامة السارية المفعول ، أخذوا أموال المتوفي ، حتى حضور ومطالبة ورثته الشرعيين إلى بيت المال أي إلى مؤسسة تشرف على أموال وتركات الموتى.

٣٥٥

أعطت زوجة المرحوم أحد رفاقي وكالة للحصول على الأرث. طلبت المحكمة شاهدين بوسعهما أن يؤكدا صحة الوكالة. وكنت أنا أحد الشاهدين. استجوبونا بعد القسم. جرت المحاكمة في حجرة متواضعة ، علنا ، أمام الحضور ، وعند الفصل في الدعاوي يفصل فيها قضاة تعينهم الحكومة التركية. وعند الفصل في الدعاوي يسترشدون بلوائح خاصة تسمى «بالدساتير» ؛ وهذه تضعها المحكمة التركية على أساس أحكام الشريعة.

طريقة وضع الدستور الذي يتجاوب مع الحياة الواقعية هي التالية. توجد في القسطنطينية لجة خاصة من حقوقيين مسلمين يضعون ، كما أشرنا أعلاه ، على أساس أحكام الشريعة ، مشروع قانون في فرع معين من الحق ، عارضينه في شكل عقائدي. مشروع القانون الموضوع هنا يطبعونه ويرسلونه إلى المحافظات العامة والمحافظات في الامبراطورية حيث توجد لجان ثانوية. وهذه تدرس المشروع المرسل وتعيده مع اعتباراتها وآرائها. ولجنة العاصمة تدرس هذه الاعتبارات والآراء حول مشروعها وتضع نهائيا وثيقة تكتسب قوة القانون تصبح سارية المفعول ما أن يصادق عليها السلطان.

في أواخر أيار (مايو) وصلت إلى المدينة المنورة قافلة حكومية تركية يجري تجهيزها سنويا في دمشق وإرسالها عبر المدينة المنورة إلى مكة المكرّمة مع هدايا عادية لشريف مكة ورؤساء (شيوخ) البدو ، وهدايا الكعبة وللجوامع ، ومع النقود لإعالة الموظفين الأتراك.

هذه المرة كانت القافلة تتألف من ألفي جمل وسارت بقيادة عبد الرحمن باشا وبرفقة بضع مئات من الجنود المسلحين بالبنادق وراكبين على البغال. وكانت القافلة مزودة بمدفع ولذا كانت مضمونة تماما على صعيد السلامة والأمن دون هجوم البدو. وإلى هذه القافلة انضممنا نحن المسلمين الروس وعددنا ٤٢ شخصا. ومعنا سافر مهاجر

٣٥٦

روسي ، طبيب تعلم على نفسه ، وساعد كثيرا ومجانا أثناء السفر بنصائحه وأدويته.

في ٣٠ أيار (مايو) مساء ، إنطلقت القافلة من البوابة الشرقية للمدينة المنورة في طريق لا تمضي عليه قوافل البدو لأن هذا الطريق أطول من الطريق العادي. قطعنا الطريق من المدينة المنورة إلى مكة المكرّمة في الشقادف ، ولكن توجد في قافلة دمشق تختروانات أيضا. التختروان إنما هو حمالة يركبون عليها لأجل ركوب المسافر كشكا غير كبير له نوافذ صغيرة جدّا يمكن فتحها. هذا الكشك يشدونه بين جملين سائرين الواحد تلو الآخر.

كانت القافلة تسير نهارا فقط ، منطلقة من الموقف بعد صلاة الفجر أي قبل طلوع الشمس بساعة ونصف ساعة تقريبا ؛ وكانت تتوقف لربع ساعة لأجل إداء صلاة الظهر ثم كانت تسير بلا توقف حتى صلاة المساء وإدائها قبل غياب الشمس وتتوقف لقضاء الليل. وقبل توقف القافلة ، يرسلون إلى الإمام لأجل الاستكشاف أفرادا من حرسها المرافق والخدم الذين ينصبون الخيام.

كان الوقت أثناء الوقفة ينقضي بما يكفي من المرح في تبادل الزيارات وإحتساء الشاي (كانت معنا سماورات روسية) وفي الأحاديث التي غالبا ما كانت تستطيل إلى ساعة متأخرة من الليل. وقد اجتزنا الطريق كله بهدوء وانشراح وبشاشة ، ولم يكن ثمة شيء ، على ما يبدو ، ينذر بويلات الوباء الذي كان ينتظرنا في مكة ...

ركوب الجمال لا يطاق البتة. يهتز الراكب وأي إهتزاز. ولدى كل خطوة من الجمل يتأرجح الراكب تارة إلى جانب وطورا إلى آخر ولذا يصاب كثيرون في الأيام الأولى بمرض دوخان البحر. وهذا الركوب أزعجني لفترة من الزمن إلى حد أني طلبت من سواق الجمل ، وهو عربي سوري ، أن يتنازل لي عن حصانه لمدة يوم واحد. وافق وأن لم يكن ببالغ

٣٥٧

من طيبة الخاطر ، وحل محلي في الشقدف ، وأخذ يراقبني منه بين الفينة والفينة طالبا أن أمضي بمزيد من الهدوء والبطء ، رغم أني لم أكن أفكر البتة بحث حصان لا أعرفه ...

إن العرب يحبون ويقدّرون أحصنتهم إلى أقصى حد. ولا يمكن أن نجد عند أي شعب آخر مثل هذا التعلق بهذه الحيوانات الضرورية فائق الضرورة لأجل القبيلة ، المترحلة على الأغلب. وهذا التعلق ليس غريبا لا على الحكام ولا على الشعب البسيط ، ولا على النساء ولا على الأولاد. وكثيرون من الشعراء العرب تغنوا بالحصان. وهناك أدلة كثيرة على حب العرب وتعلقهم برفاقهم في الفرح ، في المجد والتعاسة ـ الأحصنة [...] ...

في اليوم الحادي عشر مساء اقتربت قافلتنا من مكة وتوقفت في محلة شهادة ؛ وسرعان ما جاء دليل المسلمين الروس محمد علي سروجي مع أحد معاونيه. والأدلة هم قادة الحجاج في زمن إداء شعائر الحج وفي زمن زيادة الأماكن المقدسة في المدينة وضواحيها. محمد علي سروجي عربي أصيل من مواليد مكة وسكانها الدائمين. آنذاك كان عمره أكثر من ٦٠ سنة. وأنا لا أعرف ما إذا كان لا يزال الآن قيد الحياة. كان سروجي يتكلم بالتركية بطلاقة ، ولكن اللغة الروسية أيضا لم تكن غريبة عليه. فقد تعلم التكلم الروسية في سجن طشقند حين زجوا به فيه بسبب عدم وجود الوثائق اللازمة أثناء تجوبة في ربوع آسيا الوسطى. وفي السجن أمضى سنتين كاملتين إلى أن أنتهت المراسلات الدواوينية بشأنه ؛ وهذا واقع يدل على غلاظة وقساوة الأوضاع البيروقراطية.

والأدلة يعينهم شريف مكة ، وهذا اللقب ينتقل بالوراثة من الأب إلى الأبن [...].

[...] حين وصلنا إلى عرفات ، كان الوادي مغطى كليا بالخيام إذ تجمع هنا حوالي نصف مليون من الحجاج من مختلف القوميات : من

٣٥٨

العرب المحليين ، والبدو ، والأفارقة من مصر والجزائر والمغرب ، والهنود ، وسكان جزيرتي سومطرة وجاوه ، وسكان بخارى ، والفرس الشيعيين ، وسكان بوسنيا ، ثم نحو الفين من المسلمين الروس ، وعدد أقل من الافغان ، وأخيرا نحو ١٠ صينيين. وللمناسبة أقول أن جميع القوميات تساوت هنا باللباس العام الذي يرتديه الحجاج ـ ثوب الأحرام.

إن الحادثة التالية قد تعطي فكرة عن كبر المخيم. راح أحد المسلمين الروس يتنزه في المخيم فأضاع مكان خيمته. وحين كان يسأل عن كيف يجد جماعته ، كانوا يسألونه من أي بلد جاء. وهذا لأنه بوسع المرء ، إذا عرف وطن السائل ، أن يخمن القافلة التي وصل معها والمكان الذي توقفت فيه. ولكن هذا الساذج لم يخطر في باله أن يجيب عن جميع الأسئلة انه «قازانلي أي قازاني» ، من قازان ، وكان يجيب انه «بوغولمي» ، دون أن يخطر في باله أن عدد قليلا جدّا من الناس ، لا في الجزيرة العربية وحسب ، بل أيضا في روسيا أغلب الظن ، سمعوا بوجود بلدة بوغولما الصغيرة في محافظة سامارا .. ولذا لم يستطع أن يتلقى جوابا من أحد على أسئلته ، وأمضى أكثر من نصف اليوم في البحث ؛ ونحو المساء فقط وصل بالصدفة إلى خيام مواطنيه.

طوال ليلة الحادي عشر إلى الثاني عشر من حزيران (يونيو) صدحت الموسيقى في مخيم الحجاج ، وشعت الألعاب النارية والصواريخ ودوت طلقات المدافع بين الفينة والفينة. كانت هناك ثلاثة مدافع. وأحد في قافلتنا ، والثاني في القافلة المصرية ، والثالث في القافلة المكية.

اليوم الثاني ، يوم عرفات ، بدأ بإلقاء موعظة دامت حتى الساعة الرابعة قريبا من بعد الظهر. وقد ألى الموعظة إمام معين خصيصا ، وصعد إلى الجبل على جمل أبيض وتوقف على بعد بضعة ساجينات من

٣٥٩

العمود الحجري المنصوب على الجبل. لم أعرف مضمون الموعظة بسبب الضجة المحتمة في مثل هذا الحشد الجمّ من الناس ، وبسبب بعد الامام [...].

عند الظهر تكشفت بين الحجاج إصابات مرض. كان المرضى الأوائل من عداد اليمنيين ؛ وبعد بضع ساعات ، سرت في المخيم بسرعة البرق إشاعة عن حالات وفاة. تكدّر الجميع ، ولكن خضوع المسلمين لمشيئة الله كان له الغلبة. فلم يخالف النظام العادي للاحتفال بالعيد العظيم والنادر إلى أقصى حد بالنسبة للاغلبية الساحقة. وعدا ذلك ، لقي الجميع العزاء من الإيمان في أن من أمضى الليل في عرفات قد لقي الغفران عن جميع الخطايا التي اقترفها قبل ذاك.

قبل غياب الشمس بدأ جميع الحجاج ، باستثناء الشيعيين ، يتجمعون للرحيل ؛ وحين دوت طلقة المدفع أطلق جميع الحجاج ، وعددهم نصف مليون شخص ، هتافا مدويا بالتشيد ، وانطلقوا بلا نظام في طريق مكة إلى وادي منى.

كان الجمع في منتهى التنوع. مضى البعض سيرا على الأقدام ، ومضى بعض آخر على ظهور الحمير أو على ظهور الجمال ، ومضى بعض ثالث في شقادف بسيطة ، وبعض رابع في تختروانات مزينة بسخاء وغنى ؛ وبعض خامس على أحصنة بديعة وحتى في عربات مطلية بالذهب.

وعلى بعد قرابة عشرة فرستات عن عرفات ، توقف الجميع لبضع ساعات في وادي المزدلفة حيث تلاقى آدم مع حواء ، كما تقول الأسطورة ، بعد طردهما من الجنة ، وحيث قضيا الليلة الأولى. يقع الوادي بين الجبال. وهنا توجد بلدة صغيرة ، ويوجد مسجد محاط بحائط. بعد إداء صلاة المساء وصلاة الفجر ، واصلنا السير عند الفجر علما بأن كلا من الحجاج اختار لنفسه عددا معينا من الأحجار الصغيرة.

٣٦٠