الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧
للعجلة ثمانمائة (١) وستّين عروة ، وجعل في كلّ عروة سلسلة من الياقوت الأحمر ، وأمر ستّين ألفاً من الملائكة المقرّبين أن يجرّوها بتلك السلاسل مع قوّتهم التي اختصّهم الله بها ، والشمس مثل الفلك على تلك العجلة وهي تدور في القبّة الخضراء ، وتجلو جمالها على أهل الغبراء ، وفي كلّ يوم تقف على خطّ الاستواء فوق الكعبة لأنّها مركز الأرض وتقول : يا ملائكة ربّي إنّي لأستحي من الله عزّ وجلّ إذا وصلت إلى محاذاة الكعبة التي هي قبلة المؤمنين أن أجوز عليها ، والملائكة تجرّ الشمس لتعبر على الكعبة بكلّ قوّتها فلا تقبل منهم وتعجز الملائكة عنها ، فالله تعالى يوحي إلى الملائكة وحي إلهام فينادون : أيّتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كنت فيه من السير ، فإذا سمعت ذلك تحرّكت بقدرة المالك.
فقالت عائشة : يا رسول الله من هو الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟ قديم أنّه يخلق الهواء ، ويخلق على الهواء هذه السماء ، ويخلق بحراً من الماء ، ويخلق عليه عجلة كما يشاء ، ويجعل العجلة مركباً للشمس المشرقة على الدنيا ، وأنّ الشمس تتمرّد على الملائكة إذا وصلت إلى الاستواء ، وأنّ الله تعالى قدّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّا مفضّلاً على الأنبياء وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء ، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره أعني أبا بكر صدّيق المصطفى ، فإذا أقسمت الملائكة عليها به زالت الشمس ، وعادت إلى سيرها بقدرة المولى ، وكذلك إذا مرّ العاصي من أُمّتي على نار جهنّم وأرادت النار على المؤمن أن تهجم ، فلحرمة محبة الله في قلبه ونقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة ، ولغيره طالبة.
قال الأميني : إنّ ممّا يغمرني في الحيرة أنّ هذه العجلة ، لِمَ لم يكشف عنها علماء الهيئة قديماً وحديثاً ، مع توفّر أدوات الكشف ومحصّلاته لأهل الهيئة الجديدة خاصّة؟
__________________
(١) في روض الرياحين : ثلاثمائة.
وأنّهم لما ذا استقرّت آراؤهم بعد تقدّم العلم واستفحال أمره وكثرة اكتشافاته على دوران الأرض على الشمس.
وتُعلمنا الرواية عن أنّ البخار لم يكن مستخدماً عند إنشاء تلك العجلة فيمدّها الله سبحانه به حتى لا يشعر بإرادة مريد ، ولا حياء من يستحي ، فيمضي بالعجلة ويوصلها في أسرع وقت إلى حيث شِيءَ لها قدما ، ولكنّ العجب أنّ الله سبحانه لم يستبدل الملائكة بالبخار بعد اكتشافه فيطلق سراح أولئك الآلاف المؤلّفة المقيّدة بسلاسل بلاء العجلة ، ويعتقهم من مكابدة تمرّد الشمس في كلّ يوم!
وهناك مسألة لا أدري من المجيب عنها وهي : أنّ إرادة الله سبحانه الفائقة على كلّ قوّة جامحة وهي تمسك السماء بغير عمد ترونها ، وتسيّر الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ، صنع الله الذي أتقن كلّ شيء ، لِمَ لم تقم مقام أولئك المسخّرين لجرّ الشمس حتى لا يوقفها تمرّد ، ولا تحتاج إلى عرى وسلاسل ، أو الإقسام بمن كتب اسمه عليها؟ وما الذي أحوج المولى سبحانه في تسيير الشمس إلى هذه الأدوات من العجلة والعرى والسلاسل ، وخلق أولئك الجمّ الغفير من الملائكة واستخدامهم بالجرّ الثقيل ، وهو الذي إذا أراد شيئاً أن يكون يقول له كن فيكون؟
ثمّ إنّ الشمس هلاّ كانت تعلم أنّ إرادة الله سبحانه ماضية عليها بجريها إلى الغاية المقصودة؟ فما هذا التوقّف والتمرّد؟ والله تعالى أعلم بعظمة الكعبة وشرفها منها وقد جعلها في خطّة سيرها. أنّى للشمس أن تجهل بها ، وهي هي الشاعرة بخطّ الاستواء ، ومحاذاة الكعبة ووصولها إلى تلك النقطة المقدّسة ، وهي العارفة بمقامات الصدّيق ، وأنّ اسمه منقوش عليها ، وأنّ من واجبها أن تنقاد ولا تجمح على من أقسم به عليها.
ومن عويصات لا تنحلّ : تجديد الشمس تمرّدها كلّ يوم (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١) (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا
__________________
(١) يس : ٣٨.
اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).
وأعوص من ذلك إنشاد الملائكة إيّاها في كلّ نهار تلك الأُنشودة الضخمة ووحي الله إليهم بها طيلة عمر الدنيا.
هكذا تشوّه رواة السوء سمعة السنّة الشريفة ، وهي مقدّسة عن هذه الأوهام الخرافيّة ، وأنّ هذه كلّها من جرّاء الغلوّ الممقوت في الفضائل ، ولو كان مختلق هذه المرسلة المقطوعة عن الإسناد يعلم ما ذكرناه من الفضائح المترتبة على افتعالها لما اقتحم هذا الاقتحام المزري.
ـ ٢ ـ
التوسّل بلحية أبي بكر
ذكر اليافعي في روض الرياحين (٢) عن أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه أنّه قال : بينما نحن جلوس بالمسجد وإذا نحن برجل أعمى قد دخل علينا وسلّم فرددنا عليهالسلام وأجلسناهُ بين يدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : من يقضيني حاجة في حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه : ما حاجتك يا شيخ؟ فقال : إنّ لي أهلاً ولم يكن عندي ما نقتات به ، وأريد من يدفع لنا شيئاً نقتات به في حبّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : فنهض أبو بكر الصدّيق رضياللهعنه وقال : نعم أنا أعطيك ما يقوم بك في حبّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثمّ قال : هل من حاجة أخرى؟ فقال : نعم إنّ لي ابنة اريد من يتزوّج بها في حياتي حبّا في محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال أبو بكر : أنا أتزوّج بها في حياتك حبّا في رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، هل من
__________________
(١) يس : ٤٠.
(٢) طبع بمصر في المطبعة السعيدية هامش العرائس للثعلبي ، توجد الرواية في : ص ٤٤٣. ينقل عنه القسطلاني في المواهب [ ٢ / ٢٨ ] ، وقال الزرقاني في شرح المواهب : ٣ / ١٥٧ : مؤلّف حسن ، وطبع لليافعي كتاب آخر مستقل في مصر سنة ١٣١٥ باسم روض الرياحين أيضاً ، وهو تأليفه الآخر غير المطبوع في حاشية العرائس. (المؤلف)
حاجة أخرى؟ فقال : نعم اريد أن أضع يدي في شيبة أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه حبّا في محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فنهض أبو بكر رضى الله عنه ووضع لحيته في يد الأعمى وقال : امسك لحيتي في حبّ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : فقبض الأعمى بلحية أبي بكر الصدّيق صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا ربّ أسألك بحرمة شيبة أبي بكر إلاَّ رددت عليّ بصري. قال : فردّ الله عليه بصره لوقته ، فنزل جبريل عليهالسلام على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا محمد السلام يقرئك السلام ، ويخصّك بالتحيّة والإكرام ، ويقول لك : وعزّته وجلاله لو أقسم عليّ كل أعمى بحرمة شيبة أبي بكر الصدّيق لرددت عليه بصره ، وما تركت على وجه الأرض أعمى ، وهذا كلّه ببركتك وعلوّ قدرك وشأنك عند ربّك.
قال الأميني : إنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. حقّا إنّ هذا الضرير قد عمي قلبه قبل بصره ، فلم يعقل أنّ القسَم بشيبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أولى من شيبة أبي بكر ، فهي مقدّمة قداسةً وشرفاً وزلفةً عند الله سبحانه ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أكبر من أبي بكر سنّا وأكثر شيبة ، فما أعمى الرجل عنها إن كان يريد مقسماً به يبرّ الله سبحانه به قسمه؟ أو أنّه كان له في شيبة أبي بكر غاية لم نعرفها؟ ثمّ أين عن هذه الشيبة عميان أهل السنّة؟ وما أغفلهم عن الوحي المنزل فيها؟ فيقسمون على الله بها فيكشف عن أبصارهم ، وما بال الحفّاظ وأئمّة الحديث أرجأوا نشر هذه الرواية إلى القرن الثامن عهد اليافعي؟ هل بخلوا على عميان الأمّة بمثل هذا النجاح الباهر وفي الوحي المزعوم قوله سبحانه : وعزّتي وجلالي لو أقسم عليّ كل أعمى. إلى آخره؟ أو أنّهم وجدوا مولد هذا الحديث بعد عصورهم فلم يشيدوا بذكره؟ أو رأوا فيه غلوّا فاحشاً بتقديم لحية أبي بكر على شيبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فطووا عن روايته كشحاً؟ أو عقلوا فيه مهزأة بالله ووحيه وأمينه ونبيّه فضربوا عنه صفحاً؟
وللقوم حول شيبة أبي بكر روايات منها ما أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٣١٧) من أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا اشتاق إلى الجنّة قبّل شيبة أبي بكر. ومرّ هنالك أنّها
من أشهر المشهورات من الموضوعات ، ومن المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل كما قاله الفيروزآبادي والعجلوني (١).
ومنها ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٣٣) من أنّ لإبراهيم الخليل وأبي بكر الصدّيق شيبة في الجنّة.
ثمّ قال في المقاصد (٢) نقلاً عن شيخه ابن حجر : لم يصحّ أنّ للخليل في الجنّة لحية ولا للصدّيق ، ولا أعرف ذلك في شيء من كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المنثورة. ثمّ قال : وعلى تقدير ثبوت وروده فيظهر لي أنّ الحكمة في ذلك : أمّا في حقّ الخليل فلكونه مُنزّلاً منزلة الوالد للمسلمين ، لأنّه الذي سمّاهم بالمسلمين وأُمروا باتّباع ملّته ، وأمّا في حقّ الصدّيق فلأنّه كالوالد الثاني للمسلمين ، إذ هو الفاتح لهم باب الدخول إلى الإسلام.
قال الأميني : إنّ الذي سمّى الأمّة المرحومة بالمسلمين هو الله سبحانه كما في قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) (٣).
وإن أمكنت التسمية من إبراهيم من قبل فإنّها غير ممكنة منه في هذا وهو القرآن الكريم ، وإنّما وقع ذكر ملّة إبراهيم في البين امتناناً منه سبحانه على الأمّة بجعل الإسلام شريعة سهلة لا حرج فيها ترغيباً في الدخول فيه. فالقول بأنّ إبراهيم سمّاهم مسلمين لا يتمّ مع قوله تعالى : (وَفِي هذا) يعني في القرآن. قال القرطبي (٤) : هذا
__________________
(١) كشف الخفاء : ٢ / ٤١٩ الخاتمة.
(٢) المقاصد الحسنة : ص ١٤٤ ح ٢٢٨.
(٣) الحج : ٧٨.
(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٢ / ٦٨.
القول مخالف لقول عظماء الأمّة. وقال الطبري (١) : هذا لا وجه له لأنّه من المعلوم أنّ إبراهيم لم يسمّ هذه الأمّة في القرآن مسلمين.
وقال ابن عبّاس : الله سمّاكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدّمة وفي الذّكر. وكذا قال مجاهد وعطاء والضحّاك والسدي ومقاتل وقتادة وابن مبارك.
وتدلّ على تعيّن هذا القول قراءة أُبيّ بن كعب : (الله سمّاكم المسلمين) كما في تفسير البيضاوي ، (٢ / ١١٢) ، وكشّاف الزمخشري (٢ / ٢٨٦) ، وتفسير الرازي (٦ / ٢١٠) وتفسير ابن جزّي الكلبي (٣ / ٤٧).
واستقرَبه الرازي في تفسيره فقال : لأنّه تعالى قال : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢) فبيّن أنّه سمّاهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلاّ بالله.
واستصوبه ابن كثير في تفسيره (٣ / ٢٣٦) وقال : لأنّه تعالى قال : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثمّ حثّهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله عليه بأنّه ملّة أبيهم الخليل ، ثمّ ذكر منّته تعالى على هذه الأمّة بما نوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يُتلى على الأحبار والرهبان فقال : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ). أي من قبل هذا القرآن. (وَفِي هذا).
وبهذا تعرف قيمة ما حسبه المتفلسف من أنّ تنزيل إبراهيم منزلة الأب للمسلمين لمحض التسمية فإنّه ممّا لا يُقام له وزن وإلاّ لوجب اتّخاذ من سمّى أحداً باسمٍ أباً تنزيليّا ، ومن المعلوم بطلانه ، وإنّما سمّاه الله أباً للمسلمين لأنّه عليهالسلام أب الرسول الأمين ، وأنّ قريشاً من ذريّته ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أبو الأمّة ، وأمّته في حكم أولاده ،
__________________
(١) جامع البيان : مج ١٠ / ج ١٧ / ص ٢٠٨.
(٢) الحج : ٧٨.
وأزواجه أمّهاتهم كما ورد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : «إنّما أنا لكم كالوالد ، أو : مثل الوالد» (١).
أنا لا أدري ما هي الخاصّة في الأب التنزيليّ لأمّة خاصّة أن تكون له لحية في الجنّة دون الأب الحقيقيّ للأمم جمعاء ، وهو أبو البشر آدم عليهالسلام ، ولا لحية له؟ مع ما ورد عن كعب الأحبار أنّه قال : ليس أحد في الجنة له لحية إلاّ آدم ، له لحية سوداء إلى سرّته. ذكره ابن كثير في تاريخه (٢) (١ / ٩٧).
وإن كانت الحكمة في لحية إبراهيم الخليل وأبي بكر ما زعمه العجلوني من الأُبوّة فما الحكمة في لحية موسى بن عمران؟ وقد جاء في الحديث : ليس أحد يدخل الجنّة إلاّ جرد مرد إلاّ موسى بن عمران فإنّ لحيته إلى سرّته. السيرة الحلبيّة (٣) (١ / ٤٢٥).
ثمّ إنّ للأُمّة المسلمة أباً تنزيليّا روحيّا هو أحقّ بالأبوّة من الخليل عليهالسلام وهو نبيّها الأقدس محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم كما مرّ حديثه ، وبها حياتها الحقيقيّة ، وهو الذي يدعوهم لما يحييهم ، ومنه كيانها المستقرّ ، وعزّها الخالد ، فهو أولى باللحية من أبيه الخليل وصاحبه أبي بكر.
والعجب كلّ العجب في عدّ أبي بكر أباً ثانياً للأمّة لأنّه فتح لها باب الدخول إلى الإسلام ، وأنّ الذي فتح باب الإسلام بمصراعيه لدخول الأُمم فيه ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، هو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بدعوته الكريمة ، وبراهينه الصادقة ، ومعاجزه المعلومة ، ونواميسه المقدّسة ، وخلائقه الرضيّة ، ومغازيه الدامية فهو أولى بأن تكون له لحية في الجنّة.
__________________
(١) تفسير الخازن : ٣ / ٣١٤ [ ٣ / ٢٩٩ ] ، تفسير النسفي هامش الخازن : ٣ / ٣١٤ [ ٣ / ١١٢ ]. (المؤلف)
(٢) البداية والنهاية : ١ / ١٠٨.
(٣) السيرة الحلبية : ١ / ٣٩٧.
على أنّ الأمّة قطّ لم تعرف باباً فتحه الخليفة لها إلى الإسلام ، ولم يدر أيّ أحد أنّه متى فتحه؟ وأين فتحه؟ ولما ذا فتحه؟ وأيّ باب هو؟
نعم ؛ لا تخفى على الأُمّة جمعاء أنّه غلّق باباً عليها وحرمها من خير أهله وعلمه ورشده وهداه ، ألا وهو باب مدينة علم النبيّ مولانا أمير المؤمنين بالنصّ المتواتر ، وهو الباب الذي منه يؤتى إلى الله ، وإليه يتوجّه الأولياء.
فلو لا انتزاع الأمر منه لانتشرت علومه ، وزهرت معالمه ، وتبلّغت حكمه ، وعُمِل بأحكامه ، فأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ، لكنّه عليهالسلام مُنع عن حقّه فجهلت العباد ، وأجدبت البلاد ، وصوّحت المرابع ، وظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ، وإلى الله المشتكى.
وإن أراد القائل من فتح الباب بدأة الفتوح في أيام الخليفة ، فالخليفة الثاني على ذلك أجدر باللحية منه ، لأنّ عمدة الفتوح وقعت في أيّامه.
نعم ؛ إن يكن هناك من يحقّ أن يعدّ للأُمّة أباً ثانياً تنزيلاً بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام الذي به كان تمام الدعوة والنجاح في المغازي ، وهو نفس النبيّ القدسيّة وخليفته المنصوص عليه ، ولذلك جاء من طريق أنس بن مالك عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله : «حقّ عليّ على هذه الأمّة كحقّ الوالد على الولد» ، ومن طريق عمّار وأبي أيّوب الأنصاري قوله : «حقّ عليّ على كلّ مسلم حقّ الوالد على ولده» (١).
__________________
(١) الرياض النضرة : ٢ / ١٧٢ [ ٣ / ١١٧ ] نقلاً عن الحاكمي ، كنوز الدقائق : ص ٦٤ [ ١ / ١١٩ ] نقلاً عن الديلمي [ الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ١٣٢ ح ٢٦٧٤ ] ، مناقب الخوارزمي : ص ٢٤٤ ، ٢٥٤ [ ٣٠٩ ـ ٣١٠ ح ٣٠٦ ، ص ٣٢١ ح ٣٢٧ ] ، فرائد السمطين لشيخ الاسلام الحمّوئي [ ١ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ح ٢٣٤ و ٢٣٥ ] ، نزهة المجالس : ٢ / ٢١٢. (المؤلف)
ـ ٣ ـ
شهادة أبي بكر وجبرئيل
ذكر النسفي : أنّ رجلاً مات بالمدينة ، فأراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصلّي عليه فنزل جبريل وقال : يا محمد لا تُصلّ عليه. فامتنع فجاء أبو بكر فقال : يا نبيّ الله صلّ عليه فما علمتُ منه إلاّ خيراً. فنزل جبريل وقال : يا محمد صلّ عليه ، فإنّ شهادة أبي بكر مقدّمة على شهادتي. مصباح الظلام للجرداني) (١) (٢ / ٢٥ ، نزهة المجالس (٢ / ١٨٤).
قال الأميني : هلمّ معي نناقش راوي هذه السفسطة الحساب بعد أن لم نقف لها على إسناد نناقش رجاله ، ونسائله عن أنّ ما أدّاه جبريل من الشهادة أكان من عند نفسه ، ولم يكن لأمين الله على وحيه أن يأتي رسوله بشيء من قِبَل نفسه فحابى أبا بكر بتقديم شهادته؟ أم كان وحياً من المولى سبحانه ـ وهو المطّرد في كلّ هبوط له إلى الرسول الأمين ـ فأبطل ذلك الوحي المبين مجازفةً لمحض أنّ أبا بكر شهد بضدّ ما جاء به؟ وأيّا ما كان فإنّ إخباره كان لا محالة عن عدم تأهّل الرجل في الواقع للصلاة عليه في صورة نهي مفيد للتحريم ، ومؤدّاه أنّ الله سبحانه يبغض أن تُرفع إليه صلاة على مثله من نبيّه المحبوب ، فهل يكون قول أبي بكر بتأهّله المستنبط من ظاهر الحال الذي يخطئ ويصيب ، ولا شكّ أنّه مخطئ في هذا المورد بالخصوص لنزول الوحي بخلافه ، فهل يكون قول هذا شأنه مبطلاً للوحي المبين؟ تبصّر واحكم.
ـ ٤ ـ
خاتم النبيّ وسجلّه
روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دفع خاتمه الى أبي بكر وقال : اكتب عليه : لا إله إلاّ الله ، فدفعه أبو بكر إلى النقّاش وقال : اكتب عليه : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله. فكتب
__________________
(١) مصباح الظلام : ٢ / ٦١ ح ٣٦٢.
عليه. فلمّا جاء به أبو بكر إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وجد عليه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، أبو بكر الصدّيق. فقال : ما هذه الزيادة يا أبا بكر؟ فقال : ما رضيت أن أُفرّق اسمك عن اسم الله ، وأمّا الباقي فما قلته ، فنزل جبريل وقال : إنّ الله سبحانه وتعالى يقول : إنّي كتبت اسم أبي بكر لأنّه ما رضي أن يفرّق اسمك عن اسمي ، فأنا ما رضيت أن أُفرّق اسمه عن اسمك. نزهة المجالس للصفوري (٢ / ١٨٥) نقلاً عن تفسير الرازي ، مصباح الظلام للجرداني (١) (ص ٢٥).
قال الأميني : المتسالم عليه بين المحدّثين أنّ نقش خاتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان : محمد رسول الله بلا أيّ زيادة ، ففي الصحاح عن أنس أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم صنع خاتماً من ورِق (٢) ونقش فيه : محمد رسول الله. وقال : فلا ينقش أحد على نقشه.
صحيح البخاري (٨ / ٣٠٩) ، صحيح مسلم (٢ / ٢١٤ ، ٢١٥) ، صحيح الترمذي (١ / ٣٢٤) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٣٨٤ ، ٣٨٥) ، سنن النسائي (٨ / ١٧٣) (٣).
وفي رواية البخاري والترمذي عن أنس قال : كان نقش الخاتم ثلاثة أسطر : محمد سطر ، ورسول سطر. والله ، سطر. صحيح البخاري (٤) (٨ / ٣٠٩) ، صحيح الترمذي (٥) (١ / ٣٢٥).
وروى ابن سعد في طبقاته (٦) من مرسل ابن سيرين ؛ أنّ نقشه كان : باسم الله
__________________
(١) مصباح الظلام : ٢ / ٦١ ح ٣٦٢.
(٢) الورِق : الفضّة.
(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٠٥ ح ٥٥٣٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ٣١٩ ح ٥٥ كتاب اللباس والزينة ، سنن الترمذي : ٤ / ٢٠١ ح ١٧٤٥ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٢٠١ ح ٣٦٣٩ ، سنن الكبرى : ٥ / ٤٥٠ ح ٩٥٠٩ ـ ٩٥١٣.
(٤) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٠٥ ح ٥٥٤٠.
(٥) سنن الترمذي : ٤ / ٢٠٢ ح ١٧٤٨.
(٦) الطبقات الكبرى : ١ / ٤٧٤.
محمد رسول الله. وقال ابن حجر : ولم يتابع على هذه الزيادة. ذكره عنه الزرقاني في شرح المواهب (٥ / ٣٩).
وأخرج أبو الشيخ في الأخلاق النبويّة من رواية عرعرة بن البرند ، عن أنس قال : كان مكتوباً على فصّ خاتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله.
قال : ابن حجر في فتح الباري (١) ١٠ / ٢١٠ : عرعرة ضعّفه ابن المديني وزيادته هذه شاذة. وقال الزرقاني في شرح المواهب ٥ / ٣٩ : كان نقش الخاتم النبوي كما في الصحيحين وغيرهما : محمد رسول الله. فلا عبرة بهذه الرواية كرواية أنه كان فيه كلمتا الشهادة معاً ، ورواية ابن سعد (٢) عن أبي العالية أنّ نقشه : صدق الله. ثمّ ألحق الخلفاء : محمد رسول الله.
فما قيمة ما جاء به من النقش صوّاغ القرون المتأخّرة ، وصاغته يد الإفك والغلوّ بعد لأيٍ من وفاة النبيّ الأعظم وانقطاع الوحي عنه ، ولا يوجد في تآليف الأوّلين منه عين ولا أثر؟ وأنت ترى السلف حاكمين في حديث زيادة كلمة الإخلاص والبسملة بالشذوذ وأنّه لا عبرة به ولا يُتابع عليه ، ولا يبحث أيّ متضلع في الفنّ عن هذه الزيادة المختلقة التي لا صلة لها بالموضوع ، وليست هي إلاّ استهزاءً بالله ونبيّه ووحيه وأمين وحيه.
ثمّ قد صحّ عند القوم أنّ ذلك الخاتم المنقوش الخاصّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وكان يتختّم به ويختم صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يكن له خاتم غيره ولم يحتمل التعدّد قطّ أحد في رفع اختلاف أحاديث النقش ـ كان عند أبي بكر في يمينه بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعده في يد عمر ، وبعده عند عثمان في يمينه وسقط سنة ثلاثين من يده أو : من يد غيره في بئر
__________________
(١) فتح الباري : ١٠ / ٣٢٩.
(٢) الطبقات الكبرى : ١ / ٤٧٦.
أريس (١) واتّخذ له خاتماً آخر (٢) ، وفي رواية ابن سعد (٣) عن الأنصاري كما في فتح الباري (٤) (١٠ / ٢٧٠) وسنن النسائي (٥) (٨ / ١٧٩) : أنّه كان في يد عثمان ستّ سنين من عمله. فلو كانت تلكم الأسطورة صحيحة وكان اسم الخليفة منقوشاً في خاتم كان يلبسه النبيّ الأقدس طيلة حياته وتنظر إليه الصحابة من كثب وترى بريقه في خنصره كما في صحيح البخاري (٦) (٨ / ٣٠٨ ، ٣٠٩) ، كان حقّا على الخليفة والخاتم بيده أن يحتجّ بها يوم تسنّم عرش الخلافة ، وكان هناك حوار وصخب ، لكنّه لم يحتج لأنّ ذلك الخاتم ما كان مصوغاً بعد ولا منقوشاً ، ولم يُعطَ من المغيّب أنّه يُستنحت له ذلك بعد قرون متطاولة. وكان حقّا على الصحابة الملتاثين به أن يحتجّوا بذلك النقش المصنوع في عالم الملكوت ، فإنّ الاحتجاج به أولى من الاحتجاج بكبر السنّ وأمثاله ، لكنّهم تركوا الحجاج لأنّ هذا المولود لم يكن يولد بعد ، وإنّما ولدته أمّ الغلوّ في الفضائل في آخر الدهر.
ولا يتأتّى لأحد عرفان سرّ ما جاء به جبريل الخيالي من القران بين اسم النبيّ الأعظم وبين اسم أبي بكر في ذلك النقش المصوغ في عالم الغيب ، أكان أبو بكر نفس النبيّ الأعظم بنصّ القرآن الكريم؟ أم كان قرينه في العصمة والقداسة في الذكر
__________________
(١) هي على ميلين من المدينة : وهي من أقل الآبار ماءً [ معجم البلدان : ١ / ٢٩٨ ]. (المؤلف)
(٢) صحيح البخاري : ٨ / ٣٠٦ [ ٥ / ٢٢٠٢ ح ٥٥٢٨ ، ص ٢٢٠٤ ح ٥٥٣٥ ، ص ٢٢٠٦ ح ٥٥٤٠ ] ، صحيح مسلم : ٢ / ٢١٤ [ ٤ / ٣١٩ ح ٥٥٥٤ كتاب اللباس والزينة ] ، سنن النسائي : ٨ / ١٧٩ [ ٥ / ٤٥٧ ح ٩٥٥٠ ] ، تاريخ الطبري : ٥ / ٦٥ [ ٤ / ٢٨٢ حوادث سنة ٣٠ ه ] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٥٥ [ ٧ / ١٧٤ و ١٧٥ حوادث سنة ٣٠ ه ] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٢٣ ، ٢٦٩ [ ٢ / ١٩١ ـ ١٩٢ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٦٨. (المؤلف)
(٣) الطبقات الكبرى : ١ / ٤٧٦.
(٤) فتح الباري : ١٠ / ٣٢٩.
(٥) السنن الكبرى : ٥ / ٤٥٧ ح ٩٥٥٠.
(٦) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٠٤ ح ٥٥٣٤ ، ص ٢٢٠٥ ح ٥٥٣٦ ، ٥٥٣٧.
الحكيم؟ أم نزلت فيه آية التبليغ مع ذلك الإرهاب؟ أم أكمل الله به الدين ، وأتمّ به النعمة كما بدأ بالنبيّ الطاهر؟ أم كان رديف النبيّ الأقدس في الإسلام والدعوة إلى الله من أوّل يومه ، أم كان وصيّه وخليفته المنصوص عليه من بدء الدعوة؟ أم قُرنت طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته كما في صحاح جاءت عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ أم كان نظيره في أُمّته بنصّ منه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ أم؟ أم؟ إلى مائة أم. لما ذا ذلك القران؟ أنا لا أدري ، ومختلق الرواية أيضاً لا يدري.
ـ ٥ ـ
عرض جنّة أبي بكر
قال الصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٨٣) : رأيت في الحديث : أنّ الملائكة اجتمعت تحت شجرة طوبى فقال ملك : وددت أنّ الله تعالى أعطاني قوّة ألف ملك ، وكساني ريش ألف طير ، فأطير حول الجنّة حتى أبلغ طرفها ، فأعطاه الله ذلك ، فطار ألف سنة حتى ذهبت قوّته وتساقط ريشه ، ثمّ أعطاه الله تعالى قوّةً وأجنحة ، فطار ألف سنة ثانية حتى ذهبت قوّته وتساقط ريشه ، ثمّ أعطاه الله تعالى قوّة وأجنحة ، فطار ألف سنة ثالثة حتى ذهبت قوّته وتساقط ريشه ، فوقع على باب قصر باكياً ، فأشرفت عليه حوراء فقالت : أيّها الملك مالي أراك باكياً وليست هذه بدار بكاء وحزن ، وإنّما هي دار فرح وسرور؟ فقال : لأنّي عارضت الله في قدرته ، ثمّ أعلمها بحديثه. فقالت له : لقد خاطرت بنفسك ، أتدري كم طرت في هذه الثلاثة آلاف سنة؟ قال : لا. قالت : وعزّة ربّي ما طرت أكثر من جزء واحد من عشرة آلاف جزء ممّا أعدّه الله تعالى لأبي بكر الصدّيق رضى الله عنه. وذكره الجرداني في مصباح الظلام (١) (٢ / ٢٥).
قال الأميني : فمجموع ما أعدّه الله تعالى لأبي بكر في الجنّة هو مسير ثلاثين
__________________
(١) مصباح الظلام : ٢ / ٦١ ح ٣٦٢.
ألف ألف سنة لطائر يطير بقوّة ألف ملك وريش ألف طير! جلّت قدرة الباري.
أنا أكِل حساب هذه الرواية إلى الشباب النابه العصري المتخرّج من المدارس العالية في أرجاء العالم. كما أرى النظرة في رجال سندها من وظائف رجال الغيب إذ من المستحيل أن يقف عليه متتبّع ، ويعرفه حافظ ضليع ، أو محدّث بعيد الظن أو رجاليّ واسع الخطوة من رجال عالم الشهود.
ـ ٦ ـ
الله يستحيي من أبي بكر
عن أنس بن مالك قال : جاءت امرأة من الأنصار فقالت : يا رسول الله رأيت في المنام كأنّ النخلة التي في داري وقعت ، وزوجي في السفر. فقال : يجب عليك الصبر فلن تجتمعي به أبداً. فخرجت المرأة باكيةً فرأت أبا بكر ، فأخبرته بمنامها ولم تذكر له قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : اذهبي فإنّك تجتمعين به في هذه الليلة. فدخلت إلى منزلها وهي متفكّرة في قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقول أبي بكر. فلمّا كان الليل وإذا بزوجها قد أتى ، فذهبت إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبرته بزوجها ، فنظر إليها طويلاً فجاء جبريل وقال : يا محمد الذي قلته هو الحقّ ، ولكن لمّا قال الصدّيق : إنّكِ تجتمعين به في هذه الليلة استحيا الله منه أن يجري على لسانه الكذب ، لأنّه صدّيق فأحياه كرامةً له. نزهة المجالس (٢ / ١٨٤).
قال الأميني : ليتنا كنّا نقف على رجال هذا الخيال النبهاء الذين أرادوا كسح معرّة الكذب عن ساحة الصدّيق فجرّوها إلى الساحة النبويّة ، فكأنّ الله لم يبالِ بأن يجري الكذب على لسان نبيّه الصادق المصدّق ، حيث إنّه لم يخبر عن موت الرجل وإنّما أخبر امرأته بأنّها لن تجتمع به أبداً بكلمة لن المفيدة لتأبيد النفي المؤكّد بقوله أبداً فظهر خلافه ، لكنّه استحى من أبي بكر بعد أن رجم بالغيب إفكاً ظاهراً ، فأراد أن
يرحض عنه ذلك بإحياء الرجل وعدم إماتته كرامة له ، وهل يرحضه ذلك بعد أن وقع الكذب؟ أنا لا أدري.
وهل كانت كرامة أبي بكر على الله أعظم من كرامة رسول الله عليه؟ حيث لم يرضَ بظهور الكذب عليه ورضيه على مصطفاه ، ولم يكن في انتشاره عنه كسر للإسلام لكن انتشاره عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فتّ في عضد الدين.
ثمّ اعجب من تعليل الرواية بأنّ أبا بكر كان صدّيقاً. أو لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سيّد الصدّيقين أجمع؟ وهب أنّ وحي هذه المزعمة خفّف عن ساحة النبوّة شيئاً يمكن أن يفوه به من اختلقها بأنّ الأمر كان كما أخبر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لكن أحيا الله الرجل للغاية التي ذكرها فلا كذب صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكن يدفعه ما قدّمناه من أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يخبر عن موت الرجل وإنّما أخبر عن أنّها لن تجتمع به أبداً وقد وقع خلاف ما أنبأ به. نعم ؛ لعلّ ما مرّ من رأي الخليفة من جواز تقديم المفضول على الفاضل ، أو الغلوّ في الفضائل ، يرخّصان بكلّ ما ذكر.
ـ ٧ ـ
كرامة دفن أبي بكر
أخرج ابن عساكر في تاريخه (١) قال : روي أن أبا بكر رضى الله عنه لمّا حضرته الوفاة قال لمن حضره : إذا أنا متّ وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقفوا بالباب وقولوا : السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن ، فإن أذن لكم بأن فتح الباب وكان الباب مغلقاً بقفل فأدخلوني وادفنوني ، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به ، فلمّا وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتف يهتف من القبر : أدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
__________________
(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ٤٣٦ رقم ٣٣٩٨ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٣ / ١٢٥.
وذكره (١) الرازي في تفسيره (٥ / ٣٧٨) ، والحلبي في السيرة النبويّة (٣ / ٣٩٤) ، والديار بكري في تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٤) ، والقرماني في أخبار الدول هامش الكامل (١ / ٢٠٠) ، والصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٩٨).
قال الأميني : أراد رواة هذه الرواية تصحيح عمل القوم في دفن الخليفة في موطن القداسة حجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن أعيتهم المشكلة وعجزوا عن الجواب ، فإنّ الحجرة الشريفة إمّا أن تكون باقية على ملكه صلىاللهعليهوآلهوسلم كما هو الحقّ المبين. أو أنّها عادت صدقة يؤول أمرها إلى المسلمين أجمع؟ وعلى الأوّل كان يشترط فيه رضاء أولاد وارثته الوحيدة السبطين الإمامين وأخواتهما ولم يستأذن منهم أحد. وعلى الثاني كان يجب على الخليفة أو على من تولّى الأمر بعده أن يستأذن الجامعة الإسلاميّة ولم يكن من أيّ منهما شيء من ذلك ، فبقي الدفن هنالك خارجاً عن ناموس الشريعة. وإن قيل : إنّه دفن بحقّ ابنته ، فأيّ حق لها بعد ما جاء به أبوها من قوله : إنّا معاشر الأنبياء لا نُورَث ما تركناه صدقة؟ على أنّا أسلفنا في الجزء السادس (ص ١٩٠) : أنّه لم يكن لأمّهات المؤمنين إلاّ السكنى في حجرهنّ كالمعتدّة ولم يكن لهنّ ترتيب آثار الملك على شيء منها. وقدّمنا هنالك أيضاً أنّ على فرض الميراث وعلى تقدير الإرث من العقار فإنّ لعائشة تسع الثمن من حجرتها لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم توفّي عن تسع ، ومساحة المحلّ لا يسع تسع ثمنها جثمان إنسان مهما كبرت الحجرة ، على أنّ حقّها كان مشاعاً وليس لها التصرّف فيه بغير إذن شريكاتها في الميراث.
أراد القوم التفصّي عن هذه المشكلات فكوّنوا ما يستتبع مشكلةً بعد مشكلة وهي : أنّ الخليفة هل قال ما قاله بعهد من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أنّه أحاط علماً بالمغيّب؟ أمّا الثاني فلا أحسب أحداً يدّعي له ذلك بعد ما أحطنا خُبراً بكلّ ما قيل في فضائله ،
__________________
(١) التفسير الكبير : ٢١ / ٨٧ ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٣٦٥ ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٣٧ ، أخبار الدول : ١ / ٢٨٣.
وبعد ما أوقفناك على مبلغ علمه في المشهودات ، فأين هو عن الغيوب؟
وأمّا الأوّل فلو كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل ، وبين الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك [ أي معنى ] ، فإنّ ما أخبر به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بدّ أن يكون ، فلا ترديد فيه.
نعم ؛ من المحتمل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنّما رواه عنه من لا يثق به الخليفة ولذلك نوّه بما قال بالترديد ، أو أنّ الرواية لا صحّة لها ، ولذلك لم تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر ، وهي على فرض صحّتها مكرمة عظمى وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيّعوه إلى مقرّه الأخير ، وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها ، وبذلك الهتاف المسموع من القبر الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر ، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة ، ولا في الآذان وقر ، ولا في الألسنة بكم ، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحد عنها ببنت شفة ، وما ذلك إلاّ لأنّ المكرمة لم تقع ، والقفل ما سقط ، والباب ما انفتح ، والهتاف لم يكن ، وأدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من الغلوّ في الفضائل تنبىء عن روح التصوّف في مختلق الرواية. نعم :
ما كلّ من زار الحمى سمع الندا |
|
من أهله أهلاً بذاك الزائرِ |
هذه الكرامة المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إيّاها إرسال المسلّم ، محتجّين بها عداد فضائل أبي بكر ، غير مكترثين لما في إسنادها من العلل أو جاهلين بها ، وإنّما أخرجها ابن عساكر (١) من طريق أبي طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي عن عبد الجليل المدني عن حبّة العرني فقال : هذا منكر ، وأبو الطاهر
__________________
(١) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٧٥٦ ـ ٧٥٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٣ / ١٢٥.
كذاب ، وعبد الجليل مجهول. وفي لسان الميزان (١) (٣ / ٣٩١) : خبر باطل.
وأبو الطاهر المقدسي ؛ كذّبه أبو زرعة وأبو حاتم (٢). وقال النسائي ليس بثقة. وقال ابن حبّان (٣) : لا تحلّ الرواية عنه كان يضع الحديث. وقال ابن عدي (٤) : كان يسرق الحديث. وقال العقيلي (٥) : يحدّث عن الثقات بالبواطيل والموضوعات ، منكر الحديث وقال منصور بن إسماعيل : كان يضع الحديث على مالك. راجع المصادر المذكورة (٥ / ٢٦٧)
ـ ٨ ـ
جبريل يسجد مهابة من أبي بكر
حدّث عالم الأُمّة الشيخ يوسف الفيشي المالكي قال : كان جبريل إذا قدم أبو بكر على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يحادثه يقوم إجلالاً للصدّيق دون غيره ، فسأله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك؟ فقال جبريل : أبو بكر له عليّ مشيخة في الأزل ، وما ذاك إلاّ أنّ الله تعالى لمّا أمر الملائكة بالسجود لآدم ، حدّثتني نفسي بما طُرد به إبليس فحين قال الله تعالى : اسجدوا ؛ رأيت قبّة عظيمة عليها مكتوب : أبو بكر ، أبو بكر مراراً وهو يقول : اسجد. فسجدت من هيبة أبي بكر ، فكان ما كان.
ذكره العبيدي المالكي في عمدة التحقيق هامش روض الرياحين (٦) (ص ١١١) فقال : وحدّثني أيضاً شيخنا الأستاذ محمد زين العابدين البكري بما يقارب ما قاله الفيشي ، وسمعتها من غالب مشايخنا بالأزهر.
__________________
(١) لسان الميزان : ٣ / ٤٧٧ رقم ٤٩١٨.
(٢) الجرح والتعديل : ٨ / ١٦١ رقم ٧١٥.
(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٢٤٢.
(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ٦ / ٣٤٧ رقم ١٨٢٩.
(٥) الضعفاء الكبير : ٤ / ١٦٩.
(٦) عمدة التحقيق : ص ١٩٣.
قال الأميني : عجباً لهؤلاء القوم لم يسلم منهم حتى أمين الله على وحيه ـ جبرائيل ـ المعصوم من الزلل من أوّل يومه فجعلوه في عداد إبليس اللعين الطريد لو لا أنّ أبا بكر تدارك أمره!
عجباً لهذا الملك المزعوم يأتمنه المولى سبحانه ثمّ يرتاب في أمره ، ولا يُصلح ذلك الشنار القول بأنّه إنّما ائتمنه بعد زلّته تلك ، فإنّه سبحانه لا يأتمن من يمكن في حديث نفسه الكفر ، فلعلّ تلك الخاطرة دبّت فيه ولم يحصل من يسدّده فتعود هاجسته كفراً صريحاً.
عجباً لهذا الملك المقرّب تروعه هيبة أبي بكر ولا تأخذه هيبة الإله العظيم فيطيع أبا بكر وهو يهم أن يطيع الله في أمره بالسجدة ، وأيّ سجدة هذه وما قيمتها من مثل جبرئيل وقد وقعت من هيبة أبي بكر لا بصفة القربان إلى المولى سبحانه والزلفى لديه والامتثال لأمره؟ فكأن هيبة أبي بكر في الملأ الأعلى أعظم وأفخم من هيبة بارئه جلّت عظمته!
ثمّ أين كانت قبّة أبي بكر من مستوى عالم الملكوت؟ ومن الأحرى أن تضرب هنالك قبّة نبيّ العظمة حتى يسدّد فيها من شارف الزلّة لا قبّة إنسان من الممكن أن تكتنفه المآثم ، وتموت بضعة المصطفى وهي واجدة عليه.
ومن أين علم أبو بكر بهاجسة جبرئيل وحديث نفسه؟ أو هل كان يعلم الغيب؟ أو أُوحي إليه بواسطة غير أمين الوحي؟ لك الحكم في هذه كلّها أيّها القارئ الكريم.
ثمّ العجب من مشايخ الأزهر الذين أخبتوا إلى هذه الخزاية فأثبتوها في الكتب ولهجوا بها في الأندية ، وخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى فنشروها في الملأ العلمي وشوّهوا بها صفحة التاريخ وسمعة الاسلام المقدّس ، نعم : أرادوا نحت فضيلة للخليفة فأعماهم الغلوّ في الفضائل فنحتوها رذيلةً لجبرئيل
الأمين ، كلّ ذلك لأنّهم افتعلوها من غير بصيرة في الدين ، أو رويّة شاعرة في المبادئ الإسلاميّة.
وأحسب أنّ من اختلق هذه الرواية أراد إثباتها تجاه ما يروى لمولانا أمير المؤمنين عليهالسلام من تسديده لجبرئيل يوم خاطبه الله سبحانه : من أنا ومن أنت؟ فتروّى قليلاً وقد أخذته هيبة الجليل سبحانه حتى أدركته نورانيّة مولانا الإمام عليهالسلام ، فعلّمه أن يقول : أنت الجليل وأنا عبدك جبرئيل. وقد نظم ذلك الشاعر المبدع الشيخ صالح التميمي من قصيدة له في مدح مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام وخمّسها الشاعر المفلق عبد الباقي أفندي العمري كما في ديوانه (ص ١٢٦) وفي ديوان صاحب الأصل (ص ٤) قالا :
روضةٌ أنت للعقول ودوحُ |
|
يُجتنى من طوباك رشدٌ ونصحُ |
ومتى هبَّ من عبيرك نفحُ |
|
شمل الروح من نسيمك روحُ |
حين من ربّه أتاه النداءُ
طالما للأملاك كنتَ دليلا |
|
ولناموسهم هديتَ سبيلا |
يوم نادى ربّ السما جبرئيلا |
|
قائلاً من أنا فروّى قليلا |
وهو لولاك فاته الاهتداء (١)
لك شكلٌ نتيجةٌ للقضايا |
|
لك قلبٌ للعالمين مرايا |
لك فعلٌ حوى رفيع المزايا |
|
لك اسمٌ رآه خير البرايا |
مذ تدلّى وضمّه الإسراءُ
وليست هذه كقصّة أبي بكر ؛ فليس فيها أنّ جبريل نوى ما نواه إبليس من المروق عن أمره سبحانه ، ولا فيها أنّ أمير المؤمنين أنبأ عن مغيّب ، ولا أنّ هيبته غلبت هيبة الله العظيم ، ولا أنّ جبريل سجد من هيبته ، ولا أنّ له هنالك قبّة عظيمة
__________________
(١) يعني الاهتداء إلى ذلك الجواب الحسن الجميل. (المؤلف)