تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

تنبيه :

في (الإكليل) : فيها أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجرة مثل ، وجب على الأب دفعها إليها ، وليس له أن يسترضع غيرها. وفيه دليل على أن الأم أولى بالحضانة.

قال إلكيا : وفيه دلالة على أن الأجرة إما تستحق بالفراغ من العمل. انتهى.

وفي قوله : (بِمَعْرُوفٍ) طلب أن لا يماكس الأب ، ولا تعاسر الأم ، لأنه ولدهما معا ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليهن. قال الزمخشريّ ـ.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أي ضيّق بعضكم على الآخر بالمشاحّة في الأجرة ، أو طلب الزيادة ونحوه ، (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) قال ابن جرير : أي فلا سبيل له عليها ، وليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه.

وقال الزمخشريّ : أي فستوجد ، ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه. وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك. تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. انتهى.

قال الناصر : وخص الأم بالمعاتبة ، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو غير متموّل ولا مضنون به في العرف ، وخصوصا في الأم على الولد ، ولا كذلك المبذول من جهة الأب ، فإنه المال المضنون به عادة ، فالأم إذا ، أجدى باللوم ، وأحق بالعتب. انتهى.

وفيه أيضا إشارة إلى معاتبة الأب أيضا ، كما حققه بعضهم ، وذلك أن الأب لما أسقط عن درجة الخطاب ، وبين أن معاسرته لا تجدي ، إذ لا بد مرضعة أخرى بأجر ، وهذه أشفق منها ، كان في حكم المعاتب المذكور في الجواب. وبه يندفع ما يقال : إن المعاسرة فعل الأب والأم ، فكيف يخص الأم بالذكر في الجزاء. وحاصله أنهما مذكوران فيه ، إلا أن الأم مصرح بها ، والأب مرموز إليه. وتقدير ابن جرير يشير إليه أيضا.

تنبيه :

في (الإكليل) : تدل على أن الأم لا تجبر على الرضاع حيث وجد غيرها ، وقبل الصبي ثديها ، وإلا أجبرت عليه.

قال ابن العربيّ : والآية أصل في وجوب نفقة الولد على الأب ، خلافا لمن أوجبها عليهما معا.

٢٦١

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧)

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها ، وعلى ولده الصغير (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضيق عليه (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي على قدر ماله وطاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) يعني : وسعها وطاقتها ، فلا يكلف الفقير نفقة الغنيّ ، ولا أحدا إلا فرضه الذي وجب عليه (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيؤتي المقلّ بعد ضيق فرجا ، وبعد فقر غنى ، تسلية للمعسرين من فقراء الأزواج ، وتصبير لمطلقاتهن ، وتطييب لقلوب الجميع ، وتبشّر عام.

تنبيه :

في (الإكليل) : فيه أن النفقة يراعى فيها حال المنفق يسارا وإعسارا ، وإن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر ، لا حال المنفق عليه ، واستدل بقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) من قال : لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة. وفي الآية استحباب مراعاة الإنسان نفسه في النفقة والصدقة. ففي الحديث : إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا : إذا هو وسع عليه وسع ، وإذا هو قتر عليه قتر.

روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبي عبيدة فقيل له : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ماذا يصنع إذا هو أخذها ، فما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاء الرسول فأخبره ، فقال رحمه‌الله : تأول هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ).

ثم حذر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده فيما شرعه ، عناية بما مرّ من الأحكام ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩)

٢٦٢

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) أي أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد ، (وَرُسُلِهِ) أي وعن أمر رسله كذلك (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي على ما قدمت ، فلم نغادر لها منه شيئا (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي منكرا (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي عاقبة ما اكتسبت وجزاءه (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) قال ابن جرير : أي غبنا ، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل ، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (١٠)

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) يعني عذاب النار المعدّ في القيامة (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي العقول (الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسله. نعت للمنادى ، أو عطف بيان له (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١)

(رَسُولاً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله نفس الذكر مبالغة ، لذلك أبدل منه (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي لمن سمعها وتدبرها أنها حق من عند الله (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الضلال إلى الهدى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي طيبه ، وفيه تعجيب له وتعظيم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : المعبود المستحق للعبادة ، من هذا خلقه. لا ما يشرك معه. وهاهنا.

٢٦٣

لطائف :

الأولى ـ قال الزمخشري : قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. انتهى.

قال بعض علماء الفلك : أما كون الأرضين سبعا كالسماوات ، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات ، قال : والحق يقال أن كون الأرضين سبعا ، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء ، ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعا ـ أي أرضين ـ ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع ، مع أنه ذكر أن السماوات سبع ، مرارا عديدة وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالافراد. نعم! ورد فيه قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع. وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقا.

قال : ولنا في تفسيرها وجهان :

أما أن تكون (مِنَ) في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ) زائدة ، وإما أن تكون غير زائدة.

أما على الوجه الأول : فتقدير الآية هكذا : الله الذي خلق سبع سماوات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي : أنها إحدى السيارات ، وهو أمر ما كان معروفا في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان يخطر ببال أحد من العرب ، وذلك من دلائل صدق القرآن. والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة ، وكيفية خلقها ، وكونها تسير حول الشمس ، وتستمد النور والحرارة منها ، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى ، وكونها كروية الشكل ، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه ، وكلها مخلوقة من مادة واحدة. وهي مادة الشمس ، وعلى طريقة واحدة ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء : ٣٠]. أي شيئا واحدا (فَفَتَقْناهُما) أي فصلنا بعضهما عن بعض ، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السموات تماما.

وأما على الوجه الثاني : وهو أن (مِنَ) غير زائدة ، فتقدير الآية هكذا : الله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضا مثلهن ، فالآية واردة على طريقة

٢٦٤

التجريد ، كقولك : اتخذت لي سبعة أصدقاء ، ولي من فلان صديق مثلهم. أي مثلهم في الصداقة. أو التقدير : وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها. وعليه ، فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى.

الثانية ـ ذكر ابن الأثير في (المثل السائر) في النوع السادس ، في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ، ما مثاله :

وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفردا ، ولم يرد مجموعا ، كلفظة الأرض ، فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة. فإذا ذكرت السماء مجموعة. جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن. ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ). انتهى.

الثالثة ـ قرئ (مِثْلَهُنَ) بالنصب ، عطفا على (سبع) وبالرفع على الابتداء ، وخبره (مِنَ الْأَرْضِ).

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يجري أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن. وقوله : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) علة ل (خلق) أو ل (يتنزل) أو لمضمر يعمهما ، كفعل ما فعل لتعلموا ... إلخ ، فإن كلّا منها يدل على كمال قدرته وعلمه.

قال ابن جرير : أي فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم ، عقوبته ، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع. وهو على ذلك قادر ومحيط أيضا بأعمالكم ، فلا يخفى عليه منها خاف ، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها ، يوم تجزى كل نفس ما كسبت.

٢٦٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التحريم

مدنية ، وآيها اثنتا عشرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال المهايميّ : ناداه ليقبل إليه بالكلية ، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن. وعبّر عنه بالمبهم إشعارا منه بأنه من غاية عظمته ، بحيث لا يعلم كنهه. وأتى بلفظ (النَّبِيُ) إشعارا بأنه الذي نبي بأسرار التحليل والتحريم الإلهيّ. والمراد بتحريمه ما أحلّ له ، امتناعه منه ، وحظره إيّاه على نفسه. وهذا المقدار مباح ، ليس في ارتكابه جناح. وإنما قيل له (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) رفقا به ، وشفقة عليه ، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه ، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى نبيّه ، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ، ومن أجله خلقوا ، ليظهر الله كمال نبوّته ، بظهور نقصانهم عنه ـ كما أفاده الناصر ـ.

تنبيهان :

الأول ـ للأثريين في هذا الذي حرمه ، صلوات الله عليه ، على نفسه ، روايات.

فروى البخاريّ ومسلم (١) عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ، ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها فلتقل له : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، سورة التحريم ، ١ ـ باب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ، حديث رقم ٢٠٦٣. وأخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث رقم ٢٠.

٢٦٦

فقالت ذلك له فقال : بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت! لا تخبري بذلك أحدا ، فنزلت الآية.

وروى الشيخان (١) أيضا عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الحلواء والعسل ، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه ، فيدنو من كل واحدة منهن ، فدخل على حفصة بنت عمر ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه شربة ، فقلت : والله لنحتالنّ له! فذكرت ذلك لسودة ، وقلت لها : إذا دخل عليك ، ودنا منك ، فقولي له : يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك : لا! فقولي له : وما هذه الريح؟ وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه! فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : أكلت نحله العرفط ، حتى صار فيه ـ أي في العسل ـ ذلك الريح الكريه. وإذا دخل عليّ فسأقول له ذلك. وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت له مثل ما علمتها عائشة ، وأجابها بما تقدم. فلما دخل على صفية ، قالت له مثل ذلك. فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك. فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له : يا رسول الله! ألا أسقيك منه؟ قال. لا حاجة لي به؟ قالت : إن سودة تقول : سبحان الله ، لقد حرمناه منه ، فقلت لها : اسكتي؟

و (المغافير) صمغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له (العرفط) بضم العين المهملة والفاء.

وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة ، وفي سابقتها أنها زينب. والاشتباه في الاسم لا يضر ، بعد ثبوت أصل القصة.

وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كانت حفصة وعائشة متحابتين ، وكانتا زوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهبت حفصة إلى أبيها ، فتحدثت عنده ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيرة شديدة ، فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاريته ، ودخلت حفصة ، فقالت : قد رأيت من كان عندك ، والله لقد سؤتني! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لأرضينك ، فإني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه! قالت : ما هو؟ قال : إني أشهدك أن سريتي هذه عليّ حرام ، رضا لك. وكانت حفصة وعائشة

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الطلاق ، ٨ ـ باب لم تحرم ما أحل الله لك ، حديث رقم ٢٠٦٣.

وأخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث رقم ٢١.

٢٦٧

تظاهران على نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فانطلقت حفصة إلى عائشة. فأسرت إليها أن أبشري ، إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرم عليه فتاته. فلما أخبرت بسر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أظهر الله عزوجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الآيات.

وروي أيضا عن الضحاك قال : كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتاة يغشاها ، فبصرت به حفصة ، وكان اليوم يوم عائشة ، وكانتا متظاهرتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتمي عليّ ، ولا تذكري لعائشة ما رأيت ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته.

وروى النسائي عن أنس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها ، فأنزل الله هذه الآية.

ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر ، بل وقف على إجمال الآية ، على عادته في أمثالها ، ولذا قال : الصواب أن يقال : كان الذي حرمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون غير ذلك ، غير أنه ، أي ذلك كان ، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله ، وبين له تحلة يمينه. انتهى.

والذي يظهر لي ، هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها ، وذلك لوجوه :

منها ـ أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات ، ويهتم به لهنّ.

ومنها ـ أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن ، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها. إلا أن يكنّ عاتبنه في ذلك ، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك ، فحرمه. ولكن ليس في الرواية ما يشعر به. وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة.

ومنها ـ أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة ، لتقريع أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه ، وإيعادهن على الإصرار على ذلك ، بالاستبدال بهن ، وإعلامهن برفعة مقامه ، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون ، كل ذلك يدل على أن أمرا عظيما دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية ،

٢٦٨

فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية. هذا ما ظهر لي الآن.

وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية ، وقول بعض السلف نزلت فيه ، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها ، على ما عرف من عادة السلف في قولهم : نزلت في كذا ، كما نبهنا عليه مرارا. وكأنه عليه‌السلام كان حرم ذلك الشراب ، ثم أخبر الرواة بأن مثله فرضت فيه التحلة ، فلا مانع من العود إلى شربه ـ والله أعلم ـ.

الثاني ـ في (الإكليل) : استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاما أو زوجة ، لم تحرم عليه ، وتلزمه كفارة يمين.

وروى البخاريّ (١) عن ابن عباس قال : في الحرام يكفّر. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين ، ورد كون التحريم بمجرده يمينا ، وفيه نظر ، لأن اليمن في عرفهم أعم من القسم بالله ، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم.

قال قتادة : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمها ، يعني جاريته ، فكانت يمينا ـ رواه ابن جرير ـ وسيأتي ما يؤيده. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٢)

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : شرع تحليلها ـ وهو حل ما عقدته ـ بالكفارة ،. والتحلة ، مصدر بمعنى التحليل. (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : متولي أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) أي بمصالحكم (الْحَكِيمُ) أي : في تدبيره إياكم بما شرعه وحكم به.

تنبيهات :

الأول ـ قال ابن قدامة في (الروضة). دلت الآية على أن حكم خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يختص به ، لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقيبه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وابتدأ الخطاب بمناداته وحده ، ثم تمّمه بلفظ الجمع بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ). والمسألة طويلة الذيل في الأصول.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، سورة التحريم ، ١ ـ باب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ، حديث ٢٠٧٢. وأخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث رقم ١٨.

٢٦٩

الثاني ـ قال تقيّ الدين ابن تيمية : التحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة ، كما يقال : كرمته تكريما وتكرمه ، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه ، الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر ، فالمعنى : فرض الله لكم تحليل اليمين ، وهو حلها الذي هو خلاف العقد.

ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز ، بهذه الآية على التكفير قبل الحنث ، لأن التحلة لا تكون بعد الحنث ، فإنه بالحنث ينحل اليمين ، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين ، وإنا هي بعد الحنث كفارة ، لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله. فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين وجوب الوفاء بها ، رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار.

الثالث ـ شمل قوله تعالى : (أَيْمانِكُمْ) تحريم الحلال المذكور قبل ، وهو الزوجة ، لدخوله فيه دخولا أوليّا ، بل كل يمين.

قال تقيّ الدين ابن تيمية في فتاويه : قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون ، أن الله قد فرض لها تحلة. وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة ، بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى : فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة ، لكان مخالفا للآية. كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة ، لا بنص ولا بإجماع ، بل هو عام عموما معنويا ، مع عمومه اللفظي؟ فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل ، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة. وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق ، أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب : فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس ، أو ليقطعن رحمه ، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها ، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه ، أن يبرّ ويصلح بين الناس ، أكثر مما يجعل الله عرضة ، ثم إن وفي بيمينه ، كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته ، ففي الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا ما لا خفاء به. وأيضا فإنه تعالى قال : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله ، إلا والله غفور لفاعله ، رحيم به ، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم. لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير ، لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك ، والله غفور رحيم ، فلو كان الحالف

٢٧٠

بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له ، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال ، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل.

ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم حديث (١) : من حلف فقال إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله. وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهما في مسألة نذر اللجاج والغضب. فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية ، وجعلوا قوله (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر. ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما ، سواء.

فإذا قيل : المراد بالآية اليمين بالله فقط ، فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله : (عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩] ، و (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم ، وهي اليمين بالله ، وحينئذ فلا يعلم من اللفظ إلا المعروف عندهم ، والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم. ولو كان اللفظ عامّا ، فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة ، كاليمين بالمخلوقات ، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه ، لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله (٢) : (من كان حالفا فليحلف بالله وإلّا فليصمت) وهذا سؤال من يقول : كل يمين غير مشروعة ، فلا كفارة لها ولا حنث.

فيقال : لفظ اليمين شمل هذا كله ، بدليل استعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله. كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النذر حلف. وقوله الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق : كفر يمينك. وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولإدخال العلماء ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : من حلف فقال إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك. ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ثم قال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين ، كما استدل به ابن عباس.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأيمان والنذور ، ٩ ـ باب الاستثناء في اليمين ، حديث رقم ٣٢٦٢ ، عن ابن عمر.

(٢) أخرجه البخاري في : الأدب ، ٧٤ ـ باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلا ، حديث رقم ١٢٩٨ ، عن ابن عمر.

(٣) أخرجه أبو داود في : الأيمان والنذور ، ٩ ـ باب الاستثناء في اليمين ، حديث رقم ٣٢٦٢ ، عن ابن عمر.

٢٧١

وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل ، وإما تحريمه مارية القبطية. وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية ، وليس يمينا بالله ، لهذا أفتى جمهور الصحابة ، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم. أن تحريم الحلال يمين مكفرة ، إما كفارة كبرى كالظهار ، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله. وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا.

وأيضا فإن قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام. وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها. وإما لم تحرمه مطلقا ، فإن أريد الأول والثالث ، فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى ، ثم فيعم ، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله ، فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال. ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية. لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل ، فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيّا ، لا شرعيّا. فكلّ يوجب امتناعه من الفعل ، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وحينئذ فقوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال ، لأن هذا حكم ذلك الفعل ، فلا بد أن يطابق صوره ، لأن تحريم الحلال هو سبب قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وسبب الجواب إذا كان عامّا كان الجواب عامّا ، لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض ، مع قيام السبب المقتضي للتعميم.

وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها. فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان ، إما مختصا به ، وإما شاملا له ولغيره ، فلا يجوز أن يخلي سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ، ويتعلق بغيره ، وهذا ظاهر الامتناع.

وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم ، كالمنع منه باليمين ، بل أقوى. فإن اليمين ، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه ، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره ، فإنه إذا شرع حلالا فحرمه المكلف ، كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه.

ونحن نقول : لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم ، ولا التحريم هتك حرمة الشرع ، كما يقوله من يقوله من الفقهاء ، وهو تعليل فاسد جدّا ، فإن الحنث إما جائز ، وإما واجب ، أو مستحب. وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه ، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة.

٢٧٢

وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) أنه إذا حلف على يمين ، ورأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه ، وأتى المحلوف عليه. ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى ، لم يبح في شريعة قط ، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى ، تحلة. وهي تفعلة من (الحل) ، فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا. وهذا العقد ، كما يكون باليمين ، يكون بالتحريم. وظهر سر قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، عقيب قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).

وقال رحمه‌الله فيه ، قبل : أما من قال إنه يمين مكفرة بكل حال ، فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين يكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة ، فإن الله سبحانه قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ...) الآية. ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض ، لأنه سببه ، وتخصيص محل السبب من جملة العامّ ، ممتنع قطعا ، إذ هو المقصود بالبيان أولا ، فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان ، وهو ممتنع. وهذا استدلال في غاية القوة. فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه‌الله تعالى فقال : نعم! التحريم يمين كبرى في الزوجة ، كفارتها كفارة الظهار ، ويمين صغرى فيما عداها ، كفارتها كفارة اليمين بالله. قال وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم : إن التحريم يمين يكفّر.

وقال رحمه‌الله في (أعلام الموقعين) : لا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه ، وتلزمه كفارة يمين حرمه لشدة اليمين ، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ، ولا هي من لغو اليمين ، وهي يمين منعقدة ، ففيها كفارة يمين.

ثم قال في المذهب الثالث عشر : إنه يمين يكفره ما كفر اليمين على كل حال. صح ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيّب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور ، وخلق سواهم رضي الله عنهم. وحجة هذا القول. ظاهر القرآن ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأيمان والنذور ، ١٨ ـ باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب ، حديث ١٤٧٦ ، عن أبي موسى الأشعري. ونصه : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من الأشعريين ، فوافقته وهو غضبان فاستحملناه. فحلف أن لا يحملنا. ثم قال : والله! إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير ، وتحللتها.

٢٧٣

يتناوله يقينا ، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.

وقال في (زاد المعاد) : لا فرق بين التحريم (في غير الزوجة) بين الأمة وغيرها عند الجمهور ، إلا الشافعي وحده ، فإنه أوجب في تحريم الأمة خاصة ، كفّارة اليمين ، إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده ، دون غيرها : وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية ، فلا يخرج محل السبب عن الحكم ، ويتعلق بغيره. ومنازعوه يقولون : النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال ، وهو أعمّ من تحريم الأمة وغيرها ، فتجب الكفار حيث وجد سببها. وقد تقدّم تحريره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣)

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) هي حفصة في قول الرواة : ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك ـ كما نقله ابن جرير ـ (حَدِيثاً) وهو تحريم فتاته في قولهم. قال ابن جرير : أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحلّه له ، وقوله : لا تذكري ذلك لأحد.

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت بالسرّ ، صاحبتها كما تقدم ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أطلعه على تحديثها به ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي عرّفها بعض ما أفشته معاتبا (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي بعض الحديث تكرّما ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي الذي لا تخفى عليه خافية.

تنبيه :

في (الإكليل) : في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق ، وأنه يلزمه كتمانه. وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات ، والتلطّف في العتب ، والإعراض عن استقصاء الذّنب.

وحكى الزمخشريّ عن سفيان قال : ما زال التغافل من فعل الكرام.

ثم أشار تعالى إلى غضبه لنبيّه ، صلوات الله عليه ، مما أتت به من إفشاء السرّ إلى صاحبتها ، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته ، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه ، بقوله سبحانه :

٢٧٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤)

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إلى الحق. وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله. وقد صح عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن المتظاهرتين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : عائشة وحفصة.

وفي خطابهما ، على الالتفات من الغيب إلى الخطاب ، مبالغة ، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مصرودا بعيدا عن ساحة الحضور. ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد. (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتظاهرا وتتفقا على ما يسوؤه ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي متظاهرون على من أراد مساءته ، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ، ختم الظهراء بهم ليكون أفخم في التنويه بالنبيّ صلوات الله عليه ، وعظم مكانته ، والانتصار له ، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار ، يملأ القفار ، يتأثر أميره وقائده ، ليحمل على عدوّه ومناوئه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥)

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ) أي خاضعات لله بالطاعة (مُؤْمِناتٍ) أي مصدّقات بالله ورسوله (قانِتاتٍ) أي مطيعات لما يؤمرن به (تائِباتٍ) أي من الذنوب لا يصررن عليها (عابِداتٍ) أي متعبّدات لله ، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن ، حتى صارت ملكة لهن (سائِحاتٍ) قيل : معناه صائمات ـ وسننبه على ما فيه ـ (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

اعلم أن في توصيف المبدلات بهذه الصفات ، تعريضا بوجوب اتصاف الأزواج بها ، لا سيما أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تنبيه :

ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من (سائحات) صائمات أو مهاجرات. وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير (السائحون) أن الحق فيه هو المعنى الحقيقيّ ،

٢٧٥

لعدم ما يمنع منه ، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين : إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء ، كما هي كذلك للرجال ، فمعنى قوله تعالى (سائِحاتٍ) مسافرات ، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة. وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم لهن ، حفظا لهن.

ثم قال : كأن الذي دعا البعض لتفسير (السائحات) بالصائمات ، أو بخصوص المهاجرات ، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب ، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد ، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء ، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة ، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد؟! وأما قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، فكأنه مخصوص بالرجل ، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة ، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا ، بل للنصف منها ، وهو الرجال. وحاشا أن يكون ذلك! أين هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفره مع أزواجه؟ فقد كان يقرع بينهن ، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها ، وسافرت معه. وقد صار ذلك شريعة معمولا بها في الدين. وهكذا صح (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم بصفية أردفها خلفه وهو مع الركب.

وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة ، بل إلى عدة غايات وفوائد :

أولا ـ إدراك المعقولات ، والإحاطة بعظات المسموعات ، كما نتعلمه من آية (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

ثانيا ـ الوقوف على أحوال الأمم البائدة ، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار ، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [غافر : ٢١] ، وقوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأدب ، ١٠٤ ـ باب قول الرجل جعلني الله فداك ، حديث رقم ٢٤٦ ، عن أنس بن مالك.

٢٧٦

وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم : ٩].

ثالثا ـ البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون ، وفي الفنون ، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى ، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠].

رابعا ـ الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠].

فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى ، حتى يكون السير خاصّا بالرجل؟ كلا! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ ، وَأَيَّاماً آمِنِينَ) [سبأ : ١٨]. وامتن على جميع عباده بقوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] ، وقال تعالى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) [المائدة : ٩٦] ، فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء؟ كلا! بل الكل مغمور بهذه المنّات ، كما هو مقتضى عموم الآيات. انتهى ملخصا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) أي سببها. وذلك بترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، والقيام على تأديب الأهل ، وأخذهن بما تأخذون به أنفسكم (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي تتّقد بهما اتقاد غيرها بالحطب (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي تلي أمرها وتعذيب أهلها ، زبانية (غِلاظٌ شِدادٌ) أي جفاة قساة (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) قال الزمخشريّ. وليست الجملتان في معنى واحد. فإن معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به ، لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه. انتهى.

وقيل : الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره ، والثانية لأنهم لا يفعلون شيئا ما لم يؤمروا به ، كقوله تعالى : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، فإن

٢٧٧

استمرارهم على فعل ما يؤمرون به يفيده ، فلا تكرار. وقيل : إنه من الطرد والعكس ، وهو يكون في كلامين ، يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر ، وبالعكس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. فالمراد ب (اليوم) وقت دخولهم إياها. فتعريفه للعهد ، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم ، أو العذر لا ينفعهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي توبة ترقع الخروق ، وترتق الفتوق ، وتصلح الفاسد ، وتسد الخلل. من (النصح) بمعنى الخياطة. أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب عنه ، والنظر إليه بعدم الالتفات ، وقطع النظر عنه. من (النصوح) بمعنى الخلوص (عَسى رَبُّكُمْ) أي بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح (أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يذلّهم. تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي أدمه أو زده (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) أي بالسنان والبرهان (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي فيما تجاهدهم به ، لتنكسر صلابتهم ، وتلين شكيمتهم وعريكتهم ، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

٢٧٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠)

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) أي حالهما (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) أي بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان ، مع تمكنهما من الطاعة والإيمان (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً وَقِيلَ) أي لهما عند موتهما ، أو يوم القيامة : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي مع سائر الداخلين من الفجرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من عملهم وعذابهم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي حفظته وصانته (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) يعني جبريل عليه‌السلام ، أو من روح خلقناه بلا توسط ، وهو عيسى عليه‌السلام (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) أي بصحفه المنزلة من عنده (وَكُتُبِهِ) أي الموحاة. والعطف للتفسير ، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة ، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار. (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي من المواظبين على الطاعة لله ، والخضوع لأحكامه. والتذكير للتغليب.

تنبيهات :

الأول : قال الزمخشريّ : مثل الله عزوجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم ، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب ، أو وصلة صهر ، لأن عداوتهم

٢٧٩

لهم ، وكفرهم بالله ورسوله ، قطع العلائق ، وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر ، نبيّا من أنبياء الله ـ بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما ، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج ، إغناء ما من عذاب الله. ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم ، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله ـ بحال امرأة فرعون ، ومنزلتها عند الله تعالى ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، الناطق بالكلمة العظمى. ومريم ابنة عمران ، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] ، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب ، بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره. انتهى.

الثاني : قال الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين) اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكفار ، ومثلين للمؤمنين.

فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب ، أو وصلة صهر ، أو سبب من أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ، إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح ، مع عدم الإيمان ، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما. فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله ، وخالف أمره ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبيّ ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال. فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية ، ولم يغن نوح عن ابنه ، ولا إبراهيم عن أبيه ، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئا. قال تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ٣] ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٩] ،

٢٨٠