مصير عبد الله بن علي العباسي :
كان على البصرة سليمان بن علي فلجأ إليه أخوه عبد الله بن علي مختبئاً عنده ، كان ذلك قبل شهر رمضان (١) وبلغ المنصور مكان عمّه عبد الله بن علي عند أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فوجّه المنصور إلى سليمان يطلبه منه فأنكر أن يكون عنده. ثمّ طلب له الأمان فأعطاه ، وكان كاتب سليمان عبد الله بن المقفّع البصري المولى فأمره سليمان أن يكتب نسخة الأمان فوضعها ابن المقفّع بأغلظ العهود والمواثيق أن لا يناله بمكروه وأن لا يحتال عليه بحيلة ، وفيها : فإن أنا فعلت أو دسست فالمسلمون براء من بيعتي وفي حِلٍّ من الأيمان والعهود التي أخذتها عليهم! وقدم سليمان بن علي من البصرة بهذه النسخة إلى المنصور ، فكتب المنصور له الأمان عليها ، وعاد سليمان بها إلى البصرة إلى أخيه عبد الله بن علي ، وكان معه بالبصرة أخوهما عيسى بن علي فظهر عبد الله بهما إلى المنصور بالحيرة فقدما به عليه ليوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة سنة (١٣٧ ه). وكان عيسى ابن موسى وليَّ عهد السفّاح بعد المنصور فأمر المنصور بحبس عبد الله عنده.
وسأل المنصور يوماً عيسى بن موسى عن عمّه عبد الله فقال : قد مات! فوجّه إلى جماعة من بني العباس وفيهم إسماعيل وعبد الصمد وعيسى أبناء علي ، وقال لهم : إنّي كنت دفعت أخاكم عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى وأمرته أن يحتفظ به ويكرمه ويبرّه! وقد سألته عنه فذكر أنّه قد مات! فأنكرت ستر خبر موته عني وعنكم.
فقال القوم : إن عيسى قتله ، ولو كان عبد الله مات حتف أنفه ما ترك أن يعلمك ويعلمنا فجمع بينهم فطالبوه بدمه ، فقال المنصور : إيت ببيّنة عادلة!
__________________
(١) تاريخ خليفة : ٢٧٣.
على ما ذكرت من أمر عبد الله ، وإلّا أقدتك منه! فقال : إنّما أردت بما قلت الراحة من حراسته ، فأخّروني إلى العشي. فأخّروه. فحضر بالعشي وأحضر عبد الله معه صحيحاً سوياً ، فاتهمه المنصور أنّه أراد أن يعرف ما عندهم فإذا احتملوا ذلك قتله! (وذلك ليحتج به لعزله عن العهد).
ثمّ أمر المنصور فبني له بيت في الدار ، ثمّ أجرى الماء على أساس ذلك البيت فسقط على عبد الله فمات (١٤٩ ه).
وسأل المنصور عن كاتب نسخة الأمان له : مَن كتبه؟ فقيل : عبد الله بن المقفّع (١) فأضمر قتله. وقد كان ابن المقفّع قد طار صيته في المصنّفين (٢) ولذا استكتبه سليمان العباسي.
الغلاة من أصحاب أبي الخطاب :
كان من موالي بني أسد في الكوفة رجل يدعى محمد الأجدع بن أبي زينب مقلاص ، وتولّى الصادق عليهالسلام فأخذ يحمل رسائل المسائل للشيعة بالكوفة إليه عليهالسلام بالمدينة ويأتيهم بجواباتها (٣) فلذا أو لأنّه كان يعمل الزرود ويبردها قيل له البرّاد ، وقيل : بل كان بزّازاً. ويروي لهم عن الإمام عليهالسلام (٤) ويظهر من خبر عن الكاظم عليهالسلام : أن الصادق عليهالسلام استعمل الأجدع لحمل رسائله إلى شيعته بالكوفة (٥).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.
(٢) التنبيه والإشراف : ٦٦.
(٣) الكافي ٥ : ١٥٠.
(٤) قاموس الرجال ٩ : ٥٩٤ عن الغضائري والطوسي.
(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٤ ، الحديث ٥١٨.
وكان لا يحفظ لفظ الإمام فيزيد فيه من عنده ، ويبلغ الإمام ذلك فينهاه فلا يقبل منه (١). فعزله الإمام عليهالسلام وتبرّأ منه. وكان أول فساده أن كان لا يصلي المغرب حتّى يغيب الشفق وتشتبك النجوم ، وتبعه أصحابه (٢).
وترأس سبعين رجلاً منهم إلى الحج فدخل بهم على الصادق عليهالسلام ، فقال لهم : ألا اخبركم بفضائل المسلم؟ قالوا : بلى جعلنا فداك! قال : من فضائل المسلم أن يقال : فلان قارئ لكتاب الله عزوجل ، وفلان ذو حظّ من ورع ، وفلان يجتهد في عبادته لربّه. فهذه فضائل المسلم. ثمّ قال : ما لكم والرئاسات ، إنما للمسلمين رأس واحد ، فإياكم والرجال (٣).
ثمّ كتب إليه : بلغني أنك تزعم أنّ الزنا رجل وأنّ الخمر رجل! وأنّ الصلاة رجل وأنّ الصيام رجل! وليس كما تقول (بل) إنا أصل الحق وفروع الحق طاعة الله ، وعدونا أصل الشر وفروعهم الفواحش (٤).
ثمّ زعم لهم أنّهم عليهمالسلام يعلمون الغيب فهم أنبياء! ثمّ زعم أنهم أرباب! وبلغ الإمام عليهالسلام فتبرّأ منهم وأمر أصحابه بذلك وقال : «لا والله ما هي إلّاوراثة ورواية عن رسول الله».
وكأنّ أبا الخطّاب بلغه ذلك فأراد أن يحول دون وصول أتباعه إلى الإمام عليهالسلام فأسقط عنهم الحج وأمرهم أن يلبّوا للإمام وهم بالكوفة ، فأخبر مصادف بذلك الإمام عليهالسلام فخرّ إلى الأرض ساجداً وألصق جؤجؤ صدره بالأرض وأقبل يبكي ويكرر كثيراً : بل أنا عبد لله قنّ داخر! ثمّ رفع رأسه ودموعه تسيل
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٥ ، الحديث ٥٢٢ و ٥٢٠.
(٢) المصدر : ٢٩٤ ، الحديث ٥١٨.
(٣) المصدر : ٢٩٣ ، الحديث ٥١٦.
(٤) المصدر : ٢٩١ ، الحديث ٥١٢.
على لحيته وحدّثهم : أنّ رجلاً قال لرسول الله : السلام عليك يا ربّي! فقال له : ما لك لعنك الله! ربّي وربّك الله (١) وأوّل أبو الخطاب لهم قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ (٢)) قال : هو الإمام (٣)!
فمن هذا ونحوه قال عليهالسلام : اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي! اللهم أذقه حرّ الحديد (٤)!
لم أجد تحديداً لتاريخ استجابة هذا الدعاء للإمام عليهالسلام ، ويظهر من خبر الكشيّ أنّ ذلك كان قبل موسم الحج لسنة (١٣٨ ه) (٥) في أوائل خلافة المنصور لعامين منها وهو بالأنبار ، وعلى الكوفة ابن عمّه عيسى بن موسى العباسي (٦) فبلغه أنّهم يدعون الناس سرّاً إلى نبوة أبي الخطّاب ، وأنهم أباحوا المحظورات ، إلّاأنّ كل رجل منهم ـ وهم سبعون ـ قد لزم اسطوانة في مسجد الكوفة يرون الناس أنهم قد لزموها للعبادة وأظهروا التعبّد. فبعث إليهم رجلاً من أصحابه في رجّالة وخيل ليأخذوهم ويأتوه بهم.
فقال لهم أبو الخطاب : إنّ رماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا يضرّكم ولا يعمل فيكم ولا يحتك في أبدانكم! وقاتلوهم بالحجارة وما معكم من السكاكين والقصب ، فإنّ قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح وسائر السلاح! وجعل يقدّمهم عشرة عشرة للقتال!
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٨ و ٢٩٩ ، الحديث ٥٢٩ و ٥٣٠ و ٥٣١ و ٥٣٤.
(٢) الزخرف : ٨٤.
(٣) المصدر : ٣٠٠ ، الحديث ٥٣٨.
(٤) المصدر : ٢٩٠ ، الحديث ٥٠٩.
(٥) المصدر : ٢٩٦ ، الحديث ٥٢٤.
(٦) منذ عام (١٣٤ ه) حتى عام (١٤٦ ه) كما في تاريخ خليفة : ٢٦٩ و ٢٧٨.
فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً صاح به سائرهم : يا سيدنا! أما ترى ما يحلّ بنا من هؤلاء القوم! ولا ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر بل ينكسر كلّه! وقد عمل فينا سلاحهم وقتل منّا من ترى!
فقال لهم : يا قوم! قد بليتم وامتحنتم وأذن في قتلكم وشهادتكم! فقاتلوا على أحسابكم ودينكم! ولا تعطوا بأيديكم فتذلّوا ، فإنكم لا تتخلصون من القتل! فموتوا كراماً أعزّاء ، واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً عظيماً!
فقاتلوا حتّى قُتلوا عن آخرهم ، وأُسر أبو الخطاب فأُتي به عيسى بن موسى العباسي فأمر بقتله وصلبه وصلب أصحابه ، وبعد مدة أمر بإحراقهم فاحرقوا ، وبعث برؤوسهم إلى المنصور ، فصلبت على باب المدينة ثلاثة أيام ، ثمّ أُحرقت (١).
لم يفلت منهم إلّارجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى يعدّ فيهم ، فلما جنّه الليل خرج من بينهم فتخلّص ، وهو سالم بن مكرّم الجمّال ، فرحل إلى الصادق عليهالسلام وتاب ، فقال له الإمام : لا تكتن بأبي خديجة بل بأبي سلمة ، فكان ممن يروى عنه عليهالسلام (٢).
وكأنّه اغترّ بظاهر صلاتهم في المسجد بعض الشيعة منهم مراد بن خارجة قال للصادق عليهالسلام : جعلت فداك خفّ المسجد! قال : وممّ ذلك؟ قال : بهؤلاء الذين قُتلوا فيه! (يعني أصحاب أبي الخطاب) فأطرق ملياً ثمّ رفع رأسه إليه وقال له : كلّا ؛ إنهم لم يكونوا يصلّون (٣) وكأنّه اكتفى بذلك.
__________________
(١) فرق الشيعة : ٦٩ ، ٧٠ والمقالات والفرق : ٨١ ، ٨٢ وفيهما : مدينة بغداد ، وهو وهم.
(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، حديث ٦٦١ ، وفرق الشيعة : ٧٠ ، والمقالات : ٨١.
(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٧ ، حديث ٥٥٤ بالمعنى.
وفي موسم الحج لسنة (١٣٨ ه) حجّ جمع من شيعة الكوفة فدخلوا على الصادق عليهالسلام منهم حنّان بن سدير الصيرفي وميسّر النخعي المدائني الكوفي بياع الثياب الزطّية الهندية فقال : جُعلت فداك! عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع (عند الإمام) فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم! قال : مَن هم؟ قال : أبو الخطّاب وأصحابه! وكان الإمام متكئاً فجلس ورفع يده مؤكّداً وقال : على أبي الخطّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! أشهد بالله أنّه فاسق كافر مشرك! وأنه يُحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدواً وعشياً! ثمّ استدرك حزنه على ضلال أصحابه فقال : أما والله إني لأنفس على أجساد أُصيبت معه (١).
وكان عبد الله بن بكير الرجاني سمع الصادق عليهالسلام يقول : لما قتل علي عليهالسلام أصحاب النهروان أصبح بعض أصحابه يبكون عليهم ، فقال علي لهم : أتأسون عليهم؟ قالوا : لا ، إلّاأنا ذكرنا الأُلفة التي كنّا عليها ، والبلية التي أوقعتهم ، فلذلك رفقنا عليهم. قال : لا بأس. فذكر عبد الله بن بكير عند الصادق عليهالسلام مقتل أبي الخطاب يوماً فرقّ وبكى ، فقال عليهالسلام : أتأسى عليهم؟ قال : لا ، ثمّ ذكر له ما سمعه منه بشأن أصحاب النهروان ، فقال : لا بأس (٢).
هذا ، ولكنّه للمزيد من التأكيد على التبرّي منهم قال : لعن الله أبا الخطاب ، ولعن من قتل معه ، ولعن من بقي منهم! ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم (٣)!
ولما تبرّأ الإمام عليهالسلام من المغالين فيهم قال له سدير الصيرفي الكوفي : جُعلت فداك فما أنتم؟ قال : «نحن قوم معصومون ، أمر الله بطاعتنا ونهى عن
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٦ ، الحديث ٥٢٤.
(٢) المصدر : ٢٩٣ ، الحديث ٥١٧.
(٣) المصدر : ٢٩٥ ، الحديث ٥٢١ وفي من بقي منهم انظر الأشعري والنوبختي.
معصيتنا ، فنحن الحجة البالغة على من فوق الأرض دون السماء ، نحن تراجمة وحي الله وخزّان علمه (١) فلعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا (٢) والله لو أقررت بما يقول فيّ (غلاة) أهل الكوفة لأخذتني الأرض! وما أنا إلّاعبد مملوك لا أقدر على ضرّ ولا نفع وإنما أنا إمام من أطاعني .. ومن قال : إنّا أنبياء فعليه لعنة الله! ومن شك في ذلك فعليه لعنة الله» (٣).
وسمّاهم السفلة فقال للمفضّل بن عمر الجعفي الكوفي : إياك والسفلة! فإنما «شيعة» جعفر : من عفّ بطنه وفرجه ، واشتدّ جهاده (لنفسه) وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه وخاف عقابه (٤).
المفضّل الجعفي بعد أبي الخطّاب :
روى الكشي عن ابن أبي عمير : أنّه لما أحدث أبو الخطّاب ما أحدث خرج جمع من «الشيعة» بالكوفة إلى الصادق عليهالسلام وطلبوا إليه أن يقيم لهم رجلاً يفزعون إليه في أمر دينهم وما يحتاجون إليه من الأحكام. فقال لهم : لا تحتاجون إلى ذلك ، فمتى ما احتاج أحدكم يعرّج إليّ ويسمع مني وينصرف فأصروا وألّحوا فقال لهم : قد أقمت عليكم المفضّل (ابن عمر الجعفي مولاهم) ، فاسمعوا منه وأقبلوا عنه ، فإنّه لا يقول على الله وعليَّ إلّا الحق.
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٦ ، الحديث ٥٥١.
(٢) المصدر : ٣٠٢ ، الحديث ٥٤٢.
(٣) المصدر : ٣٠٠ ، ٣٠١ ، الحديث ٥٣٨ و ٥٣٩.
(٤) المصدر : ٣٠٦ ، الحديث ٥٥٢.
فلم يمض عليه شيء كثير حتى أُشيع عنه أنّه يقرّب إليه أصحاباً هم أصحاب حَمام وشراب حرام ويقطعون الطريق ولا يصلون (١).
واجتمع أبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم الثقفي مولاهم الطحّان ، وزرارة بن أعين الشيباني مولاهم الرومي وابن أخيه عبد الله بن بكير ، وحجر بن زائدة الثقفي ، فكتبوا فيما بينهم كتاباً إلى الصادق عليهالسلام قالوا فيه : إنّ المفضّل يجالس الشُطّار وأصحاب الحَمام وقوماً يشربون الشراب! فينبغي لك أن تكتب إليه تأمره أن لا يجالسهم. وحملوا الكتاب معهم إلى الصادق عليهالسلام.
فكتب كتاباً إلى المفضّل وختمه ودفعه إليهم وأمرهم أن يدفعوا الكتاب إلى المفضل بأيديهم! فجاؤوا بالكتاب إلى المفضّل ودفعوه إليه ففكّه وقرأه ثمّ دفعه إلى زرارة فإذا فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيمِ ، اشترِ كذا وكذا .. ولم يذكر قليلاً ولا كثيراً مما قالوا فيه! ودفعه زرارة إلى محمد بن مسلم حتّى دار الكتاب إلى الكلّ. فقال لهم المفضّل : فما تقولون؟! قالوا : هذا مال عظيم حتّى ننظر وتجمع ونحمل إليك. وأرادوا الإنصراف ، فقال المفضّل حتى تتغدّوا عندي ، فحبسهم لغدائه.
ووجّه المفضّل إلى أصحابه الذين سعوا بهم فجاءوا ، فقرأ عليهم كتاب الصادق عليهالسلام فرجعوا ، ثمّ عادوا وقد حمل كل واحد منهم على قدر قوته ألفاً وألفين وأقل وأكثر ، فأحضروا ألفي دينار وعشرة آلاف درهم! قبل أن يفرغ هؤلاء من الغداء! فقال لهم المفضّل : تأمروني أن أطرد هؤلاء من عندي ، تظنّون أن الله تعالى يحتاج إلى صلاتكم وصومكم (٢)!
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٢٧ ذيل الحديث ٥٩٢.
(٢) المصدر : ٣٢٦ صدر الحديث ٥٩٢.
بل أودع الصادق عليهالسلام لدى المفضّل أموالاً وأموره أن إذا تنازع رجلان من شيعته في شيء أن يفتدى مشكلتهما بماله حتّى يصلح بينهما ، كما فعل بنزاع رآه بين عبد الرحمن سائق الحاج وختن له ، كما روى الكليني (١).
عبد الرحمن المرواني في الأندلس :
كان عامل أفريقية لمروان بن محمّد الأموي : عبد الرحمن بن حبيب الفهري. وبعد قتل مروان قدم على عبد الرحمن جماعة من امية منهم لؤي والعاص ابنا الوليد بن يزيد ، وبلغ عنهما شيء إلى عبد الرحمن الفهري ففتك بهما ، وكان معهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فخافه فهرب منه ، وقطع مضيق جبل طارق إلى الأندلس ومعه مولاه بدر ، وعاملها يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
وكان قد اشتدت العصبية بين من بها من اليمانية والنزارية ودامت عدّة سنين ، فطمع عبد الرحمن الأموي في الغلبة عليها ، وكاتب اليمانية ودعاهم إلى نفسه ، وسيّر إليهم مولاه بدراً فبايعوه. وبلغ أمره إلى يوسف الفهري فسار إليه في أنصاره من النزارية وغيرهم واقتتلوا فقتل أصحابه قتلاً ذريعاً وهزم يوسف ، سنة (١٣٩ ه) فاستولى عبد الرحمن الأموي على الأندلس ، وهي مملكة عظيمة فيها مدن كثيرة وعمائر متصلة نحواً من أربعين يوماً في مثلها (٢).
تحصين المنصور ثغور الشام :
في سنة (١٣٨ ه) خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلاد الإسلام فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها ، ولكنّه عفا عمّن بها من المقاتلة والذرية.
__________________
(١) أُصول الكافي ٢ : ٢٠٩ ، الحديث ٤.
(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.
ففي سنة (١٤٠ ه) أرسل المنصور قائده الحسن بن قحطبة الطائي ومعه عبد الوهاب بن إبراهيم العباسي أخ المنصور ، في سبعين ألفاً ، إلى ملطية ليعمّروها ، فعمّروها في ستة أشهر. وسار إليهم ملك الروم قسطنطين في مئة ألف حتّى نزل نهر جيحان ، فبلغهم كثرة المسلمين فعادوا خائبين.
وأمر المنصور كذلك بعمارة سور المصّيصة وسمّاها المنصورة ، وبنى بها جامعاً وأسكنها ألف جندي (١) وأسكن في ملطية أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر ، وبنى كذلك حصن قلوذية (٢).
ووسّع المسجد الحرام والتقى بالإمام عليهالسلام :
كان على مكّة والمدينة زياد بن عبيد الله الحارثي من أخوال السفّاح فأقره المنصور ، وشكى الناس إليه ضيق المسجد الحرام فأمره المنصور بشراء الدور حوله من جهة دار الندوة إلى باب بني جُمح فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك للصادق عليهالسلام ، فقال له : سلهم : أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فإن للبيت فناءه. فهدمت المنازل وادخلت دار الندوة فيه حتّى صار المسجد ضِعفه مما يلي دار الندوة إلى باب بني جُمح. ووسّع كذلك مسجد الخيف وبناه ، وفرغ من ذلك سنة (١٤٠ ه) فحجّ المنصور لينظر ما زاد في المسجد الحرام (٣).
وهنا خبر طريف يكشف عن حضور الصادق عليهالسلام وأهل بيته عند زياد الحارثي أمير المدينة :
__________________
(١) تاريخ ابن الوردي ٢ : ١٨٥.
(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢١.
(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.
روى الصدوق عن الصادق عليهالسلام قال : كنت وجماعة من أهل بيتي عند زياد بن عبيد الله الحارثي فقال لنا : يا بني عليّ وفاطمة! ما فضلكم على الناس؟ فسكتوا ، فقلت : إن من فضلنا على الناس أنا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا! وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا إلّاأشرك!
وبمثل هذا الجواب الجادّ الحاد أجاب أميره المنصور بحضوره ولعلّه في سفره هذا ، لما وقع عليه ذباب فذبّه عنه ، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه ، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه ثالثة ثمّ قال للإمام عليهالسلام : يا أبا عبد الله ، لأي شيء خلق الله الذّباب؟ فقال عليهالسلام : ليذلّ به الجبّارين (١) وليس في الخبر أي ردّ من المنصور فكأنه تحمّله على مضض.
ولعلّه لذا أوعز إلى حاجبه الربيع بن يونس لما وقف ببابه أهل مكة وأهل المدينة : أن يأذن لأهل مكة قبل أهل المدينة ، ففعل الربيع ذلك فقال له الإمام عليهالسلام : أتأذن لأهل مكة قبل أهل المدينة؟! فقال الربيع : مكة العُش! فقال عليهالسلام : عُشّ والله طار خياره وبقي شراره (٢).
ولم يمنعه ذلك أن يتظاهر بتأييد الصادق عليهالسلام له ، بأن أحضره يوم الجمعة فخرج إلى الصلاة متوكئاً على يده أمام الناس ليريهم ذلك. وكان ممن تولّى الإمام عليهالسلام من موالي ولاة بني امية : رزّام مولى خالد بن عبد الله القسري البجلي ، ولكنّه كأنه لم يرَ الإمام أو لم يعرفه يومئذ ، فسأل : مَن هذا الذي بلغ من خطره أن يعتمد على يده أمير المؤمنين! قيل : هذا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام فقال : لوددت أن خدّ أبي جعفر (المنصور) نعل لجعفر!
__________________
(١) علل الشرائع ٢ : ٢٠٨ ، الباب ٢٤٩ ، الحديث ١ ، وفي حلية الأولياء ٣ : ١٩٨ ، وصفة الصفوة ٢ : ١٧٠ ، وفي تاريخ دمشق نسبه إلى مقاتل بن سليمان.
(٢) نثر الدر ١ : ٣٥٢ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٣٧.
فكأنّه عزم على أن يقرّر المنصور بعلم الإمام عليهالسلام فقام حتّى وقف بين يدي المنصور وقال : أسأل أمير المؤمنين؟ قال المنصور : سل هذا ـ كذا بلا تعريف به! فقال : إنّي أُريدك بالسؤال! وأصرّ المنصور قال : سل هذا! كذا بلا تعريف به! واكتفى رزّام بذلك والتفت إلى الإمام وقال له : أخبرني عن الصلاة وحدودها. وقد حضرت الصلاة.
فقال الإمام عليهالسلام : للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تؤاخَذ بها.
فقال رزّام : أخبرني بما لا يحلّ تركه ولا تتم الصلاة إلّابه.
فقال الصادق عليهالسلام : لا تتم الصلاة إلّالذي طُهر سابغ وتمام بالغ ، غير زائغ ولا نازع. عرف فوقف ، وأخبت فثبت. فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع ، كأنّ الوعد له صُنع والوعيد به وقع. بذل عرضه وتمثل غرضه ، وبذل في الله مهجته وتنكّب إليه المحجة. مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام ، بعين من له قصَد وإليه وفَد ومنه استرفَد! فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها امر وعنها اخبر ، وإنّها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر! وسكت.
وهنا اضطرّ المنصور أن يعرّف به بكُنيته قال : يا أبا عبد الله! لا نزال من بحرك نغترف وإليك نزدلف ، تبصّر من العمى وتجلو بنورك الطخياء! فنحن نعوم في طامي بحرك وسبحات قدسك (١)!
وعقّب اليعقوبي على حَجّة المنصور هذه قال : وكان قد بلغه أن محمّد بن عبد الله بن الحسن قد تحرك (٢). فروى الآبي قال : قال المنصور للصادق عليهالسلام : يا أبا عبد الله ألا تعذرني من عبد الله بن حسن وولده يبثّون الدُعاة ويريدون الفتنة!
__________________
(١) عن فلاح السائل عن كنز الفوائد في بحار الأنوار ٤٧ : ١٨٥ ـ ١٨٦.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.
فقال عليهالسلام : قد عرفت ما بيني وبينهم! فإن تُقنعك منّي آية من كتاب الله تلوتها عليك! قال : هات. فتلا عليهالسلام قوله سبحانه : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَايَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَايَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ (١)) فقال المنصور : كفاني وقام إليه فقبّل ما بين عينيه (٢).
ولكنّه كأنه لم يكفه هذا التأمين له من الصادق عليهالسلام فكان يضايق عليه في غير الموسم ، فيقول عليهالسلام لعنبسة بن مصعب من زواره في الموسم : أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة حتّى تَقدموا وأراكم وأُسَرَّ بكم! فليت هذا الطاغية أذن لي فاتخذت قصراً فسكنته وأسكنتكم معي وأضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبداً (٣)!
وكان سليمان بن خالد من نخع الكوفة مع زيد بن علي ثمّ نجا إلى المدينة فاهتدى إلى الباقر ثمّ الصادق عليهماالسلام ، واهتدى به ابن اخته العَيص بن القاسم الأسدي فدخل معه على الصادق فقال له : من هذا الفتى؟ قال : هذا ابن أُختي. قال : فيعرف أمركم (الإمامة) قال : نعم. ثمّ قال عليهالسلام : يا ليتني وإياكم بالطائف أُحدثكم وتؤنسوني ونضمن لهم أن لا نخرج عليهم (٤).
__________________
(١) الحشر : ٥٩.
(٢) نثر الدر ١ : ٣٥٢ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٤٥. وقد قال اليعقوبي : إنّه في سفره هذا أخذ معه عبد الله بن الحسن وقومه ، ويرجح أنّ ذلك كان في (١٤٤ ه).
(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٦٥ ، الحديث ٦٧٧ ومثله في روضة الكافي كما في بحار الأنوار ٤٧ : ١٨٥.
(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، الحديث ٦٦٩ وكأنه عليهالسلام أراد بهذا التأكيد له على أن ليس من شرط الإمام الخروج بالسيف ، خلافاً للزيدية.
ولذا كان الإمام عليهالسلام يكتفي في لقاء المنصور بالأقل ، فكتب إليه المنصور : لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له! ولا أنت في نعمة فنهنئك ولا تراها نقمة فنعزّيك بها! فما نصنع عندك؟!
فكتب المنصور إليه : تصحبنا لتنصحنا! فأجابه : «من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك».
فلمّا جاء جواب الإمام قال : والله لقد ميّز لي منازل الناس من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة ، وإنّه ممن يريد الآخرة لا الدنيا (١) فلعلّ هذا كان من التأمين للمنصور لكي لا يلاحق الإمام عليهالسلام.
أراد المنصور نصرة فقه مالك :
مرّ الخبر أنّ الصادق عليهالسلام كان يقول لزوّاره من الحُجّاج في الموسم : أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة. أي قلّة من يزوره منهم.
وممن كان يزوره من فقائهم مالك بن أنس الأصبحي ، وحتّى آمن بدينه وعلمه وعبادته وورعه حتّى كان يقول : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد علماً وعبادة وورعاً (٢)!
وقال : ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إما صائماً وإمّا قائماً وإمّا ذاكراً! وكان
__________________
(١) التذكرة الحمدونية ١ : ١١٣ ، الحديث ٢٣٠ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٥٠ وبهامشه مصادر اخرى. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٦ نسب القول إلى مقاتل بن سليمان!
(٢) تهذيب التهذيب ٢ : ٨٩ ، الحديث ١٥٦ ومناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٩.
من عظماء البلاد وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم ، وكان كثير الحديث طيّب المجالسة كثير الفوائد. فإذا قال : قال رسول الله ، اخضرّ مرّة واصفرّ أُخرى حتّى لينكره من لا يعرفه (١). فهو يعترف بشرف الصادق عليهالسلام في العلم ، فهو أعلم منه.
إلّاأ نّه لم يردّ بذلك على المنصور لما أمره أن يضع للناس كتاباً يحملهم الخليفة عليه وقال له : ضعه فما أحد اليوم أعلم منك (٢)!
وممّا جاء في ذلك : أنّ المنصور لما حجّ وقد وضع مالك بعض كتابه ورأى بعضه المنصور ـ فلعلّه في حُجة لاحقة ـ أحضره وقال له : قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنّفتها ، فتنسخ ، ثمّ أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم بأن يعملوا بما فيه ولا يتعدوه إلى غيره!
فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تفعل هذا ؛ فإنّ الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم واتوا به ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم (٣).
فالمنصور ـ أولاً ـ حاكم نظامي كسائر الحكام النظاميين ، شهد اختلاف الفقهاء على عهده ، فما أحبّ ذلك الضجيج الذي أثاروه بجدالهم ونقاشهم ، وذهاب كل فريق منهم مذهباً يخالف الآخر وتمسكه بمذهبه بحيث يراه الوحيد الجدير بأن يتّبع ، ويرى غيره باطلاً أو فاسداً مفسداً!
وثانياً : يهمّه أن يتوحد الناس في مملكته تحت قانون واحد يؤخذ به قاصيهم ودانيهم ، ويُعمل به في كل ناحية من نواحي هذه المملكة الواسعة.
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٩٧.
(٢) الزرقاني في مقدمته لشرحه لموطّأ مالك ١ : ٨ ، وانظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ٢٢٩.
(٣) حجة الله البالغة للدهلوي : ٤٥.
وثالثاً : أراد أن يخالف سنة أسلافه الامويين الذين كانوا لا ينظرون إلى أهل المدينة نظر المطمئن إلى ولائهم لدولتهم وسلطانهم ، وقد بهره ما رآه في كتاب هذا الفقيه من دار الهجرة من العلم المستمد من الرواية عن النبي وأصحابه! فأراد أن يتقرّب إليهم بتقرّبه إلى فقيههم.
ورابعاً : لا يرغب بل يحذر أن يكون هذا الفقيه منهم من آل علي عليهالسلام ، بل رغب في الحدّ من نفوذهم بصرف الناس عن فقههم إلى فقه من قد أقرّ لهم بالأعلمية ، فيصرفه عن ذلك.
إلّاأنهم رووا : أنّ المنصور حين سمع مقالة مالك أكبره وشكره ودعا له بالتوفيق (١).
ويبدو أنّ ذلك كان بعد أن عدل عما قاله أخوه السفّاح في أوّل خطبة له من تفضيل علي عليهالسلام إلى غيره ، وجرّب مالكاً عليه : كما أخرج السيوطي عن ابن عساكر عن مالك قال : دخلت على المنصور فسألني : من أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قلت : أبو بكر وعمر! قال : أصبت! فهذا رأي أمير المؤمنين!
وصرف في خطبته على منبر عرفة في يوم عرفة آية إكمال الدين عن علي أمير المؤمنين قال : أيها الناس! ارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... (٢)).
ويبدو أنّه كذلك صرف «أهل البيت» أيضاً عن آل علي إلى آل العباس لما روى لابنه الذي سمّاه محمّداً ولقّبه بالمهدي : عن أبيه عن جدّه ابن العباس
__________________
(١) انظر مقدمة القمي للروضة البهية ١ : و ، ز ، ط القاهرة.
(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٩.
عن النبي صلىاللهعليهوآله : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح : من ركب فيها نجا ومن تأخر عنها هلك» (١).
هذا وفي تسمية ابنه بمحمد وتلقيبه بالمهدي قد قلّد عبد الله بن الحسن المثنّى ، كذباً وزوراً.
لماذا المنصور الدوانيقي :
روى السيوطي عن ابن عساكر : أنّ صاحب الرصد قبض يوماً على المنصور قبل الخلافة وأمره أن يزن له درهمين ، فاستعفاه فلم يعفه وأصرّ وألحّ ، فلمّا أعياه أمرُه وزَن الدرهمين ، ثمّ كان يتدقّق في وزن الدراهم حتّى لُقّب بأبي الدوانيق (٢).
وأشار الشهيد الأول إلى إشارة الإمام السجاد عليهالسلام على الخليفة الأموي بضمّ الدرهم البغلي إلى الدرهم الطبريّ وقسمتها نصفين ، فصار الدرهم ستة دوانيق ، كل عشرة تساوي سبعة مثاقيل (٣).
وأكثر منه بياناً قال العلامة : كانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين : سوداً وطبرية ، وكانت السود كل درهم ثمانية دوانيق ، والطبرية أربعة دوانيق ،
__________________
(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٧ ويشهد لهذا ما رواه الأموي الزيدي قال في ثورة محمّد بن عبد الله بالمدينة قدم قادم على المنصور وقال : هرب محمّد! فقال : كذبت فإنا «أهل البيت» لا نفرّ!
(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٩.
(٣) البيان : ١٨٥ ، ونحوه في مفتاح الكرامة ٣ : ٨٨ ، ورياض المسائل ٥ : ٩١ ، وجواهر الكلام ١٥ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، كما في وسائل الشيعة ٩ : ١٤٩ بالحاشية.
فجُمعا في الإسلام (؟) وجُعلا درهمين متساويين كل درهم ستة دوانيق. فالدراهم التي يعتبر فيها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب ، فكل درهم نصف مثقال وخُمسه ... والدانق ثمان حبّات من أوسط حبّات الشعير (١).
وكان الفقهاء على عهد المنصور يقولون في زكاة مئتي درهم : خمسة على وزن سبعة. فلم يفهم المنصور هذا لماذا؟ وتحجّج به على الصادق عليهالسلام كما يلي :
كان عامله على المدينة إلى سنة (١٤١ ه) زياد الحارثي ، وفي هذه السنة عزله وولّاها محمّد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي إلى سنة (١٤٣ ه) (٢) وبعد توليته كتب إليه : أن اجمع فقهاء المدينة فسلهم عن علة الزكاة لم صارت في المئتين درهماً خمسة دراهم على وزن سبعة؟! وليكن في من تسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد ، فإن أجابوا ، وإلّا فاضرب جعفر بن محمّد خمسين دِرّة على تضييعه علم آبائه!
قال الراوي : فجمعهم وسألهم عن ذلك فلم يعرفوا ، وإنّما قال الصادق عليهالسلام : إنّ الله لما فرض الزكاة على الناس كان الناس يومئذ يتعاملون في الذهب والفضة بالأواقي ، فأوجب رسول الله صلىاللهعليهوآله في كل أربعين أوقية : أوقية. فإذا حُسبت وُجدت في كل مئتين خمسة على وزن سبعة لا أقل ولا أكثر ، وكانت قبل اليوم على وزن ستة حين كانت الدراهم خمسة دوانيق.
فقال له عبد الله بن الحسن : من أين لك هذا؟ قال : قرأته في كتاب امك فاطمة عليهاالسلام وانصرف.
__________________
(١) قواعد الأحكام ٥ : ١٢١.
(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٣.
ثمّ بعث القسري إليه : أن ابعث إليّ كتاب فاطمة. فقال : إني إنّما أخبرتك أني قرأته ، ولم أخبرك أنّه عندي (١).
وهو عليهالسلام إنّما قال : قرأته في كتاب فاطمة عليهاالسلام جواباً للتحدي : من أين لك هذا. فهذا التحدي ونحوه هو ما ألجأهم إلى الاستناد إلى مصحف فاطمة عليهاالسلام ، ولعلّ هذا الخبر من البوادر الأُولى لذلك تاريخياً ، والاستناد إنّما كان تاريخياً لا فقهياً.
ومن حوادث هذه السنة (١٤١ ه) وفاة أبان بن تغلب (٢) من خواص أصحاب السجّاد والباقر والصادق عليهمالسلام فإلى شيء من أخباره :
وفاة أبان بن تغلب :
أبو سعيد مولى بني جُرير من بني بكر بن وائل. تقدّم في كل فن من العلم من اللغة والنحو والأدب والقرآن ، وكان قارئاً من وجوه القرّاء ، وله كتاب تفسير غريب القرآن ، وتقدم في الفقه والحديث عن السجاد والباقر والصادق عليهمالسلام وعن أنس بن مالك وإبراهيم النخعي والأعمش وسماك بن حرب وعطية العوفي ومحمّد بن المنكدر (٣).
__________________
(١) مع الأمر بالضرب إنّما في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٢٨ ، وبدونه مسنداً في الكافي ٣ : ٥٠٧ ، وعلل الشرائع ٢ : ٧٣ ، الباب ١٠١ ، الحديث ١ بطريق آخر ، وفي بحار الأنوار ٤٧ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ وعقّبه المجلسي ببيانين منه ومن أبيه ، وعنه في مصابيح الأنوار ٢ : ٤٣٦ ، وفي هامش المناقب ، وببيان آخر في وسائل الشيعة ٩ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ٤ ، الحديث الأوّل من أبواب زكاة الذهب والفضة.
(٢) الفهرست للطوسي : ٧ ، والنجاشي : ١٣ برقم ٧ ، وتاريخ خليفة : ٢٧٥.
(٣) رجال النجاشي : ١٠ ـ ١١.
وسمع من عبد الله بن شريك العامري عن أبيه سيرة علي عليهالسلام يوم الجمل ويوم صفين في قتل المدبرين والجرحى ، فسأله عن اختلاف السيرتين فقال : إن أهل الجمل قتل قائدهم طلحة والزبير ، وإن معاوية كان قائماً يعينهم (١) فكأنه كان في دور تعلّم التشيع. وله كتاب في صفين.
وبلغ من العلم على عهد الباقر عليهالسلام أن قال له : اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس ، فإني أحب أن يرى في «شيعتي» مثلك (٢) وكذا قال له الصادق عليهالسلام : جالس أهل المدينة ، فإني احب أن يروا في «شيعتنا» مثلك (٣).
فكان إذا قدم المدينة اخليت له سارية من سواري المسجد وتقوّضت حلقات الناس من غيره إليه (٤) فشكى من أمره إلى الصادق عليهالسلام قال له : إني أقعد في المسجد (النبوي).
فيجيء الناس (سوى شيعتكم) فيسألوني فأكره أن اجيبهم بما جاء عنكم وإن لم اجبهم لا يقبلون مني! فقال له عليهالسلام : أخبرهم بما علمت من قولهم (٥).
وجاءه شابّ فقال له : يا أبا سعيد ، أخبرني كم كان مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبي؟
فقال له أبان : كأنك تريد أن تعرف فضل علي بمن تبعه من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله؟!
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢١٨ ، الحديث ٣٩٢.
(٢) رجال النجاشي : ١٠.
(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠٣.
(٤) رجال النجاشي : ١١.
(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠٢.