علي بن الحسين الهاشمي الخطيب
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
لم يدر أين يريح بدن ركابه |
|
فكأنما المأوى عليه محرم (١) (٢) |
__________________
(١) انظر ديوان السيد جعفر الحلي رحمه الله.
(٢)
(حدي)
يوم الذي راعي الشيم |
|
انوه يشد الراحله |
جاب المحامل للحرم |
|
كل فرد وجّه فرد حيد اله |
طب لعد زينب مبتسم |
|
عباس راعي المرجله |
گاللها يا ضنوة علي |
|
گومي نريد لكربله |
گالتله خويه محملي |
|
يا هو الذي يتچفّله |
گاللها عيناچ ابشري |
|
امرچ نود نتمثّله |
طلعن اوعباس ايحدي |
|
والزمل ضج اهلاهله |
كل ساع وعباس ونزل |
|
محمل الحرّه ايعدّله |
صد له لحسين وناشده |
|
شنهي نزلتك بالفله |
گله يخويه نزلتي |
|
تدري بختنه امدلّله |
ما تحمل الذل والهظم |
|
نشات على العز والعله |
ريتك ياعباس اتحضر |
|
يوم اطلعت من كربله |
سترت وجهها اچفوفها |
|
والدمعه على الخد سايله |
(نصاري)
آنه بگيت امحيّره واصفگ باليدين |
|
لا عباس يبرالي ولا احسين |
سضربوني من ابچي وتدمع العين |
|
وتبگه عبرتي ابصدري تكسّر |
(تخميس)
هذه زينت ومن قبل كانت |
|
بفنا دارها تحطُّ الرحال |
أضحت اليوم واليتامى عليها |
|
يالقوم تصدّق والأنذال |
المطلب الحادي عشر
في مراسلة أهل الكوفة للحسين ووصية معاوية ليزيد
وروى المفيد رحمه الله قال : لمّا قضى الحسن بن علي عليهماالسلام اجتمع نفر من أهل الكوفه في دار سليمان بن صرد الخزاعي (١) ، وكتبوا إلى الحسين عليهالسلام كتاباً يعزونه
__________________
(١) سليمان بن صرد الجون الخزاعي :
كان صحابياً ، اسمه في الجاهليه : يسار ، فسماه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سليمان ويكنى أبا المطرف ، ونقل الكشي عن الفضل بن شاذان : أنّه كان من التابعين الكبار ورؤسائهم وزهادهم ، وقال ابن الأثير في اُسد الغابة في «ترجمة سليمان» : وكان له قدر وشرف في قومه ، وشهد مع علي بن أبي طالب مشاهده كلها ، وهو الذي قتل حوشباذاظليم الألألهاني بصفين مبارزة ، وكان فيمن كتب إلى الحسين عليهالسلام بعد هلاك معاوية يسأله القدوم إلى الكوفة ، فلمّا قدمها كان في حبس ابن زياد ، فلمّا قتل الحسين عليهالسلام ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع من خذله ولم يقاتل معه ، وقالوا ما لنا توبه إلا أن نطلب بدمه ، وخرجوا من الكوفة مستهل ربيع الآخر سنة اربع وستين ، وولو أمرهم سليمان وسموه أمير التوابين ، وساروا الى عبيد اله بن زياد ، وكان قد سار من الشام في جيش كثير يريد العراق فالتقوا بعين الوردة من أرض الجزيرة وهي رأس عين ، قتل سليمان ومسيب وكثير ممن معهما ، وحمل رأسيهما إلى مروان بن الحكم بالشام وكان عمر سليمان حين قتل ثلاثاً وتسعين سنة. انظر رجال الكشي : ٩٦ / ١٢٤ ، واُسد الغابة : ٢ / ٣٥١ ، والإصابة : / رقم (٣٤٥٠) ، وتاريخ الإسلام للذهبي : ٣ / ١٧ ، والأعلام للزركلي : ٣ / ١٢٧ ، وتاريخ من دفن في العراق من الصحابة (للمؤلف رحمه الله) : ٢١٩.
فيه بوفاة أخيه الحسن عليهالسلام ، وهو :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام.
من شيعته وشيعة أبيه ، أما بعد ...
«فقد بلغنا وفاة أخيك الحسن عليهالسلام ، فرحمه الله ، وضاعف حسناته بدرجة جدّه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأبيه علي عليهالسلام ، وضاعف لك الأجر بالمصاب ، فعند الله نحتسبه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا اصيب بهذه الامّة عامة ، ورزيت به خاصة ، فاصبر يا أبا عبد الله ، فإن ذلك من عزم الاُمور ، وإنّك والحمد لله خلف من كان قبلك ، وإنّ الله يعطي رشده لمن كان سبيلك ، ونحن شيعتك المحزونون بحزنك ، والمسرورون بسرورك ، والمنتظرون لأمرك ، والسلام» (١)
ثم صار الناس يقولون : إن هلك معاوية لن نبدل بالحسين أحداً ، وصاروا يختلفون إليه ، فبلغ ذلك معاوية ، فكتب للحسين عليهالسلام كتاباً يقول فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من معاوية بن أبي سفيان
إلى الحسين بن علي بن أبي طالب ... أمّا بعد ...
«فقد بلغني عنك أشياء قد انتهت إليّ ، واظنّها باطلة ، ولعمري إن كان ما بلغني عنك كما ظننت ، فأنت بذلك أسعد ، وبعهد الله أوفى ، ولا تحملني على أن أقطعك ، فأنك متى تكدني أكدك ، ومتى تكرمني أكرمك ، ولا تشق عصى هذه
__________________
(١) نقول : لم نعثر على هذه المكاتبة في كتاب الإرشاد في كتاب المفيد رحمه الله ، وذكره اليعقوبي في تأريخه باختلاف يسير : انظر تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٦.
الأُمة فقد خبرتهم وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ، والسلام» (١).
فلمّا وصل الكتاب إلى الحسين كتب إليه :
أمّا بعد ... فقد وصلني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، ومعاذ الله أن أنقض عهداً عهده إليك أخي الحسن عليهالسلام ، وأمّا ما ذكرت من الكلام ، فإنّما أوصله اليك الوشاة الملقون بالنمائم ، فإنهم والله يكذبون ، والسلام.
ولمّا وصل الكتاب الى معاوية امسك عنه ، ولم يجبه إلى أن أحسّ بدنوّ أجله ، وكان نغله يزيد غائباً ، فدعى بدواة وبياض ، وكتب له وصيّة ، وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد ... فإنّ الله خلق كل شيء لميقات يوم معلوم ، ولو خُلّدَ في هذه الدنيا أحد ، لكان رسول الله أولى بذلك ، يا بني اُوصيك بوصية لا تزال بخير ما دمت حافظاً عليها ، اُوصيك بأهل الشام فإنهم منك وأنت منهم ، فمن قدم عليك منهم فأكرمه : وإذا دهمك عدو سر بهم إليه ، وإذا ظفرت فردهم الى بلدهم ، فإنهم متى أقاموا بغير بلدهم فسدوا عليك ، لأنهم لا يعقلون ، وانظر يا بني إلى اهل العراق في امورهم ، فان سألوك ان تعزل عنهم في كل يوم عاملاً فافعل ، فإن عزل العامل أهون عليك من شق العصى ، واعلم يا بني إنّي قد وطئت لك البلاد ، وذلّلت لك رقالب العباد ، ولا اخشى عليك إلّا من أربعة أنفار ، فإنّهم لا يبايعونك ، أولهم : عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأنّه صاحب الدنيا ، فمدّه بدنياه ، وأعطه ما يريد.
والثاني : عبد الله بن عمر (٢) ، فإنه صاحب محراب وقرآن ، وقد تخلّى من
__________________
(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٢٠١.
(٢) هو عبدالله بن عمر بن الخطاب ، كان يكنّى أبا عبد الرحمن ، أسلم مع أبيه بمكة وهو صغير ، يروى أنّه دخل على الحجاج أيام عبد الملك بن مروان وقال له : مد يدك اُبايعك لعبد الملك ،
الدنيا ولا أظنه ينازعك في هذه الأمر.
والثالث عبد الله ابن الزبير ، فإنه يراوغك مراوغة الثعلب ، ويجثوا لك جثو الأسد ، فإن حاربك فحاربه ، وإن سالمك فسالمه ، وإن أشار عليك فاقبل مشاورته.
والرابع : الحسين بن علي بي أبي طالب ، يا بني فإنّ الناس لا يدعونه حتى يخرج عليك ، فإن ظفرت به فاحفظ قرابته من رسول الله ، واعلم يا بني أنّ أباه خير من أبيك ، وأنّ اُمّه خير من اُمّك ، وإن جدّه خير من جدّك ، وللمرء ما بقلبه ، وهذه وصيّتي إليك والسلام (١).
أقول : لو أمعنا النظر إلى هذه الوصيّة التى اوصا بها معاوية نغله لوجدناها في الحقيقة كما يقال : (كلمة حقّ يراد بها باطل) ، كأنه يريد أن يقول : لا يعزب عنك أنّ الحسين بن رسول الله وأبوه أمير المؤمنين واُمّه سيّدة نساء العالمين ، وهو حي يرزق ، والأبصار شاخصة له ، وله الأهلية للخلافة ، لشرفه وفضيلته ، فالناس لا يتركونه حتى يبايعون له ، ويخرج الأمر من يدك ، فإذا ظفرت به فاقتله.
لذا كتب الى الوليد كتاباً في أخذ البيعة له من الحسين وإن أبى فليكن رأس الحسين مع جواب الكتاب ، وبعدها كتب إلى ابن زياد في أمر الحسين عليهالسلام ، وكتب ابن زياد إلى قائد جيش الظلال وهو عمر ابن سعد : فإذا قتلت حسينا فأوطئ
__________________
فمدّ الحجاج اليه رجله ـ وكان نائماً ـ وقال له : إصفق على هذه ، وبعد هذا دسّ إليه الحجاج رجلاً من جنده فسم زجَّ رمحه والتقى معه في الطريق ، فزحمه وطعنه في ظهر قدمه بالزج المسموم ، فتورّمت قدمه وسرى السم في جسمه فمات. انظر ترجمة (عبدالله بن عمر) في : طبقات ابن سعد : ٤ / ١٠٥ ـ ١٣٨ ، تهذيب الأسماء : ١ / ٢٧٨ ، الأعلام : ٤ / ١٠٨
(١) ذكر الجاحظ في كتابه البيان والتبين وصيّة معاوية بتحريف ، منها : وأمّا الحسين فإني أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه. انظر : البيان والتبين : ٢ / ١٠٦.
الخيل صدره وظهره ، فإنّه عات ظلوم ، فكان كل ذلك بايعاز من يزيد بن معاوية ، إذ أنّ ابن زياد لا يستبد برأيه ، وامثال القائد بما أمره به زياد ، فلمّا قتل الحسين أعطى الجيش إرادة لازمة برض الجسد الشريف ، ونادى باعلى صوته ، من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره؟ فانتدب إليه عشرة عشرة يقدمهم الأخنس عليه اللعنه ، وداسوا صدر الحسين بحوافر خيولهم بمرئ من الحوراء زينب :
يا عقر الله تلك الخيل اذ جعلت |
|
اعضاءه لعواديها مضاميرا |
رضت جياد الخيل صدري ان سلى |
|
بالطف قلبي رضّ تلك الأضلع (١) |
__________________
(١)
(نصاري)
نادى ابن سعد گوموا يفرسان |
|
العبوا فوگ صدر احسين ميدان |
تعنّت خيل عشره الفخر عدنان |
|
خبوها اعلى صدره اشلون جاسين |
(دكسن)
داست خيلهم ظهر المچنّة |
|
بحوافرها يويلي جلبنّة |
ظهره فوگ صدره رضرضنّه |
|
ردّن من بعد ما فعلن الشين |
وزينب وكأني بها :
(عاشوري)
يخويه فوگ اصاويبك يرضّوك |
|
ولا راعوا شرف جدّك ولا ابوك |
عطشان من الورد منعوك |
|
وچثته امعفّرة فوگ الوطيّة |
(ابوذيّة)
اليمة تنصب ابعاشور عشره |
|
على الداست اضلوعة اخيول عشره |
متنسه الشابچه اعلى الراس عشره |
|
لو متنسه اچفوف ابو فاضل وخيّة |
* * *
ولصدره تطأ الخيول وطالما |
|
بسريره جبريل كان موكلا |
المطلب الثاني عشر
في بعض وصية معاوية وتخلف يزيد
وكتابه إلى الوليد بن عتبة بالمدينة
قال أهل السير : إنّ معاوية لمّا دنا أجله بعث على نغله يزيد ، وكان والياً على حمص (١) ، يأمره بالقدوم إليه ، فأقبل إليه الرسول وكان يزيد على سطح الدار ، فسمع النحيب ، نظر إلى سطح الدار فرأى الرسول واقفاً ، فقال له ويلك مات معاوية؟ قال : لا ، فأنشأ [يزيد] يقول :
جاءَ البَريدُ بِقِرطاسٍ يحثُّ به |
|
فأوجس القلبُ من قِرطاسه جزعا |
قلنا : لك الويلُ ماذا في صحيفتكم؟ |
|
قال الخليفةُ أضحى مدفنا وَجعا |
__________________
(١) في ولاية يزيد (لعنه الله) على حمص ، قال بها الذهبي في تاريخ دول الإسلام : ٣٧.
حمص : مدينة مشهورة قديمة وكبيرة ، بناها رجل يقال له : حمص بن المهر ، وتقع في بلاد الشام بين دمشق وحلب ، وتعتبر من المدن الاسلامية المهمّة ، فيها مشهد أمير المؤمنين علي عليهالسلام ، فيه عمود عليه موضع إصبعه عليهالسلام ، (هكذا يقال) ويقال ايضاً : أنّ فيها قبر (قنبر) مولى أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقبر سفينة مولى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبها قبور لأولاد جعفر الطيار عليهالسلام ، وإن شئت التفصيل أكثر فراجع معجم البلدان للحموي : ٢ / ٣٠٢ وفيه : إنّ يزيد بن معاوية كان والياً عليها في خلافة أبيه.
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا |
|
حتى كأن قوى أركانها قلعا |
ثم تهيأ للمسير من وقته وساعته ، وسار إلى الشام فوجده حياً ، وكان معاوية قد كتب له وصية كما تقدم ، وقد كتب له في أمر الأربعة وكيف يعاملهم ، وهم الحسين بن علي بن ابي طالب ، وعبدالرحمن ابن ابي بكر ، وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن الزبير ؛ فقال ارباب التاريخ :
ولما فرغ يزيد من دفن أبيه جلس للعزاء فدخل عليه الناس وهم لا يدرون يعزونه ام يهنئونه ، فتقدم اليه عبدالله بن همام السلوي ، وقال : آجرك الله يا أمير على الرزية ، وبارك لك في العطية ، فاشكر الله على عطيته ، واصبر على عظيم رزيته ، ثم أنشأ يقول :
اصبر يزيد لقد لاقيت معظلة |
|
واشكر أيادي الذي للملك أعطاكا |
لا رزء أعظم والأقوم قد علموا |
|
لقد رزيت ولا عقباً كعقباكا |
أصبحت والي جميع الناس كلّهم |
|
فأنت ترعاهم والله يرعاكا |
ودخل عليه الضحاك بن قيس الفهري ، وقال : يا أمير أصبحت خليفة ورزيت بخليفة ، هنيئت بالعطية وأجرت على الرزية.
ولما تمت له الاُمور كتب إلى الوليد ابن عتبة ابن أبي سفيان ، كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة عامة ، ومن الحسين بن علي ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وعبدالله ابن عمر ، وعبدالله ابن الزبير ، خاصة (١).
وقال اليعقوبي في تأريخه : كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وهو عامل المدينة :
__________________
(١) المنتظم لابن الجوزي : ٥ / ٣٢٢ ، تاريخ الاُمم والملوك للطبري : ٥ / ٣٣٨ ـ ٣٢٨ ، وانظر كتاب التعازي والمراثي لابن المبرد : ١١٩ ـ ١٢١.
إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن علي ، وعبد الله بن الزبير ، فخذهما بالبيعة ، فان امتنعا فاضرب عنقيهما ، وابعث إليّ برأسيهما ، وخذ الناس بالبيعة ، فمن امتنع فانفذ فيه الحكم ، وفي حسين بن علي وعبدالله ابن الزبير ، والسلام (١).
فلما وصل اليه الكتاب بعث على مروان بن الحكم ، فأحضره واستشاره في أمر هؤلاء الأربعة ، فقال له مروان : الرأي أن ترسل إليهم في الليل ، وتدعوهم إلى البيعة ، فإن فعلوا فذاك ، وإلّا فاضرب عنقهم. ولمّا جنّ الليل أنفذ الوليد إليهم رسولاً ، فذكر له أنهم مجتمعون عند قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فجاء إليهم وقال لهم : إنّ الأمير يدعوكم ؛ فقالوا له : انصرف ، نحن نأتي خلفك. فلمّا أنصرف الرسول قال ابن الزبير للحسين عليهالسلام : يابن رسول الله أتدري ماذا يريد منا الوليد؟ قال عليهالسلام : نعم إنّ معاوية قد مات ، وقد خلف نغله يزيد من بعده ، وولاه الأمر ، وقد وجّه في طلبكم ليأخذ منكم البيعة له ، فما أنتم قائلون؟ فقال عبد الرحمن ابن بي بكر : أما أنا فأدخل داري وأغلق عليَّ الباب ولا أبايعه ؛ وقال عبد الله بن عمر : أما أنا فعليَّ بقرآءة القرآن ولزوم المحراب ؛ وقال ابن الزبير : أما أنا فلا اُبايع ، حتى يصير السيف والرمح بيني وبينه ؛ وقال الحسين عليهالسلام : أما أنا فأجمع فتيتي وأتركهم بباب الدار وأدخل على الوليد ، فأناظره ويناظرني ، وأطالب بحقّي.
قال الراوي : ثم تفرّقا ، وجاء الحسين عليهالسلام إلى داره وجمع مواليه وإخوته ، وهم تسع عشر ، وخرج حتى وافى دار الوليد ، فقال لإخوته : أنا داخل على هذا الرجل فاجلسوا أنتم على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فهجموا عليه لتمنعوه عنّي ؛ ثم دخل عليه فوجد عنده مروان بن الحكم ، فقام الوليد إجلالاً له ، ورحّب به وأجلسه إلى جنبه ، ثم أخرج إليه كتاب يزيد ، ونعى إليه معاوية ، ودعاه إلى
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٢٩.
البيعة.
فقال الحسين عليهالسلام : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذن مثلي لا يبايع سراً ، ولا أظنكم تردون منّي في السر ، ولكن إذا خرجت إلى الناس ودعوتهم الى البيعة كنت أول مبايع. وكان الوليد يحب حسن العواقب في الُامور ، فقال له : انصرف يا أبا عبد الله على اسم الله ، حتى تأتينا غداً. فقال له مروان : إن فاتك الثعلب لم تر إلّا غباره فلا تدعه يخرج حتى يبايع أو تضرب عنقه ؛ فلمّا سمع الحسين كلامه وثب إليه قائماً على قدميه ، وقال له : يابن الزرقاء (١) أنت تقلتني أم هو؟! كذبت والله واثمت ؛ ثم التفت الحسين عليهالسلام إلى الوليد ، وقال له : يا أمير نحن أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله ، وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة.
فبينا هو كذلك اذ دخلوا اُخوة الحسين مجرّدين سيوفهم ، وكأني بهم يقدمهم أبو الفضل العباس شاهراً سيفه ، منتظراً أمر أخيه الحسين.
قال الراوي : ثم خرج الحسين من عند الوليد وقد احدقت به اُخوته ، وهو يقول :
لا ذعرت السوافي فلق الصبح |
|
مغيراً فلا دعيت يزيدا |
__________________
(١) الزرقاء : هي جدّة مروان وكانت مشهورة بالفجور ، وكانت لمروان مع الحسين عليهالسلام مواقف كثيرة ، وكان شديد العداوة للحسين عليهالسلام ، منها : أنّه صعد يوماً على المنبر بالمدينة وقال : يا بني هاشم إنّما فخركم بامرأة وهي فاطمة وكان الحسين عليهالسلام جالساً فقام إليه ولوى عمامته في عنقه حتى خرج الدم من انفه ، ثم أراد قتله فأقسم الناس عليه بجده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إن يتركه فتركه. انظر : تاريخ الطبري : ٤ / ٣٣٨ ، وتاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٢٩ ، وتاريخ الخميس : ٢ / ٢٩٧ ، وتاريخ ابن خلدون : ٣ / ١٩ ، والكامل في التاريخ لأبن الأثير : ٤ / ١٤.
يوم أعطي مخافة الموت ضيماً |
|
والمنايا يرصدنني أن أحيدا |
أقول : أجل أين كانت عنه هذه الفتية من بني هاشم لما افترق عليه أهل الكوفة أربعة فرق ، نعم كانوا بقربة مجزّرين كالأضاحي :
على الأرض صرعى من كهول وفتية |
|
فرادا على حرِّ الصفا وتوام (١) |
__________________
(١) وكأنّي بالحسين عليهالسلام لمّا نظر إلى أصحابه صرعى مجزّرين على أرض كربلاء :
(بحراني)
ظل يناديهم يفرساني تخلّوني وحيد |
|
شالسبب عفتوا مخيّمكم او نمتوا على الصعيد |
لا ولد ليه بقه يحمي حريمي او لا عضيد |
|
اوابن سعد بعدي يسير هالحراير نّيتة |
واشلون يا عباس تتركني او حريم امحيّره |
|
عايف الخيمة يبوفاضل ونايم بالثرى |
وهاي زينب عگب عينك بالحرم متمرمره |
|
او تدري باليفگد عضيده اتقل يخويه حيلته |
(موشح)
صاح يا زهير او يا مسلم يا هلال ويا حبيب |
|
صحبتي كلكم نسيتوها وتركتوني غريب |
ما تجون الها اليتامه ذوبوني امن النحيب |
|
ظلّت اجثثهم تموج وتضطرب من نخوته |
تصيح سامحته يبو سكنه ترى احنا مصرّعين |
|
شوفنا هذا كفوفه امگطّعه وهذا طعين |
صاح معذورين يالي على التراب امجزّرين |
|
واگبل على امخيمه عزمه يودّع نسوته |
(تخميس)
لهفي عليهم وبحد السيف قد صرعوا |
|
وبعدهم لأسى والحزن ارتضعُ |
بالله هل لهم في رجعةٍ طمعُ
نذرُ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا |
|
لأزرعنَّ طريق الطف ريحانا |
المطلب الثالث عشر
في موبقات معاوية
ذكر ابن عساكر في تأريخه ، قال :
«أربعة خصال كنّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنّ إلّا واحدة لكانت موبقة (١) : إنتزاءه على هذه الاُمة بالسفهاء حتى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوالفضيلة (٢) ، واستخلافه إبنه [يزيد] بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زياداً. ( وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ـ وقتله حجر ابن عدي؛ فيا ويلاً له من حجر ، ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر» (٣).
__________________
(١) قوله تعالى (وجعلنا بينهم موبقا) أي : مهلكاً ، ويوبقهنّ (أي) : يهلكهنّ ، ومنه : «اعوذ بك من موبقات الذنوب» ، اي : مهلكاتها ، من إضافة الصفة الى الموصوف ، أي : الذنوب المهلكة : الموبق : واد في جهنّم ؛ انظر سورة الكهف ١٨ : ٥٢ ، ومجمع البيان : ٦ / ٧٣٥ ، ومجمع البحرين.
(٢) قال المبرّد في الكامل : ويروى انّ يزيد ابن معاوية قال لمعاوية في يوم بويع له على عهده ، فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه : يا أمير المؤمنين انخدع الناس أم يخدعوننا؟ فقال له معاوية : كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ حاجتك فقد خدعته. انظر الكامل للمبرد : ٣٠٥.
(٣) تاريخ ابن عساكر. ونقله فضيلة الاستاذ المرحوم أحمد خيري عن ابن الأثير والطبري
قال أرباب التأريخ : أمّا سبب قتله حجر بن عدي ، فإنّه كان المغيرة بن شعبة والي الكوفة من قبل معاوية ، فكان يلعن علي بن ابي طالب عليهالسلام في خطبته ، فيقوم له حجر بن عدي الكندي ويقول له : إنّ الفقراء محتاجون ، فلو قسمت مال المسلمين عليهم لكان خير من هذا ـ وغرضه أن يهيّج عليه ، حتى يمتنع من سب أمير المؤمنين عليهالسلام ـ فقيل له : لو ضربت عنقه فقد أهاج الناس عليك ، فقال : إنّه رجل صحابي وتابعي ، وما أحب أن ألقى الله بدمه ، وسيأتي غيري ، فيفعل معه مثل ما يفعل بي ، فيتولي قتله.
حتى إذا ولى المصرين زياد ابن أبيه ـ وهما الكوفة والبصرة ـ صار يلعن أمير المؤمنين عليهالسلام أمام خطبته ، فيقوم له حجر ويقول له مثل ما كان يقوله للمغيرة : قسم المال على الفقراء فإنّهم محتاجون ، ودع لعن علي بن أبي طالب.
فأمر زياد (لعنه الله) بقبضه ، فقبض ومعه ثلاثون رجلاً وبعثه إلى معاوية ، فلمّا وصلوا «مرج عذراء» (١) حبسا هناك ، فاُخبر معاوية بوصولهم ، فأمر معاوية بقتل حجر وبعض من كان معه وعفى عن الباقين لتشفع اقوامهم بهم ، فلمّا قدموا
__________________
وايضاً عن ابن عبد ربه ، وذلك في ارجوزته اللطيفة : ١٩ / البيت (٣٥).
انظر : الكامل للتأريخ لابن الأثير : ٣ / ٢٠٩ ، وتاريخ الطبري : ٦ / ١٥٧ ، والإستيعاب (بهامش الإصابة) : ١ / ١٣٤.
وفي خزانة الأدب للبغدادي نقله ايضاً ، وأضافة بعدها ما نصه : (وروي عن الشافعي أنه أسرّ إلى الربيع أن لا يقبل شهادة أربعة ، وهم : معاوية وعمرو ابن العاص والمغيرة وزياد). انظر خزانة الأدب للبغدادي : ٢ / ٥١٩.
(١) مرج عذراء : قرية بغوطة دمشق فتحها حجر بن عدي الكندي ، وقتل بها (رضوان الله عليه) ، وقبره بها وفيها يقول الشاعر :
وكم من قتيل يوم عذراء لم يكن |
|
لصاحبه في أوّل الدهر قاليا |
انظر معجم البلدان للحموي : ٤ / ٩١.
للقتل ، قال حجر : أمهلوني حتى اُصلّي لربّي ركعتين ، فأمهلوه ، فقام حجر فتوضّأ وصلّى ركعتين ، أطال فيهما ليرى الناس أنه مسلم موحد ، فَبِم يستحلّ معاوية قتله؟ فلم ير في ذلك اليوم من يقول له : هذا مسلم وموحّد ، بم تستحلّ قتله؟ ولما قتله؟ فسمعت ابنة حجر بقتل أبيها فأنشأت تقول :
ترفع أيها القمر المنير |
|
لعلك أن ترى حجراً يسير |
يسير إلى معاوية بن حرب |
|
ليقتله كما زعم الأمير |
تجبرت الجبابر بعد حجر |
|
وطاب لها الخورنق والسدير |
وأصبحت البلاد به محولاً |
|
كأن لم يأتها يوم مطير |
ألا ياحجر حجر بن عدي |
|
تلقتك السلامة والسرور |
أخاف عليك ما أردى عدياً |
|
وشيخاً في دمشق له زئير |
فأن يهلك فكلّ عميد قوم |
|
إلى هلك من الدنيا يصير (١) |
وحدث زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق قال : أدركت الناس وهم يقولون : إنّ أوّل ذلٍّ دخل الكوفة هو لمّا مات الحسن بن علي عليهالسلام وقتل عدي بن حجر الكندي (٢).
إذ أنّ حجر كان ثقة ، معروفاً صحابياً وتابعاً ، شهد مع علي عليهالسلام صفين ،
__________________
(١) قيل هذه الأبيات لهند بنت زيد الأنصارية قالتها حينما ساروا بحجر إلى معاوية ، وذكر بعضهم أنّ هذه الأبيات لأخت حجر ، ورثاه أيضاً عبدالله بن خليفة الطائي بقوله :
أقول ولا والله أنسى فعالهم |
|
سجين الليالي أو أموت فاقبرا |
وكذلك رثاه قيس ابن فهدان بقوله :
يا حجر يا ذاالخير والأجر |
|
يا ذالفضائل نابه الذكر |
انظر : ترجمة «حجر بن عدي» من بغية الطالب لابن العديم : ١٥١ ، ١٥٩.
(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٧٩ ، وفي آخره : ودعوة زياد. (أي) : ادّعاه معاوية لزياد واستلحاقه بأبي سفيان.
والنهروان ، والجمل ، وكان من رجاله المشهورين ، ولمّا قتله معاوية ندم على ما فعل ، فدخل عليه رجل من الناس ، وقال له : أين صار عنك أبي سفيان؟ قال له : حين غاب عنّي مثلك (١).
وكان معاوية بعدها يقول ، ما قتلة أحداً إلّا وأنا أعرف فيم قتلته ، وما خلا حجراً فإنّي لا أعرف بأي ذنب قتله.
وروى اليعقوبي في تاريخه : قال معاوية للحسين بن علي عليهالسلام : يا أبا عبدالله علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك فحنطناهم ، وكفناهم ، وصلّينا عليهم ، ودفناهم ، فقال الحسين عليهالسلام : حججتك ورب الكعبة ، لكنّا والله إن قتلنا شيعتك ، ما كفناهم ، ولا حنطناهم ، ولا صلّينا عليهم ، ولا دفناهم (٣).
أقول : لا يخفي على العارف مغزى جواب الحسين عليهالسلام ، كأنّه يقول : إنّ أصحاب أبي إسلام ، وأصحابك ليسوا بإسلام.
وذكر اليعقوبي أيضاً : قالت عائشة لمعاوية حيث حج ، ودخل إليها : يا معاوية أقتلت حجراً وأصحابه؟ فأين عزب حلمك عنهم؟ أمّا إنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات (٤) قال : لم يحضرني رجل رشيد يا أم المؤمنين. ويروى أنّ معاوية كان يقول : ما أعدّ نفسي
__________________
(١) انظر ترجمة حجر بن عدي الكندي في كتاب الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة ، المعروف «بابن العديم» المتوفي (سنة ٦٦٠ هـ) والمطبوع مستلاً من كتابه : بغية الطلب في تاريخ حلب ، بتحقيق الدكتور سهيل زكّار.
(٢) وكان قتل حجر سنة احدى وخمسين ، وقيل سنة ثلاث وخمسين من الهجرة.
انظر : المنتظم لابن الجوزي : ٥ / ٢٤١ ، وتاريخ الطبري : ٥ / ٢٥٣ ، والكامل في التأرخ لابن الأثير : ٣ / ٢٠٩.
(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٩.
(٤) كنز الكمال للمتقي الهندي : ١١ / ٣٠٨٨٧ ، مثله.
حليماً بعد قتلي حجراً وأصحاب حجر (١).
وأما استلحاقه زياد بن أبيه وقد كان زياد يدّعي لجماعة ، وكان أخطب الناس وألسنهم فخاف معاوية عاقبة أمره لأنه كان يتشيع ويرى ولاية علي بن أبي طالب ، ولمّا قتل أمير المؤمنين عليهالسلام استمال الناس لولده الحسن عليهالسلام ، فخاف منه معاوية ، فاستلحق زياداً به لأنّ أباه أبا سفيان كان من جملة الذين وقعوا على اُمّه سمية ـ فكان ما كان من أمرها ـ فرغبه معاوية بالمال وألحقه به (٢) ، ونسى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٣).
وأمّا استخلافه يزيد (لعنه الله) من بعده وأخذ البيعة له ، فقد رواه المؤرخون كمحمّد بن عبدالله بن مسلم بن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة ، قال :
لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن بن علي عليهالسلام إلّا يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام ، وكتب بيعته إلى الآفاق وإلى عمّاله ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب له يأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ، ثم ليبايعوا يزيداً.
فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى ذلك ، وأبته قريش ، فكتب له ، إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك يزيد ، فأرني رأيك ، والسلام. فلمّا بلغ معاوية كتاب مروان عرف أنّ ذلك من قبله ، فعزله واستعمل سعيد ابن العاص (٤).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.
(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.
(٣) رواه الترمزي في سننه : ٥ : ٤٣٣ / ٢١٢٠ و ٤٣٤ / ٢١٢١ ـ الباب (٥) ـ كتاب الوصايا.
ورواه السيوطي في الجامع الصغير : ٢ : ٧٢٣ / ٩٦٨٨ ، وغيرهما باسانيد اُخرى ، وهو من الأحاديث المتواترة والمسلم على صحتها عند المسلمين عامة وخاصة.
(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ١٩٧.
قال أهل السير : وأمر معاوية ان يأتيه من كل مصر وفد إليه ، فلما إن وفدت عليه الوفود قال للضحاك بن قيس الفهري : لما تجتمع الوفود عندي ، أتكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو الى بيعة يزيد ، وتحثّني عليها ، فلمّا جلس معاوية للناس ، وتكلم فعظّم الإسلام وحرمة الخلافة وحقّها ، وما أمر الله بها ، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة ، وعرض بيعته عليهم ، فقام الضحاك وقال : يا أمير المؤمنين انه لابد للناس من وال بعدك ، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه ، وقصد سيرته ، وهو من افضلنا علماً ، وحلماً ، فولّه عهدك ، واجعله علماً لنا بعدك ؛ قال :
وقام عمرو بن سعيد الأشدق وتكلّم بنحو من ذلك ؛ وقام يزيد بن المقفع العذري ، فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإن هلك فهذا ـ وأشار الى يزيد (لعنه الله) ـ ومن أبي فهذا ـ وأشار الى سيفه ـ ، فقال معاوية : إجلس فأنت سيد الخطباء.
وقال معاوية للأحنف بن قيس (١) : ما تقول يا أبا بحر؟ فقال : نخافكم إن صدقنا ، ونخاف الله إن كذبنا ، وأنت يا أمير أعلم بيزيد في ليله ونهاره ، وسره وعلانيته (٢).
وروى أبو جعفر الطبري ، قال :
بايع الناس ليزيد بن معاوية (لعنه الله) ، غير الحسين بن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعبدالله الزبير ، وعبدالرحمن ابن أبي بكر (٣).
__________________
(١) هو أبو البحر : واسمه الضحاك ، قيل صخر بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن مناة بن تيم التميمي السعدي ، والأحنف إنّما كان لقبه لأنّ برجليه حنف ـ اي اعوجاج رجليه ـ وكان مع أمير المؤمنين عليهالسلام في صفين وتوفي سنة (٦٧) ، انظر تاريخ من دفن في العراق من الصحابة : ١٣.
(٢) الكامل في التاريخ لأبن الأثير : ٣ / ٥٠٧.
(٣) في المصدر زيادة : وابن عباس ، انظر تاريخ الطبري : ٥ / ٣٠٣.
أمّا ابن الزبير فإنّه هرب إلى مكة على طريق الفرع هو وأخوه جعفر ، وليس معهما ثالث ، وأرسل الوليد خلفه أحد وثمانين راكباً فلم يدركوه ، وخرج الحسين من المدينة الى مكة فسمع يزيد (لعنه الله) بذلك ، فغضب على الوليد لصنعه ، وعزله عن المدينة ، وولّاها عمر بن سعيد الاشدق ، فدخلها في شهر رمضان سنة ستين من الهجرة ، وأمّا الحسين فإنّه خرج من المدينة بفتيتة كما قال الشاعر :
في عصبة من هاشم علوية |
|
طهرت أرومتهم وطاب المولد |
ساروا ولو لا قضاء الله يمسكهم |
|
لم يتركوا لبني سفيان من أثر (١) |
__________________
(١)
(نصاري)
طلعوا آل هاشم عن وطنهم |
|
وظل خالي حرم جدّهم بعدهم |
ساروا ابليلهم وابعد ظعنهم |
|
ولن صوت العليلة ابگلب محتر |
دريضوا هنا يهلنه للعليلة |
|
يهلنه افراگكم مل ليش حيلة |
يهلنه بعدكم ما نام ليلة |
|
او عيني من بعدكم دوم تسهر |
يهلنه خلّوا خوية الطفل بالله |
|
يظل عندي وارحوا وداعة الله |
يهلنه من المرض گلبي تگلّة |
|
يهلنه خلّوا خوية الطفل وسدر |
بچن ويلي ونادنها دخلّيه |
|
اهلها وابحضن امّه درديّه |
طفل وفراگ اُمّه يصعب عليه |
|
ولا اُمّه على فرگاه تصر |
صاح يا حسين يا فاطم دردّي |
|
دردي للمدينة وطن جدي |
اودّي لچ على ابني او چبدي |
|
ولابد ما تجي يمچ امخبر |
(دكسن)
ردّت للمدينة وسار أبوها |
|
او ظلّت ترتقب عمها وابوها |
ظنّت فاطمة لنهم يجوها |
|
اخوها والبطل عمها المشكّر |
(تخميس)
مَن منشد عن صحب هُنا نزلوا |
|
مثل البدور بها الأنوار تشتعل |
من طيبةٍ طلعوا من كربلاء أفلوا
بالأمس كانوا معي واليوم رحلوا |
|
وخلّفوا في سويد القلب نيرانا |
المطلب الرابع عشر
في زيارة الحسين عليهالسلام قبر جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ووداعه
ذكر صاحب مدينة المعاجز وغيره :
لمّا همّ الحسين عليهالسلام على الخروج من المدينة إلى مكة أقبل في نصف الليل إلى قبر جده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف باكياً ، وقال : «السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلّفتني من اُمّتك ، فاشهد عليهم يا رسول الله أنّهم قد خذلوني ، وضيّعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك». ثم قام عليهالسلام وصف قدميه ، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً ، وراكعاً وساجداً.
وأرسل الوليد إلى منزله رسولاً لينظر أخرج الحسين عليهالسلام من المدينة أم لا ، فجاء الرسول فلم يصبه في منزله ، ورجع وأخبر الوليد بذلك فقال : الحمد لله الذي اخرجه ولم يبتلني بدمه.
قال الراوي : وعند الصباح رجع الحسين عليهالسلام الى منزله ، وفي الليلة الثانية خرج الى القبر ايضاً ، فصلى عنده ركعات ، ولمّا فرغ من صلاته جعل يقول : (اللّهمّ ان هذا قبر نبيك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا اسألك ياذاالجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه ، إلّا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك صلاح». ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصباح وضع رأسه على القبر فأغفى ،
فإذا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أقبل في ركباً من الملائكة ورعيل (١) من الأنبياء ، عن يمينه ، وعن شماله ، ومن خلفه ، وبين يديه ، حتى ضمّ الحسين إلى صدره ، وقبّل ما بين عينيه ، وقال : (حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مزملاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء ، في عصابة من أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشاناً لا تسقى ، وظمئاناً لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، حبيبي يا حسين إنّ أباك وعمّك وأخاك قدموا عليَّ ، وهم مشتاقون اليك ، وإنّ لك في الجنان درجات لن تنالها إلّا بالشهادة».
قال الراوي : فجعل الحسين عليهالسلام يبكي ، ويقول : يا جداه لا حاجة لي بالرجوع إلى الدنيا ، خذني إليك وأدخلني معك في قبرك :
ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح |
|
علي يا جد من بلوى زماني أستريح |
ضاق بي يا جد من فرط الاسى كل فسيح |
|
فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين |
جدُ صفو العيش من بعدك بالأكدار شيب |
|
وأشاب الهم رأسي قبل أبان المشيب |
فعلى من داخل القبر بكاء ونحيب |
|
ونداء بافتجاع يا حبيبي يا حسين |
أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلا |
|
إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلا |
لكن الماضي قليل بالذي قد أقبلا |
|
فاتخذ درعين من حزم وعزم سابغين |
ستذوق الموت ظلماً ظاميا في كربلاء |
|
وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا |
وكأن بلئيم الأصل شمر قد علا |
|
صدرك الطاهر بالسيف يحز الوجدين |
وكأني بالأيامي من بناتي تستغيث |
|
لغباً تستعطف القوم وقد عز المغيث (٢) |
قد برى اجسامهن الضرب والسير الحثيث |
|
بينها السجاد في الأصفاد مغلول اليدين (٣) |
__________________
(١) الرعيل : اسم كل قطعة متقدمة من خيل أو رجال أو طير ، جمعه : رعال. انظر : القاموس المحيط.
(٢) لغب : «وتلغّب السيرُ فلاناً» أتعبه أشد التعب. انظر : مجمع البحرين.
(٣) للدمستاني رحمه الله ، انظر : ديوان الدمستاني.