أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »
المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0067-X
الصفحات: ٦٤٨
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١].
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب : ٧٠ ـ ٧١].
أما بعد :
فإن علم العربية من أجل العلوم قدرا وأرفعها شأنا ؛ إذ به يتوصل إلى معرفة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فاللغة العربية وما تشتمل عليه من بيان لمعنى المفردات وإعراب الكلمات وغير ذلك ـ تعد من أهم الأركان التي يعتمد عليها المفسر لكتاب الله تعالى ؛ إذ القرآن عربي قال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٣] وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف : ٢].
ولقد تحدث القلقشندي في كتابه صبح الأعشى (١) عن فضل اللغة العربية فقال : «أما فضلها : فقد أخرج ابن أبى شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : «تعلّموا اللّحن والفرائض فإنّه من دينكم» قال يزيد بن هارون : «اللّحن هو اللّغة». ولا خفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بيانا ، وأذلقها لسانا ، وأمدها رواقا ، وأعذبها مذاقا ، ومن ثمّ اختارها الله تعالى لأشرف رسله ، وخاتم أنبيائه ، وخيرته من خلقه ، وصفوته من بريّته ، وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته ، وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
__________________
(١) ينظر صبح الأعشى ١ / ١٤٨.
قال في صناعة الكتّاب : وقد انقادت اللّغات كلّها للغة العرب ، فأقبلت الأمم إليها يتعلمونها».
ويعد كتاب «المقرب» لابن عصفور من أجل الكتب التى تكلمت عن اللغة العربية نحوا وصرفا ، وإليك بين يدى الكتاب مقدمة مشتملة على ما يلى :
أولا : مقدمة فى علم النحو والتصريف.
ثانيا : عصر ابن عصفور ، تكلمنا فيه عما يلى :
ـ الحياة السياسية.
ـ الحياة الاجتماعية.
ـ الحياة العلمية.
ثالثا : ترجمة ابن عصفور ، وتشتمل على :
ـ اسمه وكنيته ولقبه.
ـ مولده ونشأته.
ـ مكانته العلمية.
ـ أساتذته وشيوخه.
ـ تلاميذه.
ـ مؤلفاته.
ـ وفاته.
رابعا : كتاب «المقرب» تكلمنا فيه عما يلى :
ـ حول كتاب المقرب.
ـ منهج ابن عصفور فى المقرب.
ـ تأثير المقرب فى النحاة بعده.
ـ عناية العلماء بكتاب «المقرب» لابن عصفور.
ـ تأثير ابن عصفور فى النحاة بعده.
ـ ابن عصفور ومذهبه البصرى.
خامسا : وصف النسخ الخطية للكتاب ومنهج التحقيق.
سادسا : كتاب «مثل المقرب».
سابعا : وضع فهارس عامة للكتاب.
مقدمة فى علم النحو والتصريف
حد علم النحو (١) :
النحو كما فى شرح الأشمونى : العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب ، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التى ائتلف منها.
و «العلم» : بمعنى : القواعد ، إن جعلت الباء للتصوير متعلقة به ، أو الإدراك ، إن جعلت للتعدية كذلك ، أو الملكة إن جعلت الباء متعلقة بـ «المستخرج».
وقوله : «أحكام أجزائه» : الضمير راجع إلى الكلام ، من حيث هو ، بقطع النظر عن تقييده بالمضاف إليه.
وموضوعه : الكلمات العربية ، من حيث ما يعرض لها من الإعراب ، والبناء ، والإدغام ، والإعلال ، ونحو ذلك.
وهذا التعريف ، بناء على شموله لعلم الصرف.
تعريف آخر : وأما على كون علم الصرف مستقلا ، فحد النحو : علم يعرف به أحوال أواخر الكلمة إعرابا ، وبناء ، وما يتبع ذلك من التصورات ؛ كفتح «إن» وكسرها ، وتخفيفها ، وشروط عملها ، وشروط عمل بقية النواسخ ، وكالعائد من حيث حذفه ، وعدمه ، إلى غير ذلك.
ويصح أن يراد من «العلم» الواقع جنسا فى هذا التعريف أحد معانيه الثلاثة.
وموضوعه : الكلمات العربية ، من حيث ما يعرض لها من البناء الأصلى حالة الإفراد ، والبناء العارض والإعراب حالة التركيب ، وما يتبع ذلك.
فخرج بهذه الحيثية : علم المعانى ، والبيان ، والبديع ، والصرف ، فإنها لا تبحث عن الإعراب والبناء وما يتبعه ، وعلم اللغة ؛ فإنه يبحث عن جواهر المفردات وأحوالها ، من حيث معانيها الأصلية ، وعلم الاشتقاق ، فإنه يبحث عن أحوال المفردات ، من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية لا عما ذكر.
وإنما كان موضوعه ما ذكر ؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد عرفت أن
__________________
(١) ينظر المبادئ النصيرية لمشهور العلوم الأزهرية للشيخ الحويحى ص ٢٣.
«البحث» عن عوارض الموضوع صادق بالحمل على نوعه ؛ كقولك : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، أو على عرضه ؛ كقولك : الإعراب لفظى أو تقديرى.
وعلى هذا القياس ، فهذه مسائل تجعل كبرى لصغرى ، وموضوعها جزئى من جزئيات موضوعها.
وفائدته : الاحتراز عن الخطأ اللسانى فى الكلام العربى.
وغايته : الاستعانة على فهم كلام الله تعالى ، ورسوله ، وكلام العرب.
وفضله : أنه من أشرف العلوم ، لأنه يتوصل به إليها.
ونسبته إلى غيره : أنه من العلوم الأدبية.
وواضعه : الإمام على ـ رضى الله عنه ـ بأمره أبا الأسود الدؤلى.
واسمه : علم النحو.
واستمداده : من استقراء كلام العرب ، والقياس.
وحكمه : الوجوب العينى على قارئ القرآن والحديث ، والكفائى على غيره.
ومسائله : قضاياه التى تطلب نسب محمولاتها إلى موضوعاتها ، وهى لا تخرج عن البحث عن أحوال المعرب والمبنى من الإعراب والبناء ، وما يتبع ذلك من بيان التصورات ؛ كبيان فتح همزة «إن» وكسرها ، وبيان شروط عمل الناسخ ؛ لأن الكلمة إما اسم ، أو فعل ، أو حرف.
وكل من الأولين إما معرب ، أو مبنى ، فالمعرب من الاسم : ما سلم من مشابهة الحرف ، والمبنى : ما أشبهه ؛ ثم المعرب من الاسم : إن أشبه الفعل منع من الصرف وإلا صرف ، وكل منهما : إما مرفوع أو منصوب أو مخفوض ، فالمرفوع : الفاعل أو نائبه ، أو المبتدأ ، وخبره ، واسم «كان وأخواتها ، وخبر» إن وأخواتها ، والتابع للمرفوع.
والمنصوب : المفعول المطلق ، وبه ، ومعه ، وفيه ، وله ، والحال ، والتمييز ، والمستثنى ، واسم لا والمنادى ، إذا كانا مضافين أو شبيهين ، وخبر «كان وأخواتها ، واسم» إن وأخواتها ، وتابع المنصوب.
والمخفوض : إما مخفوض بالحرف ، أو بالإضافة ، أو بالتبعية.
والمبنى من الاسم : إما أن يلحقه البناء مطلقا ، أو فى حالة التركيب فقط.
فالأول : كأسماء الإشارات ، والمضمرات ، والموصولات ، وأسماء الاستفهام ، وأسماء الشروط ، وأسماء الأفعال ، وأسماء الأصوات ، والظروف اللازمة للإضافة إلى الجمل.
والثانى : كاسم «لا» المفرد ، والمنادى المفرد المعين ، ولو بالقصد.
والمعرب من الأفعال : المضارع إذا لم يتصل به إحدى النونين ، فيرفع إذا خلا عن عوامل النصب والجزم ، وينصب ويجزم عند دخولها.
والمبنى من الأفعال : الماضى ، والأمر ، والمضارع إذا اتصل به إحدى النونين.
والحروف كلها مبنية ، وهى إما مشتركة بين الأسماء والأفعال ، أو مختصة بأحدهما.
وحينئذ ، فذكر : التثنية ، والجمع ، واسمى الفاعل والمفعول ، والتصغير ، والنسب مثلا فى النحو ، وإن كانت من الصرف ؛ لأنه يحكم عليها النحوى بالإعراب أو البناء ، فلو لم يعرف صيغها وقواعدها ، فلربما وقع الحكم منه على صيغ مخالفة للقواعد الصرفية ـ فهى من النحو ، باعتبار البحث عن حالها من الإعراب والبناء ، ومن الصرف ، باعتبار البحث عن غير هذه الحال ؛ كما سيأتى.
حد علم التصريف (١)
التصريف : علم يبحث فيه عن المفردات ، من حيث صورها وهيآتها العارضة لها : من صحة ، وإعلال ، وتحويل.
قسماه : وهو قسمان :
الأول : تحويل الكلمة إلى أبنية مختلفة ؛ لاختلاف المعانى ؛ كتحويل المفرد إلى التثنية والجمع ، والمصدر إلى بناء الفعل واسمى الفاعل والمفعول ، والمكبر إلى المصغر ؛ وقد جرت عادتهم بذكر هذا القسم مع علم الإعراب ؛ كما فعل ابن مالك ، وهو فى الحقيقة من التصريف ، وقد تقدم وجهه فى مبادئ النحو.
__________________
(١) ينظر المبادئ النصيرية لمشهور العلوم الأزهرية للشيخ الحويحى ص ٢٤.
والثانى : تحويل الكلمة وتغييرها عن أصل وضعها ؛ لغرض آخر غير اختلاف المعانى ؛ كالتخلص من : التقاء الساكنين ، ومن الثقل ، ومن اجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون.
وهذا التحويل الثانى ينحصر فى ستة أشياء : الزيادة ، والإبدال ، والحذف ، والقلب ، والنقل ، والإدغام.
كزيادة تاء «احتذى فيقال : احتذى به ، وحذى حذوه ، أى : اقتدى به ، وتبعه.
وكإبدال ثانى الهمزين من كلمة إن يسكن ، كـ «آثر» و «ائتمن».
وكحذف واو «وعد» فى المضارع استثقالا ؛ لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ، فيقال : «يعد» بدون واو.
وكقلب الواو أو الياء ألفا ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها كـ «قال ، وباع» وكنقل حركة واو «يقول» إلى الساكن الصحيح قبله ، وياء يبين كذلك.
وكإدغام حرفين ساكن فمتحرك من مخرج واحد بلا فصل ؛ كـ «السيد والأجل».
و «العلم» المأخوذ جنسا فى التعريف يصح أن يراد منه أحد معانيه الثلاثة ، وهى : القواعد ، والإدراك ، والملكة.
موضوع علم التصريف
وموضوعه : الكلمات العربية ، من الجهة المتقدمة ، والحيثية المذكورة.
فخرج بهذه الحيثية العلوم الثلاثة : المعانى ، والبيان ، والبديع ، فإنها لا تبحث عن المفردات من هذه الحيثية والجهة المذكورة ، وعلم اللغة ؛ فإنه يبحث عن جواهر المفردات وأحوالها ، من حيث معانيها الأصلية ، وعلم الاشتقاق ، فإنه يبحث عن أحوال المفردات من حيث انتساب بعضها إلى بعض ، بالأصالة والفرعية ، وخرج علم النحو بقوله : «من صحة وإعلال ...» إلخ.
وإنما كان موضوعه ما ذكر ؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد علمت أن
«البحث» صادق بالحمل على نوع الموضوع ؛ كقولك : الاسم ، إما ثلاثى ، أو رباعى ، أو خماسى ، أو سداسى ، أو سباعى. وكقولك : كل واو وياء اجتمعتا وسكنت أولاهما ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فى الياء. وكقولك كل واو أو ياء تحركت وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا.
فإن الأولى فى قوة أن يقال : كل كلمة اجتمعت فيها الواو والياء ، وسكنت أولاهما ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فى الياء.
والثانية : فى قوة أن يقال : كل كلمة وجدت فيها الياء أو الواو متحركة مفتوحا ما قبلها ، قلبت ياؤها أو واوها ألفا.
فاندرج تحت موضوع القاعدة الأولى : واو نحو : «سيد» المدغمة فى الياء بعد قلبها ياء ، وتحت موضوع الثانية : واو وياء نحو : «قال ، وباع» المنقلبان ألفا.
أو بالحمل على الموضوع مع عرضه الذاتى ؛ كقولك : كل كلمة ثلاثية مكسورة العين ، يجوز تسكين عينها ، نحو : علم وكتف. في علم وكتف
أو بالحمل على نوع الموضوع مع عرض ذاتى ؛ كقولك : الفعل المجرد أربعة : فعل وفعل وفعل وفعلل ؛ كـ «ضرب ، وعلم ، وشرف ، ودحرج».
أو بالحمل على عرض ذاتى للموضوع ؛ كقولك : الزائد يوزن بلفظه ، فيقال فى وزن «اعلم» : افعل ، إذ الزيادة من عوارض الكلمة الذاتية.
وفائدته : التمكن فى الفصاحة.
وغايته : العمل بالصناعة.
وفضله : أنه من أشرف العلوم ؛ لأنه يؤدى إلى التمكن فى الفصاحة.
ونسبته إلى غيره : أنه من العلوم الأدبية.
وواضعه : معاذ بن مسلم.
واسمه : علم التصريف ؛ لكثرة التصرف فيه ؛ فإن التصريف لغة : التغيير ، ومنه تصريف الرياح ، أى : تغييرها.
واستمداده : من العقول الكاملة ، واستقراء كلام العرب.
وحكمه : الوجوب الكفائى ، أو الندب.
ومسائله : قضاياه التى تطلب نسب محمولاتها إلى موضوعاتها.
تنبيه : التصريف يجرى فى الحروف قياسا ؛ كقلب همزة الوصل ألفا أو تسهيلها ، نحو : آلرجل وألرجل عندك ، ولا ينافيه قول ابن مالك :
حرف وشبهه من الصّرف برى |
|
وما سواهما بتصريف حرى |
لأن المراد : أن الحرف لا يقبله مفردا ، أى : غير مركب مع غيره بخلاف الاسم والفعل.
* * *
عصر ابن عصفور
لا شك أن الإنسان نتاج عصره وملابساته وظروفه ، وللتعرف على علم من الأعلام لا بد من التعرف على العصر الذى عاش فيه بحثا عن الجوانب المؤثرة في حياته وفي إنتاجه العلمى ، فلا ريب أن الإنسان ابن بيئته وعصره ، ومن هنا سيتعرض البحث للجوانب المؤثرة فى شخصية ابن عصفور كمدخل لدراسة كتابه «المقرب» ، وأبرز هذه الجوانب :
الحياة السياسية.
الحياة الاجتماعية.
الحياة العلمية.
* * *
الحياة السياسية
عاش ابن عصفور في أواخر أيام الموحدين فى الأندلس ، وعاصر وقعة العقاب المشئومة على حد تعبير المقرى ، وجرت عام ٦٠٩ ه ـ ١٢١٢ م وكانت هزيمة الموحدين فيها ساحقة ، وأدت إلى طردهم من الأندلس بعد أن ضعفت قوتهم وعجزوا عن حمايته ، وتراجعوا أمام النصارى شمالا ، وتركت صدى أليما على امتداد العالم الإسلامي كله ، وكانت فى حقيقتها لقاء بين المسيحية والإسلام.
كان الجيش المسيحى فيها بقيادة ألفونسو الثامن ملك قشتالة ، ويضم جنودا من أرجون بقيادة ملكها ، وجاءت نبرة بملكها ، والبرتغال بفرق من فرسان المعبد إلى جانب جماعات من الصليبيين الفرنسيين والإيطاليين ، ومن وراء هؤلاء جميعا إنوسنيسيو الثالث يشجع ويخطط ، يهب الجنة ويمنح البركات ، وكان يقود المسلمين الملك الناصر بنفسه ، محمد بن المنصور ، أمير الموحدين ، وبلغ عددهم ستمائة ألف ، فداخله الإعجاب بكثرة من معه ، وأخطأ التدبير ، فدارت الدائرة عليه ، وخلا بسببها أكثر المغرب من السكان ، واستولى النصارى على أكثر الأندلس (١).
وبعد معركة العقاب تقاسم ملوك الكاثوليك جبهات الأندلس ، فكانت بمثابة الخطوة الأولى في طريق طويل انته بسقوط الأندلس وما تخلل ذلك السقوط من معاناة المسلمين من إيذاء النصارى وقسوة معاملتهم.
وإذا ما أردنا أن نحيط بالمخازى ، وأعمال العسف ، والإرهاق ، التى وقعت على المسلمين من غير المسلمين ـ لم يمكنّا ذلك. ولكن نورد صورة من تلك الصور الشديدة ؛ لتبين لنا منها ، إلى أى حد كانت معاملة غير المسلمين للمسلمين ، تلك الصورة التى وقعت بمسلمى الأندلس من المسيحيين ، الذين انتزعوا سلطان العرب ـ تمثل لنا أصدق تمثيل ، وتعبر لنا أقوى تعبير ، عن هذه المعاملة.
لقد حظر المسيحيون على المسلمين الإقامة فى مملكة غرناطة ، ومنعوهم من الاتصال
__________________
(١) ينظر دراسات أندلسية للدكتور الطاهر مكى ص ٢٧٦ (طبعة دار المعارف) الطبعة الثالثة ١٩٨٧ م.
بهم ، وهددوا كل من يخالف أوامرهم بالموت ، ومصادرة الأموال ، والرق الدائم مدى الحياة ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد ؛ بل لقد شردوا المسلمين ، وأخرجوهم من بلادهم قهرا ، وأرغموا من بقى على الدخول في النصرانية!.
ومن هذه المعاملات السيئة ، التى عومل بها المسلمون في الأندلس : أمر المسيحيين لهم بأن يضعوا على قبعاتهم شارة زرقاء ، وأن يسلموا كل أسلحتهم ، ولا يحرزوا منها شيئا ، ومن أحرز السلاح عوقب بالجلد!.
ومنها : أمرهم المسلمين أن يسجدوا في الشوارع ، متى مر كبير الأحبار ، وألا يقيموا شعائرهم ، وحكمهم عليهم بإغلاق مساجدهم!.
وبهذه الوسائل لم يبق فى الأندلس مسلم ، أو من يستطيع الجهر بإسلامه ، وتنصر العرب الباقون. وحكمت عليهم القوة القاهرة بأن يقوموا بالطقوس ، والأوضاع المفروضة عليهم فى المعابد والكنائس!.
ثم بعد ذلك ، أمعنوا فى الإيذاء بالمسلمين ، فمحوا كل الآثار التى تمت إلى الإسلام بصلة ، أو من شأنها أن تثير العقيدة الأولى عندهم ؛ فعلوا كل هذا طمعا في القضاء على المسلمين من تلك البلاد التى ازدهر في ربوعها الإسلام ، حينا من الدهر!.
وفى بعض الأحيان ، لم يطمئنوا إلى هؤلاء العرب ، فأخذوا يراقبونهم مراقبة شديدة ، ويضيقون عليهم السبل ، ويمنعونهم من كل مظهر ديني ، وأنشئ في غرناطة ديوان للتحقيق ومحاكمة من يتهم بالزيغ في عقيدته ، أو التذمر ومخالفة الأوامر ، أو يثبت عليه أنه أتى من الأعمال ما يبعث الشك فى أحواله!.
وقد كانت أساليب المحاكمة ، أمام هذا الديوان ، مزعجة قاسية ؛ حتى لقد ابتدع لإعدام المخالف المحارق التى كانت تقام فى ساحات المدينة ، وتدعى إلى مشاهدتها جموع الشعب ، ورجالات الدولة ، ورؤساء الدين ، حتى إذا اكتمل عقدهم جاءوا بالمخالف وألقوه في النيران المستعرة ، على مرأى ومسمع من الجميع!.
فإذا ما ثار المسلمون لتلك الإهانات ، وهاجت خواطرهم لتلك الأعمال الوحشية الفظيعة ، ساموهم العسف وأذاقوهم النكال وأوقعوا بهم العذاب من غير رحمة ، ولا شفقة! وطاردوهم في كل مكان ، ووثبت عليهم جماعات النصرانية المتحمسة ،
وأمعنت فيهم تقتيلا وتشريدا ، وتعذيبا ونهبا ، وانتزعوا منهم أولادهم وأطفالهم ، وألقوا بهم فى الكنائس والمدارس ، لتلقينهم أصول النصرانية ، وتنشئتهم على تعاليمها وواجباتها!!
كل هذا كان سببا فى هجرة الآلاف من المسلمين إلى أفريقية ، وهناك من اضطر إلى افتداء نفسه وأولاده ، فاعتنق النصرانية ورضى بالدخول فيها!!.
وكانت المراسيم والأوامر الملكية ، تصدر بكل ذلك ، ومن غير انقطاع ، بتبرير هذه الأعمال ، وتنظيم سياسة القضاء على المسلمين ، التى جعلتها الكنيسة كل همها.
يقول يوسف كوندي ـ أحد مؤرخى الإفرنج : ـ
«ففروا إزاء الإرهاب الذى يخضعهم لصولة مطارديهم ، وما منهم إلا مسكين منكود ، وكانت مناظر المحارق في غرناطة ، وقرطبة ، وإشبيلية ، وأنين الفرائس تلتهمها النيران تباعا ، ومناظر المطاردة ، والنفى ، والتعذيب المستمر ـ تملأ نفوسهم رعبا ، يحول دون إبدائها بالتذمر بالقول ولا بالإشارة ؛ إذ اعتبر ذلك دعوة إلى الثورة!.
ويقول المقّرى في «نفح الطيب» :
وبالجملة ، فإنهم «أهل غرناطة» تنصروا عن آخرهم بادية وامتنع قوم من التنصر ، واعتزلوا النصارى ، فلم ينفعهم ذلك.
وامتنعت قرى وأماكن كذلك ، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم ، قتلا وسبيا!.
ثم بعد هذا كله ، كان من أظهر التنصر من المسلمين يعبد الله في خفية ويصلى ، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى أنهم أحرقوا منهم كثيرا.
وجاء فى كتاب «أخبار العصر فى انقضاء دولة بني نصر» : «ثم دعاهم ملك قشتالة إلى التنصر ، وأكرههم عليه ، وذلك سنة ٩٠٤ م فدخلوا في دينهم كرها ، وصارت الأندلس كلها نصرانية ، ولم يبق فيها من يقول : «لا إله إلا الله محمد رسول الله» إلا من يقولها خفية في قلبه. وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان ، وفي مساجدها الصور والصلبان ، بعد ذكر الله ، وتلاوة القرآن فكم فيها من عين باكية ، وقلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمغدورين! لم يقدروا على الهجرة ، واللحوق
بإخوانهم المسلمين ، قلوبهم تشتعل نارا ودموعهم تسيل سيلا غزيرا ، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ، ويسجدون للأوثان ، ويأكلون الخنزير والميتات ، ويشربون الخمر التى هى أم الخبائث والمنكرات ، فلا يقدرون على منعهم ، ولا على نهيهم ، ولا على زجرهم ، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب ، وعذب أشد العذاب ، فيالها فجيعة ما أمرها ، ومصيبة ما أعظمها!.
وفي سنة ١٦٠٩ م صدر الأمر الأخير والنهائي بنفي العرب المتنصرين جميعا ، وإخراجهم من أرض إسبانيا ، بعد أن دخلوا جميعا ـ بحكم العنف والقوة ـ في النصرانية ، وأصبحوا يرتادون الكنائس والمعابد ، ويشهدون القداس ، والطقوس الدينية المختلفة.
فنزح من كان منهم في الشمال إلى فرنسا ، فأكرمهم ملكها هنرى الرابع ، وجاد عليهم بالمساكن والمزارع ، وعلى البعض الآخر بوسائل السفر ، وحشدت السفن فى البحر الأبيض تنقل من كان بالثغور إلى أفريقية.
وبهذا أسدل الستار على تلك المأساة المروعة ، وانتهت حياة أمة من أعظم أمم التاريخ ، وأنبههم ذكرا ، وأعرقهم حضارة!!.
هذه هى إحدى الصفحات السوداء ، التى سجلها التاريخ على المسيحيين في معاملتهم للمسلمين ، وهى صفحة قد لطخت بعار الدهر ، وخزى الأبد ، لا نرى فيها إلا فواجع تدمى القلوب ، وأهوالا تفتت الأكباد ، ولا تصور إلا أقواما خرجوا عن إنسانيتهم ، وتجردوا عن صفاتها ، وانقلبوا إلى مخلوقات بشعة وضيعة ، قد أضرموا غيظا على الإسلام والمسلمين ، وحملتهم شهوة الانتقام على ارتكاب أبشع صور التنكيل والتعذيب.
فهل يمكن للباحث المنصف ، أن يقارن بين ما ارتكبه هؤلاء من الفظائع والمخازى ، وبين ما ضربه المسلمون من المثل العليا ، ووضعوه من الأسس الرفيعة فى العدالة والوفاء والنبل؟!!.
لا شك أنه من العبث محاولة تلك المقارنة!.
قد نجد من يحاول أن يعتذر ، عن هذه الأعمال التى حدثت بالأندلس ، بأن
النصارى بها لم يكونوا قد بلغوا ـ إذ ذاك ـ من الحضارة والمدنية ما يجعلهم يترفعون عن مثل هذه المخازى.
ولكن ما ذا يقول هذا المعتذر فيما ترتكبه الدول المسيحية ، في البلاد الإسلامية التى وقعت تحت سلطانها ونفوذها في عصرنا الحاضر ، عصر الحضارة والمدنية ، عصر النور والعلم بماذا يدافع المدافعون عن أعمال فرنسا في الجزائر ، وهولندا في جاوة ، وأندونيسيا ، وإيطاليا في طرابلس ، والنمسا فى البوسنة والهرسك ، وغير هذا. وذاك مما يطول بنا القول ، إذا نحن حاولنا تفصيل وبيان ما ينطوى عليه ، مما يندى له وجه المدنية خجلا!.
إذن ، ليس الأمر أمر المدنية والحضارة ؛ وإنما هو أمر التعصب الممقوت ، الذى تضطرم به نفوس رجال الدين المسيحيين ، الذين لا يألون جهدا في التشنيع على المسلمين ، وتصويرهم لأممهم بصور بينها وبين الحقيقة بون شاسع.
وهل كانت الحروب الصليبية ، التى قامت في المشرق زهاء قرنين من الزمان ، إلا ثورة دينية ، أزكى لهيبها التعصب الممقوت ، وأثار كوامنها رجال الكنيسة ، وزعماء الدين من المسيحيين؟!!.
أليس بطرس الزاهد ، هو الذى طاف أوربا باكيا منتحبا ، وهو حافى القدمين ، يرتدى ثيابا خشنة ، ويحمل صليبا كبيرا ، يخطب العامة والدهماء ، ويلهب حماستهم ، ويثير روح الانتقام فيهم ويبعث فيهم عوامل الدفاع عن الأماكن المقدسة؟!.
أليس زوار الأماكن المقدسة ، من الأحبار والرهبان ، هم الذين كانوا يعودون إلى بلادهم ، فيروون أشنع القصص ، وأفظع الروايات عن أعمال المسلمين فيها ، وانتهاكهم لحرماتها المقدسة ، ويصورون الخطر الداهم الذى يهددهم من المشرق ، ويوشك أن يأتى على المسيحيين ويجتاحهم ، ويقضى على النصرانية ، وقد استطاعوا بذلك أن يجعلوا من أوربا المسيحية أتونا ملتهبا ، يتلظى غيظا وحنقا على الإسلام والمسلمين؟!.
وها هم اليوم جماعة الصهيونية ، يعيدون المأساة ، ويشعلون نار الحرب على المسلمين ، طامعين فى إقامة دولة يهودية ، على أنقاض المسلمين في فلسطين.
وها هم يدبرون المكايد للمسلمين ، وما ذاك إلا صورة واضحة لما يضمره اليهود للمسلمين فأين تلك الصور وهذه المعاملة ، من معاملة المسلمين لغير المسلمين ، وقت أن
فتحوا بلادهم ، ودخلوها ظافرين منتصرين ، وسيطروا عليهم بحكمهم ، وأخضعوهم لسيادة الإسلام وسلطانه؟!
تلك المعاملة التى كانت تفيض عدلا وإنصافا ، وتسامحا ووفاء ، قد أكرم المسلمون مجاوريهم من أهل الذمة ، والعهد ، واعتبروهم إخوانا في السراء والضراء ، ونادوا بالمساواة العامة بين أبناء البشر كافة ، ودعوا الناس جميعا إلى نبذ الفوارق والخلاف ، وتواصوا بالرفق بالمخالفين ، والإحسان إليهم ؛ وقالوا لهم : «نحن وإن فرقت بيننا العقيدة ، ولم تجمعنا رابطة الدين فقد ربطتنا آصرة النسب ، وجمعتنا جامعة الإنسانية».
لم ينس المسلمون تعاليهم دينهم ؛ وآداب شريعتهم ، حينما كانوا يكتسحون البلاد التى فتحوها ؛ فلم يبطش قوادهم بمن ظفروا بهم ، ولم يستبد أمراؤهم بمن خضعوا تحت سلطانهم ، ولم يصدر الخليفة الأعظم أوامره بالتنكيل والتعذيب والتخريب ؛ وإنما كانوا يمثلون ملائكة الرحمة ، ورسل السّلام ؛ يمشون فى أمورهم بالحزم واللين ، والرفق والصفاء ، ومن خرج عن ذلك عوقب عقابا شديدا.
فها هو عمر بن الخطاب ، الخليفة الثاني للمسلمين ، يكتب إلى أميره في مصر ، عمرو بن العاص ، كتابا يوصيه فيه بأهل الذمة خيرا ، فيقول فيه :
«واعلم ، يا عمرو ، أن الله يراك ويرى عملك ، وأن معك من أهل ذمة وعهد ، وقد أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم وأوصى بالقبط ، فقال : «استوصوا بالقبط خيرا ، فإنّ لهم ذمة ورحما» (١) ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة» (٢).
__________________
(١) قوله صلّى الله عليه وسلّم «استوصوا بالقبط» أخرجه الطبرانى فى الكبير ١٩ / ٦١ رقم ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ والحاكم ٢ / ٥٥٣ من طرق عن الزهرى عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا.
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وذكره الهيثمى فى المجمع ١٠ / ٦٦ وقال رواه الطبرانى باسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح وذكره الهندى فى كنز العمال ٣٤٠١٩ ، ٣٤٠٢٠ وزاد نسبته إلى البغوى وابن سعد وعزاه السخاوى أيضا فى المقاصد ص ٣٨٨ إلى ابن يونس فى تاريخ مصر وذكره الهندى برقم ٣٤٠٢١ عن الزهرى مرسلا وعزاه لابن سعد وذكره برقم ٣٤٠٢٣ وعزاه للطبرانى عن أم سلمة».
(٢) أخرجه أبو داود ٣ / ١٧٠ ، ١٧١ كتاب الخراج والإمارة والفىء باب فى تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا فى التجارات حديث ٣٠٥٢ وفيه مجاهيل وينظر الترغيب ٤٤٢٣.
وقد تتابع الخلفاء المسلمون فى التوصية بهم ، والعناية بأمرهم ، والحرص على إنصافهم ، ومنع الظلم والأذى عنهم ، وهى صفحات خالدة تسجّل بيد العزة والكرامة ، في معاملة المسلمين لمخالفيهم ، وتتضمن أقوى الأمثلة على غاية ما تسموا إليه الإنسانية من عدل ورحمة»
وقد عبر الشعراء الأندلسيون عن مرارة السقوط الرهيب لدولة المسلمين والعرب فى الأندلس ، في أشعارهم ، نختار من ذلك تلك القصيدة ، لأبى البقاء الرندى :
* * *
نكبة الأندلس
لأبى البقاء الرندي
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان |
|
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان |
هى الأمور كما شاهدتها دول |
|
من سرّه زمن ساءته أزمان |
وهذه الدّار لا تبقى على أحد |
|
ولا يدوم على حال لها شان |
يمزق الدّهر حتما كلّ سابغة |
|
إذا نبت مشرفيات وخرصان |
وينتضى كلّ سيف للفناء ولو |
|
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان |
أين الملوك ذوو التيجان من يمن |
|
وأين منهم أكاليل وتيجان |
وأين ما شاده شدّاد في إرم |
|
وأين ما ساسه فى الفرس ساسان |
وأين ما حازه قارون من ذهب |
|
وأين عاد وشدّاد وقحطان |
أتى على الكلّ أمر لا مردّ له |
|
حتّى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا |
وصار ما كان من ملك ومن ملك |
|
كما حكى عن خيال الطّيف وسنان |
كأنّما الصّعب لم يسهل له سبب |
|
يوما ولا ملك الدّنيا سليمان |
فجائع الدهر أنواع منوّعة |
|
وللزمان مسرّات وأحزان |
وللحوادث سلوان يسهّلها |
|
وما لما حلّ بالإسلام سلوان |
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له |
|
هوى له أحد وانهدّ ثهلان |
أصابها العين في الإسلام فارتزأت |
|
حتى خلت منه أقطار وبلدان |
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية |
|
وأين شاطبة؟ أم أين جيّان؟ |
وأين قرطبة؟ دار العلوم فكم |
|
من عالم قد سما فيها له شان |
وأين حمص وما تحويه من نزه؟! |
|
ونهرها العذب فياض وملآن |
قواعد كنّ أركان البلاد فما |
|
عسى البقاء إذا لم تبق أركان |
تبكى الحنيفية البيضاء من أسف |
|
كما بكى لفراق الإلف هيمان |
على ديار من الإسلام خالية |
|
قد أقفرت ولها بالكفر عمران |
حيث المساجد قد أضحت كنائس ما |
|
فيهنّ إلّا نواقيس وصلبان |
حتى المحاريب تبكى وهي جامدة |
|
حتّى المنابر ترثى وهى عيدان |
يا غافلا وله في الدّهر موعظة |
|
إن كنت في سنة فالدهر يقظان |
وماشيا مرحا يلهيه موطنه |
|
أبعد حمص تغرّ المرء أوطان |
تلك المصيبة أنست ما تقدّمها |
|
وما لها مع طول الدّهر نسيان |
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة |
|
كأنها فى مجال السّبق عقبان |
وحاملين سيوف الهند مرهفة |
|
كأنّها فى ظلام النقع نيران |
وراتعين وراء البحر فى دعة |
|
لهم بأوطانهم عزّ وسلطان |
أعندكم نبأ من أهل أندلس |
|
فقد سرى بحديث القوم ركبان |
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم |
|
قتلى وأسرى فما يهتزّ إنسان |
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم |
|
وأنتم يا عباد الله إخوان |
ألا نفوس أبيّات لها نعم |
|
أما علي الخير أنصار وأعوان |
يا من لذلّة قوم بعد عزّهم |
|
أحال حالهم جور وطغيان |
بالأمس كانوا ملوكا فى منازلهم |
|
واليوم هم فى بلاد الضدّ عبدان |
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم |
|
عليهم من ثياب الذّلّ ألوان |
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم |
|
لهالك الأمر واستهوتك أحزان |
يا ربّ أمّ وطفل حيل بينهما |
|
كما تفرق أرواح وأبدان |
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت |
|
كأنما هي ياقوت ومرجان |
يقودها العلج للمكروه مكرهة |
|
والعين باكية والقلب حيران |
لمثل هذا يذوب القلب من كمد |
|
إن كان في القلب إسلام وإيمان |
* * *