المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

واحد (١) ولقائل يقول : السؤال عليه من وجوه :

الأول : إن لفظ العقل والعاقل والمعقول إما أن تكون ألفاظا مترادفة أو متباينة. فإن كان الأول لم يكن في ذكرها فائدة معنوية ، وإن كان الثاني فهي إما أن تكون مفهومات سلبية أو ثبوتية. والأول باطل لأنا دللنا على أن معنى الشعور والإدراك ليس مفهوما سلبيا ، فبقي الثاني ، ولا شك أنها ليست مفهومات متباينة (٢) بل هي صفات لهذه الذات (٣) ، وحينئذ يبطل قوله : إن هذه الألفاظ الثلاثة لا تفيد كثرة في المعنى.

الوجه الثاني : وهو أنا قد دللنا على أن معنى الشعور والإدراك معنى نسبي إضافي ، فيمتنع كونه عين تلك الذات المخصوصة.

الوجه الثالث : إن العقل يتفرع على حصول التعقل ، وكونه معقولا لنفسه ، يتفرع على كونه عاقلا لنفسه ، فهذه المفهومات الثلاثة يتفرع بعضها على البعض ، فيمتنع كونها مفهوما واحدا. والله أعلم.

المسألة الثالثة : في تقرير دلالة المتكلمين في كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.

قالوا : إنه تعالى يصح أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات التي لا نهاية لها ، والموجب لكونه تعالى عالما (٤) هو ذاته المخصوصة ، ومتى كانت الصحة حاصلة في الكل ، وكان الموجب هو ذاته المخصوصة وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات.

وهذه مقدمات ثلاثة لا بد من تقريرها.

__________________

(١) من (س).

(٢) المترادف مثل الحنطة والبر والقمح لحقيقة واحدة والمتباين : ما يفيد المغايرة ليبين أن حقيقة شيء ، غير حقيقة شيء آخر.

(٣) الذوات (س).

(٤) عالما (س).

١٤١

المقدمة الأولى : قوله إنه تعالى يصح أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات. فالدليل عليه : أنه ثبت أنه تعالى عالم قادر ، وكل من كان عالما قادرا ، فإنه يجب أن يكون حيا ، وكل من كان حيا ، فإنه لا يمتنع عليه أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات ، والعلم به بديهي ، ينتج أنه تعالى لا يمتنع كونه عالما بكل واحد من المعلومات.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : المقتضى لتلك العالمية ليس إلا ذاته المخصوصة ، والدليل عليه : هو أنا قد بينا : أن كون الشيء عالما بالشيء نسبة مخصوصة بين العالم وبين المعلوم (والنسب لا يمكن أن تكون أمورا قائمة بأنفسها ، والعلم به ضروري. فلا بد وأن تكون صفات لغيرها) (١) فالعالمية صفة مفتقرة إلى الغير [والمفتقر إلى الغير (٢)] ، ممكن لذاته والممكن لذاته ، لا بد له من سبب. فعالمية الله تعالى لا بد لها من سبب. وذلك السبب إما أن تكون تلك الذات المخصوصة سواء كان بواسطة أو بغير واسطة ، وإما أن تكون غير تلك الذات ، والقسم الثاني باطل. وإلا لزم أن يفتقر في حصول صفة العالمية له تعالى إلى سبب منفصل ، وهو محال ، فبقي الأول فيثبت أن المقتضى لكونه تعالى عالما ، ليس إلا ذاته المخصوصة.

وأما المقدمة الثالثة : إنه لما ثبت أنه تعالى يصح أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات ، وثبت أن المقتضى لحصول تلك العالمية هو ذاته المخصوصة وجب الحكم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات. والدليل عليه : أن جميع العالميات صحيحة ، على تلك الذات. والذات موجبة ببعضها ، ونسبة تلك الذات إليها بأسرها على السوية ، فلم يكن كونها مقتضية لبعض تلك العالميات ، أولى من كونها مقتضية للبواقي. وقد ثبت أن تلك الذات مقتضية لحصول (٣) بعض تلك العالميات ، فوجب أن تكون مقتضية لحصول كلها ، لأن الرجحان حال حصول الاستواء غير معقول ، فيثبت أنه يجب كونه تعالى عالما

__________________

(١) من (م).

(٢) بعض (م ، س).

(٣) زيادة.

١٤٢

بجميع المعلومات التي لا نهاية لها. وهذا تمام تقرير هذا الدليل.

ولقائل أن يقول : السؤال عليه من وجوه :

الأول : لا نسلّم أنه يصح كونه تعالى عالما ، بكل واحد من المعلومات قوله : «إنه قادر عالم ، وكل قادر عالم فإنه حي ، وكل حي ، فإنه يصح أن يعلم كل واحد واحد من المعلومات» قلنا : هذا مغالطة. لأن معنى الحي : أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر. فقوله : كل قادر عالم فإنه حيّ ـ معناه : أن كل قادر عالم ، فإنه لا يمتنع أن يكون موصوفا بتلك القدرة ، وبذلك العلم. فلم قلتم : إن كل من لا يمتنع أن يكون موصوفا بالقدرة المخصوصة وبالعلم المخصوص ، فإنه لا يمتنع أن يكون موصوفا بسائر العلوم؟ فإن كان قولنا : إن كل من علم شيئا أمكنه أن يعلم سائر المعلومات. مقدمة بديهية ، فاتركوا هذا الدليل ، واكتفوا بدعوى البديهة. وإن كانت مقدمة نظرية ، فلا بد في تقريرها من الدليل. وما ذكرتموه وإن كان يوهم أنه دليل إلا أن البحث الذي ذكرناه ظهر أنه إعادة تلك المقدمة بعبارة أخرى.

والسؤال الثاني : هب (١) سلمنا أن تلك الذات المخصوصة لا يمتنع عليها كونها عالمة بسائر المعلومات. فلم قلتم : إن يجب كونها عالمة بسائر المعلومات؟ قوله : تلك الذات المخصوصة هي الموجبة لتلك العالمية (ونسبة تلك الذات الموجبة لتلك العالمية) (٢) إلى سائر العلوم (على التسوية) (٣) قلنا : هذا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : تلك الذات المخصوصة توجب لذاتها بعض العالميات دون بعض؟ وقوله : «ليس كونها موجبة لبعض تلك العالميات أولى من كونها موجبة لسائرها (٤)» كلام ضعيف. لأنا نقول : ندعي (٥) أنه ليس بعضها أولى من البعض في نفس الأمر ، أو تدعي عدم هذه الأولوية في عقولنا وأذهاننا؟

__________________

(١) هب (س).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) موجبة بسائرها (س).

(٥) الداعي (م).

١٤٣

والأول ممنوع. وذلك لأن العلم بهذا المعلوم يخالف العلم بذلك المعلوم الثاني ، ولا يلزم من كون الذات موجبة لشيء كونها (موجبة) (١) لما يخالف ذلك الشيء. لأن الحقائق المختلفة لا يحب استواؤها في الأحكام والآثار.

والثاني : وهو عدم الأولوية في أذهاننا وأفكارنا ، مسلم. إلا أن هذا (٢) لا يفيد. إلا أن العقل يتوقف في هذا الحكم ، ولا يجزم فيه (بشيء البتة : فأما أن يجزم فيه) (٣) لعدم التفاوت فهو باطل. ألا ترى أن المتكلمين يقولون : إن العلم صفة متعلقة بالمعلوم؟ ثم زعموا : أن العلم بكل معلوم ماهية مخالفة لماهية العلم المتعلق بالمعلوم الآخر. فذلك العلم الخصوص ماهية مخصوصة تقتضي لماهيتها المخصوصة التعلق بذلك المعلوم المعين دون سائر (٤) ما سواه. وإذا عقل هذا في العلم فلم لا يجوز أيضا أن يقال : تلك الذات المخصوصة يوجب لذاتها التعلق ببعض المعلومات دون البعض؟ فهذا جملة الكلام في هذا الباب. والله أعلم.

والأولى في هذا الباب. أن نقول : لا شك أنه تعالى أكمل الموجودات والجهل بأي معلوم كان ، صفة نقص : وصريح العقل يقضي بوجوب تنزيه الله عن النقص. فوجب الحكم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات. وأيضا : فهذا القول أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.

واعلم : أن هذا المخالف له مقامان : إحداهما : أنه تنازع في أصل العالمية. والثاني : الذين ينازعون في كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.

أما المقام الأول فقد ذكروا فيه وجوها من الشبهات.

الشبهة الأولى : قالوا : لو كان عالما بشيء لكان كونه عالما ، إما أن

__________________

(١) من (س).

(٢) لو قال : إن العقل لفهمت العبارة بسهولة.

(٣) من (م).

(٤) دون ما سواه (م).

١٤٤

يكون عين ذاته ، وإما أن يكون غير ذاته ، والقسمان باطلان (١) فبطل الملزوم ، أما الحصر فظاهر.

وأما أنه يمتنع أن يكون علمه بالمعلومات عين (٢) ذاته فلوجوه :

الأول : إنا نعلم بالضرورة أن قولنا : واجب الوجود فإنه لا يفيد شيئا. وقولنا : واجب الوجود عالم يفيد معنى منظوما ، ولو لا التغاير لما حصل الفرق.

الثاني : إن نقيض قولنا : إنه واجب الوجود لذاته (٣) هو أنه ليس واجب الوجود. ونقيض قولنا : إنه عالم هو أنه ليس بعالم. ومعلوم بالضرورة ، أن قولنا : إنه عالم لا يناقضه قولنا إنه ليس واجب الوجود. وقولنا : إنه واجب الوجود لا يناقضه قولنا : إنه ليس بعالم ، ولو لا أن المفهوم من قولنا : إنه عالم ليس نفس المفهوم من قولنا : إنه واجب الوجود لذاته. لما صحت هذه الأحكام.

والثالث : إنا إذا قلنا : واجب الوجود عالم. فهذه قضية مفهومة ، قابلة للتصديق والتكذيب في الشك والشبهة. وكل قضية يكون محمولها غير موضوعها ، فإنها لا تكون كذلك.

والرابع : وهو أنه يمكننا تعقل كونه واجب الوجود لذاته مع الشك في كونه (عالما ، ويمكننا تعقل كونه عالما مع الشك في كونه) (٤) واجب الوجود لذاته. وذلك يوجب التغاير فإن المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم.

والخامس : أنا بينا أن العلم عبارة عن التعلق المخصوص وعن النسبة المخصوصة ، وذاته تعالى ذات قائمة بنفسها ، ومن المعلوم بالضرورة أن الذات

__________________

(١) علمه عين ذاته ليس باطلا. فإن الناس رأوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عالما. ولم يقولوا إن جسده شيء ، وعلمه شيء.

(٢) في (س) غير.

(٣) لذاته (س).

(٤) من (م).

١٤٥

القائمة بنفسها مغايرة للنسبة المخصوصة ، فيثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع أن يكون علمه عين ذاته (١).

وأما بيان أنه يمتنع أن يكون علمه غير ذاته. فالدليل عليه : أن ذلك العلم إما أن يكون موجودا قائما بنفسه ، وإما أن يكون صفة قائمة بذاته ، والأول باطل ، لأن كونه عالما (بالمعلوم صفة له ، وصفة الشيء يمتنع كونه قائما بذاته ، فيثبت أن كونه عالما) (٢) بالأشياء صفة مفتقرة إلى ذاته ، والصفة المفتقرة إلى الذات تكون ممكنة بنفسها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر ليس إلا تلك الذات.

إلا أن هذا باطل من وجوه :

الأول : إن ذاته مؤثرة في وجود العالم ، فلو كانت مؤثرة في حصول ذلك العلم ، لكان قد صدر عن الواحد أكثر من الواحد ، وهو محال.

والثاني : إن الموصوف بذلك العلم ، هو تلك الذات ، فلو كان المؤثر فيه أيضا نفس تلك الذات لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا (٣) ، وهو محال.

والثالث : إن افتقار الأثر إلى المؤثر ، يمتنع أن يحصل حال (بقاء الأثر ، وإلا لزم تكوين الكائن ، وتحصيل الحاصل ، وهو محال. فوجب أن يكون افتقاره إليه حال) (٤) العدم أو حال الحدوث. وعلى التقديرين ، فكل ما يكون مفتقرا إلى المؤثر ، فإنه محدث. فوجب فيما لا يكون محدثا أن لا يكون مفتقرا إلى المؤثر ، وعالمية الله قديمة ، فامتنع افتقارها إلى المؤثر.

الشبهة الثانية : أن يقال : العلم إما أن يكون صفة كمال ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول فيلزم أن يقال : إن ذاته ناقصة بذاتها ، مستكملة بتلك

__________________

(١) غير (س).

(٢) من (م).

(٣) معا (س).

(٤) من (م).

١٤٦

الصفة المغايرة ، والناقص يمتنع كونه إلها ، وإن كان الثاني وجب تنزيه الله تعالى عنه ، لأن ما لا يكون صفة كمال ، امتنع الحكم بكونه تعالى موصوفا به.

الشبهة الثالثة : إنا قد ذكرنا أن العلم نسبة مخصوصة (وإضافة مخصوصة) (١) وحصول النسبة والإضافة مشروط بحصول المضافين ، مثلا : أبو زيد لعمرو ، لا يمكن حصولها إلا بعد حصول ذات زيد وعمرو ، ولما كانت المعرفة والعلم نسبة مخصوصة وجب أن يكون حصولها موقوفا على حصول المضامين. إذا ثبت هذا فنقول : ذات الباري تعالى لا تكون كافية في حصول الصفة المسماة بالعلم ، لأنا بينا : أن العلم نسبة ، وحصول النسبة لا يستقل به شيء واحد البتة ، فإذا ذات الباري يمتنع خلوه عن العلم ـ والعلم موقوف على المضاف الثاني ـ لزم (أن تكون ذات الله تعالى موقوف التحقق على اعتبار غيره ، والموقوف على الغير ممكن لذاته فيلزم) (٢) أن يكون واجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وهو محال.

الشبهة الرابعة : قالوا : العلم عند الفلاسفة عبارة عن صورة مطابقة للمعلوم وعند المتكلمين عبارة عن نسبة مخصوصة تحصل بين العلم وبين المعلوم. وعلى كل التقديرات ، فإنه يجب أن يكون العلم (بكل) (٣) معلوم مغاير للعلم بالمعلوم ، الآخر.

أما على قول الفلاسفة فلأن كل شيء فإنه مخالف للشيء الآخر ، إما بحسب (أصل) (٤) ماهيته وإما بحسب تعينه ، فالصورة المطابقة لأحدهما لا بد ، وأن تكون مخالفة للصورة المطابقة للأخرى.

وأما على قول المتكلمين : فلأن الانتساب إلى هذا يصح تعقله حال الذهول عن الانتساب إلى غيره ، والمعلوم مغاير لغير المعلوم ، فيثبت أن (على

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

١٤٧

القول المنقول عن الفلاسفة) (١) وعلى القول المنقول عن المتكلمين يجب أن يكون العلم بكل معلوم مغايرا للعلم بالمعلوم الآخر.

إذا ثبت هذا فنقول : لو كان الباري تعالى عالما بمعلومات لا نهاية لها ، لزم أن يحصل في ذاته صفات لا نهاية لها ، (وأحوال لا نهاية لها) (٢) وذلك محال لوجهين :

الأول : إن كل كثرة حاصلة (بها. فإنها تقبل الزيادة والنقصان. وكل ما يقبل الزيادة والنقصان ، فإنه متناهي ينتج : أن كل كثرة حاصلة (٣) فإنها تكون متناهية. ويلزم : أن ما لا يكون متناهيا ، فإنه ممتنع الحصول.

والثاني : إن إله العالم إذا كان مركبا من الكثرة ، لزم كونه ممكن الوجود لذاته ، وذلك لأن كل مركب من الأجزاء (فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وجزء الشيء غيره ، فكل مركب فهو) (٤) مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته (فيلزم أن يكون إله العالم ممكن الوجود لذاته ، وما كان ممكن الوجود لذاته) (٥) وجب افتقاره إلى مؤثر آخر فيلزم افتقار الإله إلى إله آخر ، وهو محال.

ولا يقال : هذه الكثرة واقعة في العلوم (٦) ، والعلوم صفات ، فالكثرة واقعة في الصفات (فلم لا يجوز أن يقال : إن ذاته منزهة عن الكثرة وهي موجبة لهذه الصفات) (٧)؟ لأننا نقول : الإله إما أن يكون عبارة عن مجموع الذات مع الصفات ، أو هو عبارة عن الذات فقط ، والصفات خارجة عن مسمى الإله. فإن كان الأول فحينئذ يلزم أن يكون مسمى الإله ممكنا محتاجا.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (م).

(٥) من (م).

(٦) المعلوم (س).

(٧) من (م).

١٤٨

وإن كان الثاني فحينئذ إله العالم ليس إلا تلك الذات المجردة عن الصفات ، فهذه الصفات تكون زائدة على الإله مغايرة لها فوجب نفيها.

والجواب عن الشبهة الأولى : إنها بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وعلى أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا. وعلى أن علة الحاجة إلى المؤثر ، إما الحدوث وإما الإمكان ، بشرط الحدوث. وهذه الأصول الثلاثة قد سبق القدح فيها على الاستقصاء ، فلا فائدة في الإعادة.

والجواب عن الشبهة الثانية : أن نقول : ذاته المخصوصة من حيث هي هي كاملة لعينها ولذاتها ، ومن لوازم ذلك الكمال إيجابها لصفة العلم (١) وعلى هذا التقدير فالشبهة زائلة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : إنه إن لزم نفي العلم لكون العلم نسبة موقوفة على حصول المضاف الثاني ، لزم كونه مؤثرا في وجود العالم ، لأن المؤثر أيضا من باب النسب والإضافات.

والجواب عن الشبهة الرابعة : إن أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة : الوحدة ، ثم إنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهلم جرا ، إلى ما لا نهاية له من النسب. فيثبت : أن كثرة الإضافات والنسب لا يقدح في حصول الوحدة الذاتية. فهذا تمام الكلام في هذا الباب والله أعلم.

__________________

(١) العلم (س).

١٤٩
١٥٠

الفصل السادس

في

البحث عن كونه تعالى عالما بالجزئيات

من الناس من يحكي عن الفلاسفة أنهم يقولون : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات. وهذه الحكاية فيها نظر. وذلك لأن ذاته المخصوصة ذات معينة ، وهو عالم بتلك الذات المعينة. ولا معنى للجزئي إلا ذلك ، فيكون عالما بالجزئي وأيضا : إنه لذاته علة العقل الأول ، والظاهر من مذهبهم أنهم يعترفون بكونه تعالى عالما به من حيث أنه هو ، بل الصحيح أن يقال : إنهم ينكرون كونه تعالى عالما بالمتغيرات من حيث إنها متغيرة وينكرون كونه تعالى عالما بالجسمانيات بحسب مقاديرها المعينة المخصوصة.

واحتجوا على إثبات مذهبهم بوجوه :

الحجة (١) الأولى : قالوا : لو فرضنا كونه عالما بأن زيدا جالس في هذا المكان ، فإذا قام زيد من ذلك المكان (٢) فعلمه بكونه جالسا ، إن بقي كان ذلك جهلا ، والجهل على الله تعالى محال. وإن لم يبق كان ذلك تغيرا ، والتغير على الله محال. فهذا هو الحرف الذي عليه تعويل القوم.

واعلم أن المتكلمين صاروا فريقين عند هذه الشبهة. فمنهم من يقول :

__________________

(١) الشبهة [الأصل]

(٢) المكان (س).

١٥١

العلم الأول باقي. ومنهم من التزم التغير. وقال : العلم الأول غير باقي أما الفريق الأول. فقالوا : إن العلم بأن الشيء سيحدث هو نفس العلم بحدوثه إذا حدث ؛ فالعلم باقي والتغير واقع في المعلوم.

واحتجوا على صحة قولهم بوجوه :

الأول : إنه تعالى يعلم بالعلم الواحد (١) جميع المعلومات. فلما لم يلزم من تكثر تلك المعلومات تكثر العلم. وجب أن لا يلزم أيضا من تغير المعلومات تغير العلم.

والثاني : إن العلم صفة ينكشف بها المعلومات كما هي. ونذكر لهذا المعنى مثالا. فنقول : إنا إذا فرضنا مرآة منصوبة على الجدار ، فكل من مرّ بتلك المرآة انكشفت صورته فيها. فعند مرور الناس على تلك المرآة لا يزال ينكشف فيها صورة بعد صورة (٢) إلا أن المرآة لم تتغير عن حالها. بل التغير إنما وقع في الناس الذين يمرون عليها (٣) إذا عرفت هذا فنقول : العلم صفة متهيئة لإدراك ما يعرض عليها ، فتلك الصفة باقية بحالها ، والتغير واقع في المعلومات (٤).

الوجه الثالث : قالوا : إذا فرضنا أن إنسانا اعتقد أن زيدا يدخل الدار غدا ، وفرضنا ذلك الاعتقاد إلى أن دخل زيد البلد ، فإن تعين ذلك الاعتقاد (٥) ، يصير معتقدا لكون زيد داخلا في البلد في هذه الساعة. فيثبت بما ذكرنا أن العلم بأن الشيء سيوجد نفس (٦) العلم بوجوده إذا وجد.

والرابع : هو أن العلم صفة حقيقة قائمة بذات العالم وتعلقه بالمعلوم

__________________

(١) لو قال يعلم بعلمه لكان أفضل. فإن الواحد يفيد أنه يعلم بعلم ثان وثالث.

(٢) غير صورة (س).

(٣) هل معنى ذلك أن الله لا يتأثر بمرور المعلومات كما لا تتأثر المرآة؟ التشبيه في غير موضعه.

(٤) المعلومات (س).

(٥) لو قال فإن فرض ذلك الاعتقاد لكان أفضل.

(٦) نفس (س) تعين (م).

١٥٢

نسبة بين العلم وبين المعلوم. فإذا تغير المعلوم فقد تغيرت نسبة ذلك العلم إلى المعلوم ، ولم يتغير ذات العلم. ألا ترى أن الرجل إذا كان جالسا في مكان نفسه فجاء إنسان وجلس على أحد جانبيه ، كان هذا الجالس يمينا له ، فإذا قام ذلك الإنسان ، وانتقل من ذلك الجانب إلى الجانب الآخر صار الإنسان الأول يسارا له ، بعد أن كان يمينا له ، فههنا وقع التغير والتبدل في هذه الإضافة ، مع أن صريح الحس والعقل يدل على أنه لم يقع فيه التغير البتة (١) ، بل هو باقي كما كان.

فهذا جملة الوجوه التي يتمسك بها من يقول العلم الأول باقي كما كان.

وأما القائلون بأنه يجب أن يتغير العلم عند تغير المعلوم. فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه :

الحجة الأولى : إنا إذا فرضنا أن إنسانا اعتقد أن زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم قدرنا أن ذلك الإنسان جلس في بيت مظلم لا يميز فيه بين الليل والنهار ، وبقى على ذلك الاعتقاد إلى أن دخل النهار ، ودخل زيد البلد ، إلا أن ذلك الجالس لم يعلم أنه جاء النهار. فإن ذلك الإنسان بمجرد اعتقاده في أن زيدا يدخل البلد غدا ، لا يصير عالما بأنه دخل الآن في البلد ، ولو كان العلم بأن الشيء سيوجد (٢) نفس العلم بوجوده إذا وجد. لوجب أن يحصل هذا العلم في هذه الصورة ، وحيث لم يحصل ، علمنا أن العلم بأن الشيء سيوجد ليس نفس العلم بوجوده إذا وجد. نعم إذا حصل عنده علم (٣) بأن زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم حصل عنده علم ثان بأنه (٤) جاء الغد فإنه يتولد من ذينك العلمين علم ثالث ، بأنه دخل زيد البلد في هذه الساعة. فهذا علم جديد تولد عن العلمين الأولين ، لا أنه ينقض العلم الأول.

__________________

(١) المثال لا ينطبق على المعنى.

(٢) ليس نفسه (م).

(٣) علم (ت).

(٤) ثان (ت).

١٥٣

الحجة الثانية : في بيان العلم بأن الشيء سيوجد ليس نفس العلم بوجوده إذا وجد : هو أنا نقول : من البين في بديهة العقل أن حقائق الأشياء لا تنقلب ، فالسواد لا ينقلب بياضا ، والعلم لا ينقلب ضده (١). إذا عرفت هذا. فنقول : العلم بأن الشيء سيوجد ماهية مخالفة لماهية بأن الشيء موجود في الحال. والدليل عليه هو أنه ، يمتنع قيام كل واحد منهما مقام (٢) الآخر. وذلك لأن قبل وجود الشيء لو اعتقد فيه كونه موجود ، وأنه سيوجد ، لكان ذلك جهلا (عند وجوده. ولو اعتقد فيه أنه غير موجود ، وأنه سيوجد ، لكان ذلك جهلا) (٣) فيثبت أن ماهية كل واحد من هذين العلمين مخالفة لماهية العلم الآخر. وإذا ثبت هذا فنقول : قد بينا أن الماهيات والحقائق يمتنع عليها الانقلاب والتغير ، فوجب أن يمتنع أن يصير أحد العلمين نفس العلم الثاني ، فيثبت أن العلم بأن الشيء سيوجد ، يمتنع أن يكون نفس العلم بوجوده إذا وجد.

الحجة الثالثة : أن نقول : من البين في بديهة العقل : (أن الشيء الذي يكون مشروطا بشرط ، فإنه يكون مغايرا للشيء الذي لا يكون مشروطا بذلك الشرط. بل نقول) (٤) : إن الشيء الذي هو موجود في الحال ، مغاير للشيء الذي هو غير موجود في الحال ، بل سيوجد بعد ذلك. وإذا عرفت هذا فنقول : العلم بأن الشيء سيوجد غير مشروط بكون ذلك الشيء موجودا في الحال ، بل يكون ذلك منافيا له ، وأما العلم بأنه موجود في الحال ، فإنه مشروط بكون ذلك الشيء موجودا في الحال ، فوجب الجزم بكون أحد العلمين مغاير للآخر. بل نقول : إن العلم بأن الشيء سيوجد حاصل في الحال ، ولا يبقى عند وجوده. والعلم بأنه غير موجود غير حاصل (٥) في الحال ، وسيوجد عند وجوده ، فهذان العلمان كالمتنافيين المتضادين ، فالقول بأن أحدهما عين

__________________

(١) قدرة (س).

(٢) هذا ليس له محل ، وذاك ليس له محل.

(٣) من (م).

(٤) من (س).

(٥) غير حاضر (س).

١٥٤

الآخر ، يجري مجرى أن يقال : إن أحد الضدين نفس الآخر ، وذلك محال لا يقبله العقل.

الحجة الرابعة : إن العلم صورة مطابقة للمعلوم ، تم من المعلوم بالضرورة : أن ماهية قولنا : سيحدث مخالفة لماهية قولنا : إنه الآن حادث وحاصل ، ولما كانت الماهيتان مختلفين كانت الصورتان المطابقتان لهما ، وجب أن يكونا مختلفين ، لأن المطابق للمختلف يجب أن يكون مختلفا ، وإذا كانت إحدى الصورتين مخالفة للأخرى ، امتنع القول بأن إحداهما عين الأخرى. فهذه وجوه جلية قريبة من أن تكون بديهية في بيان أنه يمتنع أن يكون العلم بأن الشيء سيوجد ، نفس العلم بوجوده ، إذا وجد.

جئنا (١) إلى الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في تقرير قولهم.

فأما الجواب عن الوجه الأول : وهو أنه لما لم يتكثر العلم بتكثر المعلومات (وجب أن لا يتغير بتغيرها ، فهو من وجهين الأول : إنا لا نسلم أن العلم لا يتكثر بتكثر المعلومات) (٢) والدليل عليه : أن العلم إما أن يكون صورة (٣) مطابقة للمعلوم ، وإما أن تكون نسبة مخصوصة بين العالم وبين المعلوم. فإن كان الأول وجب تكثر المعلوم عند تكثر المعلومات ، لأن الأشياء المطابقة للماهيات المختلفة ، يجب كونها مختلفة. وإن كان الثاني فكذلك أيضا.

لما بينا أن النسبة إلى الشيء مغايرة للنسبة إلى غيره. بدليل : أنه يصح تعقل إحدى النسبتين حال الذهول عن الأخرى. والثاني : هب أنا سلمنا أن العلم لا يجب أن يتكثر عند تكثر المعلومات. فلم قلتم : إنه يلزم أن لا يتغير عند تغير المعلومات؟ فإن ذلك قياس من غير جامع. والدليل القاهر الذي ذكرناه يدل على أنه يجب أن يتغير عند تغير المعلومات.

وأما (الجواب عن) (٤) الشبهة الثانية : وهي قولهم : إن العلم صفة

__________________

(١) جرا (م) جئنا (س).

(٢) من (م).

(٣) صورة سقط (م).

(٤) زيادة.

١٥٥

مخصوصة تنكشف بها حقائق المعلومات فنقول : قد ذكرنا في كتاب «العلم» : (أن العلم) (١) : لا معنى له إلا هذا الانكشاف ، وإلا هذا التبيين المخصوص ، فأما إثبات صفة وراء هذه النسبة المخصوصة ، وسوى هذه الإضافة المخصوصة ، فقد ذكرنا في كتاب «العلم» : أن الدليل لم يدل على ثبوته البتة. (وإذا ثبت هذا) (٢) فنقول : إنه لما دل الدليل على أن هذه النسبة المخصوصة قد تغيرت. كان ذلك حكما بأن العلم قد تغير. ثم نقول : سلمنا : أن العلم أمر (٣) مغاير لهذه النسبة المخصوصة ، إلا أنا نقول : إن ذلك الشيء المخصوص. هل يوجب النسبة المخصوصة إلى المعلوم المخصوص أو لا يوجبه؟ (فإن كان يوجبه) (٤) فهو ليس بعلم. لأن العلم عبارة عن هذا الانكشاف ، وهذا التجلي. ولا شك أن الانكشاف والتجلي حالة نسبية بين العلم وبين المعلوم. فإذا فرضنا صفة ليست هي نفس هذا التجلي ولا موجبة لهذا التجلي ، امتنع كونه علما. وأما إن قلنا : إن تلك الصفة المخصوصة موجبة لهذه النسبة المخصوصة ، ولهذه الإضافة المخصوصة ، فعند زوال هذه النسبة المخصوصة قد زالت لازمة ذلك العلم. وزوال اللازم يدل على زوال الملزوم. فههنا يجب القطع أيضا بزوال ذلك العلم.

(وأما الجواب عن الشبهة الثالثة) (٥) : وهي قولهم : إنا إذا فرضنا بقاء اعتقاد : أن زيدا سيدخل البلد غدا إلى وقت حصول الدخول فإنه بتعين ذلك العلم يصير عالما بأنه حصل ذلك الدخول. فنقول : الجواب عنه أن نقول : أكثر المتكلمين يقولون : البقاء على المعلوم ممتنع ، بل إنه عرض (٦) يحدث حالا فحالا. وإذا كان هذا البقاء ممتنعا ، فكيف عرفوا : أنه لو حصل هذا الممتنع فإن الأمر يكون كذا وكذا؟ ومن الذي أخبرهم بأن الأمر كما يقولون؟ ثم

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) أمر (م).

(٤) من (م).

(٥) من (ت).

(٦) القول بالعرض ، أحسن ما يقال في تغير العلم.

١٥٦

نقول : إنا قد بينا أنه لو بقي هذا الاعتقاد إلا أنه لم يعلم أن النهار قد حضر ، فإنه لا يصير(١) بسبب ذلك الاعتقاد عالما بأنه قد دخل البلد في هذه الساعة ، فيثبت أن الصورة التي ذكروها من أدل الدلائل على صحة قولنا.

(وأما الجواب عن الشبهة الرابعة) (٢) : وهي قولهم : العلم صفة لها نسبة مخصوصة والمتغير هو النسبة ، لا تلك الصفة : فالكلام الذي تقدم ذكره يكشف عما فيه من المباحث. والله أعلم.

الفريق الثاني من المتكلمين الذين التزموا وقوع التغير في العلم : وقالوا : إنه إذا زال المعلوم يزول العلم به ، ويحدث علم آخر. قالوا : وتقرير هذا الكلام هو : أن تلك الذات المخصوصة موجبة للعلم بالمعلوم بشرط حصول ذلك المعلوم ، فإذا حصل ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فقد حصل شرط الاقتضاء ، فوجب لتلك الذات المخصوصة حصول العلم بذلك الشيء ، فإذا زال ذلك المعلوم فقد زال شرط ذلك الاقتضاء وحصل شرط علم آخر ، فلا جرم يزول العلم الأول ويحدث علم آخر. وهذا هو قول أبي الحسين البصري من علماء المعتزلة ، وهو قول جهم بن صفوان وهشام بن الحكم ، من القدماء.

وأما المتكلمون المتأخرون : فقد استدلوا على فساد هذا القول بوجوه :

الحجة الأولى : قالوا : هذا العلم لما حدث بعد أن لم يكن فلا بد (له من محدث وفاعل ومحدث ذلك العلم وفاعله لا بد) (٣) وأن يكون عالما به. لما بينا أن صدور الفعل المحكم عن الفاعل مشروط بكون ذلك الفاعل عالما. فيكون إحداث هذا العلم مشروطا بحصول علم آخر قبله. والكلام في ذلك العلم السابق ، كالكلام في هذا العلم وذلك يوجب التسلسل وهو محال. ولقائل أن يقول : هذه الحجة ضعيفة لأنكم رتبتم هذا الكلام على أن هذا

__________________

(١) يصير في (س).

(٢) من (ت).

(٣) من (م).

١٥٧

العلم إنما يحدث لأن الفاعل المختار يوجد هذا العلم بالقدرة والاختيار. ونحن لا نقول به ، بل نقول : ذاته المخصوصة موجبة للعلم بالشيء ، بشرط كون ذلك المعلوم واقعا على ذلك الوجه. فإذا وقع الشيء على الوجه الخاص كان شرط الاقتضاء حاصلا ، فتوجب الذات المخصوصة ذلك العلم المخصوص ، فإذا زال ذلك المعلوم فقد زال شرط الاقتضاء ، فيزول ذلك العلم. وعلى هذا التقدير فتلك الحجة باطلة ساقطة.

الحجة الثانية : قالوا : لو حدث ذلك العلم. فإما أن يحدث في ذات الله تعالى ، وإما أن يحدث في ذات أخرى. وإما أن يحدث لا في محل. والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بحدوث العلم باطلا. وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحدث في ذات الله تعالى لأنه يلزم أن تكون ذات الله تعالى محلا للحوادث وأنه باطل. وإنما قلنا : إن القسمين الباقيين باطلان ، لأن كون الذات عالمة بكذا وكذا صفة لتلك الذات ، وحصول صفة الذات لا في تلك الذات : قول محال.

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن نقول : إن تلك العلوم حدثت في ذات الله تعالى؟ قوله : «يلزم أن تكون ذاته محلا للحوادث». قلنا : إن أردتم بكونه محلا للحوادث حدوث هذه العلوم في ذاته ، فهذا إلزام للشيء على نفسه وأنه باطل.

الحجة الثالثة : أن يقال : كل صفة يشير العقل إليها ، فإما أن تكون ذات الله كافية في استلزامها ، أو تكون كافية في دفعها ، أو لا تكون كافية لا في استلزامها ولا في دفعها. فإن كان الأول وجب دوام تلك الصفة بدوام تلك الذات. وذلك يمنع من التغير ، وإن كان الثاني وجب دوام سلب تلك الصفة بدوام تلك الذات. وذلك أيضا يمنع من التغير. وإن كان الثالث (١) وهو أن لا تكون تلك الذات كافية في ثبوت تلك الصفة ولا في سلبها ، فحينئذ يلزم أن يكون ثبوت تلك الصفة وسلبها موقوف على شيء مغاير لتلك الذات. ومن

__________________

(١) هذا الغرض الثالث لا يصح في ذات الله.

١٥٨

المعلوم أن تلك الذات لا تنفك عن ثبوت تلك الصفة وسلبها ، وإذا ثبت أن ثبوتها وسلبها موقوف على الغير ، (والموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على الغير يلزم أن تكون تلك الصفة المخصوصة موقوفة على الغير) (١) وكل ما كان موقوفا على الغير ، كان ممكنا لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته. وذلك خلف باطل. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الوجه. وهو جيد.

الحجة الرابعة : أن نقول إذا علم الله في الأزل أن العالم معدوم في الحال. فإذا أوجده وعلم أنه موجود في الحال. فهل زال العلم (الأول) (٢). أو ما زال؟ والثاني باطل. وإلا لكان قد حصل العلم بأنه معدوم في الحال ، وبأنه موجود في الحال ، وذلك يوجب الجهل ، ويوجب الجمع بين الاعتقادين المتنافيين. وأنه محال. وأما القسم الأول ، وهو أنه زال العلم الأول. فنقول : ذلك العلم إما أن يقال : إنه كان قديما أو محدثا. والأول باطل. لأن المتكلمين اتفقوا على أن ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه ، والدلائل الكثيرة أيضا ناطقة بذلك. والثاني : وهو أن ذلك العلم حادث. فنقول : هل كان ذلك العلم مسبوقا بعلم آخر أو ما كان مسبوقا به؟ فإن كان مسبوقا بعلم آخر كان الكلام في ذلك العلم السابق كالكلام في هذا العلم فيفضي إلى أن يكون كل علم حادث : مسبوقا بعلم آخر حادث. وذلك يوجب القول بحوادث لا أول لها ، وهو عند المتكلمين باطل. وإن قلنا : إن تلك العلوم تنتهي إلى علم حادث لا يكون مسبوقا بعلم آخر ، كان هذا قولا بتجهيل الله تعالى ، وذلك محال.

أجاب جهم بن صفوان ، وهشام بن الحكم عن هذا الكلام. فقالا : العلم الذي كان حاصلا في الأزل هو العلم بالماهيات والحقائق والتصورات ، ثم لما أحدث الأشياء في ما لا يزال ، فقد حدثت التصديقات ، وهي الحكم بأن كذا قد وجد ، وبأن كذا قد عدم ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل.

واعلم أنا قد ذكرنا في أول هذه الحجة أنهم قالوا : لو كان تعالى عالما بأن

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

١٥٩

زيدا جالس في هذا المكان ، فعند قيام زيد من ذلك المكان ؛ إن بقي ذلك العلم كان جهلا ، وإن لم يبق كان تغيرا. ثم ذكرنا مذاهب الناس في كل واحد من هذين القسمين.

وهاهنا آخر الكلام في هذا الوجه. والله أعلم (١).

الحجة الثانية للفلاسفة في هذا الباب : قالوا : لو قدرنا مربعا (٢) مجنحا بمربعين متساويين على هذه الصورة :

وفرضنا كونه تعالى عالما به ، فلا شك أن كل واحد من هذين المربعين الواقعين على هذين الطرفين (يتميز عن الآخر ، وذلك معلوم. إذا ثبت هذا. فنقول :) امتياز كل واحد منهما عن الآخر مشروط بكونهما موجودين فإن حصول الامتياز والتغاير في الشكل والمقدار والصورة مع كونهما معدومين محضين (٣) وسلبين صرفين محال ، فوجب القطع بأن هذا الامتياز لا يحصل إلا إذا كانا موجودين فنقول : هذا الوجود ، إما أن يكون هو الوجود الخارجي أو الوجود الذهني ، والأول باطل. لأنه يمكننا أن نتخيل مثل هذه الصورة تخيلا صحيحا ، حال كونها معدومة في الأعيان. وأيضا (٤) : فالعلم محدث ، فهذه الصورة بأسرها محدثة. ومحدثها هو الله تعالى ، وما لم يكن عالما بها فإنه يمتنع منه إحداثها ، فيثبت أن العلم بأمثال هذه الصور والأشكال ، سابق على وجودها ، فيثبت أن هذا الامتياز حاصل في الوجود الذهني.

__________________

(١) والله أعلم (م).

(٢) هذين المربعين مذكورين أيضا في غير هذا الجزء.

(٣) محضين (م).

(٤) فهذه الصورة بأسرها محدثة (م).

١٦٠