السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-190-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٩
الكيد الإعلامي يفرض تزوير الحقائق :
إننا نذكر في هذا الفصل طرفا مما ذكره أنصار الخلفاء الذين غصبوا فدكا من صاحبها الشرعي ، بهدف تأييد خلافتهم ، وإضعاف أصحاب الحق الشرعيين ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسنسعى إلى إطلاق الإشارات التي توضح حقيقة الكيد الإعلامي الذي مارسوه بعيدا عن معنى التقوى ، والأمانة ، والإلتزام بأحكام الشرع ، وبالمبادئ الإنسانية ، والقيم الأخلاقية ..
فنقول وعلى الله نتوكل ، وبه نعتصم ، ومنه نستمد التوفيق ، والسداد والرشاد :
فدك خالصة لرسول الله صلىاللهعليهوآله :
قد عرفنا فيما تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أرسل عليا «عليهالسلام» إلى فدك ، بعد أن عرض الراية على الآخرين ، ولم يجد من بينهم من هو أهل لها ..
ولا شك في أن أخبار ما جرى في خيبر ، وقتل علي «عليهالسلام» فرسانها الأشداء ، ومنهم مرحب ، وقلع باب حصنها الأعظم ـ لا شك في أن هذه الأخبار ـ قد سبقت عليا «عليهالسلام» إلى أهل فدك ، فماتوا خوفا ورعبا ، وبادروا إلى عقد الصلح مع أمير المؤمنين «عليهالسلام» ..
ولكننا نجدهم يروون القضية في سياق يستبعد عليا «عليهالسلام» نهائيا ، وكأنه لم يكن له وجود في خيبر ، ويستعيضون عنه بمحيصة بن مسعود.
ونحن لا نريد إنكار أن يكون لمحيصة بعض الدور في ترتيب أمر كتابة كتاب استسلامهم .. ولكنه دور هامشي بلا شك.
إلا أن المغرضين ، وهواة التزوير يجعلونه هو الأساس والمحور لكل ما جرى في فدك ، فقد قالوا :
لما أقبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى خيبر فدنا منها ، بعث محيصة بن مسعود الحارثي إلى فدك ـ وهي قرية بخيبر ـ يدعوهم إلى الإسلام ، ويخوفهم أن يغزوهم ، كما غزا أهل خيبر ، ويحل بساحتهم.
قال محيصة : فجئتهم ، فأقمت عندهم يومين ، فجعلوا يتربصون ويقولون : بالنطاة عامر ، وياسر ، والحارث ، وسيد اليهود مرحب ، ما نرى محمدا يقرب حراهم ، إن بها عشرة آلاف مقاتل.
قال محيصة : فمكثت عندهم يومين ، فلما رأيت خبثهم أردت أن أرجع ، فقالوا : نحن نرسل معك رجالا منا ، يأخذون لنا الصلح ، كل ذلك ويظنون أن يهود تمتنع.
فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم ، وأهل النجدة منهم ، ففت ذلك في أعضادهم.
فقدم رجل من رؤسائهم يقال له : نون بن يوشع في نفر من يهود ، فصالحوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على أن يحقن دماءهم ، ويجليهم ، ويخلوا بينه وبين الأموال ، ففعل رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ويقال : عرضوا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يخرجوا من
بلادهم ، ولا يكون للنبي «صلىاللهعليهوآله» عليهم من الأموال شيء ، فإذا كان أوان جذاذها جاؤوا فجذوها ، فأبى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يقبل ذلك.
وقال لهم محيصة : ما لكم منعة ولا حصون ولا رجال ، ولو بعث إليكم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مائة رجل لساقوكم إليه ، فوقع الصلح بينهم بأن لهم نصف الأرضين بتربتها ، ولرسول الله «صلىاللهعليهوآله» نصفها ، فقبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ذلك.
يقول محمد بن عمر : وهذا أثبت القولين.
وأقرهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على ذلك ، ولم يأتهم.
فلما كان عمر بن الخطاب ، وأجلى يهود خيبر ، بعث إليهم من يقوّم أرضهم ، فبعث أبا الهيثم مالك بن التيهان ، وفروة بن عمرو بن جبار بن صخر ، وزيد بن ثابت ، فقوموها لهم ـ النخل والأرض ـ فأخذها عمر ، ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها ، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد ، وكان ذلك المال جاء من العراق ، وأجلاهم إلى الشام (١).
وحسب تعبير الدياربكري : «اشترى منهم حصتهم النصف بمال بيت المال» (٢).
فكانت فدك خالصة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لأنهم لم يجلبوا
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٨ و ١٣٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٠ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٠٧.
(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٨.
عليها بخيل ولا ركاب (١).
وقال ابن إسحاق : فكانت خيبر فيئا بين المسلمين ، وفدك خالصة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب (٢).
ونقول :
كل فدك لرسول الله صلىاللهعليهوآله :
يظهر من هذا النص : أن فدكا كلها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» على الرواية الأولى ، وله نصفها بناء على الرواية الثانية (٣).
والرواية الثانية : مخالفة لما أجمعت عليه الأمة ، فلا يلتفت إليها ..
والصحيح هو النص الذي يقول : إن فدكا كلها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإن ذلك هو حكم الله سبحانه في كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فهو له «صلىاللهعليهوآله» ..
يضاف إلى ذلك : أن الروايات الآنفة الذكر قد صرحت : بأنهم عرضوا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يجليهم ، ويخلّوا بينه وبين الأموال.
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٨.
(٢) راجع : البحار ج ٢١ ص ٦ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٣ وتفسير الميزان ج ١٨ ص ٢٩٨ وتفسير البغوي ، تفسير سورة الفتح. وتفسير الثعلبي تفسير سورة الفتح الآية ١٠ ، والتنبيه والإشراف ص ٢٢٤ واللمعة البيضاء ص ٧٨٦ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٥٠ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٢ و ٣٠٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٠٠.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٨.
ففعل ذلك «صلىاللهعليهوآله» ، فقد قال ابن إسحاق : «لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأهل خيبر ، بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم ، ويخلون له الأموال ، ففعل. فكانت خيبر فيئا بين المسلمين ، وفدك خالصة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب».
وفي النص الثاني : أنهم عرضوا أن يجليهم ، فإذا كان أوان جذاذها جاؤوا فجذوها ، فأبى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يقبل ذلك ..
فما معنى : أن يصالحهم بعد ذلك على أن يكون لهم نصف الأرض بتربتها؟؟ فمن يرضى بالجلاء هل يعطي نصف الأرض بتربتها؟؟ ألا يعد ذلك سفها وتضييعا؟؟
بداية عن تزوير الحقائق :
ذكر الحلبي عن فدك : «أنه «صلىاللهعليهوآله» كان ينفق من فدك ، ويعود منها على صغير بني هاشم ، ويزوج منها أيمهم.
ولما مات «صلىاللهعليهوآله» ، وولي أبو بكر الخلافة ، سألته فاطمة «عليهاالسلام» أن يجعلها أو نصفها لها ، فأبى. وروى لها : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة» (١).
وقد أصر عمر بن الخطاب في حكايته لما جرى على هذا الأمر ، ونحن لا نستغرب أن يصر عمر على أن فدكا كانت فيئا للمسلمين ، ولرسول الله
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٠.
«صلىاللهعليهوآله» الحق في أن ينفق منها ما يحتاج إليه ولا حق له في أزيد من ذلك؟؟ ولا نستغرب أيضا أن يتابع عمر في قوله هذا ، أولئك الذين صححوا خلافته ، واعتقدوا إمامته ..
ولكننا نستغرب من طريقة صياغة هؤلاء للحدث ، فإنهم يظهرون مهارة لافتة في التعتيم على الحقيقة ، وفي تجهيل الناس بها ..
وهذه الحقيقة التي ذكرنا طرفا منها في غزوة بني النضير ، ونزيد في توضيح ملامح الصورة لحقيقة ما جرى ، فنقول :
أهل البيت عليهمالسلام ماذا يقولون؟؟
ونشير في البداية : إلى أن أهل البيت «عليهمالسلام» ، وهم أدرى بما في البيت ، وهم سفينة نوح التي من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى ، وهم أحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسك بهما ، والأخذ عنهما ، وهم المنزهون المطهرون بنص القرآن ـ إن أهل البيت «عليهمالسلام» ـ قد ذكروا : أن حكم الله تعالى هو : أن كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فهو ملك خاص وخالص لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وليس فيئا للمسلمين ، كما زعمه الآخرون المناوئون لهم «عليهمالسلام» ..
فدك دليل الإمامة :
لقد كانت هناك سلسلة من الأحداث تتابعت في غضون ثلاثة أشهر ، كان لكل منها دوره القوي في تاريخ الإسلام ، وفي مستقبله ، وفي حفظ أساس الدين ، من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من جهة ، وفي السعي إلى الإخلال بأمر الله تعالى ، والتمرد على توجيهات النبي «صلى الله
عليه وآله» من قبل آخرين ، من جهة أخرى ..
وقد أجملنا هذه الأحداث في كتابنا : «الغدير والمعارضون» ، وسنحاول هنا أن نذكر جملا من ذلك أيضا .. فنبدأ بالحديث كما يلي :
١ ـ في حجة الوداع :
إن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان يسعى ـ وفقا للتوجيهات والأوامر الإلهية ـ إلى تحصين أمر الإمامة ، بالتأكيد والنص عليها بمختلف الأساليب البيانية : قولا ، وعملا ، وتصريحا ، وتلميحا ، وكناية ، وإشارة ، وسرا ، وجهرا ، وما إلى ذلك ..
وكان الفريق الطامع والطامح ـ وهم قريش ـ يسعون إلى إحباط هذه المساعي ، والتشكيك في تلك البيانات ومحاصرتها ، وإبطال آثارها ..
وقد اتجهت الأمور نحو التصعيد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته «صلىاللهعليهوآله» ، بصورة قوية وحاسمة. ونحن نذكر هنا سبعة مفاصل أساسية وشاخصة ، في هذه الفترة بالذات ، فنقول :
لقد كان أول مفصل هام وحساس وأساسي ، في يوم عرفة ، في حجة الوداع ؛ فقد بادر النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى إبلاغ إمامة علي «عليهالسلام» للناس ، في موسم الحج هذا ، حيث إن الناس ـ وفيهم من كل الأجناس ، والفئات والمستويات ـ قد جاؤوا إلى الحج من مختلف البلاد ، واجتمعوا في صعيد واحد ، يظهرون التوبة والندم ، ويجأرون بالدعاء لله تعالى بأن يتقبل منهم ..
فأراد «صلىاللهعليهوآله» أن يخطبهم ، ويبلّغهم ما أمره الله تعالى
بتبليغه ، ولما انتهى إلى الحديث عن الإمامة والأئمة ، وشرع فيه ، تصدى له الفريق القرشي الطامح ، ليفسد عليه تدبيره ، وليمنعه من القيام بما أمره الله سبحانه ، فصاروا يقومون ويقعدون ، وضجوا إلى حد لم يعد للحاضرين المحيطين به «صلىاللهعليهوآله» مجال لسماع كلامه «صلىاللهعليهوآله».
ولعلهم قد ظنوا أنهم نجحوا فيما أرادوه كما توحي به ظواهر الأمور.
ولكن الحقيقة هي العكس من ذلك تماما .. فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان يعلم : أنهم سوف يغتصبون الخلافة على كل حال .. ولكنه يريد أن يعرّف الأجيال إلى يوم القيامة ذلك .. وأن لا يمكّنهم من التشكيك في أحقية أمير المؤمنين علي «عليهالسلام» بها ، وفي النص عليه ونصبه لهذا الأمر من قبل الله ورسوله ..
ولأجل ذلك : فإن الخطة النبوية كانت ترمي إلى التأكيد على هذا الأمر ، وفضح الذين يريدون أن يتخذوا من التظاهر بالدين والتقوى ذريعة إلى مآربهم ..
وقد تحقق ذلك لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» في هذا الموقف بالذات ، في أقدس البقاع ، وأفضل الأزمنة ـ يوم عرفة ـ وهم يؤدون فريضة عظيمة ، وركنا من أركان الشريعة ، وهم محرمون لله تعالى ، يجهرون بتلبية النداء الإلهي «لبيك اللهم لبيك». ويعلنون اعترافهم بوحدانيته «لبيك لا شريك لك لبيك» ، وبمالكيته ، وبنعمته وفواضله «إن الحمد والنعمة لك والملك ..» ويقفون في أحد المشاعر المعظمة ، وحيث لا همّ لهم إلا الدعاء ، والإستغفار ، وطلب الحاجات من الله تعالى .. والإجتهاد في الحصول على رضاه لكي يستجيب لهم ، ويكون معهم.
نعم ، إنه في هذا الموقف بالذات ظهر للناس جميعا : أنه رغم أمر الله تعالى لهم بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي «صلىاللهعليهوآله» ، لكي لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ، صاروا يضجون إلى حد أنهم أصموا الناس ، فلا يستطيع أحد أن يسمع من كلامه «صلىاللهعليهوآله» شيئا ، وصاروا يقومون ويقعدون الخ ..
وحمل الناس ، الذين أتوا من كل حي وبلد وقبيلة ، في قلوبهم هذه الذكرى المرة ، معهم إلى بلادهم ، التي يعودون إليها من سفر طويل وشاق ، ويتلهف من يستقبلهم لسؤالهم عما رأوه أو سمعوه من أفضل البشر ، وأكرم الأنبياء «عليهالسلام» ، وأشرف المخلوقات ، لم يره الكثيرون منهم إلا هذه المرة اليتيمة ، وسيموت «صلىاللهعليهوآله» بعدها ، وتبقى ذكراه في قلب هؤلاء كأعز شيء عليهم ، وأثمنه عندهم.
ولا بد أن ينقلوها للناس دائما بحزن ، وأسى ، ومرارة ، وليتضح لهم أمر عجيب وغريب ، وهو : أن صحابة النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يوقرون نبيهم الأعظم ، والخاتم ، ولا يحترمونه ، ولا يطيعونه.
٢ ـ غدير خم :
وربما يمكن لهم أن يعتذروا للناس ، وأن يقولوا لهم : لقد حاسبنا أنفسنا ، وندمنا على ما بدر منا ، فإنها كانت هفوة عابرة ، وقد اعتذرنا ، وقبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عذرنا ..
ثم استجدت أمور قبل وفاته «صلىاللهعليهوآله» أوجبت أن يعدل هو نفسه «صلىاللهعليهوآله» عن موضوع إمامة الأئمة ، فأعاد الأمر
شورى بين المسلمين ..
وقد يجدون من طلاب اللبانات ، ومن عبيد الدنيا ، من يرغب في تصديق مزاعمهم هذه ، فجاءت قضية غدير خم لتقول للناس : لا تقبلوا أمثال هذه الأعذار.
وذلك لأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بمجرد أن انقضت مراسم الحج ، ترك مكة فورا ، وخرج مع الحجيج العائد إلى بلاده قبل أن يتفرقوا.
وكان رؤوس هؤلاء الطامعين والطامحين يرافقونه ليعودوا معه إلى المدينة ، وبقي في مكة والطائف ، وفي كل هذا المحيط أنصار هؤلاء ومحبوهم .. وقد ابتعدوا شيئا فشيئا عن المناطق التي تدين لهم بالولاء ، وأصبحوا غير قادرين على الإقدام على أية إساءة للرسول «صلىاللهعليهوآله» .. لأنهم أصبحوا لا يستطيعون مواجهة عشرات الألوف ، وهم بضع عشرات من الأفراد ، فإن جماهيرهم في مكة وما والاها لم يأتوا ، ولن يستطيعوا أن يأتوا معهم ..
فلما بلغ «صلىاللهعليهوآله» غدير خم ، نزلت الآيات الآمرة له بلزوم إنجاز المهمة التي كلفه الله تعالى بها ، ونزل معها تهديد صريح لأولئك المعاندين : بأن استمرار اللجاج والعناد سوف يعيد الأمور إلى نقطة الصفر (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ..) (١) ، الأمر الذي يعني أنه مستعد للدخول معهم في حرب طاحنة ، كحرب بدر وأحد ، فاضطر هذا الفريق المناوئ ، والطامح ، والطامع ، إلى السكوت.
__________________
(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.
وبلّغ النبي «صلىاللهعليهوآله» إمامة علي «عليهالسلام» في غدير خم ، وتظاهر ذلك الفريق بالطاعة ، وقدم البيعة لعلي «عليهالسلام» ، حتى قال له أحدهم : بخ بخ لك يا علي ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ..
ولا ندري إن كانت هذه البخبخة انحناء أمام العاصفة؟؟ أم أنها جاءت لتعبّر عن حسرة وألم ، وعن أمور أخرى لا نحب التصريح بها؟؟
ولكن الباب بقي مفتوحا أمامهم للخروج من هذا المأزق.
يقول هؤلاء للناس : صحيح أن النبي «صلىاللهعليهوآله» نصب عليا «عليهالسلام» في غدير خم ، وقد بايعناه ، وبخبخنا له .. ولكن استجدت أمور بعد ذلك جعلته «صلىاللهعليهوآله» يعدل عن قراره هذا ، والله على ما نقول وكيل ، فإننا صحابته المحبون المطيعون المأمونون على ما يأمرنا به.
أو أنهم يقولون : إن هذه الأمور جعلت عليا «عليهالسلام» نفسه يستقيل من هذا الأمر .. (وقد سرت شائعة بهذا المضمون فعلا ، وتركت آثارها حتى على اجتماع السقيفة نفسه).
فجاءت قضية :
٣ ـ تجهيز جيش أسامة :
لتبين بالفعل لا بالقول : أن هؤلاء الطامحين والطامعين كانوا لا يطيعون أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى مع إصراره عليهم ، والتصريح بغضبه منهم ، فهو يأمرهم بالخروج مع جيش أسامة ، ويلعن من يتخلف عن ذلك الجيش ، ولكنهم يصرون على رفض الخروج معه ،
ويتعللون بأنهم يخافون على النبي «صلىاللهعليهوآله» من أن يحدث له حدث في غيبتهم ..
وقد يعتذرون أيضا عن هذه المخالفة : بأنها خطأ فرضته محبتهم له «صلىاللهعليهوآله» وخوفهم عليه ، ولم تكن ناشئة عن روح متمردة ، أو غير مبالية.
فجاءت قضية :
٤ ـ الصلاة بالناس :
حيث إنهم اغتنموا فرصة مرض رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فاحتلوا مكانه في إمامة الصلاة ، ربما ليؤكدوا أنهم هم المؤهلون لموقعه «صلىاللهعليهوآله» من بعده ، وليجعلوا ذلك ذريعة لا دعاء أن من يخلف النبي «صلىاللهعليهوآله» في إمامة الصلاة هو الذي ينبغي أن يخلفه في غير الصلاة أيضا ..
وقد يدّعي بعضهم ، أو يدّعي لهم محبوهم أيضا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» هو الذي أمرهم بالصلاة ، أو أنهم أخبروه فرضي.
ولكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أبطل تدبيرهم هذا أيضا ، وحوّله إلى إدانة لهم ، وصار سبّة عليهم ، وذلك بمجيئه ـ رغم مرضه ـ محمولا على عاتق علي «عليهالسلام» نفسه وشخص آخر. فعزل أبا بكر عن الصلاة ، وصلى مكانه.
فهو «صلىاللهعليهوآله» لم يكتف بنفي أن يكون قد أمر أحدا بالصلاة مكانه ، أو بالقول : بأنه لا يرضى بصلاة من صلّى في مكانه ، بل قرن عدم
رضاه هذا ، بالفعل والممارسة حين جاء وعزله بنفسه ، وفي وسط صلاته ، لكي لا يعتذر أحد بأن أبا بكر حين رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» مقبلا آثره وقدّمه ..
وبذلك يكون «صلىاللهعليهوآله» قد بيّن أن أبا بكر أقدم على ما لا حقّ له فيه ، إما من حيث فقدانه لشرائط إمامة الصلاة ، أو من حيث إن في الأمر سرا أعظم من ذلك ، وهو الإعلان بأنه ليس أهلا لتمثيل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأنه ليس فقط لا يستحق المقام الذي يرشح نفسه له ، بل هو لا يستحق السكوت والستر عليه لو تصدى ، ولو لمثل إمامة جماعة في صلاتهم بل لا بد من المبادرة إلى منعه من ذلك ، حتى لو أفضى هذا المنع إلى فضيحته ، وسقوطه.
وذلك يدل على : أن هناك أمرا عظيما أوجب سقوط حرمته ، وجرّده من حقوقه ، فما هو ذلك الأمر العظيم يا ترى؟ ..
وبذلك يظهر : أنه لم تعد هناك حاجة إلى تفهيم الناس أن شرائط إمام الجماعة ـ وهي العدالة ، وصحة القراءة ، ونحو ذلك ـ تختلف عن شرائط الخلافة والإمامة ، إذ لا تحتاج إمامة الجماعة في الصلاة إلى العلم ، ولا إلى الشجاعة ، ولا إلى أن لا يكون بخيلا أو جافيا. كما أنها لا تحتاج إلى النصب من المعصوم ، ولا غير ذلك من أمور كثيرة ذكرتها الآيات والروايات ، ونصت على أنها لا بد منها في الإمامة والخلافة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
ويعتذرون عن ذلك أيضا : بأن هذه المبادرة من أبي بكر قد جاءت عن حسن نية ، وسلامة طوية ، ولم يقصد بها الإساءة إلى رسول الله «صلى الله
عليه وآله» ، بل المقصود بها نيل ثواب الصلاة جماعة ..
ولعل عدم الإستئذان في ذلك منه «صلىاللهعليهوآله» هو الذي أغضبه «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يكن يظن أن الأمور تصل إلى هذا الحد ، ولا شك في أنه قد استغفر الله تعالى من هذا الخطأ غير المقصود.
فجاءت القضية التالية : لتؤكد عدم صحة أمثال هذه الإعتذارات أيضا :
٥ ـ إن الرجل ليهجر :
فقد طلب النبي «صلىاللهعليهوآله» كتفا ودواة ، لكي يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ، فقال عمر : إن الرجل ليهجر أو غلبه الوجع (١) .. فجاءت هذه
__________________
(١) الإيضاح ص ٣٥٩ وتذكرة الخواص ص ٦٢ وسر العالمين ص ٢١ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٦٠ وج ٤ ص ٥ و ١٧٣ وج ١ ص ٢١ و ٢٢ وج ٢ ص ١١٥ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ٥٧ وج ١٠ ص ٣٦١ ، وراجع : ج ٥ ص ٤٣٨ والإرشاد للمفيد ص ١٠٧ والبحار ج ٢٢ ص ٤٩٨ وراجع : الغيبة للنعماني ص ٨١ و ٨٢ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٢٩٨ وفتح الباري ج ٨ ص ١٠١ و ١٠٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٧ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٥٩ والملل والنحل ج ١ ص ٢٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٤٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٩٢ و ١٩٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٥١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٤ وصحيح مسلم ج ٥ ص ٧٥ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٥٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤٤ ونهج الحق ص ٢٧٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٢. وحق اليقين ج ١ ص ١٨١ و ١٨٢ ودلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص ٦٣ ـ ٧٠ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٣ و ٦ والمراجعات ص ٣٥٣ والنص والإجتهاد ص ١٤٩ و ١٦٣.
الكلمة لتكون أوضح في الدلالة ، وأصرح في التعبير عن جرأة هؤلاء على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وعن مدى تصميمهم على تحقيق طموحاتهم ، والوصول إلى أطماعهم ، وعن المدى الذي يمكن أن تصل إليه تصرفاتهم في هذا الإتجاه .. وعن الحرمات التي يمكن أن تهتك من أجل ذلك ..
حيث إن النبي «صلىاللهعليهوآله» حين طلب في مرض موته : أن يأتوه بكتف ودواة ، إنما أراد أن يحرجهم في اللحظة الأخيرة ، ليظهروا للناس على حقيقتهم .. وبعد ذلك فإن على الناس أنفسهم أن يعدّوا للأمر عدته ، وأن لا تغرهم الإدعاءات الباطلة ، والإنتفاخات الفارغة ، وبذلك يكون «صلىاللهعليهوآله» قد فتح بابا يستطيع الداخل فيه أن يصل إلى كنه الأمور ، ولو بعد مرور الأحقاب والدهور ، التي تنأى بالحدث عن المشاهدة ، وتمعن في إبهامه.
ولعلهم يعتذرون حتى عن مثل هذا الأمر العصي عن الإعتذار ، فيقولون : لقد كانت هذه أيضا هفوة غير مقصودة ، في ساعة فوضى مشاعرية غير محمودة ، وقد عضنا ناب الندم لأجل ما صدر ، وأكلتنا نيران الحسرة بسبب ما بدر ، فبادرنا إلى الله بالإستغفار ، وللنبي «صلىاللهعليهوآله» بالإعتذار ، فقبل عذرنا ، ومات وهو راض عنا ، وحمّلنا للناس وصاياه ، وعرّفنا نواياه ، وأخبرنا : أن الأمور قد تغيرت ، وجاء ما أوجب نقض الهمم ، وفسخ العزائم ، فيما يرتبط بالبلاغ الذي كان في يوم الغدير.
فجاءت قضية أخرى أوضح وأصرح ، وهي :
٦ ـ الهجوم على فاطمة عليهاالسلام :
لقد جاء هجومهم على بيت الزهراء «عليهاالسلام» ، واقتحامه ، وما
لحقها «عليهاالسلام» من إهانة وظلم ، واعتداء بالضرب ، وإسقاط الجنين ، ليسقط كل الأقنعة ، بل هي قد تلاشت ، واهترأت ، وتمزقت ، وأصبحت أو هى وأكثر حكاية لما وراءها حتى من بيت العنكبوت.
خصوصا مع تصريح القرآن بطهارة هذه السيدة المظلومة المعصومة ، وبوجوب مودتها ، ومع تصريح الرسول «صلىاللهعليهوآله» بأن من آذاها فقد آذى الله ، وهي ابنته الوحيدة ، وسيدة نساء أهل الجنة ..
وقد فعلوا ذلك في ساعة دفنها لأبيها ، وبالتحديد فوق قبره الشريف ، وفي مسجده ثم منعوها من البكاء على أبيها وجرعوها الغصص ، وساموها أشد الأذى.
فأعلنت «عليهاالسلام» غضبها عليهم وهجرتهم إلى أن ماتت ، وأوصت أن تدفن ليلا ، ولم ترض بحضورهم جنازتها.
ولكننا مع ذلك لا بد أن نقول : قد يمكن لهؤلاء أن يعتذروا للناس البسطاء من ذلك أيضا ، فيقولون : لعن الله الشيطان ، فإن موت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد أدهش عقولنا ، وحير ألبابنا ، وأصبحنا نخاف من الذل الشامل ، والبلاء النازل. فاندفعنا بحسن نية ، وسلامة طوية لتدبير الأمر ، ولدفع الفتنة ، وللإمساك بالأمور قبل أن ينفرط العقد ، ويضيع الجهد ، فوقعنا في الهفوات ، وارتكبنا الخطيئات ، فها نحن نعترف ونعتذر ، وقد سعينا لاسترضاء الزهراء «عليهاالسلام» ، ورمنا طلب الصفح منها ، ولكنها لم تقبل.
غير أن ما صدر منا لا يعني أننا لا نصلح للمقام الذي اضطلعنا به ، بل نحن أهل له وزيادة ، وقادرون على القيام بأعباء المسؤولية فيه ..
فجاءت القضية الأخيرة ، والتي هي :
٧ ـ غصب فدك :
لتكون آخر مسمار يدق في نعش ما يدّعونه لأنفسهم من الفلاح والصلاح ، لأنها أبدلت الشك باليقين ، وأسفر الصبح لذي عينين ، وصرح الزبد عن المخض ، وظهر : أن هؤلاء يفقدون حتى أبسط السمات والمواصفات لمن يفترض فيه أن يتولى شؤون الأمة ، وأن مقام خلافة النبوة قد أخذ قهرا ، كما أظهرته وقائع ما جرى على الزهراء «عليهاالسلام».
ولنفترض : أن هؤلاء الطامحين والطامعين ، والمعتدين والغاصبين ، أنكروا ذلك كله ، وزعموا : أنهم أكرموا الزهراء «عليهاالسلام» ، ولم يضربوها ، ولم يسقطوا جنينها ، وزعموا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم ينص على علي «عليهالسلام» ، ولجأوا إلى التشكيك في سند النص المثبت لإمامة علي «عليهالسلام» ، أو التشكيك في دلالته ، أو حاولوا التشكيك في كل القرائن والدلالات والتصريحات ، والكنايات ، والحقائق والمجازات ، في الآيات والروايات المثبتة لإمامته «عليهالسلام».
نعم .. لنفترض أنهم أقدموا على ذلك كله ، فإن باب المعرفة يبقى مفتوحا على مصراعيه لكل الأجيال ، عبر الأحقاب والأزمان .. وذلك من خلال قضية فدك بالذات.
لقد أراد هؤلاء أن يأخذوا فدكا ، ليقولوا للناس بالفعل قبل القول : إنهم هم الذين يتبوّؤون منصب خلافة الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، وأن ما كان له قد أصبح لهم أيضا ، بحكم كونهم خلفاءه ، فلهم الحق في أن
يتصرفوا فيما كان يتصرف فيه ، والذي كان من شؤونه أصبح من شؤونهم ..
واختاروا فدكا لهذا الأمر ؛ لأنها هي الأوضح دلالة ، والأعمق أثرا ، لأنها في يد بنت الرسول الأعظم «صلىاللهعليهوآله» بالذات ، وزوجة الرجل الذي يناوئونه ، ويواجهونه. فإن مرت هذه المبادرة بسلام ، فإن الناس سوف يقولون : إذا كانت سلطة هؤلاء قد طالت عليا «عليهالسلام» نفسه ، وبنت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مباشرة ، فماذا عسى يمكن لغيرهم أن يفعل؟؟
فاستولوا على فدك ، وأخرجوا عمال الزهراء «عليهاالسلام» منها ، بعد سنوات من تملكها والتصرف فيها في حياة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. متذرعين بحجج واهية ، لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولم تطالبهم الزهراء «عليهاالسلام» بما كان منهم من العدوان عليها وضربها ، وإسقاط جنينها ، لأن غاية ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو إزجاؤهم الكلام المعسول ، وإظهار الأسف ، واصطناع حالات من التواضع ، وهضم النفس والإستعطاف ..
ويرى الناس البسطاء : أنهم بذلك قد أدوا قسطهم للعلى .. وسوف يكون المعتدون سعداء لتحويل القضية برمتها إلى قضية شخصية ، تخضع لأمزجة الأفراد ولأخلاقياتهم. وربما لا يخطر على بال الكثير من الناس القضية الأساس التي كانت السبب في اندفاعهم للعدوان ، وقد لا يدور بخلدهم أن هذا لا يكفي ، بل لا بد من معاقبة المجرم ، وأن من يرتكب جرائم كهذه فهو لا يصلح لمقام الإمامة والخلافة ، وأن ذلك يوجب عليهم أن يتخلوا عن المقام الذي اغتصبوه إلى صاحبه الشرعي ، وهو أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب «عليهالسلام».
ولأجل ذلك أبقت الزهراء «عليهاالسلام» على موضوع العدوان عليها بعيدا عن الأخذ والرد ، وعن الحجاج والإحتجاج. كما أنها لم تستجب لاستدراجاتهم لها فيه ، بل أبقت على موقفها الغاضب والرافض ، لكل بحث ومساومة إلا بعد الإعتراف بالحق وإلا بعد إرجاعه إلى أهله. وقد حافظت على هذا الموقف إلى أن لحقت بربها ، ليبقى ذلك العدوان ماثلا في وجدان الناس ، بعيدا عن الأيدي العابثة ، التي تريد إسقاط تأثيره ، بصورة أو بأخرى.
والذي حصل من خلال قضية فدك : هو دلالتها على أنهم ما زالوا يفقدون أبسط الشرائط التي تؤهلهم لأبسط مسؤولية ، ومن هذه الشرائط المفقودة ، شرط الأمانة ، فهم غير مأمونين على دماء الناس ، كما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء «عليهاالسلام».
وغير مأمونين على أعراضهم ، كما أوضحه هتكهم لحرمة بيتها ، وهي التي تقول : خير للمرأة أن لا ترى رجلا ولا يراها رجل.
وغير مأمونين على أموال الناس ، كما أوضحه ما صنعوه في فدك ، وفي ميراثها ..
فإذا كانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟؟
وإذا كانوا يجهلون حكم الإرث ؛ فقد علمتهم إياه السيدة الزهراء «عليهاالسلام».
وبعد التعليم ، والتذكير ، فإن الإصرار يدل على : فقدانهم لأدنى درجات
الأمانة والعدل.
فهل يمكنهم بعد ذلك كله ادّعاء : أنهم يريدون إقامة العدل ، وحفظ الدماء ، والأعراض ، والأموال ، وتعليم الناس دينهم ، وتربيتهم ، وبث فضائل الأخلاق فيهم ، وغير ذلك؟
ومن جهة أخرى : فإنهم يفقدون المعرفة بأبده البديهيات في الإسلام ، ويكفي للتدليل على ذلك أن نذكر الفقرة التالية من خطبتها ، حين بلغها اجتماع القوم على منعها فدكا ، فدخلت على أبي بكر ، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار ، وقالت : أيها المسلمون أغلب على إرثي؟
يا بن أبي قحافة ، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا؟
أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١).
وقال : فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢).
وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٣).
وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٤).
وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
__________________
(١) الآية ١٦ من سورة النمل.
(٢) الآيتان ٥ و ٦ من سورة الأحزاب.
(٣) الآية ٧٥ من سورة الأنفال.
(٤) الآية ١١ من سورة النساء.