روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

الامتثال به ، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي الوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم امضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أوامر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم واصبروا على عبادة آلهتكم ، وقيل : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر ، وقيل : إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرئاسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمناه أو يريده فاصبروا ، وقيل : إن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد ابطاله ، وقيل : الإشارة إلى الصبر المفهوم من (اصْبِرُوا) أي إن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة.

وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل.

(ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب ومقاتل أرادوا ملة النصارى ، والتوصيف بالآخرة بحسب الاعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومرادهم من قولهم ما سمعنا إلخ إنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه‌السلام وحاشاه ، وعن مجاهد أيضا وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم ، وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالا من اسم الإشارة لا متعلقا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور ، وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح (إِنْ هذا) أي ما هذا.

(إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن (مِنْ بَيْنِنا) ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣٢] ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله تعالى كقولهم (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الاختلاق أخرى قيل للاضراب عن جميع ما قبله ، وبل في قوله تعالى (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى (أَأُنْزِلَ) إلخ وحديث الشك في قوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكرى ، والأول على ما في الكشف هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات ، وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى ، وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع ، وقوله تعالى :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) في مقابلة قوله سبحانه (أَأُنْزِلَ) إلخ ، ونظيره في رد نظيره

١٦١

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة ، والمراد بالعندية الملك والتصرف لا مجرد الحضور.

وتقديم الظرف لأنه محل الإنكار أي بل أيملكون خزائن رحمته تعالى ويتصرفون فيها حسبما يشاءون حتى أنهم يصيبون بها من شاءوا ويصرفونها عمن شاءوا ويتحكمون فيها بمقتضى رأيهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.

وإضافة الرب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتشريف واللطف به عليه الصلاة والسلام ، والعزيز القاهر على خلقه ، والوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، وحديث العزة والقهر يناسب ما كانوا عليه من ترفعهم بالنبوة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجبرا.

والمبالغة في الوهاب من طريق الكمية تناسب قوله تعالى (خَزائِنُ) وتدل على حرمان لهم عظيم ، وفي ذلك إدماج أن النبوة ليست عطاء واحدا بالحقيقة بل يتضمن عطايا جمة تفوت الحصر وهي من طريق الكيفية المشار إليها بإصابة المواقع للدلالة على أن مستحق العطاء ومحله من وهب ذلك وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الوصف المذكور أيضا إشارة إلى أن النبوة موهبة ربانية ، وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ترشيح لما سبق أي بل لهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجسام السفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء ، وقوله تعالى : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج الذي يتوصل بها إلى السماوات فليدبروها وليتصرفوا فيها فإنهم لا طريق لهم إلى تدبيرها والتصرف فيها إلا ذاك أو إن ادعوا ما ذكر من الملك فليصعدوا وليتصرفوا حتى يظن صدق دعواهم فإنه لا أمارة عندهم على صدقها فلا أقل من أن يجعلوا ذلك أمارة ، وقال الزمخشري ومتابعوه : أي فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون ، وهو مناسب للمقام بيد أن فيه دغدغة ، وأيا ما كان ففي أمرهم بذلك تهكم بهم لا يخفى ، والسبب في الأصل الوصلة من الحبل ونحوه.

وعن مجاهد الأسباب هنا أبواب السماوات ، وقيل السماوات أنفسها لأن الله تعالى جعلها أسبابا عادية للحوادث السفلية (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هم جند إلخ ، فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدما كما هو الظاهر وما مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئا ما ، وقيل للتعظيم والتكثير ، واعترض بأنه لا يلائمه (مَهْزُومٌ) وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الاستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة ، ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفه ـ لأمر ما يسود من يسود. وقول امرئ القيس :

وحديث الركب يوم هنا

وحديث ما على قصره

مع أن الكلام لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشيره بانهزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير :

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وفيه نظر ، و (هُنالِكَ) صفة (جُنْدٌ) أو ظرف (مَهْزُومٌ) وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح ، وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد وقتادة ، وأنت خبير بأن هنالك إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقا بمهزوم لا

١٦٢

يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا ، و (مَهْزُومٌ) خبر بعد خبر ، وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر ، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق ، و (مِنَ الْأَحْزابِ) صفة (جُنْدٌ) أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون. وقال أبو البقاء (جُنْدٌ) مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر ، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفلتة عن الكلام الذي قبله ، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية ، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل : إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة.

وقال صاحب الكشف : إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير ، وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها ، وفيه منع ظاهر ، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون (جُنْدٌ) خبرا مقدما لمبتدإ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل.

وجعل الزمخشري (هُنالِكَ) الموضوع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك ؛ وفيه إيماء إلى علة الذم ؛ وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم.

وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث ، وجوز أن تكون (هُنالِكَ) إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) [يونس : ٣٠] وتتعلق بمهزوم ، والكلام اخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه ، وقيل : إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي ، وقيل : ما اسم موصول مبتدأ وهنالك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة ، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل ، وقيل الأصنام وعبدتها ، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى.

وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب ، و (ذُو الْأَوْتادِ) صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد ، و (الْأَوْتادِ) جمع وتد وهو معروف ، وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد :

لاقت على الماء جذيلا واتدا

ولم يكن يخلفها المواعدا

وقالوا : ود بإبدال التاء دالا والإدغام ووت بإبدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول وهو قليل ، وأصل إطلاق ذلك على البيت المطنب بأوتاده وهو لا يثبت بدونها كما قال الأعشى :

والبيت لا يبتنى إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

١٦٣

فقيل إنه شبه هنا فرعون في ثبات ملكه ورسوخ سلطنته ببيت ثابت أقيم عماده وثبتت أوتاده تشبيها مضمرا في النفس على طريق الاستعارة المكنية ووصف بذي الأوتاد على سبيل التخييل ، فالمعنى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون الثابت ملكه وسلطنته وقيل : شبه الملك الثابت من حيث الثبات والرسوخ بذي الأوتاد وهو البيت المطنب بأوتاده واستعير ذو الأوتاد له على سبيل الاستعارة التصريحية قيل وهو أظهر مما مر نهايته أنه وصف بذلك فرعون مبالغة لجعله عين ملكه ، والمعنى على وصفه بثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر.

وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية : الأوتاد الجنود يقوون ملكه كما يقوي الوتد الشيء أي وفرعون ذو الجنود فالاستعارة عليه تصريحية في الأوتاد ، وقيل : هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند ، وقيل المباني العظيمة الثابتة وفيه مجاز أيضا ، وقال ابن عباس في رواية أخرى وقتادة وعطاء : كانت له عليه اللعنة أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها ، وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية ويضرب في كل وتدا من حديد ويتركه حتى يموت ، وروي معناه عن الحسن ومجاهد وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات ، وقيل : يشده بأربعة أوتاد ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه.

وعلى هذه الأقوال الأربعة فالأوتاد ثابتة على حقيقتها (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أصحاب الغيضة وهم الذين أرسل إليهم شعيب عليه‌السلام نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها ، وقيل الأيكة اسم بلد لهم (أُولئِكَ) المكذبون (الْأَحْزابُ) أي الكفار المتحزبون على الرسل عليهم‌السلام المهزومون ؛ وهو مبتدأ وخبر ويفهم من ذلك أن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب لأن المبتدأ والخبر في مثله متعاكسان رأسا برأس لا لأن (أُولئِكَ) إشارة إلى الأحزاب أولا والأحزاب ثانيا هم المكذبون ، وقوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) استئناف جيء به تقريرا لتكذيبهم على أبلغ وجه وتمهيدا لما يعقبه ، فإن نافية ولا عمل لها لانتقاض النفي بالا ، و (كُلٌ) مبتدأ والاستثناء مفرغ من أعم العام وهو الخبر أي ما كل حزب من الأحزاب محكوما عليه بحكم إلا محكوما عليه بأنه كذب الرسل أو مخبرا عنه بخير إلا مخبرا عنه بأنه كذب الرسل لأن الرسل يصدق كل منهم الكل وكلهم متفقون على الحق فتكذيب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعا ، وجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع أي ما كلهم محكوما عليه بحكم أو مخبرا عنه بشيء إلا محكوما عليه أو إلا مخبرا عنه بأنه كذب رسوله ، والحصر مبالغة كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم فيدل على أنهم غالون في التكذيب ، ويدل على غلوهم فيه أيضا إعادته متعلقا بالرسل وتنويع الجملتين إلى اسمية استثنائية وغيرها أعني قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) إلخ ، وجعل كل فرقة مكذبة للجميع على الوجه الأول ، ويسجل ذلك عليهم استحقاقهم أشد العقاب ولذا رتب عليه قوله تعالى : (فَحَقَّ عِقابِ) أي ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح وأهلك فرعون بالغرق وقوم هود بالريح وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة. وجوز أن يكون (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) بدلا من الطوائف المذكورة والجملة بعد مستأنفة لما سمعت وأن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر بحذف العائد أي إن كلّا منهم أو كلهم إلا كذب الرسل ، والمجموع استئناف مقرر لما قبله مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم وكلاهما خلاف الظاهر ، وأما ما قيل من أنه خبر والمبتدأ قوله تعالى : (وَعادٌ) إلخ أو قوله تعالى : (وَقَوْمُ لُوطٍ) إلخ فمما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه ، والنظر بمعنى الانتظار وعبر به مجازا بجعل محقق الوقوع

١٦٤

كأنه أمر منتظر لهم ، والإشارة بهؤلاء للتحقير ، والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية ، أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئا إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة وليس المراد أنها نفسها عقاب لهم لعمومها للبر والفاجر من جميع الأمم بل المراد أنه ليس بينهم وبين ما أعد لهم من العذاب إلا هي لتأخير عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجود خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] إذ المراد من (وَأَنْتَ فِيهِمْ) وجوده عليه الصلاة والسلام لا مجاورته لهم كما توهم حتى يقال : لا دلالة في الآية على امتناع وقوعه بعد الهجرة لمخالفته للتفسير المشهور ، وقيل المراد بالصيحة المذكورة النفخة الأول. وتعقب بأنه مما لا وجه له أصلا لما أنه لا يشاهد هو لها ولا يصعق بها إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخرا إليها بل يحل بهم من حين موتهم.

وقيل : المراد صيحة يهلكون بها في الدنيا كما هلكت ثمود ، ولا يخفى أن هذا تعذيب بالاستئصال وهو مما لا يقع كما سمعت فلا يكون منتظرا ، وقال أبو حيان : الصيحة ما نالهم من قتل وأسر وغلبة كما تقول صاح بهم الدهر فهي مجاز عن الشر كما في قولهم ما ينتظرون إلا مثل صيحة الحبلى أي شرا يعاجلهم ، وفيه بعد.

وجوز جعل هؤلاء إشارة إلى الأحزاب لما سبق ذكرهم مكررا مؤكدا استحضرهم المخاطب في ذهنه فنزل الوجود الذهني منزلة الخارجي المحسوس وأشير إليهم بما يشار به للحاضر المشاهد ، واحتمال التحقير قائم ولا ينبو عنه التعبير بأولئك لأن البعد في الواقع مع أنه قد يقصد به التحقير أيضا والكلام بيان لما يصيرون إليه في الآخرة من العقاب بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب ، وجعلهم منتظرين له لأن ما أصابهم من عذاب الاستئصال ليس هو نتيجة ما جنوه من قبيح الأعمال إذ لا يعتد به بالنسبة إلى ما ثمت من الأهوال فهو تحذير لكفار قريش وتخويف لمن يساق له الحديث فلا وجه لما قاله أبو السعود من أن هذا ليس في حيز الاحتمال أصلا لأن الانتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور في حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد ، وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر بخلاف كفار قريش حيث ارتكبوا ما ارتكبوا ولما يلاقوا بعد شيئا قاله الخفاجي ، ولا يخفى أن المنساق إلى الذهن هو الاحتمال الأول وهو المأثور عن السلف ، والفواق الزمن الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ويقال للبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين فيقة ويجمع على أفواق وأفاويق جمع الجمع ، والكلام على تقدير مضافين أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من توقف مقدار فواق أو على ذكر الملزوم الذي هو الفواق وإرادة اللازم الذي هو التوقف مقداره ، وهو مجاز مشهور والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان.

وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة تفسيره بالرجوع والترداد ، وهو مجاز أطلق فيه الملزوم وأريد اللازم فإن في الزمان بين الحلبتين يرجع اللبن إلى الضرع ، والمعنى أنها صيحة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد فالجملة عليه صفة مؤكدة لوحدة الصيحة.

وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وطلحة بضم الفاء فقيل هما بمعنى واحد وهو ما تقدم كقصاص الشعر وقصاصه ، وقيل : المفتوح اسم مصدر من أفاق المريض إفاقة وفاقة إذا رجع إلى الصحة وإليه يرجع تفسير ابن زيد والسدي وأبي عبيدة والفراء له بالإفاقة والاستراحة ، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.

وقوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أي قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية ربنا عجل لنا قسطنا ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم

١٦٥

الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة ، وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال والقائل على ما روي عن عطاء النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال الله تعالى فيه (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] وأبو جهل على ما روي عن قتادة ، وعلى القولين الباقون راضون فلذا جيء بضمير الجمع ، والقط القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس ، ومن ذلك قول الأعشى :

ولا الملك النعمان يوم لقيته

بنعمته يعطي القطوط ويطلق

قيل وهو في ذلك أكثر استعمالا وقد فسره بها هنا أبو العالية والكلبي أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وهي رواية عن الحسن ، وجاء في رواية أخرى عنه أنهم أرادوا نصيبهم من الجنة ، وروي هذا أيضا عن قتادة وابن جبير ، وذلك أنهم سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها لنتنعم به في الدنيا ، قال السمرقندي : أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة والسلام من آمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله ولم يسألوا ربهم ، وفيه بحث يعلم مما مر آنفا.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) أي اذكر لهم قصته عليه‌السلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه فإنه عليه‌السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه‌السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب ، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم‌السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم ، ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك ، وهو كما ترى ، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر (اذْكُرْ) على ذلك بتذكر (ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به.

(إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عزوجل ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : الأواب المسبح ، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة ، وأخرج الديلمي عن مجاهد قال : سالت ابن عمر عن الأواب فقال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه فقال : هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى ، وهذا إن صح لا يعدل عنه ، والجملة تعليل لكونه عليه‌السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم ، نعم قد كان عليه‌السلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا ؛ وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته.

وقد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال : كان أعبد البشر ، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود» وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا.

١٦٦

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ)(٣١)

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) استئناف لبيان قصته عليه‌السلام ، وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأوابيته إلى الله عزوجل ، ومع متعلقة بسخر ، وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه‌السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه‌السلام بل بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى :

وأخر الظرف المذكور عن (الْجِبالَ) وقدم في سورة [الأنبياء : ٧٩] فقيل : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) قال بعض الفضلاء : لذكر داود وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا ، وجوز تعلقها بقوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ) وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء ، وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : تقديس بلسان الحال وتقييده بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه ، وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة ، والجملة حال من (الْجِبالَ) والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الإفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال نظير ما في قول الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

وجوز أن تكون مستأنفة لبيان كيفية التسخير ومقابلتها بمحشورة هنا كالمعينة للحالية (بِالْعَشِيِ) هو كما قال الراغب : من زوال الشمس إلى الصباح أي يسبحن بهذا الوقت وليس ذلك نصا في استيعابه بالتسبيح (وَالْإِشْراقِ) أي وقت الإشراق ، قال ثعلب : يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأفق الشرقي وصفاء شعاعها وهو الضحوة الصغرى وروي عن أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الضحى وقال : هذه صلاة الإشراق. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال :

١٦٧

لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وفي رواية عنه أيضا ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية ، ووجه فهم الحبر إياها من الآية أي كل تسبيح ورد في القرآن فهو عنده ما لم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه‌السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها. وفي الكشف وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه‌السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحا فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول إن تسبيح الجبال غير تسبيح داود عليه‌السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضا لأن المجاز أنسب اه.

وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال إنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن ، وهذا بناء على أن (مَعَهُ) متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه‌السلام مسبحا أي مصليا وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة على الصلاة ، ومع هذا ففيه حينئذ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به ، أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولا على ما يناسبه ، وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر ، وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضا.

وقال الجلبي في ذلك : يجوز أن يقال : تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سببا لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات ، وهذا عندي أصفى مما تقدم ، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال : كنت أمر بهذه الآية (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي : أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر.

ومن ذلك حديث أم هانئ الذي في الصحيحين وزعم أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أوانها كانت قضاء عما شغل صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها.

وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت صلى عليه الصلاة والسلام سبحة الضحى ، ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها أيضا ففيه ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة؟ قال : هذه صلاة الضحى ، واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو مالك ، وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه روي عنها مسلم وأحمد وابن ماجة أنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى ، وقد شهد أيضا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبو الدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانئ وأم سلمة ، ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك ، وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها

١٦٨

في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، واحتج له بما أخرجه ابن العربي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : «قال رسول الله كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» رواه الدارقطني أيضا ، وقال شيخ الحفاظ أبو الفضل بن حجر : إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح ، وفي الأخبار ما يعكر على القول به ، وذكر أن أقلها ركعتان لخبر البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما ، وأدنى كما لها أربع لما صح كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء فست فثمان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك ، وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان.

وذكروا أنها أفضل من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه أجرك على قدر نصبك أغلبي.

وصرح ابن حجر الهيثمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال : ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى ، وتقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار ، وصح إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب ، هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث ، (وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) على ما هو الظاهر.

(مَحْشُورَةً) حال من (الطَّيْرَ) والعامل سخرنا أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة ، عن ابن عباس كان عليه‌السلام إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها ، ولم يؤت بالحال فعلا مضارعا كالحال السابقة ليدل على الحشر الدفعي الذي هو أدل على القدرة وذلك بتوسط مقابلته للفعل أو لأن الدفعية هي الأصل عند عدم القرينة على خلافها.

وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري «والطير محشورة» برفعهما مبتدأ وخبرا ، ولعل الجملة على ذلك حال من ضمير يسبحن (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير ، واللام تعليلية ، والضمير لداود أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح ، ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى كما هو المشهور ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس ، وقيل يجوز أن يكون المراد كل من الطير فالجملة للتصريح بما فهم ، وكذا يجوز أن يراد كل من داود عليه‌السلام ومن الجبال والطير والضمير لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله تعالى أواب أي مسبح مرجع للتسبيح (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة ، واقتصر بعضهم على الهيبة ، والسدي على الجنود ، وروى عنه ابن جرير والحاكم أنه كان يحرصه كل يوم وليلة أربعة آلاف.

وحكي أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه ، وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه‌السلام إليه ، وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه‌السلام رجلا ببقرة فجحده فسأل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه‌السلام : قوما حتى انظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له : اقتل الرجل المدعي عليه فقال : إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له : اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له : اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه‌السلام إلى الرجل فقال : إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال : تقتلني بغير بينة ولا ثبت قال نعم : والله لأنفذن أمر الله عزوجل فيك فقال له الرجل لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا

١٦٩

الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه‌السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه.

وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) النبوة وكمال العلم وإتقان العمل ، وقيل الزبور وعلم الشرائع ، وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ وهو كلامه عليه‌السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات ، فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضا والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتخليصه ومراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبسا مختلطا.

وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا نزر ولا هذر» فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كما سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر المخل والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققا في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الإملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول لأن الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته عن الإخلال والإملال ، والإضافة على الوجه الأول من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها ، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعي والمدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل ، وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة ، وما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي من أنه القضاء بين الناس والحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئا وراء ما ذكر أولا ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه‌السلام هو أما بعد ، وذكر أبو موسى أنه عليه‌السلام أول من قال ذلك فقيل : هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصرا فيه لأنه يفصل المقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عزوجل مطلقا ، وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر ، ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبار المعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك ، وحمل الخبر على الانحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان ، ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يكن يتكلم بالعربية ، والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فإيتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الامتنان ما فيه ، ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لإيذانه بأنه من الأنباء

١٧٠

البديعة التي حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وبادي ، والجملة قيل عطف على (إِنَّا سَخَّرْنَا) من قبيل عطف القصة على القصة ، وقيل : على اذكر.

والخصم في الأصل مصدر لخصمه بمعنى خاصمه أو غلبه ويراد منه المخاصم ويستعمل للمفرد والمذكر وفروعهما ؛ وجاء للجمع هنا على ما قال جمع لظاهر ضمائره بعد وربما ثني وجمع على خصوم واخصام ، وأصل المخاصمة على ما قال الراغب أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.

(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي علوا سوره ونزلوا إليه فتفعل للعلو على أصله نحو تسنم الجمل أي علا سنامه وتذرّى الجبل علا ذروته ، والسور الجدار المحيط بالمرتفع ، والمحراب الغرفة وهي العلية ومحراب المسجد مأخوذ منه لانفصاله عما عداه أو لشرفة المنزل منزلة علوه قاله الخفاجي ، وقال الراغب : محراب المسجد قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، وقيل : لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر ، وقيل : الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدره به ، وقيل : بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح انتهى ، وصرح الجلال السيوطي أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم لم تكن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله رسالة في تحقيق ذلك ، وإذا متعلقة بمحذوف مضاف إلى الخصم أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بنبإ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه‌السلام ، وإسناد الإتيان إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم ، وجوز تعلقها به بلا حذف على جعل إسناد الإتيان إليه مجازيا أو بالخصم وهو في الأصل مصدر والظرف قنوع يكفيه رائحة الفعل ، وزعم الحوفي تعلقها بأتى ولا يكاد يصح لأن إتيان نبأ الخصم لم يكن وقت تسورهم المحراب (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) إذ هذه بدل من إذ الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول ، ويجوز أن يراد بالدخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازا لا يتفرع عليه قوله تعالى : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضا كما ترى ، وجوز تعلقه باذكر مقدرا ، والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف. روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما‌السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ، وكان عليه‌السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم ، وسبب الفزع قيل : إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه‌السلام أن يؤذوه لا سيما على ما حكي أنه كان ليلا ، وقيل : إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان فيكون في الحقيقة فزعا من فساد السيرة لا من الداخلين ، وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه ، وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعا مرتفعا جدا لا يمكن أن يرتقى إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد ، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأوه وقد فزع (قالُوا لا تَخَفْ) وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه‌السلام كأنه قيل : فما ذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه؟ فقيل : قالوا له إزالة لفزعه لا تخف (خَصْمانِ) خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان ، والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم

١٧١

أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جميع الضمائر ، ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه : (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فإن نحو هذا أكثر استعمالا في قول الجماعة ، وقراءة بعضهم بغى بعضهم على بعض أظهر في التأييد ، ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلا منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل ، وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد بها التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه (إِنَّ هذا أَخِي) وقيل : يجوز أن يقدر خصمان مبتدأ خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى ، والظاهر أن جملة (بَغى) إلخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن خصمان إلخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف ، وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سألوا ما أمركم؟ فقالوا : خصمان بغى إلخ أي جار بعضنا على بعض واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه. وأجيب بأنه إنما يكون كذبا لو كانوا قصدوا به الإخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسألة لأحد أو كان كناية وتعريضا بما وقع من داود عليه‌السلام فلا ، وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء.

(فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي ولا تتجاوزه ، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة وقتادة والحسن وأبو حيوة «ولا تشطط» من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق ، وقرأ قتادة أيضا «تشطّ» مدغما من أشط رباعيا ، وقرأ زر «تشاطط» بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكا ، وعنه أيضا «تشطط» من شطط ، والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه‌السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاما للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه ؛ وعلى ما ذكرنا أولا فيه بعض فظاظة ، وفي تحمل داود عليه‌السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى.

والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب ، اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق واعصمنا من الأغلاط (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل (إِنَّ هذا أَخِي) إلخ استئناف لبيان ما فيه الخصومة ، والمراد بالأخوة أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) وكل واحد من هذه الأخوات يدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم ، وقيل : هي أخوة في النسب وكان المتحاكمان أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، ولا يخفى أن المشهور أنهما كانا من الملائكة بل قيل لا خلاف في ذلك. و (أَخِي) بيان عند ابن عطية وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري ، ولعل المقصود بالإفادة على الثاني قوله تعالى : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن والشاء الجبلي وتستعار للمرأة كالشاة كثيرا نحو قول ابن عون :

أنا أبوهن ثلاث هنه

رابعة في البيت صغراهنه

ونعجتي خمسا توفيهنه

ألا فتى سحج يغذيهنه

وقول عنترة :

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

١٧٢

وقول الأعشى :

فرميت غفلة عينه عن شاته

فأصبت حبة قلبها وطحالها

والظاهر إبقاؤها على حقيقتها هنا ويراد بها أنثى الضان ، وجوز إرادة الامرأة ، وسيأتي إن شاء تعالى ما يتعلق بذلك ، وقرأ الحسن وزيد بن علي (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ) بفتح التاء فيهما ، وكثر مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد نحو السكر والسكر ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد جاور العشر ، والحسن وابن هرمز «نعجة» بكسر النون وهي لغة لبعض بني تميم ، وقرأ ابن مسعود «ولي نعجة أنثى» ووجه ذلك الزمخشري بأنه يقال امرأة أنثى للحسناء الجميلة والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله :

فتور القيام قطيع الكلام

لغوب العشاء إذا لم تنم

وقول قيس بن الخطيم :

تنام عن كبر شأنها فإذا

قامت رويدا تكاد تنغرف

وفي الكلام عليه توفية حق القسمين أعني ما يرجع إلى الظالم وما يرجع إلى المظلوم كأنه قيل : إنه مع وفور استغنائه وشدة حاجتي ظلمني حقي ، وهذا ظاهر إذا كانت النعجة مستعارة وإلا فالمناسب تأكيد الأنوثة بأنها كاملة فيها فيكون أدر وأحلب لما يطلب منها على أن فيه رمزا إلى ما روي عنه (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ملكنيها ، وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي أي نصيبي ، وعن ابن عباس وابن مسعود تحول لي عنها وهو بيان للمراد وألصق بوجه الاستعارة (وَعَزَّنِي) أي غلبني ، وفي المثل من عز بزاي من غلب سلب وقال الشاعر :

قطاة عزها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

(فِي الْخِطابِ) أي مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أطق رده ، وقال الضحاك : أي إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني ، وقال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي وقوته أعظم من قوتي ، وقيل : أي غلبني في مغالبته إياي في الخطبة على أن الخطاب من خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني ، وهو قول من يجعل النعجة مستعارة ، وتعقبه صاحب الكشف فقال : حمل الخطاب على المغالبة في خطبة النساء لا يلائم فصاحة التنزيل لأن التمثيل قاصر عنه لنبو قوله : (وَلِيَ نَعْجَةٌ) عن ذلك أشد النبوة وكذا قوله : (أَكْفِلْنِيها) إذ ينبغي على ذلك أن يخاطب به ولي المخطوبة إلا أن يجعل الأول مجازا عما يؤول إليه الحال ظنا والشرط في حسنه تحقق الانتهاء كما في (أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] والثاني مجاز عن تركه الخطبة ، ولا يخفى ما فيهما من التعقيد ، ثم إنه لتصريحه ينافي الغرض من التمثيل وهو التنبيه على عظم ما كان منه عليه‌السلام وأنه أمر يستحي من كشفه مع الستر عليه والاحتفاظ بحرمته انتهى فتأمل.

وقرأ أبو حيوة وطلحة «وعزني» بتخفيف الزاي ، قال أبو الفتح : حذفت إحدى الزاءين تخفيفا كما حذفت إحدى السينين في قول أبي زبيد :

١٧٣

أحسن به فهن إليه شوس

وروي كذلك عن عاصم.

وقرأ عبد الله وأبو وائل ومسروق والضحاك والحسن وعبيد بن عمير «وعازني» بألف بعد العين وتشديد الزاي أي وغالبني.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طمعه ، وليس هذا ابتداء من داود عليه‌السلام إثر فراغ المدعي من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل : ذلك على تقدير (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إن كان ما تقول حقا ؛ وقيل ثم كلام محذوف أي فأقر المدعى عليه فقال (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إلخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها أنه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه ، وجاء في رواية أنه عليه‌السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فأقر فقال له : لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك ، وقال للثاني : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إلخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه ، وقيل : ذهبا نحو السماء بمرأى منه ، وقال الحليمي : إنه عليه‌السلام رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه فاستعجل بقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديما وحديثا ؛ وفيما وقع من إخوة يوسف عليه‌السلام ولم يكونوا أنبياء على الأصح ما يزيل الاعتماد في هذا الباب ، وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا ، وزعم أن ذنب داود عليه‌السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته ، والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضا منه الزمخشري (لَيَبْغِي) ليتعدى (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) غير مراع حق الشركة والصحبة.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وهم قليل جدا فقليل خبر مقدم و (هُمْ) مبتدأ وما زائدة ، وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل : ما أقلهم ، والجملة اعتراض تذييلي ، وقرئ «ليبغي» بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

يريد اضربن ، ويكون على تقدير قسم محذوف وذلك القسم وجوابه خبر لأن ، وعلى قراءة الجمهور اللام هي الواقعة في خبر أن وجملة (يبغي) إلخ هو الخبر ، وقرئ «ليبغ» بحذف الياء للتخفيف كما في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] وقوله :

محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا

والظاهر أن قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) إلخ من كلام داود عليه‌السلام تتمة لما ذكره أولا وقد نظر فيه ما كان عليه التداعي كما هو ظاهر التعبير بالخلطاء فإنه غالب في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في الماشية وجعل على وجه استعارة النعجة ابتداء تمثيل لم ينظر فيه إلى ما كان عليه التداعي كأنه قيل : وإن البغي أمر يوجد فيما

١٧٤

بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم ويترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل : إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان كثيرا ما يجري بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما ، قال في الكشف : والمحمل الأظهر هذا.

وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر. ثم قال : ولعل الأظهر حمل الخلطاء على المتعارفين والمتضادين وأضرابهم ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج على نحو :

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا

والغلبة في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذ لم ترد الخلطة اه. وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له ، فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه ، وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه ، وجوز إبقاء الظن على حقيقته ، وأنكر ابن عطية مجيء الظن (١) بعد العلم اليقيني وقال : لسنا نجده في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون : ظن بمعنى أيقن إلى آخر ما أطال ، ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الاستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز ، وظاهر ما بعد أنه هنا بمعنى العلم و (أَنَّما) المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة ، ومن قال بإفادتها إياه حملا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الاطراد فليس المقصود هاهنا قصر الفتنة عليه عليه‌السلام لأنه يقتضي انفصال الضمير ، ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز ، ومن يدعي الاطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفا وإلغازا.

وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن بخلاف عنه «فتّنّاه» بتشديد التاء والنون مبالغة ، والضحاك «افتناه» كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة :

لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت

سعيدا فأمسى قد غوى كل مسلم

وقتادة وأبو عمرو في رواية «أنما فتناه» بضمير التثنية وهو راجع إلى الخصمين (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب (وَخَرَّ راكِعاً) أي ساجدا على أن الركوع مجاز عن السجود لأنه لإفضائه إليه جعل كالسبب ثم تجوز به عنه أو هو استعارة لمشابهته له في الانحناء والخضوع والعرب تقول نخلة راكعة ونخلة ساجدة ، وقال الشاعر :

__________________

(١) قوله بعد العلم هكذا في خط المؤلف ولعله بمعنى العلم اه.

١٧٥

فخر على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

وقيل أي خر للسجود راكعا أي مصليا على أن الركوع بمعنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها ، وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه بمعنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦].

وقال الحسين بن الفضل : أي خر من ركوعه أي سجد بعد أن كان راكعا ، وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر بمعنى سجد ، والجمهور على ما قدمنا ، واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها. وفي الكشف قالوا أي الحنفية : إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه.

وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع «فإن قلت» : إن سجدة داود عليه‌السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت : لا عليّ في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه‌السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيا غناء السجود ، ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخضوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن : لا يكون ساجدا حتى يركع (١) أو خر مصليا والمعتبر غاية الخضوع وليس في الركوع اه.

ولا يخفى أن المعروف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة والسلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية : إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته ، وعنى صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه‌السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في (ص) وقال : سجدها داود توبة ونسجدها شكرا أي على قبول توبة داود عليه‌السلام من خلاف الأولى بعلى شأنه وقد لقي عليه‌السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى ، وآدم عليه‌السلام وإن لقي أمرا عظيما أيضا لكنه كان مشوبا بالحزن على فراق الجنة فجوزي لذلك بأمر هذه الأمة بمعرفة قدره وأنه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة ، ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة زينب المقتضي للعتب عليه بقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) [الأحزاب : ٣٧] الآية فيكون ذكرها مذكرا له عليه الصلاة والسلام وما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكأن ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له ، ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام فتأمله ، ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية ، وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر ، وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية ، ومن فسر (خَرَّ راكِعاً) بخر للسجود مصليا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه‌السلام صلاة مشتملة على السجود وكانت للاستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين

__________________

(١) قوله : أو خر مصليا : هكذا في خط المؤلف ، وانظر موقع هذه الجملة هنا.

١٧٦

عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة داود عليه‌السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد (وَأَنابَ) أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما استغفرنا منه.

أخرج أحمد وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه‌السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال : يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي علي كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك ، وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال إلخ ، وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه.

وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه‌السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهنّ من الرماد حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه ، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه ، ولم ينقطع خوفه عليه‌السلام وقلقه بعد المغفرة ، فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه.

وأخرج أحمد وغيره عن ثابت عن صفوان وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) قربة بعد المغفرة.

(وَحُسْنَ مَآبٍ) وحسن مرجع في الجنة ، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية : يدنو من ربه سبحانه حتى يضع يده عليه ، وهو إن صح من المتشابه. وأخرج أحمد في الزهد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها : يقام داود عليه‌السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عزوجل : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول : يا رب كيف وقد سلبته؟ فيقول : إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة.

وهذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل : إنه عليه‌السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه ـ وفي بعض الآثار أنه وزيره ـ فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه عليه‌السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به ، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته.

وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه‌السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن ، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالما بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها.

١٧٧

وقيل إنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك ، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة ، ونقل هذا عن أبي مسلم ، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة ، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه‌السلام.

ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب من حدث بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه ، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم‌السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العراقي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وقال أبو حيان : الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه عزوجل فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه‌السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عزوجل قال (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) ولم يتقدم سوى قوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ونعلم قطعا أن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر :

ونؤثر حكم العقل في كل شبهة

إذا آثر الأخبار جلاس قصاص

انتهى ؛ ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه‌السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به ، وقيل : الاستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ) على معنى فغفرنا لأجله ، وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام ، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف ، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه‌السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلى شأنه والاستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إما حكاية لما خوطب به عليه‌السلام مبينة لزلفاه عنده عزوجل وإما مقول لقول مقدر معطوف على (غفرنا) أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وهو على الأول مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيذ ما يريده ، وعلى الثاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما ، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه‌السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت ، قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما

١٧٨

الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات :

خليفة الله في بريته

جفت بذاك الأقلام والكتب

وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله وبذلك كان يدعى إلى أن توفي فلما ولي عمر قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصارا إلى أمير المؤمنين. وذهب الشيخ الأكبر محيي الدين قدس‌سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الاصطلاح ، واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عزوجل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه ، والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد ، وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد ، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عزوجل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوما بها. وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك ، ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق ، وفرع الأمر بالحكم بالحق على ما تقدم لأن الاستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه‌السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه.

وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة. وذكر الحق لأن به سداده ، وقيل ترتب ذلك لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل. وفي البحر أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق ، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم. وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات ، وعمم بعضهم فقال : أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا.

وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه‌السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولا ، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشادا لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيها لمن هو دونه عليه‌السلام ، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة ، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق

وبه فسره هنا بعضهم فقال : أي لا تتبع ما تهوى الأنفس (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالنصب على أنه جواب النهي ، وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية ، وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، وخبر إن إما جملة (لَهُمْ عَذابٌ) على أن (لَهُمْ) خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار.

وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنهما وأبو حيوة «يضلّون» بضم الياء قال أبو حيان : وهذه القراءة أعم لأنه لا

١٧٩

يضل إلا ضال في نفسه ، وقراءة الجمهور أوضح لأن المراد بالموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين.

وقوله تعالى : (بِما نَسُوا) متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ الْحِسابِ) مفعول (نَسُوا) على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب ؛ وعليه يكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الاشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفا لقوله تعالى : (لَهُمْ) وجعل النسيان عليه مجازا عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى ، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي خلقا باطلا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئا أي أكلا هنيئا ، والباطل ما لا حكمة فيه ، وجوز كونه حالا من فاعل (خَلَقْنَا) بتقدير مضاف أي ذوي باطل ، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الأنبياء : ١٦ ، الدخان : ٣٨] وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل ، وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب على خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عزوجل لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى.

وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل (نَسُوا) جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل : بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى ، وجوز كون (باطِلاً) مفعولا ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل : ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضي الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ولا يخفى بعده ، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى ، وقيل : تكون عطفا على ما قبل بحسب المعنى كأنه قيل : لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل.

(ذلِكَ) إشارة إلى نفي من خلق ما ذكر باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكار هم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار ، وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل ، و (مِنَ) في قوله تعالى: (مِنَ النَّارِ) ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة: ٧٩] ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم

١٨٠