محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]
المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٨٤
واجيب بوجهين :
أحدهما : أنّ كلّ ما أريد به فائدة لا يوجب ترتّبها عليه.
وثانيهما : أنّ الفائدة لا تنحصر فيما ذكر ، بل قد تكون الفائدة في الوضع صحّة التجوّز ؛ لأنّه موقوف على معنى يناسب الموضوع له (١).
فائدة
المجاز على ثلاثة أقسام :
الأوّل : الوضعي ، وهو أن يقع التجوّز في مفردات الألفاظ ، كإطلاق الأسد على الشجاع.
الثاني : العقلي ، وهو أن يقع التجوّز في الإسناد ، نحو : طلعت الشمس ، وأخرجت الأرض أثقالها ؛ فإنّه لم يقع تجوّز في مفردات الألفاظ ؛ لأنّ المراد من الطلوع والشمس ، والإخراج والأرض والأثقال معانيها الحقيقيّة ، وإنّما وقع التجوّز في الإسناد ؛ لأنّه اسند الطلوع والإخراج إلى الشمس والأرض ، مع أنّهما مسندان حقيقة إلى الله ، فوقع التجوّز في التركيب. وإنّما سمّي بالمجاز العقلي ؛ لأنّ إسناد الأثر إلى مؤثّره حكم عقلي لا دخل له بالوضع والاصطلاح ، فإذا اسند الأثر إلى مؤثّره الحقيقي فيكون حكما عقليّا حقيقة ، وإذا اسند إلى غيره فيكون نقلا للحكم العقلي حقيقة إلى غيره ، فيكون مجازا عقليّا.
الثالث : الوضعي والعقلي معا ، وهو أن يقع التجوّز في المفردات والإسناد معا ، نحو : إحيائي اكتحالي بطلعتك ؛ إذ المراد من الإحياء السرور ، ومن الاكتحال الرؤية ، ومن الطلعة الصورة ، واسند الإحياء إلى الرؤية مع أنّه مسند حقيقة إلى الله.
أصل
إذا كانت للّفظ حقيقة واحدة يجب حمله عليها عند الإطلاق ، وإن كانت له الحقائق الثلاث قدّمت الشرعيّة ، ومع عدمها أو تعذّر الحمل عليها ، قدّمت العرفيّة ، ومع العدم أو التعذّر ، يحمل على اللغويّة.
__________________
(١) راجع إرشاد الفحول ١ : ٧٤.
ثمّ إنّ العرفيّة العامّة تقدّم على الخاصّة ، كما أنّ الخاصّة تقدّم على اللغويّة. وهذا التفصيل هو المشهور بين القوم ، بل لم نعثر على مخالف سوى بعض المتأخّرين من الأخباريين ، حيث قال :
|
إنّ المستفاد من أخبارهم عليهمالسلام أنّه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي ، يجب الفحص والتفتيش والسؤال ، ومع العجز عن الظفر بالمراد ، يجب رعاية الاحتياط ، على أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لاختلاف عرف الناس وعاداتهم ، والعرف الخاصّ مختلف ، فيلزم اختلاف الأحكام الشرعيّة باختلافه (١). |
أقول : تحقيق الحقّ في هذا الأصل يتوقّف على بيان امور :
[ الأمر ] الأوّل : لا شبهة في تقدّم العرف العامّ على اللغة بشرط تحقّقه ؛ لأنّه أعرف عند الناس ، وهم عند الإطلاق لا يفهمون غيره ، والحكيم لا يتكلّم الناس إلاّ بما يفهمونه.
ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(٢) ، وما ورد عن بعض الصادقين عليهماالسلام : « أنّ الله أجلّ من أن يخاطب مع قوم ، ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » (٣).
وبما ذكرنا اندفع ما ذكر هذا البعض من أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لأنّ كلامنا في العرف الذي كان منضبطا وثابتا.
ويتفرّع عليه : حمل الألفاظ التي لها معان عرفيّة ولغويّة على معانيها العرفيّة ، سواء وقعت في كلام الشارع ، أو في كلامنا في الأيمان والنذور والتعليقات وغيرها ، كحمل الدابّة على الفرس لا على ما يدبّ على الأرض ، وحمل الراوية على المزادة (٤) لا على الجمل الذي يحمل عليه الماء ، وحمل الغائط على الحدث المخصوص لا على المطمئنّ من الأرض.
ويتفرّع عليه أيضا : أنّه إذا حلف أن لا يشرب ماء زيد عن عطش أن يحنث بشرب الماء
__________________
(١) راجع الحدائق الناضرة ١ : ١٢١.
(٢) إبراهيم (١٤) : ٤.
(٣) لم نجده في المجاميع الروائيّة ، ونقله البهبهاني أيضا في الفوائد الحائريّة : ١٠٥.
(٤) « المزادة » : وعاء يحمل فيه الماء في السفر ، كالقربة ونحوها. المعجم الوسيط : ٤٠٩ ، « ز ي د ».
مطلقا وإن لم يكن عطشانا ، وبالأكل من أمواله أيضا ؛ لأنّ المفهوم منه عرفا اجتناب مائه مطلقا ، وأمواله كذلك. وذكر الماء ، والتقييد بالعطش للمبالغة وإن كان معناه لغة الاجتناب عن الماء عند العطش.
[ الأمر ] الثاني : لا شبهة أيضا في تقدّم العرف العامّ على الخاصّ ؛ لأنّه أعرف وأغلب. وهذا في صورة كون اللفظ صادرا عن الشارع ، وكون المخاطب جميع الناس ، أو غير من له العرف الخاصّ ، ظاهر. وأمّا في صورة كون المخاطب من له العرف الخاصّ ، أو صدور اللفظ منه في الأيمان وأمثالها ، فالحقّ وجوب الحمل على العرف العامّ أيضا ؛ لأنّه إن لم يكن أعرف عنده ، فلا شبهة في كونه أغلب وأشهر ، ويجب حمل اللفظ على ما هو أغلب. والظاهر أنّه أعرف عنده أيضا.
[ الأمر ] الثالث : وجه تقدّم العرف الخاصّ على اللغة ظاهر إذا كان المخاطب أهل العرف المذكور ، أو صدر اللفظ منه ؛ لأنّه أعرف عنده من اللغة. وأمّا إذا كان غيره ، أو جميع الناس ، فالحقّ وجوب الحمل حينئذ على اللغة ؛ لكونها أعرف.
[ الأمر ] الرابع : قيل في وجه تقدّم الحقيقة الشرعيّة على سائر الحقائق بأنّها طارئة وناسخة لها ، فيجب حمل اللفظ عليها دونها (١).
أقول : الأمر كذلك ؛ لأنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة موقوف على أن يستعمل الشارع اللفظ في معناه الشرعي استعمالا يغلب على استعماله في معانيه العرفيّة واللغويّة ، فبعد ذلك يلزم تبادر المعنى الشرعي عند الإطلاق ، وقبل ذلك لم يثبت حقيقة شرعيّة.
وإذا عرفت ذلك ، تعلم أنّ كلّ لفظ له الحقائق الثلاث أو الحقيقة الشرعيّة مع إحداهما ، يجب حمله عند الإطلاق على حقيقته (٢) الشرعيّة ، سواء وقع في كلام الشارع أو غيره ،
__________________
(١) قاله الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٩٩ ، الفائدة ٨ ، و ١١٣ ، الفائدة ٥.
(٢) في « ب » : « الحقيقة ».
كحمل الدينار على الدينار من الذهب ؛ لأنّه مقتضاه شرعا ولغة ، دون غيره من الفضّة والفلوس ، كما هو مقتضاه العرفي في بعض البلاد.
نعم ، إن علم بالقرائن والأمارات أنّ المراد معناه العرفي ، يحمل عليه ، وكذا الحكم في الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.
وفروع هذا الأصل كثيرة ؛ وكيفيّة التفريع عليك ظاهرة.
وقد وقع الخلاف في أنّه إذا وقع التغاير بين اصطلاح المعصوم والراوي ، فهل يقدّم الأوّل ، أو الثاني؟ وذلك كالرطل ، فهل يحمل على المدني الذي هو اصطلاح المعصوم ، أو العراقي الذي هو اصطلاح الراوي ، أعني ابن أبي عمير؟ والترجيح لا يخلو عن إشكال ، ولا بدّ من الرجوع إلى القرائن ، إلاّ أنّ الحمل على الأوّل عند فقدها لا يخلو عن رجحان ما ، وغير خفيّ أنّ هذا لا ينافي القطع بتقدّم الحقيقة الشرعيّة على العرفيّة ؛ لأنّ المراد من اصطلاح المعصوم عرف بلده لا ما صار من استعمال الشارع حقيقة ، فتقدّم الثاني قطعا لا ينافي الشكّ في تقدّم الأوّل.
فصل [١٢]
إذا تعذّر حمل الألفاظ على الحقيقة ، فلا بدّ من حملها على المجاز بشرط عدم المانع شرعا ، وكون المجاز ممّا وجد فيه إحدى العلاقات المعتبرة ، كتسمية السبب باسم المسبّب وعكسه ، وتسمية الكلّ باسم الجزء وعكسه ، وتسمية الحالّ باسم المحلّ وعكسه ، والمجاورة والمشارفة والحذف والمشابهة في الشكل والصفة. وقد ذكر بعض آخر ، والعمدة ما ذكرناه.
إذا عرفت هذا ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك ، مثلا : الاشتراك لمّا كان مرجوحا بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز ـ كما سيجيء (١) ـ فقيل : النكاح ليس مشتركا بين العقد والوطء ، بل هو حقيقة في الأوّل ، مجاز في الثاني (٢). وقيل بالعكس (٣).
__________________
(١) في ص ٦٨ و ٧٣.
(٢) حكاه الأسنوي عن الشافعي في التمهيد : ١٩٠.
(٣) راجع المصدر : ١٩١.
فعلى الأوّل يكون النكاح في قوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ )(١) من باب تسمية المسبّب باسم السبب ؛ لأنّ النكاح حقيقة في العقد وهو سبب للوطء ، وهو المراد هاهنا ، فاطلق عليه إطلاقا للسبب (٢) على المسبّب.
وعلى الثاني يكون النكاح في قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٣) بالعكس ؛ لأنّ المراد به العقد.
وعلى أيّ تقدير ، لو حلف أحد على النكاح ونوى المعنى المجازي ، يلزم عليه ما نواه ؛ لأنّ اليمين يقبل المجاز.
ولو حلف أن يصوم نصف يوم ونوى جميعه ، أو قال : على رقبتي أن أفعل كذا ، يكون من باب تسمية الكلّ باسم الجزء ، ومثال العكس ظاهر.
وإذا قال المصلّي على الميّت : اصلّي على هذه الجنازة ـ بكسر الجيم ـ ونوى منها الميّت ، يكون من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ ؛ لأنّ الجنازة بالكسر اسم للنعش ، وبالفتح اسم للميّت. ولذا قيل : الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل (٤).
والتفريع في باقي أقسام (٥) المجاز ظاهر عليك بعد الإحاطة بما ذكر.
تذنيبان
[ التذنيب ] الأوّل : إذا أطلق الشارع شيئا على شيء آخر بعنوان المجاز ، أو أوقع التشبيه بينهما ، وظهر أنّ المراد المشاركة في حكم شرعي ، فهل المراد المشاركة في جميع الأحكام إلاّ ما أخرجه الدليل ، أو مجمل؟
والحقّ : أنّه إن وجد فرد شائع من الأحكام أو أفراد شائعة منها ، يحمل عليهما (٦) ، وإلاّ
__________________
(١) البقرة (٢) : ٢٣٠.
(٢) أي إطلاقا للموضوع للسبب على المسبّب.
(٣) النساء (٤) : ٢٢.
(٤) في هامش « ب » : « أي الجنازة ، بالفتح الذي يكون في فوق الكلمة ، اسم للميّت الذي يكون فوق النعش ، أي القراءة بالفتح للدلالة عليه. وبالكسر الذي يكون في أسفل الكلمة ، وضعت للأسفل ، أي النعش ؛ لأنّه يكون أصل الوضع ، فتتبّع ».
(٥) في « ب » : « أسماء ».
(٦) في « ب » : « عليها ».
يكون المراد المشاركة في الجميع ؛ لأنّ بناء الاستعارة والتشبيه على ذلك ، كما لا يخفى.
وكيفيّة التفريع أنّ قوله عليهالسلام : « الطواف بالبيت صلاة » (١) يدلّ على أنّ الأحكام الجارية في الصلاة جارية في الطواف ، فإن لم يوجد أفراد شائعة ، لكان اللازم الحمل على المشاركة في جميع الأحكام ، لكن لمّا كانت الأفراد الشائعة هنا ـ كالطهارة والنيّة ـ موجودة ، يحمل عليها دون الأفراد التي ليست بشائعة.
ثمّ الحقّ أنّ لفظ « المنزلة » يفيد العموم ؛ ( لدلالة العرف على ذلك ) (٢) ، ويعبّر عنه بعموم المنزلة ، كأن يقول الشارع : هذا بمنزلة ذاك. نعم ، إن كان هناك فرد شائع ، أو أفراد شائعة تتبادر إلى الذهن ، يكتفى بها.
[ التذنيب ] الثاني : إذا تعيّن حمل اللفظ على المجاز ، يجب حمله على أقرب المجازات إلى الحقيقة ؛ لأنّ الأصل حمل اللفظ على الحقيقة ، والمجاز خلاف الأصل ، وكلّما كان أبعد من الحقيقة ، يلزم ارتكاب خلاف الأصل أكثر ، وكلّما كان أقرب إليها ، يلزم ارتكابه أقلّ ، ولا شبهة في مراعاة الثاني إذا أمكن ؛ فإنّ مراعاة الأصل والاجتناب عن خلافه لازم بقدر ما يمكن.
وكيفيّة التفريع أنّ قوله عليهالسلام : « لا قول إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (٣) ، وقوله صلىاللهعليهوآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٤) ، و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٥) ، و « لا نكاح إلاّ بوليّ » (٦) ، و « لا صيام لمن لم يبيّت الصيام » (٧) ، و « لا يمين لولد مع والده » (٨) وأمثال ذلك ،
__________________
(١) عوالي اللآلئ ١ : ٢١٤ ، ح ٧٠ ، ومستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ ، ح ٢.
(٢) ما بين القوسين لم يرد في « ب ».
(٣) كنز العمّال ١ : ٢١٧ ، ح ١٠٨٣ مع اختلاف يسير.
(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٩ ، ح ١٤٤ ، ووسائل الشيعة ١ : ٢٥٦ ، أبواب الوضوء ، الباب ١ ، ح ١.
(٥) عوالي اللآلئ ٢ : ٢١٨ ، ح ١٣ ، ومستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، أبواب القراءة ، الباب ١ ، ح ٥ و ٨.
(٦) دعائم الإسلام ٢ : ٢١٨ ، ح ٨٠٧ ، وعوالي اللآلئ ١ : ٣٠٦ ، ح ٩.
(٧) سنن الدارقطني ٢ : ١٧٢ ، باب تبييت النيّة ، ح ٢ بتفاوت يسير ، وعوالي اللآلئ ٣ : ١٣٢ ، ح ٥.
(٨) الكافي ٧ : ٤٣٩ ، باب ما لا يلزم من الأيمان ، ح ١ و ٦ ، ووسائل الشيعة ٢٣ : ٢١٦ ، أبواب الأيمان ، الباب ١٠ ، ح ١ ـ ٣.
لا يمكن حملها على نفي الحقيقة ؛ لجواز وجودها مع عدم ما ذكر ، فلا بدّ من حملها على المجاز ، وهو متعدّد ، كنفي الصحّة ، ونفي الثواب ، ونفي الكمال ، ولا شبهة في أنّ الأوّل أقرب إلى نفي الحقيقة من الآخرين ؛ لأنّه يقتضي انتفاء جميع الأحكام واللوازم التي للحقيقة ، فلا يبقى منها سوى اسم فقط ، بخلافهما ؛ فإنّهما يقتضيان انتفاء لازم واحد فقط ، فهما بعيدان عن نفي الحقيقة ، فيجب الحمل على الأوّل.
فصل [١٣]
اشتهر أنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، وقد اشتبه على كثير منهم حقيقة الأمر ، ولذا يوردونه في غير موضعه ، ونحن نشير إلى الصور الآتية في المسألة ، ونقول : غرض القوم أيّ صورة منها ، فنقول : الصور المتصوّرة أربع :
الأولى : أن يكون اللفظ مع القرينة الدالّة على المعنى الحقيقي ، أو المجازي ، ولا شبهة حينئذ في لزوم العمل بمقتضاها.
الثانية : أن يكون الاستعمال معلوما ، ولم يعلم أنّ هذا الاستعمال على سبيل الحقيقة أو المجاز ، ولم يعلم في الخارج لهذا اللفظ معنى حقيقي أو مجازي ، بل كانت المعلوميّة منحصرة بأنّ هذا اللفظ مستعمل في هذا المعنى الذي لا يعلم أنّه حقيقة له أو مجاز. وحينئذ فالمشهور (١) بين القوم أنّ هذا الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، ولا يجزم بأحدهما إلاّ بالقرائن.
والسيّد المرتضى رضى الله عنه على أنّ الأصل في الاستعمال في هذه الصورة الحقيقة (٢).
وبعض المتأخّرين على أنّ الأصل فيه المجاز (٣) ؛ نظرا إلى كثرة وروده في المحاورات الشرعيّة واللغويّة والعرفيّة.
والحقّ مع المشهور ؛ لأنّ الحمل على أحدهما بدون قرينة يستلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لفقد الرجحان من الطرفين.
__________________
(١) كما في الفوائد الحائريّة : ١١٤ ، الفائدة ٥.
(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣ و ٢٨ و ٥٢.
(٣) نسبه الوحيد البهبهاني إلى بعض المحقّقين واختاره في الفوائد الحائريّة : ١١٤ و ١١٥ ، الفائدة ٥.
الثالثة : أن يعلم للّفظ معنى حقيقي واستعمل في معنى آخر ، ولا يعلم أنّ المعنى الثاني حقيقي حتّى يكون اللفظ مشتركا ، أو مجازي ؛ لعدم أماراتهما ، وحينئذ فالمشهور أنّ الاستعمال في المعنى الثاني بعنوان المجاز ؛ لأنّ الأصل عدم تعدّد الحقيقة وعدم الاشتراك.
والسيّد هنا أيضا مخالف للمشهور وقائل بالاشتراك (١).
والحقّ مع المشهور ؛ لما ذكر.
الرابعة : أن يكون للّفظ معنى حقيقي ومجازي ، وكان المعنيان معلومين بعنوان أنّ أحدهما حقيقة والآخر مجاز ، وأطلق الشارع أو غيره هذا اللفظ بدون القرينة ، وحينئذ يجب حمله على معناه الحقيقي بالاتّفاق ؛ لأنّه المتبادر عند الإطلاق. وما قال القوم من أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة (٢) ، فمرادهم منه في هذه الصورة لا الصور الأخر ، ومن لم يحصّل مراد الأقوام زلّ قدمه في هذا المقام.
إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع في الصورة الاولى والرابعة لا تخفى عليك. وكيفيّة التفريع في الصورة الثانية ، أنّه إذا استعمل الشارع ، أو غيره لفظا في معنى ولم نعلم أنّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولم نعلم من الخارج أيضا أنّ المعنى الحقيقي له ما ذا ، فحينئذ لا يحكم بكون هذا الاستعمال حقيقيّا حتّى يثبت جميع اللوازم التي للمعنى المستعمل فيه لهذا اللفظ. وإذا ورد في كلام غيره أيضا ، حكمنا بأنّه موضوع للمعنى المذكور ، ولا نحكم بكونه مجازا أيضا ، بل نتوقّف. مثلا : في بعض الأخبار استعملت الصلاة الوسطى في صلاة الظهر (٣) ، ونحن لا نعلم أنّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولا نعلم من الخارج يقينا حقيقة الصلاة الوسطى ؛ لتعارض الأخبار والأقوال فيها (٤) ، فبمجرّد استعمالها في بعض الأخبار في صلاة الظهر ، لا يحكم بأنّ هذا الاستعمال حقيقي بحيث يثبت جميع اللوازم الثابتة لصلاة الظهر لها ، وبالعكس ، وإذا وردت مطلقة في خبر آخر نحكم بأنّ المراد منها
__________________
(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥٢.
(٢) راجع : المحصول ١ : ٣٣٩ ، وتهذيب الوصول : ٨٠.
(٣) الفقيه ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦ ، ح ٦٠٠.
(٤) راجع : التبيان ٢ : ٢٧٥ ، ومجمع البيان ٢ : ٣٤٣.
صلاة الظهر ، بل لا نحكم بذلك ولا بكونه مجازا أيضا ؛ لاحتمال أن يكون حقيقتها صلاة الظهر ، فحينئذ نتوقّف.
والفروع للصورة الثالثة كثيرة جدّا. مثلا : استعمل خطاب المشافهة في المعدومين ، ونعلم له معنى حقيقيّا وهو مخاطبة الموجودين الحاضرين ؛ لأنّ خطاب المشافهة يستعمل حقيقة فيهم ، فيحكم بأنّ استعماله في المعدومين على سبيل المجاز.
وقيل : هذه الخطابات لا تتناول المعدومين لا حقيقة ولا مجازا ، واشتراكهم للموجودين في أحكامها إنّما علم بالإجماع (١). وعلى هذا ، يكون التكليف الذي تعلّق بهم على النحو الذي كان للموجودين الحاضرين ، فينبغي التفحّص عن كيفيّته ، وعلى القول بتناولها لهم حقيقة أو مجازا ، لا يكون تكليفهم على نحو تكليف الحاضرين ، بل على نحو يفهمونه منها.
وكذا استعمل لفظ « المسجد » في مكّة ، ونحن نعلم له حقيقة مخصوصة ، فنحكم بأنّ هذا الاستعمال مجازي ، فلا نثبت جميع اللوازم التي للمسجد لمكّة.
فصل [١٤]
ذهب المحقّقون إلى أنّه لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا (٢) ، وذهب بعض (٣) إلى الجواز ، وأكثر المجوّزين على أنّ هذا الاستعمال على سبيل المجاز. وربما قيل : إنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين (٤).
والظاهر أنّ الخلاف في جواز هذا الاستعمال للمتكلّم مع نصب القرينة ، وجواز إرادة المخاطب كلا المعنيين بعد نصب القرينة أيضا (٥) ، لا جواز إرادتهما معا عند عدم القرينة ؛ فإنّ ذلك لا يجوز بالاتّفاق ؛ لأنّ اللفظ عند الإطلاق يجب حمله على الحقيقة ، كما عرفت (٦).
__________________
(١) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٠٨.
(٢) منهم الفخر الرازي في المحصول ١ : ٣٤٣ ، وأبو هاشم وأبو عبد الله كما في معارج الاصول : ٥٣.
(٣) منهم أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد كما في العدّة في أصول الفقه ١ : ٥٤ ـ ٥٦.
(٤) راجع معالم الدين : ٤٢ ، وذهب إليه المصنّف في تجريد الاصول.
(٥) في شرح تجريد الاصول لابن المصنّف ( مخطوط ) : « اختلفوا في أنّه هل يمكن للمخاطب حمل اللفظ عليهما بعد نصب القرينة عليهما معا؟ ».
(٦) في ص ٦٧ ، الفصل ١٣.
والحقّ عدم الجواز مطلقا ؛ لأنّ إرادة المجاز موقوفة على القرينة المانعة من إرادة الحقيقة ، وإرادتها موقوفة على عدم القرينة المذكورة ، فالإرادتان لا تجتمعان (١).
وبهذا يندفع ما احتجّ به المجوّزون من أنّه ليس بين إرادة الحقيقة و [ إرادة ] المجاز منافاة ، فلا يمتنع اجتماعهما (٢).
ثمّ لا يخفى أنّه لم يقل أحد بجواز استعمال اللفظ فيهما على الحقيقة ؛ لظهور بطلانه ؛ فإنّه لم يوضع لهما معا حتّى يكون استعماله فيهما على الحقيقة.
وقال بعض القائلين بمجازيّة الاستعمال : لمّا لم يكن المعنى المجازي داخلا في الموضوع له واريد في الاستعمال ، فيكون مجازا ؛ لأنّه من باب إطلاق الجزء على الكلّ (٣) و (٤).
والجواب : أنّ المتنازع فيه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ، ومتعلّقا للإثبات والنفي ، لا استعماله في المجموع المركّب الذي أحد المعنيين جزء منه وينتفي المجموع بانتفائه ، كما ينتفي الإنسان بانتفاء الرقبة ، على ما هو شأن الكلّ المعتبر في باب المجاز ، فهما ليسا كلاّ بالنسبة إلى المعنى الحقيقي.
وبعضهم عكس الأمر وقال : العلاقة إطلاق الكلّ على الجزء ؛ لأنّ الموضوع له هو المعنى الحقيقي مع قيد الوحدة ، فبعد تعريته عنه يصير اللفظ مستعملا في جزء الموضوع له (٥).
والجواب ما عرفت (٦) من أنّ الوحدة والانفراد من عوارض الاستعمال ، مع أنّ العلاقة المعتبرة إطلاق اللفظ الموضوع للكلّ على الجزء فقط ، لا عليه مع شيء آخر ، وهنا اطلق [ على ] الجزء ـ أعني المعنى الحقيقي ـ مع شيء آخر أعني المعنى المجازي.
واستدلّ من قال بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ إذا كان مستعملا في معنيين ، وكان في
__________________
(١) اختار المصنّف في تجريد الاصول جواز الاستعمال ، وأنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين. راجع شرح تجريد الاصول لابنه أحمد ( مخطوط ).
(٢) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٥٣ و ٥٤.
(٣) أي إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ.
(٤) راجع المحصول ١ : ٣٤٣.
(٥) المصدر.
(٦) في ص ٤٩.
أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا ، فيجب أن يكون لكلّ واحد من الاستعمالين حكمه (١).
والجواب : أنّ هذا موقوف على جواز الاستعمال المذكور ، وقد ذكرنا أنّه غير جائز ؛ للزوم التنافي ، فظهر أنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي لا يجوز في إطلاق واحد على جميع التقادير.
ويتفرّع عليه فروع كثيرة :
منها : إذا حلف أن لا ينظر إلى الأسد مثلا ، وأراد منه الحيوان المفترس والرجل الشجاع معا ، لزم الحكم ببطلان هذا الحلف ؛ لعدم جواز ذلك. وكذا الحكم في جميع الألفاظ التي لها المعاني الحقيقيّة والمجازيّة في الأيمان ، والنذور ، والأوقاف ، والوصايا ، والتعليقات.
ومنها : قد ورد أنّ الطفل تابع لأبويه في الإسلام (٢) ، والأب حقيقة في معناه المعروف ومجاز في الجدّ ، فهل يباع الطفل المملوك للكافر بإسلام جدّه ، بناء على حمل الأب على معناه الحقيقي والمجازي ، أو لا ، بناء على عدم جواز ذلك؟ وقد عرفت الحقّ. هذا. مع أنّه ليس فيما ورد قرينة ، فتعيّن حمله على معناه الحقيقي وفاقا.
فصل [١٥]
إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح ، فقيل بترجيحها ؛ مراعاة للأصل (٣).
وقيل بترجيحه ؛ مراعاة للغلبة والظهور (٤). وقيل بالتوقّف ؛ للتعارض (٥).
ومحلّ الخلاف ما إذا لم يهجر الحقيقة بالكلّيّة بحيث كان اللفظ في دلالته عليها مفتقرا إلى القرينة ، وبدونها كانت مماتة لا تراد مطلقا ، بل كانت بحيث تراد في بعض الأوقات ، إلاّ أنّ المجاز أرجح عند العقل ، وقد أشرنا فيما تقدّم (٦) أنّ التسمية بالحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح في هذه الصورة دون الصورة الأولى ؛ لأنّ المجاز فيها يصير حقيقة شرعيّة أو عرفيّة.
__________________
(١) راجع المحصول ١ : ٣٤٣.
(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ١١٦ ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الباب ٤٣ ، ح ١.
(٣ ـ ٥) راجع تمهيد القواعد : ١٠٤ ، القاعدة ٢٢.
(٦) تقدّم في ص ٥١.
ثمّ خير الأقوال عندي أوسطها ؛ نظرا إلى حصول غلبة الظنّ.
وكيفيّة التفريع أنّ « الشرب من النهر » حقيقة في الشرب منه بالفم ، ومجاز في الاغتراف منه بالكوز ونحوه والشرب منه إلاّ أنّه مجاز راجح ، فيجب أن يحمل في الأيمان والنذور والتعليقات على معناه المجازي على ما اخترناه. و « السبيل » حقيقة في مطلق الطريق ومجاز في الجادّة ولكنّه مجاز راجح ، فيلزم أن يحمل عليها عند الإطلاق.
فصل [١٦]
إذا دار اللفظ بين الحقيقة وواحد من المجاز أو النقل أو الاشتراك أو التخصيص أو الإضمار ، رجّح الحقيقة وفاقا ، إلاّ أن يثبت أحدها بالقرينة ، أو دليل خارجي. والدليل مع كيفيّة التفريع ظاهر.
وإذا دار اللفظ بين واحد من الخمسة المذكورة مع آخر منها ، فالحكم على ما نذكره ، وهو أنّ معارضات هذه الخمسة تتصاعد إلى عشرة صور :
[ الصورة ] الاولى : معارضة المجاز والنقل. والحقّ حينئذ أولويّة المجاز ؛ لأنّ المجاز لا يتوقّف على أمر سوى العلاقة ، وثبوت العلاقة والعلم بها في غاية السهولة.
وأمّا النقل ، فموقوف على اتّفاق أرباب المحاورات عليه ، والعلم به في غاية الصعوبة. وبعد فرض حصول العلم به لا كلام في وجوب الأخذ به ؛ لأنّ الخلاف في صورة الشكّ.
وأيضا هو موقوف على نسخ الوضع الأوّل ، وهو خلاف الأصل.
وكيفيّة التفريع : أنّ كلّ لفظ ورد في كلام الشارع واحتمل أن يكون مجازا وأن يكون منقولا ، فيجب أن يحمل على معناه المجازي. مثلا : أطلق الشارع « السبيل » على الدين والمذهب ، فيحتمل أن يكون على سبيل النقل ، ويحتمل أن يكون على سبيل المجاز. والحقّ الثاني ؛ لما عرفت (١) ، فعند الإطلاق يحمل على معناه الحقيقي.
__________________
(١) تقدّم آنفا ، وهو أنّ المجاز لا يتوقّف على أمر سوى العلاقة.
[ الصورة ] الثانية : معارضة المجاز للاشتراك. والحقّ أنّ المجاز أولى ؛ لأغلبيّته في المحاورات ، والمظنون إلحاق الشيء بالشائع الأغلب ؛ ولأنّ الاشتراك مخلّ بالتفاهم ، فيلزم الاحتراز عنه مهما أمكن. وقد ذكر وجوه أخر لترجيح المجاز. والاعتماد على ما ذكرناه. وذكر وجوه لترجيح الاشتراك على المجاز لا يفيد شيئا ، ولا يقاوم وجها واحدا ممّا ذكر.
وكيفيّة التفريع : أنّ النكاح استعمل في العقد والوطء كليهما ، فيمكن أن يكون من باب الاشتراك ، وأن يكون من باب الحقيقة والمجاز ، فالثاني أولى ؛ لما عرفت.
ثمّ قيل : هو حقيقة في العقد ، مجاز في الوطء (١). وقيل بالعكس (٢).
والحقّ الأوّل ؛ لحصول التبادر في العقد دون الوطء. فعلى هذا يحمل النكاح في قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٣) على العقد ، فيحكم بتحريم معقودة الأب على الابن. وعلى الاشتراك يلزم التوقّف ، كما أشرنا إليه (٤). وعلى القول بكونه حقيقة في الوطء ، مجازا في العقد ، يلزم الحكم بتحريم موطوءة الأب دون معقودته.
[ الصورة ] الثالثة : معارضة المجاز والتخصيص ، كقوله تعالى : ( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً )(٥) فيمكن أن يكون المراد بالمشركين ما عدا أهل الذمّة ، فيكون مجازا من باب تسمية الجزء باسم الكلّ. ويمكن أن يكون المراد الحقيقة ـ أعني جميع المشركين ـ لكن خصّ عنه أهل الذمّة بدليل من خارج.
ثمّ قيل في أولويّة التخصيص : إنّ الحمل عليه يستلزم حصول المقصود عند وجود القرينة وعدمها.
__________________
(١) نسبه الأسنوي إلى الشافعي وأصحابه في التمهيد : ١٩٠ و ١٩١.
(٢) راجع المصدر : ١٩١.
(٣) النساء (٤) : ٢٢.
(٤) في ص ٤٦.
(٥) التوبة (٩) : ٣٦.
أمّا الأوّل فظاهر.
وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم حينئذ حمل اللفظ على عمومه والعمل به ، ولا شكّ أنّ المقصود ـ أعني غير المخصّص ـ في ضمنه. وأمّا الحمل على المجاز ، فلا يستلزم حصول المقصود عند فقد القرينة ؛ لأنّ اللفظ عند فقدها يحمل على الحقيقة ، ويمكن أن يكون المجاز مقصودا مع عدم كونه في ضمنها (١).
أقول : هذا الدليل لا يفيد شيئا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّ اللفظ العامّ الذي لم يوجد له مخصّص ولا قرينة على أنّ المراد منه بعض أفراده ، يلزم أن يحمل على عمومه الذي هو حقيقة ، لكن أمكن في نفس الأمر أن لا يكون بعمومه مقصودا ، بل يكون مخصّصا أو مجازا ، فإن كان مخصّصا في الواقع ، فإنّا عملنا بالمقصود ـ أعني غير المخصّص ـ وإن عمل بالزائد أيضا ، وإن كان مجازا ، لم نعمل بالمقصود ؛ لأنّا عملنا بالحقيقة التي ليست مقصودة ، دون المجاز الذي هو المقصود.
وغير خفيّ أنّ الحقيقة فيما نحن فيه هو العامّ ، والمجاز بعض أفراده ، فإذا عمل بالحقيقة عمل بالمجاز أيضا ؛ لأنّ الخاصّ في ضمن العامّ ، والمجاز الذي ليس في ضمن حقيقته هو الذي لم يكن جزءا من الحقيقة ، ولا دخل له بما نحن فيه ، فلا فرق بين الحملين.
هذا ، مع أنّ ثبوت الفرق عند عدم المخصّص والقرينة لا يدلّ على ثبوته عند وجودهما ، كما هو الفرض.
والتحقيق أن يقال : إنّه إذا وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة دون القرينة المانعة سوى التخصيص ، يتعيّن الحمل على التخصيص ، وهو ظاهر. وإن وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة والقرينة المانعة غيره ، فيمكن الحمل على التخصيص والمجاز كليهما ، ولا منافاة بينهما ؛ فإنّ العامّ يكون حينئذ مخصّصا ومجازا بالاعتبارين ، ولا يظهر حينئذ فائدة في هذا الخلاف.
نعم ، يظهر فائدة في أولويّة التخصيص ، أو المجاز من طريق آخر ، وهو أنّه إذا تعارض الأدلّة الشرعيّة في حكم ، وارتكب التخصيص في طرف ، والتجوّز في طرف آخر ، فعلى
__________________
(١) قاله الفخر الراي في المحصول ١ : ٣٦٠.
أولويّة التخصيص يلزم وجود مرجّح في طرفه ، وعلى العكس العكس ، ويمكن أن يرجّح التخصيص بأغلبيّته في الأحكام الشرعيّة ، فتأمّل.
[ الصورة ] الرابعة : معارضة المجاز والإضمار ، كقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) فإنّه يمكن إضمار لفظ « أهل » ، ويمكن أن يكون المراد من « القرية » أهلها تسمية للحالّ باسم المحلّ.
قيل : الظاهر كون الإضمار أقرب ؛ لأنّه لا يفتقر إلاّ إلى قرينة ، والمجاز مع افتقاره إليها يفتقر إلى الوضع اللاحق أيضا (٢). ولا يخفى ما فيه ، ولذا حكم الأكثر بتساويهما (٣).
ثمّ إنّ فائدة هذا الخلاف في الأحكام ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (٤).
[ الصورة ] الخامسة : معارضة النقل والاشتراك. وقد اختلف في ترجيحهما. والحقّ رجحان النقل ؛ لأنّ الاشتراك يخلّ بالفهم بخلاف النقل.
والقول بأنّ الاشتراك أكثر من النقل لم يثبت. وكيفيّة التفريع ظاهرة (٥).
[ الصورة ] السادسة : معارضة النقل والتخصيص ، كما في لفظ البيع ؛ فإنّه موضوع لمطلق المعاوضة والمبادلة ، واستعمل في لسان الشارع والمتشرّعة في المبادلة المخصوصة الجامعة للشرائط المعيّنة ، فيمكن أن يكون هذا على سبيل النقل ، ويمكن أن يكون على سبيل التخصيص. والثاني أولى ؛ لأنّ التخصيص إمّا مساو للمجاز ، أو أولى منه كما عرفت (٦). والمجاز أولى من النقل ، فالتخصيص كذلك. والفائدة ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (٧).
__________________
(١) يوسف (١٢) : ٨٢.
(٢) ذهب إليه السيّد ضياء الدين الأعرج في منية اللبيب : ٧٤.
(٣) منهم : الفخر الرازي في المحصول ١ : ٣٥٩ ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ١٨٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ١٨١.
(٤) في ص ٧٣ ـ ٧٤.
(٥) في « ب » زيادة : « بين المعاني ».
(٦ و ٧) في ص ٧٣ ـ ٧٥.
[ الصورة ] السابعة : معارضة النقل والإضمار ، والثاني أولى ؛ لأنّه إمّا مساو للمجاز ، أو أولى منه ، والمجاز أولى من النقل ؛ فالإضمار كذلك.
وكيفيّة التفريع : أنّ الربا في قوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا )(١) يمكن أن يراد به المعنى اللغوي ـ أي الزيادة ـ بشرط إضمار مضاف ، أي حرّم أخذ الربا ، فيكون دالاّ على حرمة أخذ الزيادة ، لا على حرمة نفس العقد المتضمّن لمعاوضة الجنس الربوي به متفاضلا ؛ لأنّه لم يثبت نقل الربا إلى العقد المذكور. ويمكن أن يراد به نفس العقد المذكور بناء على تحقّق النقل ، فيدلّ الآية على حرمة نفس العقد المذكور. وقد عرفت الحقّ.
[ الصورة ] الثامنة : معارضة الاشتراك والتخصيص. والثاني أولى ؛ والسرّ ظاهر.
وكيفيّة التفريع : أنّ قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٢) يدلّ على تحريم معقودة الأب على الابن ، سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا ؛ بناء على كون النكاح حقيقة في العقد ، وكونه شاملا للصحيح والفاسد ، إلاّ أنّ الفاسد منه مخصّص بالنصّ. وعلى كون النكاح مشتركا بين العقد والوطء لا افتقار إلى التخصيص ؛ لأنّ الآية حينئذ لا تدلّ على تحريم مطلق المعقودة حتّى يحتاج إلى إخراج العقد الفاسد ؛ لاحتمال أن يكون المراد من النكاح الوطء.
[ الصورة ] التاسعة : معارضة الاشتراك والإضمار ، والثاني أولى ؛ لعدم الإجمال فيه ، إلاّ إذا وجد امور متعدّدة يصلح كلّ واحد منها أن يكون مضمرا ، ولم يوجد قرينة دالّة على رجحان أحدها. وهذا الفرض نادر ، بخلاف الاشتراك ؛ فإنّه لا ينفكّ عن الإجمال. والمثال ـ على ما ذكره بعض (٣) ـ : أنّ لفظة « في » في قوله عليهالسلام : « في خمس من الإبل شاة » (٤) تحتمل أن تكون مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة ، وتحتمل أن تكون للظرفيّة خاصّة.
__________________
(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٢) النساء (٤) : ٢٢.
(٣) مثّل بها السيّد ضياء الدين الأعرج في منية اللبيب : ٧٣ ، والقمّي في قوانين الاصول ١ : ٣٢.
(٤) الكافي ٣ : ٥٣١ ، باب صدقة الإبل ، ح ١.
فعلى الأوّل لا حاجة إلى الإضمار ؛ لاحتمال كونها للسببيّة ، وعلى الثاني لا بدّ من إضمار لفظ « مقدار » حتّى يكون التقدير في خمس من الإبل مقدار شاة.
ثمّ من فوائد الخلاف هنا ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة (١).
[ الصورة ] العاشرة : معارضة التخصيص والإضمار. والترجيح للتخصيص ؛ ووجهه ظاهر ممّا سبق.
وكيفيّة التفريع : أنّ قوله عليهالسلام : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » (٢) يحتمل أن يكون عامّا في الواجب والمستحبّ ، إلاّ أنّ المستحبّ مخصّص بجواز تأخير النيّة إلى الزوال. ويحتمل أن يكون فيه إضمار لفظ « كامل » أو شبهه ، ويكون التقدير « لا صيام كامل » إلى آخره. وحينئذ لا افتقار إلى التخصيص المذكور ؛ لعدم دلالته حينئذ على وجوب التبييت مطلقا.
ثمّ اعلم أنّ القوم صرّحوا بأنّه إذا تعارض النسخ مع واحد من الامور الخمسة ، يلزم الحكم بمرجوحيّة النسخ (٣) ؛ لأنّه عبارة عن بطلان الحكم الثابت ، وهو خلاف الأصل. والحكم به مع عدم القطع يؤدّي إلى الفساد. وفي شيء من الامور الخمسة (٤) لا يلزم ذلك ، مع أنّ كلّ واحد منها أكثر وجودا من النسخ.
فصل [١٧]
المشتقّ فرع وافق الأصل في حروفه الاصول ومعناه ، ويعلم من كون المشتقّ فرعا لزوم تحقّق تغيّر ما في اللفظ بينه وبين أصله ؛ إذ الفرعيّة والأصالة لا تتحقّقان بدونه.
والتغيير إمّا بزيادة حرف ، أو حركة ، أو كليهما. وإمّا بنقصان إحدى الثلاث. وإمّا بالزيادة والنقصان معا فيهما معا ، أو في أحدهما فقط ، أو مع كون أحدهما في الآخر. وإمّا بأحدهما
__________________
(١) في ص ٧٣ ـ ٧٤.
(٢) راجع : سنن أبي داود ٢ : ٣٢٩ ، ح ٢٤٥٤ ، وكنز العمّال ٨ : ٤٩٣ ، ح ٢٣٧٨٩ ـ ٢٣٧٩٢.
(٣) راجع : المحصول ١ : ٣٦١ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٤٣.
(٤) أي المجاز ، والنقل ، والاشتراك ، والتخصيص ، والإضمار.
في أحدهما ، والآخر في الآخر أيضا. فيصير أقسام المشتقّ خمسة عشر ، أربعة منها احاديّ ، وستّة منها ثنائيّ ، وأربعة منها ثلاثيّ ، وواحد منها رباعيّ. والأمثلة ظاهرة.
ثمّ المراد من الموافقة المأخوذة في التعريف الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب ، فيخرج عنه المشتقّ بالاشتقاق الصغير ، وهو ما يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول بدون الترتيب ، نحو : كنى ونكى. وكذا يخرج عنه المشتقّ بالاشتقاق الأكبر ، وهو ما يعتبر فيه المناسبة فيها دون الموافقة ، نحو : ثلب وثلم ، وفي كليهما يعتبر المناسبة في المعنى دون الموافقة فيه (١).
ويبقى التعريف خاصّا بما هو المشهور المعتبر عند القوم ، وهو المشتقّ بالاشتقاق الأصغر ، وهو ما يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب والمعنى ، نحو :
ضرب وضارب.
وعلى هذا التعريف يدخل المعدول (٢) في تعريف المشتقّ. فإن قلنا باشتقاقه ، فلا إشكال. وإن لم نقل به ، فلا يكون التعريف مانعا ، ولذا زيد في التعريف « بتغيّر ما في المعنى » ، وحينئذ يخرج المعدول ، لكن يخرج المصدر الميمي أيضا.
وقد يوجّه الحدّ بدون الزيادة : بأنّ المراد من الأصل المصدر ، وحينئذ يصير الحدّ مطّردا منعكسا.
واعلم أنّ المشتقّ قد يطّرد ، وهو الذي اعتبر وجود معنى الأصل فيه من حيث إنّه داخل في مفهومه ، ويكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتصحيح حتّى يكون المراد من المشتقّ ذاتا مبهمة باعتبار انتساب ذلك المعنى إليها ، كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة وأمثالها.
وقد لا يطّرد ، وهو الذي اعتبر فيه معنى الأصل ، لا من حيث إنّه داخل في مفهومه ، بل من حيث إنّه مرجّح للتسمية بهذا الاسم من بين الأسماء ، فيكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتوضيح دون التصحيح ، كالقارورة ، والدبران ، والعيوق ، وأمثالها (٣) ؛ فإنّ تسمية الزجاجة
__________________
(١) كذا في النسختين. وقسّم الشوكاني في إرشاد الفحول ١ : ٥٤ الاشتقاق إلى الصغير والكبير والأكبر ، وسمّى مثل كنى ونكى كبيرا ، ومثل ضرب وضارب صغيرا ؛ فتسمية المصنّف تخالف المشهور.
(٢) كثلاث ومثلث ؛ فإنّهما معدولان عن ثلاثة ثلاثة ، وهما بمعنى ثلاثة ثلاثة.
(٣) في « ب » : « أمثال ذلك ».
بالقارورة باعتبار استقرار الشيء فيها ، إلاّ أنّ اعتبار ذلك فيها ليس من حيث إنّه داخل في مفهومها ، بل من حيث إنّه مرجّح لتعيّن هذا الاسم من بين سائر الأسماء.
وإذا عرفت هذا ، تعلم أنّ تسمية كلّ شيء باسم المشتقّ المطّرد (١) باعتبار وجود مبدأ الاشتقاق فيه تكون على سبيل الحقيقة ، وتسمية غير الزجاجة مثلا بالقارورة باعتبار استقرار الشيء فيه ـ كالدنّ وأمثاله ـ تكون على سبيل المجاز.
ويظهر الفائدة في الأحكام في الأيمان ، والتعليقات ، والأوقاف ، وأمثالها.
فصل [١٨]
إطلاق المشتقّ على ذات باعتبار الحال ـ يعني عند اتّصافها بالمبدإ ، كالضارب لمباشر الضرب ـ حقيقة وفاقا ، وباعتبار المستقبل ـ أي قبل اتصافها به ، كالميّت لمن لم يمت وسيموت ـ مجاز قطعا ، وباعتبار الماضي ـ أي بعد وجوده وزواله عنه ، كالضارب لمن ضرب وزال عنه الضرب ـ ففيه خلاف. فأصحابنا (٢) ، والمعتزلة (٣) ، وابن سينا (٤) على أنّه حقيقة. والأشاعرة (٥) على أنّه مجاز.
وذهب بعض (٦) إلى أنّه إن لم يمكن بقاؤه فحقيقة ، كالكلام ؛ فإنّ كلّ جزء منه أتى لا يمكن أن يبقى في زمان ، ولا يقارن الماضي ولا المستقبل ، وإن أمكن ولم يبق فمجاز ، كالضرب وأمثاله.
وتوقّف جماعة كالآمدي (٧) ، وابن الحاجب (٨).
وذكر جماعة أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجودي ينافي الأوّل ،
__________________
(١) في « ب » : « بالمشتقّ مطّرد ».
(٢) راجع تمهيد القواعد : ٨٤ ، القاعدة ١٩.
(٣) راجع المحصول ١ : ٢٤٠.
(٤) حكاه عنه الفخر الرازي في المصدر.
(٥) منهم الفخر الرازي في المصدر ١ : ٢٣٩ و ٢٤٠.
(٦) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٧٦.
(٧) الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٨٦.
(٨) حكاه عنه الأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٨٢.
كإطلاق الضارب على من انقضى عنه الضرب من دون طريان وصف ينافي الضرب. ومع الطريان ـ كإطلاق الأبيض على من زال عنه البياض وهو الآن أسود ـ فمجاز اتّفاقا.
وفي كلام بعض أصحابنا أنّ الخلاف فيما كان المشتقّ محكوما به ، كقولنا : زيد ضارب ، أو متكلّم ونحوه ، وأمّا إذا كان محكوما عليه ، كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي )(١) ، و ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ )(٢) و ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(٣) فحقيقة بلا كلام (٤).
وذكر بعض (٥) آخر أنّ النزاع في المشتقّ الذي بمعنى الحدوث ، كالضارب وأمثاله ، دون الذي بمعنى الثبوت ، كالمؤمن والكافر والحلو والحامض.
وقال بعض المتأخّرين : إنّ الإطلاق المذكور حقيقة إذا كان اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريّا بحيث يكون عدم الاتّصاف مضمحلاّ في جنب الاتّصاف ، سواء كان المشتقّ محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضدّ أو لا ، كالكاتب ، والخيّاط ، والقارئ ، والمعلّم ، والمتعلّم وأمثالها (٦).
والحقّ المذهب الأوّل ؛ لأنّ الضارب ـ مثلا ـ وضع في اللغة (٧) لمن ثبت له الضرب ، وهذا المفهوم شامل لمباشر الضرب ، ولمن ضرب وزال عنه الضرب ، فإخراج أحد الفردين منه تحكّم.
واستدلّ عليه أيضا ، بأنّ الإطلاق المذكور لو لم يكن حقيقة ، لما صدق مثل المتكلّم والمخبر على أحد حقيقة ؛ لأنّ الكلام مركّب من حروف متتالية ينقضي السابق منها بطريان اللاحق ، ولا شبهة في أنّ ماهيّة الكلام لا تتحقّق بحرف واحد ، بل بعدّة حروف ، وتحقّقها في آن واحد ممتنع ، فلا يتحقّق كلام أصلا ؛ لأنّه قبل حصولها لم يتحقّق ، وبعده قد انقضى (٨).
__________________
(١) النور (٢٤) : ٢.
(٢) المائدة (٥) : ٣٨.
(٣) التوبة (٩) : ٥.
(٤) تمهيد القواعد : ٨٥ ، القاعدة ١٩.
(٥) ذهب إليه شارح الشرح كما في شرح تجريد الاصول للنراقي الثاني ( مخطوط ).
(٦) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٦٣.
(٧) راجع لسان العرب ٨ : ٣٥ ، « ض ر ب ».
(٨) راجع المحصول ١ : ٢٤٠.