مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣٠٢
السند ، ولكن يسقط ممّن بعده رجلاً ضعيفاً أو صغير السنّ ، ليحسن الحديث بإسقاطه»(١).
ب ـ التدليس في المكان :
كأن يقول : «سمعتُ فلاناً وراء النهر ، وحدّثنا بما وراء النهر ، موهماً أنّه يريد بالنهر (جيحان) ... وإنّما يريد بذلك نهراً آخر»(٢).
ج ـ التدليس في المشايخ :
وهو «أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه ، ولكن لا يحبّ معرفة ذلك الشيخ ـ لغرض من الأغراض ـ فيسمّيه أو يكنّيه باسم أو كنية غير معروف بهما ، أو ينسبه إلى بلد أو قبيلة غير معروف بهما ، أو يصفه بما لا يُعرف به ، كي لا يُعرف»(٣).
٣ ـ توثيقات المتقدّمين :
كان الاعتماد على توثيقات الفقهاء المتقدّمين هو الطريقة الشائعة لدى الفقهاء للأخذ بالحديث ، لكنّ الفقهاء المتأخّرين رأوا التريّث بتوثيقات
__________________
(١) الرعاية في علم الدراية : ١٤٣ ـ ١٤٤.
(٢) الرواشح السماوية : ١٨٦ الراشحة السابعة والثلاثون.
(٣) وصول الأخيار : ١١٤.
القدماء ، بل ذهب السيّد الخوئي (ت ١٤١٣هـ) إلى ضرورة الاجتهاد في التوثيقات. إذن أصبح توثيق المتقدّمين موضع نقاش ، ومن ذلك :
أ ـ توثيق ابن فضّال (وهو فطحيّ المذهب) ، وابن عقدة (وهو زيديّ جاروديّ) وأمثالهما :
قال في عدّة الرجال : «الذي يستفاد من تتبّع سيرة قدماء الأصحاب هو الاعتماد على أمثال هؤلاء»(١).
إلاّ أنّ الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) وجّه التوثيق لا من جهة ثبوت العدالة ، بل من باب رجحان قبول الرواية ، قال : «من لم يعتمد على توثيق أمثالهم فلا اعتراض عليه ، ومن اعتمد فلأجل الظنّ الحاصل منه ، وغير خفيٍّ على المطّلع حصوله ، بل وقوّته ، وأيضاً ربّما كان اعتماده عليه بناءً على عمله بالروايات الموثّقة فتأمّل ، ويمكن أن يكون اعتماده ليس من جهة ثبوت العدالة ، بل من باب رجحان قبول الرواية وحصول الاعتماد والقوّة»(٢).
وقال أيضاً : «لو جعل تعديل مثل عليّ بن الحسن من مرجّحات قبول الرواية فلا إشكال ، بل يحصل منه ما هو في غاية القوّة ، وأمّا لو جعل من دلائل العدالة فلا يخلو من إشكال»(٣).
__________________
(١) عدة الرجال ١ / ١٤٣.
(٢) فوائد الوحيد : ١٠.
(٣) فوائد الوحيد : ٢١.
أمّا الشيخ المامقاني (ت ١٣٥١هـ) فقد كان أكثر تمسّكاً بعدم حجّية تلك التوثيقات ، فقال : «قد تأمّل جمعٌ في توثيقاتهم نظراً إلى عدم كونهم من الإمامية. وهو بناءً على كون اعتبار التزكية من باب الشهادة لا بأس به ، وأمّا على المشهور من كونها من باب الوثوق والظنّ الذي ثبتت حجّيته في الرجال فلا وجه له»(١).
ب ـ توثيق ابن نمير (وهو عامّي) ومن جرى مجراه :
اشترط الفقهاء المتأخّرون أن تقوم قرينة قوية على توثيقه ، فصرّح الشيخ المامقاني (ت ١٣٥١هـ) : «إن قامت قرينة قوية انضمّت إلى توثيق ابن نمير وأثبتت وثاقة المشهود له ، وإلاّ فلكون ابن نمير موثّقاً نعتبر توثيقه مدحاً معتدّاً به في حقّ من وثّقه»(٢).
وأشار الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) إلى أنّه : «لا يبعد حصول قوّة منه بعد ملاحظة اعتداد المشايخ به واعتمادهم عليه ، سيّما إذا ظهر تشيّع من وثّقوه ، وخصوصاً إذا اعترف الموثّق نفسه بتشيّعه»(٣).
ج ـ توثيقات الشيخ المفيد (ت ٤١٣هـ) في الإرشاد :
وأشكل بعض الفقهاء المتأخّرين على توثيقات الشيخ المفيد (ت٤١٣هـ)
__________________
(١) مقباس الهداية ٢ / ٢٩٠.
(٢) تنقيح المقال ١ / ٢١٧ الفوائد الرجالية.
(٣) فوائد الوحيد : ٥١.
واعتبروها عوامل مساندة للتوثيق لا أساساً في إثبات عدالة الراوي ، وإلى ذلك قال الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) : «استفادة العدالة منها لا تخلو من تأمّل ، نعم يستفاد منها القوّة والاعتماد. والمحقّق الشيخ محمّد تأمّلَ ، لكن قال في وجهه : لتحقّقها بالنسبة إلى جماعة اختصّ بهم من دون كتب الرجال ، بل وقع التصريح بضعفهم من غيره على وجه يقرّب الاتّفاق ، ولعلّ مراده من التوثيق أمر آخر»(١).
بينما قدّم الشيخ المامقاني (ت ١٣٥١هـ) علاجاً لذلك فقال : «توثيقه [يعني الشيخ المفيد] من ضعّفوه أو توقّفوا في حاله لا يوجب وهن توثيقاته ، غايته عدم الأخذ بتوثيقه عند تحقّق اشتباهه»(٢).
د ـ توثيقات العلاّمة وابن طاووس :
أثير الإشكال حول قبول توثيقات ابن طاووس (ت ٦٧٣هـ) والعلاّمة الحلّي (ت ٧٢٦هـ) ، ذلك لأنّهما عاشا في زمن بعيد عن زمن الرواة ، وزُعِمَ أنّ توثيقاتهم كانت مبنية على الحدس والاجتهاد ، لا الحسّ والاختبار.
لخّص الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) الموقف بالشكل التالي ، مؤيّداً قبول توثيقاتهم ، فقال : «توقّف بعضهم في توثيقات العلاّمة وتوثيقات ابن طاووس وكذا الشهيد ، ولعلّه ليس في موضعه ، لحصول الظنّ منها والاكتفاء
__________________
(١) فوائد الوحيد : ٥٢.
(٢) مقباس الهداية ٢ / ٢٩١.
به»(١). بل «اعترض المجلسي الأوّل عليهم بأنّ العادل أخبرنا بالعدالة أو شهد بها فلا بدّ من القبول»(٢).
وسار المقدّس الكاظمي (ت ١٢٢٧هـ) على نهج الوحيد البهبهاني ، فقال : «إنّ التّوقّف في توثيق مثل ابن طاووس والعلاّمة ليس في محلّه»(٣).
٤ ـ الإدراج :
والمدْرَج هو ما أدخل في ثنايا الحديث شيء. وهو على قسمين : إمّا مُدْرَج السند أو مدرج المتن.
أ ـ مُدْرَج السند :
«كأن يعتقد بعض الرواة أنّ فلاناً الواقع في السند لقبه أو كنيته أو قبيلته أو بلده أو صنعته أو غير ذلك كذا ، فيوصفه بعد ذكر اسمه بذلك ، أو يعتقد معرفة من عبّر عنه في السند بـ : (بعض أصحابنا) ونحوه ، فيعبّر مكانه بما عرّفه من اسمه»(٤).
ذكر السيّد حسن الصدر العاملي (ت ١٣٥٤هـ) أقسام المدرج :
«١ ـ أن يذكر الراوي حديثاً ثمّ يتبعه كلاماً لنفسه أو لغيره ، فيرويه من
__________________
(١) فوائد الوحيد : ٥٢.
(٢) فوائد الوحيد : ٥٢.
(٣) عدة الرجال ١ / ١٣٨.
(٤) مقباس الهداية ١ / ٢٢١.
بعده متّصلاً.
٢ ـ أن يكون المتن عنده إلاّ طرفاً منه ، فإنّه عنده بإسناد آخر ، فيرويه راو عنه تامّاً بالإسناد الأوّل.
٣ ـ أن يسمع الحديث من شيخه إلاّ طرفاً منه ، فيسمعه عن شيخه بواسطة ، فيرويه عنه تامّاً بحذف الواسطة.
٤ ـ أو الخبر الذي رواه جماعة عن المعصوم عليهالسلام بألفاظ مختلفة ، وروى عنهم بسند واحد ولا يذكر الاختلاف»(١).
ب ـ مُدْرَج المتن :
وهو «ما أدرج [في متن الحديث] كلام بعض الرواة ، فيظنّ أنّه من الأصل ، وهو على أقسام :
١ ـ ما أدرج فيه كلام بعض الرواة فيظنُّ أنّه من الأصل ، والغالب بل هو الظاهر منهم كون هذا في المتن ...
٢ ـ ما إذا كان عنده متنان بإسنادين فيدرج أحدهما في الآخر ، فينقل أحد المتنين خاصّة بالسندين والمتنين بسند واحد.
٣ ـ ما إذا كان حديث واحد مرويّاً عن جماعة مختلفين في سنده بأن رواه كلٌّ بسند ، أو اختلفوا في خصوص راو في وجوده في السند وعدمه ، أو في تعيينه بأن اختلفوا أنّ ثالثاً في السند مثلاً فلان أو فلان ، أو في متنه بأن
__________________
(١) نهاية الدراية : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.
اختلفوا في وجود لفظ فيه وعدمه ، أو في أنّ الموجود هذا أو غيره وإدراجه بأن يسقط موضع الاختلاف مع مجيئه بالسندين ، أو يذكره مع السندين بما كان أحدهما يختصّ به»(١).
خاتمة الفصل :
وتركيز الفقهاء على الحديث (الصحيح) ، وإثراء بحوثه ، وإيجاد السبل الشرعية لتشخيصه ، لا يعني أنّ طريق الدراية كان يسيراً لم تعترضه المصاعب والموانع ، بل زخر تاريخ علم دراية الحديث بمختلف المشاكل التي لا زالت بحاجة إلى حلول ، وبالخصوص اضطراب السند والمتن ، والتدليس ، وتوثيقات المتقدّمين ، ونحوها.
__________________
(١) نهاية الدراية : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.
الفصل السادس
شخصية الخبر وقيد العدالة
للخبر شخصية معنوية محاطة بهالة من الاحترام والإلزام والقدسية ، ذلك أنّ الخبر والحديث يعبّران عن كلام يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره. وكم يتمنّى المرء أن تكون جميع الأخبار الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) صحيحة ، إلاّ أنّ الواقع التأريخي لا يتّفق مع ذلك.
ولذلك وقف فقهاء أهل البيت عليهمالسلام من البداية أمام الخبر وقوف المتأمّل ، ووضعوا لقبوله والالتزام بمحتواه وفحواه شروطاً عقلية وشرعية ، خصوصاً بعد انتشار الوضع والدسّ في الأخبار المروية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في القرن الأوّل الهجري. وأوّل سؤال طرحوه عندما كان يردهم الخبر ، هو : هل كان ذلك الخبر متواتراً أم كان خبرَ آحاد؟
القسم الأوّل : الخبر والمخبِر :
١ ـ الخبر المتواتر والآحاد :
فالخبر على قسمين : متواتر ، وآحاد :
أ ـ الخبر المتواتر :
وطالما كان مدار قبول الخبر صدقه وسلامة نقله ، أصبح معرفة عدد الناقلين للخبر أمراً مهمّاً ، لأنّ العقل يدلّل على أنّ تتابع الرواة على نقلِ نصٍّ بعينه ـ شرطُ عدم تواطئهم على الكذب وتباين أحوالهم ـ يورث اليقين بصحّته. وهذا هو التواتر.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مفهوم التواتر بقوله : «(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنا تَتْرَا كُلّمَا جَاءَ أُمَةً رَسُوْلها كَذّبُوْهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضَاً وَجَعَلْناهُم أَحَادِيْثَ فَبُعْدَاً لِّقَوْم لاّ يُؤْمِنُوْنَ) (١) ، و «قوله : تترا ، مصدر ، كدعوى وذكرى وشورى ، وهو من المواترة ، وهي أن يتبع الخبر الخبر ، والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كبير»(٢).
فالخبر المتواتر ـ لفظاً أو معنىً ـ هو «خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً»(٣) ، و «يفيد بنفسه القطع بصدقه» ، بمعنى إن «بلغت سلاسله في كلّ طبقة حدّاً يؤمن معه تواطؤهم على الكذب ، فمتواتر»(٤).
ولابدّ من ملاحظة مقدّمتين في الأخذ بالخبر المتواتر :
الأولى : أن يكون الجامع المشترك بين الرواة في رواية ما هو اتّفاقهم على الصدق وعدم اجتماعهم على الكذب ، مع تباين أحوالهم.
__________________
(١) المؤمنون : ٤٤.
(٢) مجمع البيان ٤ / ١٠٧.
(٣) قوانين الأصول ١ / ٤٢١.
(٤) الوجيزة : ٢.
الثانية : اتّفاقهم على الإخبار عن تلك الواقعة.
قال الشيخ محمّد حسين الإصفهاني (ت ١٢٥٤هـ) : «إنّ ما يتوقّف عليه العلم هو المقدّمة الثانية وهي اتّفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة ، وأمّا المقدّمة الأولى أعني لا يجمعهم على الكذب جامع فهو عين النتيجة أو في مرتبتها ، فلا يتوقّف العلمُ بها عليه ، وليس مجرّد إمكان تأليف قياس ينتج المطلوب ملاكاً لكون النتيجة نظريّة ، بل لابدّ معه من كونه مستفاداً منها ، وإلاّ لأمكن تأليفه في كلّ ضروريّ ، كقولنا مشتمل على الجزء وزيادة»(١).
أقسام الخبر المتواتر :
وقد مثّل المحقّق القمّي (ت ١٢٣١هـ) الخبر المتواتر بشجاعة علي عليهالسلام ، وجُوْد حاتم الطائي ، ثمّ قسّم المتواتر إلى ستّة أقسام :
«الأوّل : أن تتواتر الأخبار باللفظ الواحد سواء كان ذلك اللفظ تمام الحديث مثل (إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ) على تقدير تواتره ... ولفظ (من كنت مولاه فعلىٌّ مولاه) ، ولفظ (إنّي تارك فيكم الثقلين) لوجود تفاوت في سائر الألفاظ الواردة في تلك الأخبار.
الثاني : أن تتواتر بلفظين مترادفين أو ألفاظ مترادفة ، مثل : أنّ الهرّ طاهر ، والسنّور طاهر ، أو الهرّ نظيف والسنّور طاهر ، وهكذا ، فيكون
__________________
(١) الفصول في الأصول : ٢٧٠ ـ ٢٧١.
اختلاف الأخبار باختلاف الألفاظ المترادفة.
الثالث : أن تتوافر الأخبار بدلالتها على معنى مستقلّ ، وإن كان دلالةُ بعضها بالمفهوم والأخرى بالمنطوق ، وإن اختلف ألفاظها أيضاً ، مثل نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة الحاصلة [كما] يرد في بعض الأخبار : إنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة ، وفي آخر : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء. بل ويتمّ ذلك على وجه فيما كانت النجاسة في تلك الأخبار مختلفة كما في قوله عليهالسلام : ولا تشرب [الماء المختلط] بـ : سؤر الكلب إلاّ أنّ يكون حوضاً كبيراً يستسقى منه الماء ...
الرابع : أن تتواتر الأخبار بدلالة تضمّنية على شيء مع اختلافها بأن يكون ذلك المدلول التضمّني قدراً مشتركاً بين تلك الأخبار ، مثل أن يخبر أحدٌ أنّ زيداً اليوم ضربَ عمراً ، وآخر أنّه ضربَ بكراً ، وآخر أنّه ضربَ خالداً وهكذا إلى أن يحصل حدّ التواتر مع فرض الواقعة واحداً ، فإنّه يحصل العلم بوقوع الضرب من زيد وإن لم يحصل العلم بالمضروب ...
الخامس : أن تتواتر الأخبار بدلالة التزامية بكون ذلك المدلول الالتزامي قدراً مشتركاً بينهما ، مثل أن ينهانا الشارع عن التوضّؤ عن مطلق الماء القليل إذا لاقته العذرة ، وعن الشرب عنه إذا ولغ فيه الكلب ، وعن الاغتسال عنه إذا لاقته الميتة ، وهكذا. فإنّ النهي عن الوضوء في عرف الشارع يدلّ بالالتزام على النجاسة ، وهكذا الشرب والاغتسال ، فإنّه يحصل العلم بنجاسة الماء القليل بذلك.
السادس : أن تتواتر الأخبار بذكر أشياء تكون ملزومات للازم ، يكون ذلك اللازم منشأً لظهور تلك الأشياء ، مثل الأخبار الواردة في غزوات عليٍّ عليه الصلاة والسلام ، وما ورد في عطايا حاتم ...»(١).
ب ـ خبر الواحد :
هو الخبر الذي لا يكون متواتراً «ولو في بعض الطبقات»(٢) ، فإذا «لم ينتهِ الحديث إلى التواتر أو التظافر والتسامع فخبر آحاد ، سواء كان الراوي واحداً أو أكثر ، ولا يفيد بنفسه ـ مع قطع النظر عن القرائن ـ إلاّ ظنّاً»(٣).
ويسمّى بالغريب أيضاً ، وفسّره المحقّق الداماد (ت ١٠٤٠هـ) بالرواية «التي يرويها راو واحدٌ في الطبقة الأولى ، واثنان في الطبقات اللاحقة»(٤).
وإن كان الانفراد في أصل سنده فيطلق عليه (الفرد المطلق) ، وإن لم يكن الانفراد في أصل سنده ، يطلق عليه (الفرد النسبيّ) لأنّ التفرّد حصل بالنسبة إلى شخص معيّن بذاته ، ومثاله : «إذا روى الكليني تارة عن طريق أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، واُخرى عن طريق عليّ ابن مهزيار عن الحسن بن محبوب ، وثالثة عن طريق إبراهيم بن هاشم عنه ، فهذا الخبر غريب لأنّ الحسن بن محبوب الذي انتهت إليه المسانيد راو
__________________
(١) قوانين الأصول ١ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧.
(٢) الوجيزة : ٤.
(٣) نهاية الدراية : ١٠٢.
(٤) الرواشح السماوية : ١٣٠.
واحدٌ ، سواء نقل هو عن واحد أيضاً أو نقل عن الكثير»(١).
وخبر الآحاد على قسمين :
الأوّل : يذكر فيه السند بتمامه ويتّصل بالمعصوم عليهالسلام ، ويسمّى بالمسند.
الثاني : لم يذكر فيه السند بتمامه ، أو لم يذكر فيه السند أصلاً.
وقد شرحنا أقسام خبر الآحاد في الفصل الرابع من هذا البحث.
٢ ـ الراوي والرواية :
وإذا كان للخبر شخصية متميّزة ، لها خصائصها في الحُسن والقبح ، كان لزاماً علينا معرفة من يتحمّل ثقلها والحفاظ عليها. فهنا لابدّ في البحث عن الراوي والرواية.
الراوي : هو «من يروي الحديث مطلقاً ، سواء رواه مسنداً أو مرسلاً أو غيرهما»(٢). والمعروف أنّ الراوي لا يعدُّ راوياً إلاّ أن ينقل الحديث بإسناده ، ولا يمكننا تصديق الراوي إلاّ أن يكون متحمّلاً للحديث بأحد الطرق المعروفة المقرّرة في النقل ، وإلاّ فإنّه لا يعدُّ فيما رواه راوياً ، بل حاكياً أو ناقلاً لا غير.
أما الرواية فهي : «الخبر المنتهي بطريق النقل من ناقل إلى ناقل حتّى
__________________
(١) الرواشح السماوية : ١٣٠.
(٢) مقباس الهداية ٣ / ٤٩.
ينتهي إلى المنقول عنه من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام عليهالسلام»(١).
أقسام الرواية : ولمّا كانت الرواية على تلك الدرجة من الأهمّية ، كان لزاماً معرفة جذرها وطريق سندها ، فهي على أقسام ، منها :
١ ـ رواية الثقة (أو الجليل) عن أشياخه : وتعدُّ قوية ، كما يراها الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) ، حيث قال : «إن علِم أنّ فيهم ثقة فالظاهر صحّة الرواية ، وإلاّ فإن علِم أنّهم مشايخ الإجازة أو فيهم من جملتهم ، فالظاهر أيضاً صحّتها ، وكذا الحال فيما إذا كانوا أو كان فيهم من هو مثل شيخ الإجازة ، وإلاّ فهي قوية غاية القوّة مع احتمال الصحّة لبعد الخلوّ عن الثقة»(٢).
٢ ـ رواية الثقة الثبت عن رجل سمّاه : فإذا روى الثقة الثبت رواية عن رجل سمّاه ، فهل يصحّ عدّ الرجل من العدول أم لا؟ قال الشيخ حسين عبد الصمد (ت ٩٨٤هـ) : «لم يكن تعديلاً عن الأكثرين ، وهو الصحيح»(٣).
لكن المحقّق الداماد (ت ١٠٤١هـ) عارض ذلك ، وقيّد الموضوع بالطريقة التالية وقال : «إن علِم أنّ من عادته أنّه لا يروي إلاّ عن عدل فهو تعديل ، وإلاّ فلا»(٤).
٣ ـ رواية الثقة الجليل عن غير واحد : فلو روى الثقة الجليل عن
__________________
(١) مجمع البحرين ١ / ١٩٩.
(٢) فوائد الوحيد : ٥٣.
(٣) وصول الأخيار : ١٨٩.
(٤) الرواشح السماوية : ١٠٤ الراشحة الثالثة والثلاثون.
جماعة قيّدهم بالقول : (من أصحابنا) ، أو قول (قول الثقة : حدّثني غير واحد من أصحابنا ، أو جماعة من أصحابنا) ، فهل الرواية قوية أم لا؟ قال في عدّة الرجال : «من أمارات الوثاقة ، لبعد أن لا يكون ثقة في جماعة يروي عنهم الثقة ويتناول»(١).
بينما ذهب الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) إلى : «إنّ الرواية قوية غاية القوّة ، بل وأقوى من كثير من الصحاح ، وربّما يعدُّ من الصحاح بناءً على أنّه يبعد أن لا يكون فيهم ثقة ، وفيه تأمّل!»(٢).
«قال المحقّق الشيخ محمّد : إذا قال ابن أبي عمير : عن غير واحد ، عدّ روايته في الصحيح حتّى عند من لا يعمل بمراسيله»(٣).
إلاّ أنّ السيّد حسن الصدر العاملي (ت ١٣٥٤هـ) عارض ذلك ، وقال : «لا أعدّ مثل هذا في الحسن ، فضلاً عن الصحيح ، فلابدّ من الفحص والبحث»(٤).
٤ ـ رواية الجليل عن الرجل : فإذا روى الجليل الثقة عن رجل فتلك أمارة قوّة للرجل ، كما في رأي الوحيد البهبهاني (ت ١٢٠٦هـ) حيث قال : «هو
__________________
(١) عدة الرجال١ / ١٣٥.
(٢) فوائد الوحيد : ٥٣.
(٣) فوائد الوحيد : ٥٣.
(٤) نهاية الدراية : ٤٢٢.
أمارة الجلالة والقوّة»(١). وفي منتهى المقال : «من أسباب المدح»(٢). وعند المحقّق المامقاني (ت ١٣٥١هـ) : «من أمارات القوّة دون الوثاقة ، إذا كان الجليل ممّن يطعن على الرجال في الرواية عن المجاهيل»(٣).
٥ ـ رواية الأكابر عن الأصاغر : و «هي رواية الراوي عمّن دونه في السنّ أو في اللقى أو في المقدار ، كرواية الصحابي عن التابعي»(٤) ، و «من هذا القسم وهو أخصّ من مطلقه رواية الآباء عن الأبناء ، كرواية العبّاس بن عبد المطّلب عن ابنه الفضل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) جمع بين الصلاتين بالمزدلفة»(٥).
٦ ـ رواية الأقران : «الراوي والمروىّ عنه إن استويا في السنّ أو في اللقى وهو الأخذ عن المشايخ فهو من رواية الأقران ، لأنّه حينئذ يكون راوياً عن قرينه»(٦). ويُضرب لها مثال : «رواية كلٍّ من الشيخ أبي جعفر الطوسي والسيّد المرتضى عن الآخر ، فإنّهما أقرانٌ في طلب العلم والقراءة على الشيخ المفيد»(٧).
__________________
(١) فوائد الوحيد : ٤٧.
(٢) منتهى المقال ١ / ٨٨.
(٣) مقباس الهداية٢ / ٢٦٣.
(٤) الرعاية في علم الدراية : ٣٥٢ ، ٣٥٣.
(٥) الرعاية في علم الدراية : ٣٥٥.
(٦) الرعاية في علم الدراية : ٣٤٩.
(٧) وصول الأخيار : ١١٦.
٣ ـ المجهول :
و «هو من لم يقع في كتب الرجال تصريحٌ بعدالته ووثاقته ، ولا بضعفه ومجروحيته»(١).
والمجهول ـ إصطلاحاً ـ يطلق في موردين :
الأوّل : يقع وصفاً للحديث ، «وهو المرويّ عن رجل غير موثّق ولا مجروح ولا ممدوح أو غير معروف أصلاً ، ومنه قولهم : (عن رجل) ، أو (ممّن حدّثه) ، أو (عمّن ذكره) ، أو (عن غير واحد) أو نحو ذلك»(٢).
الثاني : يقع وصفاً للراوي.
«اصطلاحي : وهو مَن حكم أئمّة الرجال عليه بالجهالة ...
ولغويٌّ : وهو ليس بمعلوم الحال ، لكونه غير مذكور في كتب الرجال. ولا هو من المعهود أمره المعروف حاله من حال من يروي عنه من دون حاجة إلى ذكره.
والأوّل : متعيّن بأنّه يحكم بحسبه ومن جهته على الحديث بالضعف. ولا يطلق الأمر على الاجتهاد فيه واستبانة حاله على خلاف الأمر في الثاني»(٣).
قال في قاموس الرجال : هناك «فرق بين كلمة (المجهول) في كلام
__________________
(١) مقباس الهداية ٢ / ١٣٠.
(٢) نهاية الدراية : ١٩٢.
(٣) الرواشح السماوية : ٦٠ الراشحة الثالثة عشر.
العلاّمة وابن داود ، وبينها في كلام المتأخّرين ، فإنّها في كلامهما عبارة عمّن صرّح أئمّة الرجال فيه بالمجهولية ، وهو أحد ألفاظ الجرح ، وأمّا في كلام المتأخّرين ـ من الشهيد الثاني والمجلسي إلى المامقاني ـ فأعمّ منه ، ومن المهمل الذي لم يذكر فيه مدح ولا قدح»(١).
٤ ـ العُلوّ في الحديث :
يُقاس الحديث بقرب سنده وعلوّ مرتبته.
ويُفهم العُلوّ في (علم الدراية) :
إمّا بقرب الإسناد من المعصوم عليهالسلام (٢).
وإمّا بقرب الإسناد من أحد أئمّة الحديث ، كالشيخ الصدوق والكليني والحسين بن سعيد(٣).
وإمّا بتقدّم السماع ، وهو أن يسمع شخصان من شيخ ، وسماع أحدهما أقدم فهو أعلى ، وإن تساوى العدد الواقع في الإسناد(٤).
ويُفهم العلوّ أيضاً بالنسبة إلى رواية أحد كتب الحديث المعتمدة (من المجاميع المعتبرة أو غيرها من الأصول المعتبرة عندنا) وهو إمّا بالموافقة أو
__________________
(١) قاموس الرجال ١ / ٤٤.
(٢) الرعاية في علم الدراية : ١١٣.
(٣) الرعاية في علم الدراية : ١١٣.
(٤) الرعاية في علم الدراية : ١١٣.
الإبدال أو المساواة أو المصافحة(١).
ويُفهم العلوّ أيضاً «بتقدّم وفاة الراوي ، فإنّه أعلى من إسناد آخر يساويه في العدد مع تأخّر وفاة من هو في طبقته عنه ، ومثاله ، في قول الشهيد الثاني : ما نرويه بإسنادنا إلى الشيخ الشهيد عن السيّد عميد الدين عن العلاّمة جمال الدين بن المطهّر ، فإنّه أعلى ممّا نرويه عن الشهيد عن فخر الدين بن المطهّر ، عن والده جمال الدين ، وإن تساوى الإسنادان في العدد ، لتقدّم وفاة السيّد عميد الدين على وفاة فخر الدين بنحو خمس عشرة سنة»(٢).
وللبحث صلة ...
__________________
(١) وصول الأخيار : ١٤٦.
(٢) الرعاية في علم الدراية : ١١٤.
وقفة عجلى على موسوعة (ذخائر الحرمين الشريفين) |
|
محمّد حسين الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذي طهَّر بيته للطّائفين والعاكفين والركّع السجود ، والصلاة والسلام على محمّد النبىّ المحمود ، وآله الطيّبين الطاهرين ذوي الخير والجود مادام الوجود.
فقد انبرى سماحة الشيخ حسين الواثقي ـ دامت فضائله وفواضله ـ وتصدّى بعزم وإرادة ، وشمّر عن ساعدي الجدّ والاجتهاد لدراسة وتحقيق تاريخ وتراث الشيعة الإمامية في الحرمين الشريفين ، من خلال موسوعة (ذخائر الحرمين الشريفين).
فقبل سنين من الزمن دفعت الهمّة بالشيخ الواثقي أن يقترح أُطروحة تحت عنوان (الموسوعة المكّية والمدنية الشيعية الكبرى) ، وهي تشتمل على محورين :
الأوّل : المواضيع والعناوين المشتركة بين الشيعة والسنّة ، فمن المعلوم أنّ