تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

ولم يبق منه شيء (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) أي لكونها غير متناهية ، فلا تنفد نفاد المتناهي.

قال أبو السعود. وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب ، المضاف إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموضعين ، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و (الكلمات) في موضع الإضمار ، لزيادة التقرير. وقوله تعالى : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) أي بمثل البحر عونا وزيادة ، لنفد أيضا.

قال أبو السعود : كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن ، جيء به لتحقيق مضمونه ، وتصديق مدلوله ، مع زيادة مبالغة وتأكيد ، وهذا كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧].

تنبيه :

دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه‌الله وغيره من الأئمة : لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة ، وأئمة السنة ، وكثير من أهل الكلام ، كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ. وطوائف غير هؤلاء يقولون : إن الكلام صفة ذات وفعل ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حيّ وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم ، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم ، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم ، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون : ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق منفصل عنه. والكلابية يقولون : هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة ، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون : إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره ، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه

٨١

نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى ، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد ، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال ، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات ، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.

وقال أيضا في قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية : كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل ، جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

(قُلْ) أي لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي خصصت بالوحي وتميّزت عنكم به. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يخاف المصير إليه ، أو يأمل لقاءه ورؤيته ، أو جزاءه الصالح وثوابه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي في نفسه ، لائقا بذلك المرجوّ ، وهو ما كان موافقا لشرع الله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي من خلقه إشراكا جليّا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيّا. كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.

قال أبو السعود : وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، لزيادة التقرير ، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.

ودلت الآية ـ كما قال ابن كثير ـ على أن للعمل المتقبّل ركنين : كونه موافقا شرع الله المنزل ، ومخلصا أريد به وجهه تعالى ، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر ، ثبت في السنة ، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية ، باعتبار عموم معناها ، وإن كان السياق في الشرك الجليّ ، للخطاب مع الجاحدين. والله تعالى هو الموفق والمعين.

٨٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم

سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايميّ : لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله ، وطلب بها إشراق نوره ، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت ، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة [مريم : ٥٨] ، وآية (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١].

وقد روى محمد بن إسحاق ، في السيرة ، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.

٨٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣)

(كهيعص) سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف ، المبتدأ بها. وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف. أي : هذا (كهيعص) أي مسمى به ، وقوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) مبتدأ خبره محذوف. أي فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي هذا المتلوّ ذكرها. و (زكريا) والد يحيى عليهما‌السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايميّ : أي ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه‌السلام بمقتضى كمال ربوبيته. فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا ، في تعريف مقام النبوة ، وقدرة الله وعنايته بصفوته. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ظرف ل (رحمة) أو بدل اشتمال من (زكريا) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء ، وهو إخفاؤه ، لكونه أبعد عن الرياء ، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤)

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف. قال الزمخشريّ : وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه ، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحّده ، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ (وهن) بكسر

٨٤

الهاء وضمها (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) قال الزمخشريّ : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ، وأخذه منه كل مأخذ ـ باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين : أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار ، كما قال ابن دريد في (مقصورته).

إمّا ترى رأسي حاكى لونه

طرّة صبح تحت أذيال الدجا

واشتعل المبيضّ في مسودّه

مثل اشتعال النّار في جزل الغضا

والثانية مكنية. بتشبيه الشيب ، في بياضه وإنارته ، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية ، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل : إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار ، في بياضه وانتشاره (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعوّد منك إلا الإجابة في الدعاء ، ولم تردّني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة ، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة ، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعد ما عوّد عبده بالإجابة دهرا طويلا. لا يكاد يخيبه أبدا. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.

تنبيه :

استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحبّ فيه. فمنها الإسرار بالدعاء ، لقوله (خفيّا) ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله : (وَلَمْ أَكُنْ) إلخ كما قدمنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) أي الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي ، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به ، من الإرشاد ووعظ

٨٥

العباد ، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد من حين شبابها (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أي هب لي ولدا ، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثا ، لي ولآل يعقوب ، في العلم والنبوة. وفي قوله (مِنْ لَدُنْكَ) إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافا إلى الله تعالى ، وصادرا من عنده. و (آل يعقوب) أولاده الأنبياء ، عليهم‌السلام. (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي مرضيّا عندك قولا وفعلا.

ثم بيّن تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧)

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي مثلا وشبيها. وعن ابن عباس : لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص ، ولم يهمّ بمعصية قط.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨)

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل : إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر :

ومن العناء رياضة الهرم

قال الراغب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩)

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر ، ثم وجدت.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم طلب أولا ، وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر ،

٨٦

فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت : ليجاب بما أجيب به ، فيزداد المؤمنون إيقانا ، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريّا أولا وآخرا ، كان على منهاج واحد ، في أن الله غنيّ عن الأسباب. انتهى.

وقال أبو السعود : إنما قاله عليه‌السلام ، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران ، استعظاما لقدرة الله تعالى ، وتعجيبا منها ، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك ، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ، لا استبعادا له. وقيل : كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي : أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل : كذلك. أي يكون الولد وأنتما كذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١٠)

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل ، ليطمئن قلبي (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي : أن لا تقدر على تكليمهم ، حال كونك سويا ، بلا مرض في بدنك ، ولا في لسانك.

لطيفة :

إنما ذكر (الليالي) هنا ، و (الأيام) في آل عمران ، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس ، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها. والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء ب (الليالي) هنا وب (الأيام) ثمّ ، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيّهم قمرية ، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها ، في التاريخ ، كما ذكره النحاة ، فأعطي السابق للسابق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١)

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي مصلاه أو غرفته (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إليهم رمزا (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي صلوا لله طرفي النهار ، وقوله تعالى :

٨٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٢)

(يا يَحْيى) استئناف ، طوى قبله جمل كثيرة ، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشّر به ، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ، ويحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره ، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي : قلنا (يا يحيى) (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) أي تعلم التوراة بجدّ وحرص واجتهاد. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير ، وهو صبيّ ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) (١٤)

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي وآتيناه حنانا : وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه (وَزَكاةً) أي طهارة من الذنوب ، وعصمة بليغة منها (وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي متكبرا عاقّا لهما ، أو عاصيا لربه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥)

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي من الله (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي ليستقبل النعيم الأبديّ. و (السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. وفي ذكر الأحوال الثلاث ، زيادة في العناية به ، صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) (١٦)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي القرآن (مَرْيَمَ) أي نبأها (إِذِ انْتَبَذَتْ) أي اعتزلت وانفردت (مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي شرقيّ بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.

٨٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧)

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أي جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا ، لغاية كماله ، لينفخ فيها (فَتَمَثَّلَ لَها) أي فتصور لرؤيتها (بَشَراً سَوِيًّا) أي سويّ الخلق ، كامل الصورة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨)

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) أي أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها ، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي تتقي الله تعالى ، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنّما ذكّرته بالله تعالى ، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل. فخوفته أولا بالله عزوجل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩)

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك الذي استعذت به ، بعثني إليك (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي لأكون سببا في هبته. و (الزكيّ) الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠)

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي تعجبت من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ، أي على أي صفة يوجد مني ، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟

قال الزمخشريّ : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال ، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة : ٢٣٧] ، (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء :

٨٩

٤٣] و [المائدة : ٦] ، والزنى ليس كذلك. إنما يقال فيه (فجر بها ، وخبث بها) وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. وإنما اقتصر في سورة آل عمران على قوله (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] ، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها. فهي محل التفصيل. بخلاف تلك. فلذا حسن الاكتفاء فيها. وقيل : جعل المس ثمّ ، كناية عنهما ، على سبيل التغليب. و (البغيّ) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء ، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل ، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)

(قالَ) أي الملك (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي عليك بهذه الكرامة ، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده ، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) من تتمة كلام جبريل لمريم. يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ، وقال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢)

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي لما صارت حاملا به ، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها ، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها ، عن الله تعالى ، ما قال ، مما تقدم ، استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله. فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت بإذن الله تعالى.

٩٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي : فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع لتعتمد عليه وتستتر به. و (أجاء) ـ قال الزمخشريّ ـ منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) أي الحمل (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا تافها ، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيّا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك ، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود ، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة ، وبضد ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام ـ قال الزمخشريّ ـ لأنه مقام دحض ، قلما تثبت عليه الأقدام ، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر ، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم به ـ عيبا يعاب به ويعنف بسببه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤)

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي من مكان أسفل منها ، تحت أكمة ، وهو جبريل. وقيل : هو عيسى ، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي سيدا نبيلا رفيعا ، وقيل : نهرا يسري.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥)

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي حضر أوان اجتنائه. قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلّى بالسريّ والرطب! قلت : لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب ، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة ، والبعد من الريبة ، وأمن مثلها ، مما

٩١

قرفوها به ، بمعزل. وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات ، خارقة لما ألفوا واعتادوا ، حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي بالكمال والولد المبارك ، الموجود بالقدرة ، الموهوب بالعناية. قال الزمخشريّ : أي جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر ، لكونها معجزتين. وهو معنى قوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب ، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تمادّيهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ، والاكتفاء بكلام عيسى عليه‌السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها ، فقوله : (صَوْماً). أي صمتا. وقوله : (فَلَنْ أُكَلِّمَ) إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (٢٧)

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي عظيما منكرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨)

(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) استئناف لتجديد التعبير ، وتأكيد التوبيخ ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. و (هارون) هو النبيّ الشهير ، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى (المشابه) كثيرا.

٩٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ، قالُوا) منكرين لجوابها (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولم يعهد تكليم عاقل الصبيّ في المهد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١)

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد ، ردّا على من يزعم ربوبيته ونبوّته (آتانِيَ الْكِتابَ) أي الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقوم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة ، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم ، أو جعل الآتي ، لا محالة ، كأنه وجد (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) أي أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦)

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي مستكبرا عن طاعته وأمره (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذلِكَ) أي الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم ، فيما يزعمونه ، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟

٩٣

وهذا كقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠] ، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده ، بقوله سبحانه (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلّ وغوى.

تنبيهات في فوائد هذه القصة :

الأول ـ لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه‌السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ، ولدا زكيّا طاهرا مباركا ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما‌السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران ، وهاهنا ، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. و (مريم) هي بنت عمران. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.

الثاني ـ استدل بقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧] ، من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) [مريم : ٢٣] ، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] على التسبب في الرزق ، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل :

ألم تر أنّ الله قال لمريم

وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه

إليها ، ولكن كلّ شيء ، له سبب

في الآية أصل لما يقوله الأطباء ، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) بعد (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب ، كما استنبطه الزمخشري ، قال : ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) معنى قولهم في المثل : من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

الثالث ـ نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَ)

٩٤

[مريم : ٣٣] ، إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة : وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى ، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخافات في كل الأحوال.

الرابع ـ قال القاشانيّ : وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ، لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا (قلبا) والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية ، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد ، بمنزلة الإنفحة في الجبن. ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن ، أي العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقد ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة ، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى. والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا ، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى ، وكان مزاج كبدها حارّا ، كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويّا في الإمساك والجذب ، قام المنفصل في الكلية اليمنى ، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد ، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.

ثم قال في قوله تعالى : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) في اللوح مقدرا في الأزل. وعن

٩٥

ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) فدنا منها فنفخ في جيب الدرع ، أي البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه‌السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم ، واستقرارها فيه ، ريثما؟ تزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.

الخامس ـ التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.

قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعيده إليه بعد.

وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وفرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته ، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا ، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.

وقال البلقينيّ : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن ، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة ، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا ، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى ، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.

ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب ، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.

٩٦

السادس ـ قال بعضهم : أصل كلمة (عيسى) يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى (عيسى) تشبها باسم موسى. ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية ، بل والعربية. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧)

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى ، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني بالذين كفروا ، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشريّ : أي في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.

وقيل : معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥] ، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب با لحق لما جاءه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨)

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، أي يقولون

٩٧

ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أي في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشريّ : أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير ، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر ، حين يجدي عليهم ويسعدهم.

تنبيه :

إنما أوّل التعجب في الآية بما ذكر ، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب ، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] ، أفاده الشهاب.

وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال ، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا ، يستلزم النقص والحاجة ، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا ، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه ، الغنى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود ، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال ، من العلم والقدرة وغير ذلك ، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان ، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال ، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات ، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف ، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقيّ الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.

٩٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار ، وصار كلّ إلى ما صار إليه مخلدا فيه (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلوا عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيد الخالص ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه (نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) أي متلطّفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي فلا يدفع ضرّا ولا يجلب نفعا.

قال أبو السعود : ولقد سلك عليه‌السلام في دعوته أحسن منهاج ، وأقوم سبيل. واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب ، بالكلية ، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل ، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه ، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام ، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل ، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيّا مميزا سميعا بصيرا ، قادرا على النفع والضر ، مطيقا بإيصال الخير والشر ، لكن كان ممكنا ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟.

٩٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (٤٣)

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) أي وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق ، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق ، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايميّ : أي وإن كان حق الأبن اتباع الأب في العرف ، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.

قال الزمخشريّ : ثنّى عليه‌السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير ، وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤)

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا).

ثلّث عليه‌السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه ، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة ، مستجلب لضرر عظيم ، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسوّل له ، وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ) إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له ، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته ، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية ، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لكونك عصيته وواليت عدوّه ، فيقطع رحمته عنك ، كما قطعها عن الشيطان (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.

١٠٠