تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

وثانيها ـ أنه عليه‌السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له. حتى كانوا ربما مدّوا أيديهم إليه. وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروها ، ليلا ، أو في أوقات خلوة. وذلك يبطل قولهم.

وثالثها ـ أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر. فكيف أجمعوا على أنه عظّم آلهتهم حتى خروا سجدا؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.

ورابعها ـ قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخة بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها. فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا ، أولى.

وخامسها ـ وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه. وجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي ، وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة.

أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر. وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.

ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث. ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت.

فصل

وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه‌الله في هذه الآية مقالة بديعة ، نقتبس منها شذرات.

قال : يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهيّ (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر ، في الفضائل وصالح الأعمال. وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم. ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، في هذا الدين القويم ، أنه

٢٦١

قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل. وخص خاتمهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز. وعصمة الرسل في التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام. شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة. وما خالف فيه بعض الفرق ، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه. ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان ، حق لا يرتاب فيه ملّيّ يفهم ما معنى الدنى. ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه. أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل. نظروا نظرة في قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية القراءة) فعمي عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس ، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم. فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاه قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم. ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم. فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (النجم) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا. وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفي طباع الناس إلف الغريب ، والتهافت على العجيب. فولعوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها. وذهب إليه الأئمة في بيانها.

جاء في صحيح البخاريّ (١) : وقال ابن عباس في (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذا حدث ألقي الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. ويقال (أمنيته قراءته) (إِلَّا أَمانِيَ) يقرءون ولا يكتبون. انتهى.

فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعد ما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس. وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين. فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة. ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) يفيد أنه غير معتبر عنده. وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٢٢ ـ سورة الحج ، في الترجمة.

٢٦٢

وقال صاحب الإبريز : إن تفسير (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ورواها عليّ بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه. انتهى.

وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها. وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحاق : إنها من وضع الزنادقة. كما تقدم عن الرازيّ ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه‌الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه.

وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز ؛ أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين. فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أي وجه جاء. وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها. هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به. فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له.

هذا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيرا ، في بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها. ولا عبرة برأى من خالفهم. فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير ، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا. وشهرة المبطل في بطله ، لا تنفخ القوة في قوله. ولا تحمل على الأخذ برأيه.

ثم قال الأستاذ رحمه‌الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها. والله أعلم :

لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئا من القرآن ، أن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآيات ، يحكي قدرا قدّر للمرسلين كافة ، لا يعدونه ولا يقفون دونه. ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفي أممهم. فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم. ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام

٢٦٣

الشيطان ويحكم الله آياته إلخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده.

ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ، ليبين له سنته فيهم. وذلك بعد أن قال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) [الحج : ٤٢] ، إلى آخر الآيات ثم قال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٤٩ ـ ٥٢] ، إلخ ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم. ثم تبعه الأمر الإلهيّ بأن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه : إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه ، ولأبشر المؤمنين بالنعيم. وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار ، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله ، ويعاجزوا بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، أي يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك. وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها ، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة ـ هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم. وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعاجزة في الآيات ، قد ابتلي به الأنبياء السابقون. فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف ، ويضادّون أمانيه ، ويحولون بينه وبين ما يبتغي ، بما يلقون في سبيله من العثرات. فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا ، يجب أن تفسر الآية. وذلك يكون على وجهين :

الأول ـ أن يكون (تمنّى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) وهو معنى قد يصح. وقد ورد استعمال اللفظ فيه ؛ قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

تمنّي داود الزبور على رسل

غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه ، بل على المعنى المفهوم من قولك (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ، ولا يكون قد أراده. أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه. وذلك من عمل

٢٦٤

المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء الريبة ، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، مفسد القلوب بدسائسه ، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه. ويكون المعنى : وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدّث قومه عن ربّه ، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم ، قام في وجهه مشاغبون ، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه. ويتقوّلون عليه ما لم يقله ، وينشرون ذلك بين الناس ، ليبعدوهم عنه ، ويعدلوا بهم عن سبيله ، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا ، ويجاهدون في الحق ، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين ، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة ، وينتصر على الباطل بالمجالدة. فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها ، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنّة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب ، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ضعفاء العقول ، بتلك الشبه والوساوس ، فينطلقون وراءها. ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة ، فيتخذونها سندا يعتمدون عليها في جدلهم. ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم ، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه ، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به ، فتخبت وتطمئن له قلوبهم. والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين. وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم ، وتطير به مع الوهم ، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهيّ أو إلى القرآن ، وهو أجلّها ، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين. هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا. وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم. ولم يجعل للوهم عليها سلطانا ، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم. وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب ، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع ، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم ، فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب. لا تستقر عقولهم عليه ، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه. حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقوا حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن ، ومادّهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب ، القتل أو الأسر. ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة ، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة. وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. ما أقرب هذه الآيات في

٢٦٥

مغازيها ، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧] ، وقد قال بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) [آل عمران : ١١٦] ، ثم قال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٢] ، إلخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى. فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم ، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم. فيقولون آمنا به كلّ من عند ربنا ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم. وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل ، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي إليهم الشيطان ، ويصرفهم عن مرامي البيان ، ويميل بهم عن محجة الفرقان. وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد ، لن يغني عنهم من الله شيئا. فستوافيهم آجالهم ، وتستقبلهم أعمالهم. فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم. فسيغلبون في هراشهم. وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم ، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه ، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه. وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران ، لا مدخل لها في آيات سورة الحج ، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات (وَما أَرْسَلْنا) إلى آخرها ، على تقدير أن (تمنّى) بمعنى (قرأ) وأن (الأمنية) بمعنى (القراءة) والله أعلم.

الوجه الثاني في تفسير الآيات ـ أن التمني على معناه المعروف. وكذلك الأمنية. وهي أفعولة بمعنى المنية. وجمعها. أمانيّ كما هو مشهور. قال أبو العباس أحمد بن يحيى : التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون. قال : والتمني سؤال الرب. وفي الحديث (إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفي رواية (فليكثر) قال ابن الأثير : (التمني) تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. وقال أبو بكر : تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إليّ. وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه ، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبيّ ليدعو قوما إلى هدي جديد ، أو شرع سابق شرعه لهم ، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا ؛

٢٦٦

أو جاء به غيره إن كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه ، إلا وله أمنية في قومه. وهي أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه ، ويستشفوا من دائهم بدوائه ، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه. وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته. وتصديقهم برسالته ، منه على طعامه الذي يطعم ، وشرابه الذي يشرب ، وسكنه الذي يسكن إليه. ويغدو عنه ويروح علينا. وقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك في المقام الأعلى ، والمكان الأسمى. قال الله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ، وقال (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ، وقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] ، وفي الآيات ما يطول سرده ، مما يدل على أمانيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتعلقة بهداية قومه ، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه ، إلى نور ما جاء به. وما من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان في سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات. ووسوس في صدور الناس. وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس ، فثاروا في وجهه ، وصدوه عن قصده ، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه ، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه. فإذا ظهروا عليه ، والدعوة في بدايتها ،. وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ، ظنوا الحق من جانبهم ، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه ، فتنة لهم.

غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم ، أو من المستضعفين فيهم ، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان. وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله. ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله ، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله. أنصار الباطل في كل زمان ، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان ، والغرور بالزخارف. والزهو بكثرة المعارف. وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم ، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم. فإذا دعا إلى الحق داع ، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن ، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله ، بخلوصها من هذه الشواغل. وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته ، قام أولئك المغرورون يقولون (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) [هود : ٢٧] ، فإذا استدرجهم الله على سنته ، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا ، افتتن الذين

٢٦٧

في قلوبهم مرض من أشياعهم ، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم. ولكن الله غالب على أمره. فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها ، وينشئ من ضعف أنصارها قوة ، ويخلف لهم من ذلتهم عزة ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧] ، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين ، تسلية لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلاقي من قومه ، ووعد له بأنه سيكمل له دينه ، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته ، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٢] ، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤].

هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية. يدل عليه ما سبق من الآيات ، ويرشد إلى سياق القصص السابق في قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [الحج : ٤٢] ، إلخ. وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح.

وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز. وإني أنقله بحروفه ، وما هو بالبعيد عن هذا بكثير. قال (بعد ذكر أمانيّ الأنبياء في أممهم ، وطمعهم في إيمانهم ، وشأن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني) :

ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٣] ، فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة ، الموجبة لكفره. وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس ، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب ، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة ، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى) أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح ، فهذه أمنية كل رسول ونبيّ. وإلقاء الشيطان فيها ، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم ، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم ، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة ، ويبقي ذلك عزوجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به. فخرج من

٢٦٨

هذا أن الوساوس تلقى أولا في قلوب الفريقين معا ، غير أنها لا تدوم على المؤمنين ، وتدوم على الكافرين. انتهى.

وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه ، تتبين الأحق بالترجيح. ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه ، كما قاله القاضي البيضاويّ وغيره. ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ. يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ، ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة. وما يقال في المخرج عن ذلك ، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم. ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم. إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح. وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة ، كما قال ابن إسحاق. وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت. ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض. أو هو اسم الكركيّ أو طائر يشبهه والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسموأل وفردوس وقرطاس وعلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل. وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة (الغرنوق) كما يسمى به ضرب من الشجر. ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات. ويقال (لمة غرانقة) و (غرانقية) أي ناعمة تفيئها الريح. أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ. ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام ، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام. فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين ، ممن لا يميز بين حر الكلام ، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام. فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية ، عما تقتضيه الدراية (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]. انتهى كلام الأستاذ رحمه‌الله.

وممن جزم بوضع هذه القصة جزما باتّا ، الإمام ابن حزم رحمه‌الله ، حيث قال في كتابه (الملل) في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله : استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه‌السلام في (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم (وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى) ثم قال بعد : وأما الحديث الذي فيه (الغرانيق) فكذب بحت موضوع. لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد. وأما قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ

٢٦٩

إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآية ، فلا حجة لهم فيها. لأن الأمانيّ الواقعة في النفس لا معنى لها. وقد تمنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلام عمه أبي طالب ، ولم يرد الله عزوجل كون ذلك. فهذه الأمانيّ التي ذكرها الله عزوجل لا سواها ، وحاشا لله أن يتمنى نبيّ معصية. وبالله تعالى التوفيق.

وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق. انتهى ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥)

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك وجدال من التنزيل الكريم ، لما طبع على قلوبهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة (بَغْتَةً) أي فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي يوم لا يوم بعده. كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيما. والمراد به الساعة أيضا. كأنه قيل (أو يأتيهم عذابها) فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل. أفاده أبو السعود. أي لأنه بمعنى (شديد) لا مثل له في شدته. وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى : لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب ، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقون حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن ، ومادّهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة. بل يسلبون ما كان لديهم ، ويساقون إلى مصارع الهلكة ، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٥٦)

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي يوم تزول مريتهم (لِلَّهِ) أي وحده ، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بالمجازاة ، ثم فسر الحكم

٢٧٠

بقوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) (٥٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) أي في الجهاد (أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) أي من الجنة ونعيمها (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ).

قال في الإكليل : استدل بقوله تعالى (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابيّ على أن المقتول والميت في سبيل الله سواء في الفضل. أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة. وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (فمن مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتانين. واقرءوا ما شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى (حَلِيمٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي ومن جازى ظالما بمقدار ظلمه ، ولم يزد في الاقتصاص منه ، ثم تعدى عليه الظالم ثانيا ، لينصرن الله ذلك المظلوم. وإنما سمي الابتداء بالعقاب ، الذي هو الجزاء ، للازدواج والمشاكلة. أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعريض بالحث على العفو والمغفرة. فإنه تعالى مع كمال قدرته ، لمّا كان يعفو ويغفر ، فغيره أولى بذلك. وتنبيه على قدرته على النصر. إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده. فظهر سر مطابقة (العفوّ الغفور) لهذا الموضع.

٢٧١

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢)

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة ، إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ندّ ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء. بل هو المصنوع. أي فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر ، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وأن الله هو ذو العلوّ على كل شيء ، والعظيم الذي كل شيء دون عظمته ، فلا أعلى منه ولا أكبر. ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر ، تقريرا لألوهيته ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي جعلها معدّة لمنافعكم (وَالْفُلْكَ) أي وسخر لكم البحر ، حتى أن الفلك (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بتيسيره لمنافعكم (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي بمشيئته وقدرته. أي ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك ، رحمة بكم ، فاشكروا آلاءه وحده (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي في آلائه وآياته المذكورة ، وما أبان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته ، لا إله إلا هو. وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمنه قوله تعالى :

٢٧٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (٦٦)

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي جحود للنعم ، بعبادة غير بارئها. أو إشراكه معه ، مع أنه هو الخالق لكل ذلك ، والقادر عليه ، وغيره لا يملك شيئا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٦٧)

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا) أي وضعنا (مَنْسَكاً) أي شريعة ومتعبدا (هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة ، وعدم وحدته ، أو في أمر ما جئتهم به ، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله. لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها ، وحياتها ومنشئها. ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها ، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك عنه. أو معناه : ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به. فلا تضرك منازعتهم. وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك ، لاستقرار الأمر على شرعتك. لأنها الطريق القويم.

هذا ، وقال ابن جرير : أصل المنسك في كلام العرب ، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، لخير أو شر. يقال (إن لفلان منسكا يعتاده) يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى (النسك) هنا ، فقيل : عيدا. وقيل : إراقة الدم (ثم استظهر) أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى. لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، أي فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم (أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله)؟ انتهى.

وعليه ، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى (جَعَلْنا) الجعل القدريّ لا التشريعيّ. كما قال : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ٤٨] ، أي هؤلاء إنما

٢٧٣

يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته. فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق. وهذا كقوله تعالى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) [القصص : ٨٧] ، أشار له ابن كثير. ونقل الرازيّ عن ابن عباس ، في رواية عطاء ، أن المراد بالمنسك الشريعة والمنهاج. قال : وهو اختيار القفال ، لقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ، وهو الذي آثرناه أولا لظهوره فيه. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٧١)

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من أمر الدين (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي من ضرورة العقل أو استدلاله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي يدفع عنهم ما يراد بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار أو الفظيع من التهجم

٢٧٤

والبسور. أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب. قال في (فتح البيان) : وكذلك أهل البدع المضلة ، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه ، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة ، مخالفا لما اعتقده من الباطل ، رأيت في وجهه من المنكر ، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ ، النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ) «أي بيّن» (مَثَلٌ) أي حال مستغرب (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي تدبروه حق تدبره. فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لخلقه متعاونين. وتخصيصه الذباب ، لمانته وضعفه واستقذاره. وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين. حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها ، صورا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا لذلك (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي هذا الخلق الأقل الأذل ، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا (ضَعُفَ الطَّالِبُ) أي الصنم يطلب ما سلب منه (وَالْمَطْلُوبُ) أي الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف. فإن الذباب حيوان وهو جماد. وهو غالب وذلك مغلوب. وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم ، وبالمطلوب معبوده. قيل : وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم. فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل. واختار الوجه الأول الزمخشريّ. لما فيه من التهكم ، بجعل الصنم طالبا على الفرض تهكما وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد ، وذلك حيوان بخلافه.

وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب. وقوله تعالى (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته ، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر وغالب. فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به. أو لقويّ بنصر أوليائه ، عزيز ينتقم من أعدائه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٧٦)

٢٧٥

(اللهُ يَصْطَفِي) أي يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أي فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته. ولا وجه لقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، قال أبو السعود : كأنه تعالى. لما قرر وحدانيته ، في الألوهية ، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بيّن أن له عبادا مصطفين للرسالة ، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم ، إلى عبادته عزوجل. وتقدمه بنحوه البيضاويّ (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما عملوه وما سيعملونه (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي لأنه مالكها. فلا يسأل عما يفعل ، من الاصطفاء وغيره ، وهم يسألون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي صلّوا. وعبر عن الصلاة بهما ، لأنهما أعظم أركانها. أو اخضعوا له تعالى ، وخروا له سجدا ، لا لغيره (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي تحرّوه. كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.

تنبيهات :

الأول ـ لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة. واختلفوا في السجدة الثانية ـ هذه ـ فروي عن عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى ؛ أنهم قالوا : في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق ، يدل عليه ما روي (١) عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال : نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. أخرجه الترمذيّ وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب (٢) أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في (الموطأ) وذهب قوم إلى أن في الحج سجدة واحدة ، وهي الأولى ، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : سجود القرآن ، ١ ـ باب تفريع أبواب السجود ، وكم سجدة في القرآن ، حديث رقم ١٤٠٢.

وأخرجه الترمذي في : الجمعة ، ٥٤ ـ باب ما جاء في السجدة في الحج.

(٢) أخرجه في الموطأ في : ١٥ ـ باب الأمر بالوضوء لمن مسّ القرآن ، حديث رقم ١٣.

٢٧٦

المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوريّ وأبي حنيفة ومالك. بدليل أنه قرن السجود بالركوع. فدل ذلك أنه سجدة صلاة ، لا سجدة تلاوة ـ كذا في (لباب التأويل) أي لأن المعهود في مثله من كل آية ، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع ، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة ، بالاستقراء نحو (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣] ، وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال.

وما روي من الحديث المذكور ، قال الترمذيّ رحمه‌الله : إسناده ليس بالقويّ. وكذا قال غيره كما في (شرح الهداية) لابن الهمام.

قال الخفاجيّ : لكن يرد عليه ما في (الكشف) أن الحق أن السجود حيث ثبت ، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية ، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة. بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قوله. فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة. ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها ، لما ثبت من الرواية فيه.

الثاني ـ قال في (اللباب) اختلف العلماء في عدّة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة. لكن الشافعي قال : في الحج سجدتان. وأسقط سجدة (ص). وقال أبو حنيفة في الحج سجدة. وأثبت سجدة (ص) وبه قال أحمد ، في إحدى الروايتين عنه. فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس. وبه قال مالك.

فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء (١) ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : في القرآن إحدى عشرة سجدة. أخرجه أبو داود وقال : إسناده واه. ودليل من قال (في القرآن خمس عشرة سجدة) ما روي عن عمرو بن العاص قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة. منها ثلاث في المفصل. وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود (٢). وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (اقْرَأْ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أخرجه مسلم (٣). انتهى.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : الجمعة ، ٤٧ ـ باب ما جاء في سجود القرآن.

(٢) أخرجه في : السجود ، ١ ـ باب تفريع أبواب السجود ، وكم سجدة في القرآن ، حديث رقم ١٤٠١.

(٣) أخرجه الترمذي في : الجمعة ، ٥٠ ـ باب ما جاء في السجدة في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).

٢٧٧

والخمس عشرة : في الأعراف ، والرعد ، والنحل ، والإسراء ، ومريم ، والحج ، والفرقان ، والنمل ، والم تنزيل ، وص ، وحم ، السجدة ، والنجم ، والانشقاق ، واقرأ.

والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن ، في أصح الأقوال. سمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره.

الثالث ـ سجود التلاوة سنة للقاري والمستمع. وبه قال مالك والشافعي وأحمد. لقول ابن عمر : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته. رواه الشيخان (١).

وقال عمر (٢) : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. رواه البخاري وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) عامّ في جهاد الكفار والظلمة والنفس. و (حق) منصوب على المصدرية. والأصل (جهادا فيه حقا) فعكس ، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة ، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة. وعن الرضيّ : إن (كلّ) و (جدّ) و (حقّ) إذا وقعت تابعة لاسم جنس ، مضافة لمثل متبوعها لفظا ومعنى ، نحو (أنت عالم كلّ عالم) أو (جدّ عالم) أو (حق عالم) أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرّق في الكل. وأن ما سواه باطل أو هزل. وقوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لدينه ولنصرته. وفيه تنبيه

__________________

(١) أخرجه البخاري في : سجود القرآن ، ٨ ـ باب من سجد لسجود القارئ ، حديث رقم ٥٩٢.

وأخرجه مسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ١٠٣.

(٢) أخرجه البخاري في : سجود القرآن ، ١٠ ـ باب من رأى أن الله عزوجل لم يوجب السجود ، حديث رقم ٥٩٣ ونصه : «يا أيها الناس إنا نمرّ بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب. ومن لم يسجد فلا إثم عليه».

٢٧٨

على المقتضى للجهاد والداعي إليه. لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته. وهي بما ذكر. ولأن من قرّ به العظيم ، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه ، بترك ما لا يرضاه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي في جميع أمور الدين من ضيق ، بتكليف ما يشق القيام به. كما كان على من قبلنا ، فالتعريف في (الدين) للاستغراق. قال في (الإكليل) : هذا أصل القاعدة (المشقة تجلب التيسير) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) منصوب على المصدرية ، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج. بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم. أو على الإغراء بتقدير (اتبعوا أو الزموا) أو الاختصاص بتقدير (أعني) ونحوه. أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله. فيكون مجرورا بالفتح ، أفاده الشهاب. قال القاضي ؛ وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كالأب لأمته ، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية. أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته. فغلبوا على غيرهم.

وقال القاشاني : معنى أبوّته كونه مقدما في التوحيد ، مفيضا على كل موحد ، فكلهم من أولاده. وقوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. والجملة مستأنفة. وقيل : إنها كالبدل من قوله (هُوَ اجْتَباكُمْ) ولذا لم يعطف (وَفِي هذا) أي القرآن. أي فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل : الضمير ل (إبراهيم) عليه‌السلام.

قال القاضي : وتسميتهم ب (مسلمين) في القرآن ، وإن لم يكن منه ، كان بسبب تسميته من قبل ، في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ، أي لدخول أكثرهم في الذرية. فجعل مسميا لهم مجازا. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي بأنه قد بلغكم رسالات ربكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة ، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، وثقوا به ، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه ، فهو خير مولى وناصر.

٢٧٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المؤمنون

سميت بهم لاشتمالها على جلائل أوصافهم ونتائجها ، في أولها وفي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧] ، إلى قوله : (سابِقُونَ) أفاده المهايميّ. وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) [المؤمنون : ٦٤] ، إلى قوله : (مُبْلِسُونَ) وآيها مائة وثماني عشرة. وقد روى الإمام أحمد ومسلم (١) وغيرهما عن عبد الله بن السائب قال : صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة الصبح. فاستفتح سورة المؤمنون. حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ، أو ذكر عيسى ، أخذته سعلة فركع.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٣ / ٤١١.

وأخرجه البخاري تعليقا في : الأذان ، ١٠٦ ـ باب الجمع بين السورتين في الركعة.

وأخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث رقم ١٦٣.

٢٨٠