علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: ٢٣٤
وقولهم باطل لقيام الدليل على موته كقيامه على موت آبائه عليهمالسلام ، وبانقراض هذه الفرقة بأسرها ، ولو كانت على شيء من البرهان لما انقرضت (١).
وقائل يقول بإمامة عبد الله بن جعفر ، وهم الفطحية (٢) ، وقولهم باطل لأنهم لم يعولوا في ذلك على نص عليه من أبيه بالإمامة (٣) ، وإنما عولوا في ذلك على أنه أكبر ولده ، وما رووه أن الإمامة تكون في الأكبر ، وهذا حديث لم يرو قط إلاّ مشروطاً ، وهو أن الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة ، وتواتر الخبر أن عبد الله كان به عاهة في الدين ، لأنه كان يذهب إلى مذاهب المرجئة (٤) ، الذين يقعون في علي عليهالسلام وعثمان ، وأن أبا عبد الله عليهالسلام قال وقد خرج من عنده : « عبد الله هذا مرجئ كبير » (٥). ودخل عليه عبد الله يوماً وهو يحدث أصحابه ، فلما رآه سكت حتى خرج ، فسئل عن ذلك فقال : « أو ما علمتم أنه من المرجئة » (٦).
__________________
(١) اعلام الورى ٢ : ٨ ، الفصول المختارة / السيد المرتضى : ٣٠٥.
(٢) سُميت بذلك لأن رئيساً لها يقال له عبد الله بن أفطح ، ويقال : انه كان أفطح الرجلين ، ويقال : بل كان أفطح الرأس ، ويقال : إن عبد الله كان هو الأفطح. أي أفطح الرأس ، بمعنى أنـّه كان ذا رأسٍ عريض ، أو أفطح الرجلين ، وهو أن يرتفع أخمص قدمه.
(٣) فالرواية التي ورد فيها اسمه كانت للتمويه كما تقدم ، لذا لم يروِ فيه نص خاص بمفرده ، وإنما ورد النص الخاص بموسى عليهالسلام فيما أوردناه في محله.
(٤) وهم القائلون : لا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وقالوا : الإيمان قول بلا عمل ، كأنهم قدّموا الإيمان وأرجأُوا العمل ، أي أخّروه ، لأنّهم يرون أنهم لو لم يُصلّوا ولم يصوموا نجّاهم إيمانهم ، وقد أسقطوا الوعيد جملةً عن المسلمين. معجم الفرق الإسلامية / شريف يحيى الأمين : ٢١٩.
(٥) الفصول المختارة : ٢٥٣.
(٦) الفصول المختارة : ٢٥٣.
هذا مع أن عبد الله لم يكن له من العلم ما يتخصص به من العامة ، ولا روي عنه شيء من الحلال والحرام ، ولا كان بمنزلة من يُستفتى في الأحكام ، وقد ادّعى الإمامة بعد أبيه فامتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها ، فأي علة أكبر مما ذكرناه تمنع من إمامة هذا الرجل ؟!
مع أنه لو لم تكن علة تمنع من إمامته لما جاز من أبيه صرف النص عنه ، ولو لم يكن قد صرفه عنه لأظهره فيه ، ولو أظهره لنقل وكان معروفاً في أصحابه ، وفي عجز القوم عن التعلق بالنص عليه دليل على بطلان ما ذهبوا إليه ، وأيضاً فإنهم رجعوا عن ذلك ، إلاّ شذاذ منهم ، وانقرضت الجماعة الشاذة أيضاً فلا يوجد منهم أحد (١).
وقال فيه الصادق والكاظم عليهماالسلام أحاديث كثيرة تدل على نفي الإمامة عنه ، منها قول الصادق لأصحابه قبل وفاته : « انه ليس على شيء مما أنتم عليه » (٢) ، وقوله في الحديث المتقدم في النصوص : عن طاهر بن محمد ، قال : «كان أبو عبد الله عليهالسلام يلوم عبد الله ويعاتبه ويعظه ويقول : ما منعك أن تكون مثل أخيك ؟! فوالله إني لأعرف النور في وجهه. فقال عبد الله : لِم ؟ أليس أبي وأبوه واحداً ، وأُمّي وأُمّه واحدة ؟! ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : إنه من نفسي وأنت ابني » (٣).
وحديث محمد بن حمران : عن أبي الحسن موسى عليهالسلام ، قال : « قلت له : أكان عبد الله إماماً ؟ فقال : لم يكن كذلك ، ولا أهل لذلك ، ولا موضع ذاك » (٤).
__________________
(١) الفصول المختارة : ٣٠٧.
(٢) الإمامة والتبصرة : ٧٣.
(٣) الكافي ١ : ٣١٠ / ١٠.
(٤) الإمامة والتبصرة : ٧٢.
ومنهم من قال بإمامة إسماعيل بن جعفر على اختلاف بينهم ، فمنهم من أنكر وفاة إسماعيل في حياة أبيه ، وزعم أنه بقي ونص أبوه عليه ، وهم شذاذ. ومنهم من قال : إن إسماعيل توفي في زمن أبيه ، غير أنه قبل وفاته نص على ابنه محمد فكان الإمام بعده ، وهؤلاء هم : القرامطة ، نسبوا إلى رجل يقال له : قرمطويه ، ويقال لهم : المباركية ، نسبة إلى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر عليهالسلام.
وأما ما اعتلت به الإسماعيلية من أن إسماعيل كان الأكبر ، وأن النص يجب أن يكون على الأكبر ، فمعلوم أن ذلك يجب إذا كان الأكبر باقياً بعد أبيه ، وأما إذا كان المعلوم من حاله أنه يموت في حياته ولا يبقى بعده ، فليس يجب ما ادعوه ، بل لا معنى للنص عليه ، ولو وقع لكان كذباً ، لأن معنى النص أن المنصوص عليه خليفة الماضي فيما كان يقوم به ، وإذا لم يبق بعده لم يكن خليفة ، فيكون النص حينئذ عليه كذباً لا محالة ، وإذا علم الله أنه يموت قبل الأول وأمره باستخلافه ، لكان الأمر بذلك عبثاً مع كون النص كذباً لأنه لا فائدة فيه ولا غرض صحيح ، فبطل ما اعتمدوه في هذا الباب.
فأما من ذهب إلى إمامة محمد بن إسماعيل بنص أبيه عليه ، فإنه منتقض القول فاسد الرأي ، من قبل أنه إذا لم يثبت لإسماعيل إمامة في حياة أبي عبد الله عليهالسلام لاستحالة وجود إمامين في زمان واحد ، لم يجز أن تثبت إمامة محمد ، لأنها تكون حينئذ ثابتة بنص غير إمام ، وذلك فاسد بالنظر الصحيح (١).
فإذا فسدت الأقوال المتقدمة ثبتت إمامة أبي الحسن موسى عليهالسلام ، وإلاّ أدى إلى خروج الحق عن جميع أقوال الأمة.
__________________
(١) الفصول المختارة : ٣٠٨.
ثالثاً ـ شواهد اُخرى :
هناك شهادات اُخرى تؤكد كون الإمام الكاظم عليهالسلام أحد الأئمة الاثني عشر أو سابعهم أو أحد الأوصياء أو إمام الحق وغيرها من الصفات ، نوردها ـ وإن كنا في غنى عنها ـ لأنها صدرت عن بعض أعدائه ومخالفيه ولو على سبيل نقل القول ، وهي تؤكد شهرة النص حتى عند المخالفين ، وفيما يلي نذكر مختاراً منها :
١ ـ روى المؤرخون عن هارون الرشيد أنه وصف الأئمة عليهمالسلام من أمير المؤمنين إلى الإمام الكاظم بالأوصياء ، فقد دخل عليه علي بن حمزة الكسائي ، فأخبره الرشيد باختلاف الأمين والمأمون ، وما يقع بينهما من سفك الدماء وهتك الستور وكثرة القتلى ، فقال له الكسائي : أيكون ذلك ـ يا أمير المؤمنين ـ لأمرٍ رؤي في أصل مولدهما ، أو لأثرٍ وقع لأمير المؤمنين في أمرهما ؟ فقال : لا والله إلاّ بأثر واجب حمله العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء. قالوا : فكان المأمون يقول في خلافته : قد كان الرشيد سمع جميع ما جرى بيننا من موسى بن جعفر بن محمّد ، فلذلك قال ما قال (١).
٢ ـ وقال الرشيد للمأمون : « يا بني هذا وارث علم النبيين ، هذا موسى بن جعفر عليهماالسلام ، إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا ، قال المأمون : فحينئذٍ انغرس في قلبي حُبّهم » (٢). وقال في موضع آخر : « يا بني نحن أئمة الملك وهذا إمام الدين » (٣).
__________________
(١) مروج الذهب ٣ : ٣٥١ ، الفتوح / ابن أعثم ٤ : ٤١٦ ، الأخبار الطوال / الدينوري : ٥٦٦ ـ وفيه أن الداخل عليه كان الأصمعي.
(٢) أمالي الصدوق : ٣٠٧ / ١ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٣ / ١٢.
(٣) الهداية الكبرى / الخصيبي : ٢٧٢.
٣ ـ وقال الرشيد يصف الإمام الكاظم عليهالسلام لابنه المأمون حين سأله عنه عند انصرافه من الموسم ، قال : « يا أميرالمؤمنين ، من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ قال : هذا إمام الناس ، وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده. فقلت : يا أمير المؤمنين ، أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟! فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق. والله يا بني ، انه لأحقّ بمقام رسول الله صلىاللهعليهوآله مني ومن الخلق جميعاً ، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فإن الملك عقيم » (١).
٤ ـ ابن خلكان ، قال : « أبو الحسن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين... أحد الأئمة الاثني عشر رضي الله عنهم أجمعين » (٢).
٥ ـ ابن العماد الحنبلي : قال في حوادث سنة ( ١٨٣ ه ) : « وفيها توفي السيد الجليل أبو الحسن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ، ... وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين على اعتقاد الإمامية » (٣).
٦ ـ اليافعي ، قال : «السيد أبو الحسن موسى الكاظم... كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر ، وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية ، وكان يدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده ، وكان سخياً كريماً » (٤).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٨٨ / ١١.
(٢) وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ / ٧٤٦.
(٣) شذرات الذهب ١ : ٣٠٤.
(٤) مرآة الجنان ١ : ٣٩٤.
٧ ـ عبد الوهاب الحنفي الشعراني ، قال : « أحد الأئمة الاثني عشر ، وهو ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين... كان يكنى العبد الصالح لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل » (١).
* * *
__________________
(١) الطبقات الكبرى : ٣٣.
الفصل الخامس
مكارم أخلاقه عليهالسلام
إن كل واحد من أئمة الهدى من آل البيت عليهمالسلام هو نسخة ناطقة بمكارم أخلاق جدهم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، واختصار لشخصيته بجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والإنسانية ، قال أبو عبد الله الصادق عليهالسلام في وصف ولده أبي الحسن موسى عليهالسلام كلمة اختصر فيها هذه الحقيقة : « إنه نبعة نبوة » (١).
وهكذا كان الإمام الكاظم عليهالسلام يتحلى كسائر آبائه الطاهرين بصفات الكمال ومعالي الأخلاق التي ميزت شخصيته العظيمة عن سائر من عاصره ، فلم ير مثله في غزارة العلم والحكمة والبلاغة والعبادة والانقطاع إلى الله ، وضرب أروع الأمثله في الكرم والحلم والزهد والتقوى وحسن السيرة.
قال أبو عبد الله الصادق عليهالسلام : « هؤلاء ولدي ، وهذا سيدهم ـ وأشار إلى ابنه موسى الكاظم ـ ففيه العلم والحكمة والفهم والسخاء والمعرفة فيما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب الله عزّ وجلّ » (٢).
كان الإمام الكاظم عليهالسلام يتحرك في المجتمع ضمن مجموعة من القيم يتصف بها ويوصي بها ويدافع عنها ، تلك هي قيم النبوة ومُثل الإسلام التي أبعدها
__________________
(١) الكافي ٢ : ٤١٨ / ٣.
(٢) الكافي ١ : ٣١٣ / ١٤ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٢٣ / ٩.
الحكام عن واقع الناس ، الأمر الذي جعل الإمام عليهالسلام في موقع محبة الناس كلهم ، كما فتح عليه باب الصراع مع الحكام في حرب باردة يتغاضى الكثيرون عن ذكر أسبابها ، لكونها تتعلق بغيرة الحاكم وحسده وأنانيته وعدم التزامه.
من هنا نال الإمام عليهالسلام اعجاب كبار العلماء والمحدثين ممن أدركه وغيرهم ، على اختلاف مشاربهم وميولهم ، وكلهم أشاد بشخصيته الفذة وسجاياه الحميدة ومعالي أخلاقه وتفوقه على سائر المعاصرين له.
قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي في الإمام الكاظم عليهالسلام : « هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالاً وفضلاً ، سمي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه ، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم » (١).
وقال محمد بن طلحة الشافعي : « هو الإمام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، المجتهد الجاد في الاجتهاد ، المشهور بالكرامات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً ، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظماً ، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه ، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح ، ويعرف بالعراق بباب الحوائج إلى الله ، لنجح مطالب المتوسلين إلى الله تعالى به ، كراماته تُحار منها العقول ، وتقضي بأن له عند الله تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول » (٢).
في ما يلي نأتي إلى نبذة من الملكات القدسية الفذّة والخصال الروحانية الفريدة التي تحلى بها الإمام الكاظم عليهالسلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والمروءة والتواضع والحلم والسماحة :
__________________
(١) الصواعق المحرقة : ١١٢.
(٢) مطالب السؤول : ٧٦.
أولاً ـ العلم :
استقى الإمام الكاظم علمه من أبيه أبي عبد الله الصادق عليهماالسلام ، مؤسس مدرسة أهل البيت العلمية الكبرى ، فقد نشأ ودرج في حجره ، وأخذ عنه العلم ، وورث منه مصادر الإيمان والحق ، وأثنى الإمام الصادق عليهالسلام على قدراته العلمية ونبوغه منذ أن كان يافعاً في أكثر من مناسبة ، قال الإمام الرضا عليهالسلام : « إن موسى بن جعفر عليهماالسلام تكلم يوماً بين يدي أبيه فأحسن ، فقال له : يا بني ، الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء ، وسروراً من الأبناء ، وعوضاً عن الأصدقاء » (١).
كان عليهالسلام أعلم أهل زمانه وأفقههم وأحفظهم لكتاب الله ، وكان يعرف بالعالم لسعة علمه وعمق حكمته ، ولما روي عنه في فنون العلم المختلفة.
واعترف له بالتقدم في العلم والفضل حتى أعدائه كما قدمنا (٢).
وعلى صعيد رواية العلم فقد قال الشيخ المفيد : « وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى عليهالسلام فأكثروا » (٣). واستطاع عليهالسلام أن يتواصل مع نشاط مدرسة أبيه عليهالسلام ، عن طريق الحفاظ على النخبة الصالحة من أقطابها الرواة الثقات والفقهاء والمؤلفين الذين أسهموا في رواية الحديث ونشر سائر علوم أهل البيت ، وقد بلغ عدد أصحابه الذين رووا عنه وغيرهم أكثر من خمسمائة (٤) ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٢٧.
(٢) راجع : عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٣ / ١٢ ، أمالي الصدوق : ٣٠٧ / ١.
(٣) الارشاد ٢ : ٢٣٥.
(٤) راجع : أحسن التراجم لأصحاب الإمام الكاظم عليهالسلام / عبد الحسين الشبستري. عدّ فيه ٥٣٣ رجلاً ممن روى عنه عليهالسلام ، واستدرك سبعة غيرهم في آخر الكتاب.
منهم أخوه العالم الجليل علي بن جعفر ، الذي روى عنه شيئاً كثيراً ، وكان شديد التمسك به عليهالسلام والانقطاع إليه ، والتوفّر على أخذ معالم الدين منه ، وله مسائل مشهورة عنه وجوابات رواها سماعاً منه (١).
وتوفّر أصحاب أبي الحسن عليهالسلام على رواية العلم عنه ، ولم تثنِهم حتى ظروف السجن القاهرة عن الكتابة والرواية ، فقد كتب أبو عمران موسى بن إبراهيم المروزي مسنداً رواه عن الإمام الكاظم عليهالسلام وهو في سجن السندي ، وكان المروزي يلي تعليم ولد السندي بن شاهك (٢).
وروى عنه العلماء والفقهاء على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم ، ودونوا عنه في كتبهم ومسانيدهم في شتى فروع العلم ، قال ابن شهر آشوب : « وذكر عنه الخطيب في تاريخ بغداد ، والسمعاني في الرسالة القوامية ، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين ، وأبو عبد الله بن بطة في الابانة ، والثعلبي في الكشف والبيان.
وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت عليهمالسلام لمّا روى عنه قال : حدثني موسى بن جعفر ، قال : حدثني أبي جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ثم قال أحمد : وهذا اسناد لو قرئ على المجنون لأفاق » (٣).
لأنه إسناد رفيع ينفتح على هذه الرموز كلها التي تمثل الثراء العلمي
__________________
(١) الارشاد ٢ : ٢١٤ و ٢٢٠ ، وكتاب مسائل علي بن جعفر متداول ومطبوع مع مستدرك عليه بتحقيق مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
(٢) طبع بتحقيق السيد محمد حسين الجلالي.
(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣١ ، فصل في علمه عليهالسلام.
والروحي كله ، في مواقع الحياة كلها ، وفي خطوط المسؤولية كلها.
وقال الذهبي : « الإمام ، القدوة ، السيد أبو الحسن العلوي ، والد الإمام علي بن موسى الرضا ، مدني نزل بغداد وحدث بأحاديث عن أبيه... له عند الترمذي وابن ماجة حديثان. غير أنه قال : روايته يسيرة لأنه مات قبل أوان الرواية » (١). ويفند ذلك ما تقدم من المصادر التي نقلت عنه عليهالسلام وعدد الرواة الذين استقوا منه العلم ، والروايات الواردة عنه في أبواب الفقه المختلفة والتي جمعت وطبعت أخيراً في كتاب مستقل كبير (٢).
ثم أنه ليس ثمة زمن معين للرواية في مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، بل ان التدوين والرواية لم يُمنع عندهم منذ فجر الإسلام حتى آخر الغيبة الصغرى للإمام المهدي عليهالسلام وذلك سنة ( ٣٢٩ ه ) ، أما في مدرسة الخلافة فقد حظر تدوين الحديث الشريف منذ رحيل المصطفى صلىاللهعليهوآله إلى زمان عمر بن عبد العزيز ، وإذا سلمنا أن الذهبي يريد بأوان الرواية ما بعد مدة الحظر ، فإن عهد الإمام موسى الكاظم عليهالسلام خارج عن دائرة الحظر الزمنية.
النبوغ المبكر :
تميز الإمام الكاظم عليهالسلام بنبوغه المبكر منذ نعومة أظفاره ، وقد توسم فيه أبو حنيفة هذا النبوغ وعلو الهمة ، وأذعن بتفوقه العلمي وسبقه المعرفي ولما يزل غلاماً صغيراً في الكتّاب ، ذلك لأن علمه إلهامياً كعلم سائر الأنبياء والأوصياء ، وليس كسبياً كعلم بقية الناس.
روي عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت ، قال : « دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهالسلام فسلمت عليه ، وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٠.
(٢) هو مسند الإمام الكاظم عليهالسلام للشيخ العطاردي.
في دهليزه قاعداً في مكتبه ، وهو صغير السن ، فقلت : أين يضع الغريب إذا كان عندكم ، إذا أراد ذلك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يجتنب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية الدار ، والطرق النافذة ، والمساجد ، ويضع بعد ذلك أين شاء. فلما سمعت هذا القول نبل في عيني ، وعظم في قلبي.
وقلت له : جعلت فداك ، ممن المعصية ؟ فنظر إليّ ، ثم قال : اجلس حتى أخبرك. فجلست فقال : إن المعصية لا بدّ أن تكون من العبد ، أو من ربه ، أو منهما جميعاً ، فإن كانت من الرب فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله ، وإن كان منهما جميعاً فهو شريكه ، فالقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ولذلك وجبت له الجنة والنار.
ثم أنشأ يقول :
لم تخل أفعالنا التي نذم بها |
|
احدى ثلاث خصال حين نبديها |
اما تفرد بارينا بصنعتها |
|
فيسقط اللوم عنا حين نأتيها |
أو كان يشركنا فيها فيلحقه |
|
ما كان يلحقنا من لائم فيها |
أو لم يكن لإلهي في جنايتها |
|
ذنب فما الذنب إلاّ ذنب جانيها |
فلما سمعت ذلك قلت : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) » (١).
ولا ريب أن غلاماً مهما بلغ من النضج والفطنة والذكاء لا يمكنه أن يحدد الموضوع بهذه الطريقة الجامعة المانعة ، إذا لم يكن متميزاً عن سائر أقرانه بالنبوغ الذي ينم عن علم إلهامي كعلم الأنبياء والأوصياء.
وهناك المزيد من أمثال هذا الخبر وردت في مصادر الحديث والسير ، منها
__________________
(١) الكافي ٣ : ١٦ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٠ / ١٨ ، أمالي المرتضى ١ : ١٥٢ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٢٩ ، اعلام الورى ٢ : ٢٩ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ٣٤.
حديث عيسى شلّقان الذي جاء يسأل الإمام الصادق عليهالسلام عن حال أحد الرجال ، وهو أبو الخطاب ، فقال له : « ما يمنعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد ؟ فذهب إليه وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر مداد ، فقال له : يا عيسى ، إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلن يتحولوا إلى غيرها عنها أبداً ، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلن يتحولوا عنها أبداً ، وأعار قوماً الإيمان زماناً ثم سلبهم إياه ، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان ثم سلبه الله إياه.
فقال له الإمام الصادق عليهالسلام : يا عيسى ، إن ابني الذي رأيته لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم. قال عيسى : ثم أخرجه ذلك اليوم من الكتّاب ، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر » (١).
وحديث محمد بن مسلم ، قال : « دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليهالسلام فقال له : رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم ، وفيه ما فيه ! فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ادعوا لي موسى ، فدعي ، فقال له : يا بني ، إن أبا حنيفة يذكر أنك كنت تصلّي والناس يمرون بين يديك ، فلم تنهَهم ؟ فقال عليهالسلام : نعم يا أبت ، إن الذي كنت أصلي له كان أقرب إليّ منهم ، يقول الله عزّ وجلّ : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٢). قال : فضمّه أبو عبد الله عليهالسلام إلى نفسه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، يا مودع الأسرار » (٣).
ثانياً ـ العبادة :
اتفق الناس على أن الإمام الكاظم عليهالسلام كان أعبد أهل زمانه ، ولقب بالعبد
__________________
(١) قرب الاسناد : ١٤٣ ، دلائل الإمامة : ١٦١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٥٣ / ٥.
(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٦.
(٣) الكافي ٣ : ٢٩٧ / ٤ ، الاختصاص : ١٨٥.
الصالح لكثرة عبادته وشدة انقطاعه إلى ربه ، وكان الناس بالمدينة يسمونه زين المجتهدين (١) ، إذ لم يرَوا نظيراً له في الطاعة لله والاجتهاد في العبادة والتقوى ، فقد عبد ربه حتى بدت عليه سيماء المخلصين ، على ما وصف المأمون ، فاصفر وجهه ، وضعف بدنه ، وكلم السجود جبهته وأنفه (٢).
روي أنه عليهالسلام كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : « اللهمّ إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب » ، ويكرر ذلك (٣). وهذا مما ينبغي لكل واحد منا أن يعيشه لأن الإنسان يمر بعقبتين عندما يموت ، فقد يموت متعباً من ذنوبه ، مرهقاً من خطاياه ، قلقاً على مصيره ، وقد يموت تائباً مطمئناً فيعيش الراحة في نفسه ، ويتقبل الموت بسرور ، وأما العقبة الثانية فهي عند الحساب ، لأن الذي يحاسب عالم السر والنجوى ، لذلك فالإنسان يشعر بالخوف من الخسارة إلاّ أن يأتيه العفو وتدركه الرحمة والغفران من الله سبحانه.
وكان من دعائه : « عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك » ، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع (٤). وهو عليهالسلام هنا يتحدث لا عن ذنب ، ولكن عن تواضع لله سبحانه ، وعن استغفار لمعنى الإنسان ومعنى العبد في داخل ذاته المقدسة.
وذكر شقيق البلخي أنه يقوم في نصف الليل يصلّي بخشوع وأنين وبكاء ،
__________________
(١) الإرشاد ٢ : ٢٣٥.
(٢) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٨٨ / ١١.
(٣) الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٢ ، إعلام الورىٰ ٢ : ٢٦.
(٤) الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٢ ، إعلام الورىٰ ٢ : ٢٦.
فلم يزل كذلك حتى يذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاّه يسبح ، ثم يقوم فيصلي الغداة (١).
وكان عليهالسلام يعرف بحليف السجدة الطويلة والدمعة الغزيرة ، كما ورد في زيارته ، روي أنه دخل مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله فسجد ليلة من العشاء إلى الفجر سجدة واحدة ، سمع يقول فيها عليهالسلام : « عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك ، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة » ، وجعل يرددها حتى أصبح (٢).
وروي عنه أنه كان يستغفر الله في كل يوم خمسة آلاف مرة (٣).
أما أوراده مع كتاب الله فكان يتلو القرآن متدبراً في آياته ، مستبصراً في أوامره ونواهيه ، وروي أنه كان أحفظ الناس بكتاب الله تعالى ، وأحسنهم صوتاً به ، وكان إذا قرأ تحزّن وبكى ، وبكى السامعون لتلاوته (٤).
وإنما كان عليهالسلام يقرأ بالصوت الحسن الذي يخشع السامعون إذا سمعوه ، لأن الصوت الحسن يعطي الكلمة القرآنية تجسيداً حياً بحيث تملأ عقل السامع وقلبه ، فتتعمق فيه أكثر مما إذا قُرأت بشكلها الطبيعي.
أما البكاء فهو بكاء الخشية من خلال تمثل عظمة الله في نفسه ، إذ ليس من الضروري أن تكون الخشية فرقاً من النار ، ولكن الخشية هي التي يختلط فيها
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٣ ، نور الأبصار : ١٤٩ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، صفة الصفوة ٢ : ١٨٥ ، الفصول المهمة : ٢٣٣ ، إسعاف الراغبين : ٢٤٧ ، دلائل الإمامة : ١٥٢ ، مطالب السؤول : ٨٣.
(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩.
(٣) الزهد / الحسين بن سعيد : ٧٤ / ١٩٩.
(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٢٣ ، روضة الواعظين : ٢١٦ ، إعلام الورى ٢ : ٣١.
الإحساس بالعظمة بالشعور بالفرح في الجلوس بين يدي الله ومخاطبته.
عن حفص قال : « ما رأيت أحداً أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر عليهماالسلام ، ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً » (١).
وكان عليهالسلام يسارع إلى فعل الطاعات وإلى كل ما ندب الله إليه برغبة وإخلاص ، فكان يعتمر ماشياً مع عياله وأهله والنجائب تُقاد بين يديه ، قال علي بن جعفر : « خرجنا مع أخي موسى بن جعفر عليهماالسلام في أربع عمر يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً » (٢).
أما السجن فقد سخّره الإمام الكاظم عليهالسلام للعبادة والطاعة والهداية ، فكان عليهالسلام في السجن سيد العابدين الشاكرين لله ، لأنه فرّغه لعبادته وطاعته ، روي أن بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنه يسمعه كثيراً يقول في دعائه : « اللهمّ إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهمّ وقد فعلت ، فلك الحمد » (٣).
كان عليهالسلام يريد أن يعيش مع الله ليله ونهاره ، وأن يناجيه ويبتهل إليه ، وأن يتحدث معه حديث الحبيب إلى حبيبه ، وكانت أشغاله قد تحول بينه وبين ذلك ، وإن كانت أشغاله عباده متحركة مع الله ، لكنه أراد عبادة المناجاة وعبادة الروح وعبادة الانقطاع والتفرغ إلى الله من موقع القلب المفتوح عليه سبحانه ، ولذلك
__________________
(١) الكافي ٢ : ٦٠٦ / ١٠.
(٢) قرب الاسناد / الحميري : ١٦٥.
(٣) الارشاد ٢ : ٢٤٠ ، الفصول المهمة : ٢٢٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٤٠.
فإنه يحمد الله على سجنه ، كما لو كان نعمة أنعمها الله عليه.
فكان عليهالسلام يحيي الليل كله قياماً للصلاة وقراءة للقرآن ودعاءً ، ويمضي نهاره صياماً ، ويطيل السجود حتى تخاله كالثوب المطروح.
وحينما رآه هارون في السجن عبّر عن دهشته من شدة انقطاعه وكثرة عبادته ، فما تمالك نفسه أن قال : أما إن هذا من رهبان بني هاشم (١).
وهكذا حال جميع من مكث في سجنه ، فقد دخل عبد الله القروي على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح ، فأمره أن يشرف إلى البيت في الدار ، فقال له : « ما ترى في البيت ؟ قال : ثوباً مطروحاً ، ثم نظر وتأمل فتيقن أنه رجل ساجد ، فقال له : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر ، إني أتفقده الليل والنهار ، فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على الحال التي أخبرك بها ، أنه يصلّي الفجر فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكل من يترصّد له الزوال ، فلست أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد وضوءاً ، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلّى العصر سجد سجدة ، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثاً ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة ، فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، فلست أدري متى يقول الغلام : إن الفجر قد طلع ، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر ، فهذا دأبه منذ حوّل
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٣ ، أمالي الصدوق : ٣٧٧ ، أمالي الطوسي : ٢٦٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٢٢.
إلي » (١).
وعن اُخت السندي بن شاهك ، وكانت تتولى حبسه وتلي خدمته أنها قالت : «كان إذا صلّى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل ، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح ، ثم يذكر قليلاً حتى تطلع الشمس ، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل ، ثم يرقد إلى قبل الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر ، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة ، فكان هذا دأبه. فكانت أُخت السندي إذا نظرت إليه قالت : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل » (٢).
ثالثاً ـ الزهد :
الزهد والورع من الخصائص البارزة في سيرة الإمام الكاظم عليهالسلام خلقاً وسلوكاً ، فكان مثالاً للأعراض عن مظاهر الحياة الفانية وزخارفها وحطامها ، والرغبة فيما أعدّه الله له في دار الخلود من النعيم والكرامة ، مؤثراً طاعة الله تعالى على كل شيء.
فنجد الإمام عليهالسلام في محتويات بيته مثالاً للزهد والتواضع والبساطة ، قال إبراهيم بن عبد الحميد : « دخلت على أبي الحسن الأول عليهالسلام في بيته الذي كان يصلي فيه ، فإذا ليس في البيت شيء إلاّ خصفة (٣) ، وسيف معلق ، ومصحف » (٤).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٠٦ / ١٠ ، أمالي الصدوق : ١٣٦ / ١٨ ، روضة الواعظين : ٢٥٩.
(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ١٥.
(٣) الخصفة : ما يعمل من الخوص للفراش والأثاث.
(٤) قرب الاسناد : ١٢٨.
وكان عليهالسلام ينبذ لباس الشهرة لما فيه من الكبر والزهو الذي يتقاطع مع ما أخذ به نفسه من الزهد والانقطاع إلى الله ، ورد في مكارم الأخلاق : « لم يكن شيء أبغض إليه عليهالسلام من لبس الثوب المشهور ، وكان يأمر بالثوب الجديد فيغمس في الماء ويلبسه » (١).
رابعاً ـ الحلم :
الحلم خلق نبوي كريم ، تحلّى به الإمام الكاظم عليهالسلام ، وضرب أمثلة سائرة في سعة الصدر ، والصبر على كيد الأعداء والمناوئين ، والصفح عمّن أساء إليه ومقابلة الإساءة بالإحسان.
وقد نقل لنا كتاب سيرته قصصاً ملفتة للنظر لسعة الصدر وللاُسلوب العلمي الذي أراده الله في احتواء الأعداء وتحويلهم إلى أصدقاء.
ومن سماحة نفسه أنه كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه ، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار (٢) ، وإنما لقّب الكاظم لكثرة تجاوزه وسعة حلمه واحتماله الأذى ، وإحسانه إلى من يسيء إليه (٣) ، ولما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين به حتى مضى قتيلاً في حبسهم ووثاقهم (٤).
ورويت عنه أقوال مأثورة تحثّ على التمسك بهذا الاتجاه ، فقد روي عنه أنه أحضر ولده يوماً فقال لهم : « يا بني ، إني أوصيكم بوصية من حفظها انتفع بها ، إذا أتاكم آتٍ فأسمع أحدكم في الإذن اليمنى مكروهاً ، ثم
__________________
(١) مكارم الأخلاق : ١٣٧.
(٢) تذكرة الخواص : ١٩٦ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٢.
(٣) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ٢٢٦.
(٤) تذكرة الخواص : ١٩٦ ، اعلام الورى ٢ : ٣٢ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٧ ، ألقاب الرسول وعترته : ٦٣.
تحوّل إلى اليسرى فاعتذر لكم وقال : إني لم أقل شيئاً ، فاقبلوا عذره » (١).
وأورد المؤرخون مزيداً من الروايات في حسن عفوه وسعة حلمه وكظمه للغيظ ، ومقابلته الإساءة بالعفو والإحسان ، لأجل إشاعة قيم الاصلاح والهداية في المجتمع ، الأمر الذي يمثل صميم رسالة الإمام التي تعدل ما طلعت عليه الشمس ، وترخص عندها كل صفراء وحمراء.
منها أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي الإمام الكاظم عليهالسلام ويشتم علياً ، فقال له بعض حاشيته : « دعنا نقتله ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي ، وزجرهم أشد الزجر ، فركب إلى مزرعة العمري فدخلها بحماره ، فصاح به العمري : لا تطأ زرعنا ، فوطئه بالحمار حتى وصل إليه ، فنزل فجلس عنده وضاحكه ، ثم سأله كم غرم في زرعه ، فقال له : مائة دينار ، وسأله كم يرجو أن يجيئه فيه ، فقال : مائتا دينار ، فأعطاه الإمام عليهالسلام ثلاثمائة دينار ، فقام العمري فقبل رأسه ، وانصرف إلى المسجد ، فوجد العمري جالساً ، فلما نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فوثب أصحابه فقالوا له : ما قصتك ؟! قد كنت تقول خلاف هذا ، فخاصمهم وشاتمهم ، وجعل يدعو لأبي الحسن موسى عليهالسلام كلما دخل وخرج ، فقال أبو الحسن موسى عليهالسلام لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري : أيما كان خير ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار » (٢).
وهذا هو الخط الذي يريده عليهالسلام في علاقاتنا بالناس الذين يسيئون إلينا ،
__________________
(١) الفصول المهمة : ٢٢٠.
(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٠ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٢ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٣ ، اعلام الورى ٢ : ٢٦.