السيّد محسن الحسيني الأميني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه الميامين المنتجبين.
وبعد :
لمّا إنتهينا بعون الله من كتابنا الرّسول الأعظم على لسان حفيده الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام شرعنا بحول الله وقوّته في بيان نبذة اُخرى من حياته صلىاللهعليهوآله على لسان وصيّه ووزيره علي بن أبي طالب عليهالسلام.
ولا يسعني أن أُترجم هذا الإمام العظيم بعد ما ورد في الصحاح والمسانيد والسنن والسير والتاريخ من الأحاديث الصحيحة المتواتره المرويّة عن النبيّ الأعظم في شخصيّته الفذّة مضافاً إلى ما لا يجهل موضع علي عليهالسلام من إبن عمّه الرّسول الكريم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة فكان يضعه في حجره وهو طفل ويضمّه إلى صدره ويمسّه جسده ويشمّه عَرْفَه ، ولقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يجاور في كل سنة بحراء فيراه علي ولا يراه
سواه ، ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير الرّسول الأعظم صلىاللهعليهوآله وخديجة أُم المؤمنين ، وكان علي عليهالسلام ثالثهما ، يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوّة ، ولا يقف الرّسول الأعظم صلىاللهعليهوآله إلى الصّلاة إلّا وعلي وخديجه خلفه وعلي عليهالسلام واسىٰ نبيّه الكريم بنفسه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال. وتزلّ فيها الأقدام نجدةً أكرمه الله بها ، وحسبك ليلة المبيت ، بات في فراش الرّسول صلىاللهعليهوآله غير جازع عن الموت وفداه بنفسه.
وفي الحديث عن إبن عبّاس رضي الله عنه قال : شرى علي نفسه ولبس ثوب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله ألبسه برده ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبيّ صلىاللهعليهوآله فجعلوا يرمون عليّاً ويرونه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد لبس برده وكان علي عليهالسلام يتضوّر (١) فإذا هو علي. فقالوا : إنّك للئيم ، إنّك لتتضوّر وكان صاحبك لا يتضوّر ولقد استنكرناه منك.
وقال علي بن الحسين عليهالسلام : إنّ أوّل من شرى نفسه إبتغاء رضوان الله كان علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وقال علي عليهالسلام عند مبيته على فراش رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى |
|
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر |
رسول إلٰه خاف أن يمكروا به |
|
فنجّاه ذو الطول الإلٰه من المكر |
وبات رسول الله في الغار آمناً |
|
موقى وفي حفظ الإلٰه وفي ستر |
__________________
١ ـ يتضوّر : أي يتلوّي ويقلّب ظهر البطن.
وبتّ اُراعيهم ولم يتّهمونني |
|
وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر (١) |
وشهد معه جميع مغازيه إلّا ما كان من غزوة تبوك التي خلّفه فيها الرّسول في أهل بيته قائلاً له : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي؟ فأجابه عليهالسلام : قائلاً رضيت رضيت (٢).
ولقد سجّل له عليهالسلام التاريخ أجلّ المواقف وأسماهما ، فهو أحد المبارزين يوم بدر إذ قتل الوليد بن عتبة.
وفي عزوة الخندق : لمّا خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام نحو عمرو بن عبدود للقتال ، رفع رسول الله صلىاللهعليهوآله يديه إلى السماء داعياً له : اللّهم إحفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته (٣).
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله لمبارزة علي بن أبي طالب عليهالسلام لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة (٤).
وفي حديث آخر : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه (٥).
وذكر إبن كثير الدمشقي : بأنّ أمير المؤمنين عليهالسلام حينما خرج إلى البراز
__________________
١ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ٤.
٢ ـ أخرجه إبن عساكر في ترجمة علي عليهالسلام من تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ٣١٢ ، ح ٣٤٤ و ٣٤٥ ، والهندي في كنز العمّال : ج ١٣ ، ص ١٥٨ ، ح ٣٦٤٨٩ ، والترمذي في سننه : ج ٥ ، ص ٥٩٩ ، ح ٣٧٣٠ ـ ٣٧٣١ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ج ١ ، ص ٣٢٥ ، ح ٢٢٧٤.
٣ ـ أخرجه الكاشاني في تفسيره : ج ٦ ، ص ٢٦.
٤ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ٣٢.
٥ ـ بحار الأنوار : ج ٢٠ ، ص ٢٧٣.
نحو عمرو بن عبدود أخذ يهر ول في مشيه وهو يقول :
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز |
|
ذونيّة وبصيرة والصدق منجي كل فائز |
إني لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز |
|
من ضربة نجلاء يبقي صيتها بعد الهزاهز (١) |
فبعد قتال شديد وانكشاف العجاجة فإذا برأس عمرو بن عبدود بيد أمير المؤمنين عليهالسلام والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو وسيفه يقطر منه الدم (٢).
كما كان عليهالسلام أحد النفرين الذين ثبتوا مع الرّسول الكريم في عزوة أُحد فلم يزل يقاتل حتّى تقطّع سيفه بثلاث قطع فجاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فطرحه بين يديه ، فأعطاه النبيّ صلىاللهعليهوآله ذاالفقار فسمعوا صوتاً في السماء :
لا سيف إلّا ذوالفقار |
|
ولا فتى إلّا علي |
وقال إبن الإثير في الكامل : وكان الذي قتل أصحاب اللواء عليّ ، قاله أبو رافع ، قال : فلمّا قتلهم أبصرالنبيّ صلىاللهعليهوآله جماعة من المشركين ، فقال لعلي : أحمل عليهم ، ففرّقهم وقتل منهم ، ثم أبصر جماعة اُخرى ، فقال له : أحمل عليهم ، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل منهم ، فقال جبرائيل : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله هذه المواساة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله إنّه منّي وأنا منه (٣).
وفي حديث آخر : قال صلىاللهعليهوآله : إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو ولي كلّ مؤمن من بعدي (٤).
__________________
١ ـ الهزاهز : الحروب والشدائد.
٢ ـ البداية والنهاية : ج ٤ ، ص ١٠٨.
٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ١٥٤.
٤ ـ أخرجه الترمذي في سننه : ج ٥ ، ص ٥٩٠ ، ح ٣٧١٢.
وفي ثالث قال صلىاللهعليهوآله : علي منّي وأنا من علي ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو علي (١).
وقد دعا صلىاللهعليهوآله لعلي وقال : اللّهم اكفه أذى الحرّ والبرد. أخرجه عبد الرحمان بن أبي ليلي ، عن أبيه أنّه قال لعلي وكان يمّر معه : إنّ الناس قد انكروا منك أن تخرج في البرد في الملاءتين وتخرج في الحر في الحشو والثوب الغليظ؟.
قال : فقال علي : أولم تكن معنا بخيبر؟
قال : بلى.
قال : فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بعث أبابكر وعقد له لواءً فرجع وقد انهزم ، فبعث بعد ذلك عمر وعقد له لواءً فرجع منهزماً بالنّاس.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبَّه الله ورسوله ، يفتح الله له ، ليس بفرّار.
قال : فأرسل إليّ وأنا أرمد.
فقلت : أني أرمد ، فتفّل في عينيّ ، ثم قال : اللّهم أكفه أذٰى الحرّ والبرد ، قال عليهالسلام : فما وجدت حرّاً بعد ذلك ولا برداً (٢).
وفي غزوة خيبر : قال إبن عساكر : أعطى رسول الله صلىاللهعليهوآله اللواء عمربن خطاب ونهض معه من نهض معه من الناس ، ولقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله يحبّنه أصحابه ويحبّنهم.
__________________
١ ـ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٤ ، ص ١٦ ، ح ٣٥١٣ ، والترمذي في سننه : ج ٥ ، ص ٥٩٤ ، ح ٣٧١٩ ، وإبن ماجة في سننه : ج ١ ، ص ٤٤ ، ح ١١٩.
٢ ـ أخرجه إبن عساكر من ترجمة علي عليهالسلام : ج ١ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، ح ٢٦٢ ، والنسائي في خصائص أمير المؤمنين عليهالسلام : ص ٣٦ ـ ٣٨ ، ح ١٤.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لأعطين اللواء غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، فلمّا كان الغد تصادر لها أبوبكر وعمر ، فدعا عليّاً وهو أرمد فتفّل في عينيه وأعطاه اللواء ونهض معه من الناس من نهض ، قال : فتلقّى أهل خيبر ، فإذا مرحب يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر إنّي مرحب |
|
شاكي السّلاح بطل مجرّب |
أطعن أحياناً وحينا أضرب |
|
إذا الليوث أقبلت تلهب |
فبرز له علي عليهالسلام وهو يقول :
أنا الذي سمّتني أُمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة
فاختلف هو وعلي ضربتين فضربه علي عليهالسلام على هامّته حتّى غصّ (١) السيف منه بنص (٢) رأسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، ففتح الله له (٣).
وفي حديث المؤاخاة : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : أنت أخي في الدنيا والآخرة (٤).
وفي حديث آخر : قال صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : أنت أخي وصاحبي ووارثي ووزيري (٥).
ولقد سد الأبواب إلّا باب علي حيث قال صلىاللهعليهوآله : سدّوا هذه الأبواب
__________________
١ ـ الغُصَّةُ : الشجىٰ.
٢ ـ نصَّ كلّ شيئ : منتهاه.
٣ ـ أخرجه إبن عساكر من ترجمة أمير المؤمنين عليهالسلام من تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١٩٦ ، ح ٢٤٢ و ٢٤٣ ، وإبن ماجة في سننه : ج ١ ، ص ٤٣ ، ح ١١٧ ، وأحمد بن حنبل في مسنده : ج ٥ ، ص ٣٥٣ ، والحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ٣٨ ـ ٣٩.
٤ ـ أخرجه الترمذي في سننه : ج ٥ ، ص ٥٩٥ ، ح ٣٧٢٠ ، وإبن عساكر من ترجمة أمير المؤمنين عليهالسلام من تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١١٨ ، ح ١٤٢.
٥ ـ خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام : ٩٨.
إلّا باب علي ... ثم قال : والله ما سددته ولا فتحته ، ولكنّي اُمرت بشيئ فأتبعته (١).
وفي حديث عبد الله ، الجدلي ، قال : دخلت على اُم سلمة رضي الله عنها فقالت لي : أيسبّ رسول الله صلىاللهعليهوآله فيكم؟ فقلت معاذ الله أو سبحان الله أوكلمة نحوها ، فقالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من سبّ عليّاً فقد سبّني (٢).
وقال إبن عبد ربّه في العقد الفريد في عنوان أخبار معاوية : ولمّا مات الحسن بن علي حجّ معاوية فدخل المدينه وأراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله فقيل له : إن هاهنا سعد بن أبي وقّاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثم لا أعود إليه.
فأمسك معاوية عن لعنه حتّى مات سعد ، فلمّا مات سعد لعنه على المنبر ، وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا ، فكتبت اُم سلمة زوج النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى معاوية : إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم؟ وذلك أنّكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت معاوية إلى كلامها (٣).
وقال صلىاللهعليهوآله : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومن عصى عليّاً فقد عصاني (٤).
__________________
١ ـ أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ١٢٥ ، وأحمد في مسنده : ج ٤ ، ص ٣٦٩.
٢ ـ أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ١٢١ ، وأحمد في مسنده : ج ٦ ، ص ٣٢٣ ، والطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٣ ، ص ٣٢٢ ، ح ٧٣٧.
٣ ـ العقد الفريد : ج ٥ ، ص ١١٤ ـ ١١٥.
٤ ـ أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ١٢١.
وقال صلىاللهعليهوآله : يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني (١).
وقال صلىاللهعليهوآله : إنّ الله قد امتحن قلب علي للإيمان (٢).
وفي حديث آخر : إنّ الله يهدي قلبه ويثبّت لسانه (٣).
وقال صلىاللهعليهوآله في حديث غديرخم : من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبّه وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله (٤).
وغير ذلك من فضائله وخصائصه التي لا تحصى ، فمن أراد الإطلاع على جميع ذلك فليرا جع كتب الأحاديث والمسانيد والصحاح والسير والتاريخ وغير ذلك ، ولنعم ما قيل :
جمعت في صفاتك الأضداد |
|
فلهذا عزّت لك الأنداد |
زاهدٌ حاكمٌ حليمٌ شجاعٌ |
|
فاتك ناسك فقير جواد |
شيم ما جمعن في بشرٍ قطّ |
|
ولا حاز مثلهن العباد |
__________________
١ ـ أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ١٢٤.
٢ ـ أخرجه السيوطي في جمع الجوامع : ج ٢ ، ص ٥٣ ، والمتقي في كنز العمّال : ج ١٣ ، ص ١٢٧ ، ح ٣٦٤٠٢ ، والحاكم في المستدرك : ج ٤ ، ص ٢٩٨ ، والترمذي في سننه : ج ٥ ، ص ٥٩٢ ، ح ٣٧١٥.
٣ ـ أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ، ص ١٣٥ ، والبيهقي في سنن الكبرىٰ : ج ١٠ ، ص ٨٦ ، وإبن نعيم في حلية الأولياء : ج ٤ ، ص ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، واُنظر في مسند أبي يعلي : ج ١ ، ص ٣٢٣ ، ح ١٤١ و ٤٠١.
٤ ـ هذا حديث مشهور متواتر أخرجه الهندي في كنز العمّال : ج ١٣ ، ص ١٥٨ ، ح ٣٦٤٨٧ ، وإبن كثير في البداية والنهاية ، ج ٧ ، ص ٣٦ ، والشيخ الطوسي في أماليه : ص ٢٥٥ ، ح ٤٥٩ / ٥١ ، المجلس التاسع ، والنسائي في خصائص أمير المؤمنين عليهالسلام : ص ١٤٢ ، ح ٩٩ ، وغير ذلك من الاعلام.
هذا وقد قام علي بن أبي طالب عليهالسلام أن يعظّم الرّسول الأعظم إجلالاً عظيماً وتبجيلاً شديداً وأخذ يجتهد في إعلاء كلمته في خطبه ورسائله وحكمه وكتبه لأنّه عليهالسلام كان قوي الإيمان برسول الله ، مطيع لأوامره ، ومتصدّق بأقواله وأفعاله ، تابع لسلوكه ومشيه ، متمسّك بسننه وأحكامه ، فادياً بنفسه في غزواته وكان مع ذلك يحبّ رسول الله صلىاللهعليهوآله حبّاً كثيراً لنسبته منه وتربيته له ، وإختصاصه به من دون أصحابه ، ولأنّهما نفس واحد في جسمين ، الأب واحد والدار واحدة ، والأخلاق متناسبة ، فإذا عظّم فقد عظّم نفسه ، وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه ، ولقد كان يؤدّان تطبيق دعوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
ولمّا قام الشريف الرضي بجمع الخطب والرسائل والكتب والحكم والآثار لأمير المؤمنين عليهالسلام في كتابه نهج البلاغة فرأيت من الأحرى أن أشرح ما يكون فيها بما يختصّ بالرسول الأعظم شرحاً موجزاًوما توفيقى إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» (١).
قم المشرّفة
السيد محسن الحسيني الأميني
غرة صفر المظفّر ١٤٢٨ هجـ ٣٠ / ١١ / ٨٥ ش
__________________
١ ـ آل عمران : ٨.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عليهالسلام) (١)
إلَىٰ أَنْ بَعَثَ الله سُبْحٰانَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله لِإِنْجٰازِ عِدَتِهِ ، وَتَمٰامِ نُبُوَّتِهِ. مَأْخُوذاً ٰ النَّبِيِّينَ مِيثٰاقُهُ ، مَشْهُورَةً سِماٰتُهُ ، كَرِيماً مِيلٰادُهُ. وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وَأَهْوٰاءٌ مُنتَشِرَةٌ ، وَطَرٰائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ ، بَيْنَ مُشَبِّةٍ لِلّهِ بِخَلْقِهِ ، أَوْ مُلْحِدٍ فِى اسْمِهِ ، أَوْ مُشِيرٍ إِلىٰ غَيْرِهِ. فَهَدٰاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلٰالَةِ ، وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكٰانِهِ مِنَ الْجَهٰالَةِ. ثُمَّ اخْتٰارَ سُبْحٰانَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ لِقٰاءَهُ ، وَرَضِىَ لَهُ مٰا عِنْدَهُ ، وَأَكْرَمَهُ عَنْ دٰارِ الدُّنْيا ، وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مُقارَنَةِ الْبَلْوىٰ ، فَقَبَضَةُ إِلَيْهِ كَرِيماً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ.
قوله عليهالسلام : «إلَىٰ أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحٰانَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله» قال تعالى : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» (٢). ومحمّد علم منقول من الصفة التي معناها كثير الخصال المحمودة ، وهذا الإسم الشريف الواقع علماً عليه صلىاللهعليهوآله وهو أعظم أسمائه وأشهرهاكأنّه حمد مرّة بعد مرّة أخرى (٣).
وقال الجوهري : المحمّد : الذي كثرت خصاله المحمودة (٤).
وفي لسان العرب : محمّد وأحمد من أسماء سيّدنا المصطفى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقد سمّيت محمّداً وأحمداً (٥).
وقال الزبيدي : وقد سمّت العرب أحمداً ومحمّداً وهما من أشرف
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٤٤ ، الخطبة ١.
٢ ـ الجمعة : ٢.
٣ ـ تاج العروس : ج ٨ ، ص ٣٩ ـ ٤٠ ، مادة «حمد».
٤ ـ الصحاح : ج ٢ ، ص ٤٦٦ ، مادة «حمد».
٥ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ١٥٧ ، «حمد».
أسمائه صلىاللهعليهوآله ولم يعرف من تسمّى قبله صلىاللهعليهوآله بأحمد ، إلّا ما حكي أنّ الخضر عليهالسلام كان إسمه كذلك (١).
وقال إبن فارس سمّي نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله محمّداً : لكثرة خصاله المحمودة (٢). يعنى ألَهَم تعالى أهله صلىاللهعليهوآله تسميته بذلك لما علم من خصاله الحميدة.
ومحمّد هو النبيّ وهو : الاُمّي العربيّ القرشيّ الهاشمي الأبطحي التهامي المصطفى من دوحة الرسالة ، والمرتضىٰ من شجرة الولاية.
قوله عليهالسلام : «لِإِنْجٰازِ عِدَتِهِ» الّتي وعدها الله لخلقه على ألسنة رسله السابقين بمبعثه صلىاللهعليهوآله ، قال تعالى : «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ» (٣) أي يعرفون محمّداً صلىاللهعليهوآله بنعته ، وصفته ، ومبعثه ، ومهاجرته ، وصفة أصحابه في التوارة والأنجيل ، كما يعرفون أبنائهم في منازلهم. وفي تفسير القمي ، قال : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. لأنّ الله قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمّد صلىاللهعليهوآله وصفة أصحابه ، ومهاجرته ، وهو قوله تعالى : «ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ» (٤) فهذه صفة رسول الله صلىاللهعليهوآله في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه ، فلمّا بعثة الله عزّوجلّ عرفه أهل الكتاب كما قال جلّ جلاله : «فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ» (٥) (٦)
وقال تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
__________________
١ ـ تاج العروس : ج ٨ ، ص ٤٠ ، مادة «حمد».
٢ ـ مجمل اللّغة : ج ١ ، ص ٢٥٠ ، ومعجم مقاييس اللّغة : ج ٢ ، ص ١٠٠.
٣ ـ البقرة : ١٤٦ ، والأنعام : ٢٠.
٤ ـ الفتح : ٢٩.
٥ ـ البقرة : ٨٩.
٦ ـ تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٣.
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ» (١).
وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في حديث قال : كان قوم فيما بين محمّد صلىاللهعليهوآله وعيسى عليهالسلام يتوعّدون. أهل الأصنام بالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، ويقولون : ليخرجنّ نبيّ فليكسرنّ أصنامكم ، وليفعلنّ بكم ، فلمّا خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله كفروا به (٢).
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره : كانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيئ النبيّ صلىاللهعليهوآله : أيّها العرب هذا أوان نبيّ يخرج من مكة ، وكانت مهاجرته بالمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يلبس الشملة (٣) ويجتزي بالكسرة (٤) والتميرات ، ويركب الحمار العريّ ، وهو الضحوك القتّال ، يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقىٰ ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ، ليقتلنّكم به يا معشر العرب قتل عاد ، فلمّا بعث الله نبيّه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به (٥).
وفي أمالي الشيخ الصدوق : عن أميرالمؤمنين عليهالسلام في حديث : قال يهودي لرسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّي قرأت نعتك في التوراة : محمّد بن عبدالله صلىاللهعليهوآله ، مولده بمكة ومهاجره بطيبة ، ليس بفظّ (٦) ولا غليظ ، ولا سخّاب ، (٧) ولا مترنّن (٨) بالفحش ، ولا قول الخنا (٩) ، وأنا أشهد أن لا إلٰه الله ،
__________________
١ ـ الأعراف : ١٥٧.
٢ ـ الكافي : ج ٨ ، ص ٣١٠ ، ح ٤٨٢.
٣ ـ الشملة : كساء يشتمل به.
٤ ـ الكسرة : القطعة من الشيئ.
٥ ـ تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٨٠ و ١٩١.
٦ ـ فظّ يفظّ ـ من باب تعب ـ فظاظة : إذا غلظ. بمعنى سيئ الخلق ، القاسي القلب.
٧ ـ السَخَبْ بالتحريك : وهو شدّة الصوت.
٨ ـ المترنّن : أي الصوت العالى.
٩ ـ الخنا : مرادف للفحش.
وأنّك رسول الله صلىاللهعليهوآله هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله (١).
وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام : لمّا نزلت التوراة على موسى عليهالسلام بشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله قال : فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث الله المسيح عيسى بن مريم فبشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله وذلك قوله تعالى : «يجدونه» يعني في التوارة والإنجيل وهو قول الله عزّوجلّ يخبر عن عيسى عليهالسلام«وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (٢) (٣).
ولقد أجاد أبو طالب عمّ النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث قال :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً |
|
رسولاً كموسى خطّ في أوّل الكتب |
أقول : هذا أحسن دليل على إسلامه عليهالسلام.
قوله عليهالسلام : «وَتَمٰامِ نُبُوَّتِهِ» الضمير في «نبوّته» راجع إلى الله تعالى مثل «عدته» قال تعالى : «وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٤).
قوله عليهالسلام : «مَأْخُوذًا عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثٰاقُهُ» لم يكن نبيّ قط إلّا وبَشّر اُمّته بنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله وأنّه خاتم الأنبياء ، وأنّ شريعته ناسخة لشرائعهم ، فيجب عليهم إتّباع شريعته ، ورفض شرائعهم ، قال تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
__________________
١ ـ الأمالي للشيخ الصدوق : ص ٣٧٦ ، ح ٦ ، المجلس الحادي والسبعون.
٢ ـ الصف : ٦.
٣ ـ الكافي : ج ٨ ، ص ١١٧ ، ح ٩٢.
٤ ـ الأحزاب : ٤٠.
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» (١).
وفي مجمع البيان ذيل هذه الآية عن أميرالمؤمنين عليهالسلام إنّ الله تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا صلىاللهعليهوآله أن يخبروا أممهم بمعثه ونعته ويبشّر وهم به ويأمروهم بتصديقه (٢).
وعنه عليهالسلام ايضاً إنه قال : لم يبعث الله نبيّاً آدم ومن بعده إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث الله محمّداً صلىاللهعليهوآله وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ، وأمره بأن يأخذ العهد بذلك على قومه (٣).
قوله عليهالسلام : «مَشْهُورَةً سِماٰتُهُ» أي مشهورة صفاته وعلاماته في الكتب المنزلة ، والصحف السماويّة من التوراة والإنجيل ، قال الله تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» (٤).
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليهالسلام ذيل هذه الآية قال : يعني اليهود والنصارى يجدون صفة محمّد وإسمه (٥).
وفي الكافي إن موسى عليهالسلام ناجاه ربّه تبارك وتعالى ، فقال له في مناجاته : أوصيك يا موسى وصيّة الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم ، ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر ، الطيّب ، الطاهر ، المطهّر ، فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها وانّه راكع ، ساجد ، راغب ، راهب ،
__________________
١ ـ آل عمران : ٨١.
٢ ـ مجمع البيان : ج ١ ـ ٢ ، ص ٤٨٦.
٣ ـ مجمع البيان : ج ١ ـ ٢ ، ص ٤٦٨ ـ ٤٦٩.
٤ ـ الأعراف : ١٥٧.
٥ ـ تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٣١ ، ح ٨٧.
إخوانه المساكين وأنصاره قوم آخرون (١).
وقال الكراجكي الطرابلسي : وفي التوراة مكتوب في السفر الخامس الرب ظهر فتجلّى على سنين ، وأشرف على جبل ساعير ، وأشرف من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس ، من يمينه نار ، شريعة لهم (٢).
وجبال فاران جبال مكّة ، وظهور الرب إنّما هو ظهور أمره.
وفي الإنجيل : اليوم مكتوب إبن البشر ذاهب ، والفار قليط أتىٰ من بعده وهو الذي يجلّى لكم الأسرار ، ويعيش لكم كلّ شيئ ، وهو يشهد لي كما شهدت له ، فإنّي أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل (٣).
وهكذا جاء في الصحف السماويةّ : كزبور داود حيث قال : اللّهم ابعث إلينا مقيم السنّة بعد الفترة (٤). فمن أقامها غير رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ومن قول يوشع النبيّ عليهالسلام : رأيت راكبين يسيران ، أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فكان راكب الحمار عيسى عليهالسلام وراكب الجمل نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله (٥).
ومن قول شعيا النبيّ عليهالسلام قال لي إلٰه إسرائيل : أقم على المنظرة فأنظر ما ذا ترى؟ فإذا رأيت راكبين يسيران ، أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فقال : ويل لبابل ، كلّ صنم بها يكسر ويضرب به الأرض (٦).
ومن قول دانيال النبيّ عليهالسلام : جاء الله بالبيان من جبل فاران وامتلأت
__________________
١ ـ الكافي : ج ٨ ، ص ٤٢ ، ح ٨ ، حديث موسى عليهالسلام.
٢ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٥.
٣ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٥.
٤ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٦.
٥ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٥.
٦ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٥.