مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنّه فضّ الرسالة بإحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث أنّ الدموع بلّت ثيابه.

وفي تلك اللحظة ، وبعد أن مضت أيّام الامتحان الصعب وكان قد إشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ ، أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله : (هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ اِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم إستفساره بإبتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال أنّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف.

أمّا هم ، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الامور مجتمعة ، وشاهدوا أنّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها أحد غيرهم إلّايوسف.

ومن جهة اخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما إستلم كتاب يعقوب ، وأحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثاً : كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف ... لكنهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم يتصوروا أنّه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد إرتقى منصب الوزارة وصار عزيزاً لمصر ، أين يوسف وأين الوزارة والعزّة؟! لكنهم تجرّأوا أخيراً وسألوه مستفسرين منه (قَالُوا أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ).

كانت اللحظات تمرّ بسرعة لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الإنتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم وأظهر لهم حقيقة نفسه و (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِى). لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم إخوته درساً آخر من دروس المعرفة قال : إنّه (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

هذه اللحظات الحساسة كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقه ، فترقّبوا إجابة يوسف وأنّه هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو

٤٨١

عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين بقولهم : (قَالُوا تَاللهِ لَقَدْءَاثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا) (١). أي : إنّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة (وَإِن كُنَّا لَخَاطِينَ).

أمّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصه في هذه اللحظات الحساسة وبعد إنتصاره عليهم ، فخاطبهم بقوله : (قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) (٢). أي : إنّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم ، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذاً إلى نفوسكم ، ثم لكي يبيّن لهم أنّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أيضاً عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). أي : إنّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنّه أرحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنّه لم يعف عن سيّئات إخوته فحسب ، بل طمأنهم على أنّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وأنّه تعالى سوف يعفو عن سيئاتهم ، وإستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين.

وهنا تذكّر الإخوة مصيبة اخرى قد ألمّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما إقترفوه في حقّ أخيهم ، ألا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزناً وفراقاً على يوسف ، أمّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلاً حيث خاطبهم بقوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا). ثمّ طلب منهم أن يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعاً (وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).

ورد في بعض الروايات أنّ يوسف قال : إنّ الذي يحمل قميصي المشافي إلى أبي لابدّ وأن يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء إليه ، فأعطى ل (يهودا) قميصه بعد أن اعترف له أنّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء إلى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف.

إنّ الآيات السابقة تعلّمنا درساً من دروس الأخلاق الإسلامية ، وهو أنّه بعد الإنتصار

__________________

(١) «آثرك» : أصله من «الإيثار» وفي الأصل بمعنى البحث عن أثر الشيء ، وبما أنّه يقال للفضل والخير : أثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو.

(٢) «تثريب» : أصله من مادّة «ثرب ٩ وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء ، والتثريب بمعنى رفع هذاالغطاء ، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكأنّ المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب.

٤٨٢

على العدو وكسر شوكته لابدّ أن لا ننسى العفو والرحمة ، وأن لا نعامله بقساوة.

كما أنّنا نرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما فتح مكّة وأذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم ، جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد إلتجؤوا إليها ، قال : «وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

أي : إنّ اليوم ليس يوم ملامة وإنتقام وإظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨)

وأخيراً شملتهم رعاية الله ولطفه : أمّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، لكن ـ مقارناً مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثاراً للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم : (إِنّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ). فإنّي أحسّ بأنّ أيّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وأنّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وأرى أنّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور لكن لا تصدّقون كلامي (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لَاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ).

أمّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين : (قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِى ضَللِكَ الْقَدِيمِ). أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي ، وأخيراً تقول : إنّك تشمّ رائحته من مصر؟! أين مصر وأين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام

٤٨٣

والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به.

وبعد عدّة أيام من الإنتظار ـ والتي لا يعلم إلّاالله كيف قضاها يعقوب ـ إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافاً للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.

أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادراً على رؤية القميص فبمجرد أن أحسّ بالرائحة المنبعثة من القميص ، وأحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأةً رأى النور في عينيه وأحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى رأى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله : (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا).

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة والأهل ، وعند ذاك خاطبهم بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ).

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالأخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية ، لكن ما أجمل التوبة والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها ... وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممّن جنى عليه ، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادة الخطأ والانحراف ، وهذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِينَ).

أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم ... أجابهم بقوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى) وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الْرَّحِيمُ).

٤٨٤

بحوث

١ ـ الوعد بالاستغفار : نقرأ في الآيات ـ محل البحث ـ أنّ يوسف عليه‌السلام قال لإخوته عندما أظهروا له ندامتهم : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) إلّاأنّ يعقوب عليه‌السلام قال لهم عندما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ أن يؤخّر إستجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لإستجابة الدعاء وقبول التوبة.

٢ ـ التوسل جائز : يستفاد من الآيات ـ آنفة الذكر ـ أنّ طلب الاستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد ، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف الله سبحانه ، وإلّا فكيف كان يمكن ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على توسلهم به.

٣ ـ نهاية الليلة السوداء : إنّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدمة هو أنّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة ، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامة ومحدودة ، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئاً (أو غير متحقق فعلاً) فإنّ أيّاً من اولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله ، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة ، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة ، قادر على أن يضمّد القلوب المجروحة من الفراق ، وأن يشفي آلام النفوس.

أجل إنّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ ، وهو أنّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير ، بل يهون كل شيء بأمره وإرادته : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

٤٨٥

عاقبة أمر يوسف وأبيه وإخوته : مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر إلى كنعان ينبغي على أهل هذا البيت ـ وفقاً لوصية يوسف ـ أن يتحرّكوا ويتّجهوا نحو مصر ، وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب راحلته وشفتاه رطبتان بذكر الله وتمجيده.

وهذا السفر كان خالياً من أيّة شائبة من شوائب الهمّ والغم. وحتى لو كان السفر بنفسه متعباً ، فهذا التعب لم يكن شيئاً ذا بال قِبال ما يهدفون إليه في مسيرهم هذا.

كانوا يطوون الليالي والأيّام ببطء ، إلّاأنّ القرآن الكريم ـ كعادته دائماً ـ حذف هذه المقدمات التي يمكن أن تدرك بأدنى تفكر وتأمل ، فقال في هذا الشأن : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ).

«آوى» : تعني في الأصل إنضمام شيء إلى شيء آخر ، وضمّ يوسف أبويه إليه كناية عن إحتضانهما ومعانقتهما.

وأخيراً تحقّقت أحلى سويعات الحياة ليعقوب ، وفي هذا اللقاء والوصال الذي تم بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق ، مرّت على يعقوب ويوسف لحظات لا يعلم إلّاالله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة ، وأيّة دموع إنسكبت من عينيهما من الفرح.

وعندها التفت يوسف إلى إخوته وأبويه (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللهُءَامِنِينَ) لأنّ مصر أصبحت تحت حكم يوسف في أمن وأمان واطمئنان.

ويُستشفّ من هذه الجملة أنّ يوسف كان قد خرج إلى خارج بوّابة المدينة لإستقبال والديه وإخوته ، ولعل التعبير ب (دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ) يحتمل أن يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك «خارج المدينة» وأن تُهيأ مقدّمات الإستقبال لأبويه وإخوته.

فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسف (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ).

وكانت هذه العظمة من النعمة الإلهية واللطف والموهبة التي منّ الله بها على يوسف قد أدهشت إخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعاً (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا).

وعندها إلتفت يوسف عليه‌السلام إلى أبيه (وَقَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْوِيلُ رُءْيىَ مِن قَبْلُ).

ألم يقل أنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين؟!

فانظر يا أبت كما كنت تتوقّع من عاقبة أمري (قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقًّا * وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ).

٤٨٦

الطريف هنا أنّ يوسف تكلّم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله ولم يتكلّم على الجبّ مراعاةً لإخوته.

ثم أضاف يوسف قائلاً : (وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى).

وأخيراً يقول يوسف : إنّ جميع هذه المواهب هي من قِبَل الله ، ولِمَ لا تكون كذلك ف (إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاءُ).

فيتولّى امور عباده بالتيسير والتدبير ... وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو الجدير بالإستجابة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

ثمّ يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكراً راجياً : (رَبّ قَدْءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).

وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر «تأويل الأحاديث» كم كان له من أثر عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك ، وما أعظم بركة العلم!

فأنت ياربّ : (فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). ولذلك فقد خضعت وإستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.

ربّاه : (أَنتَ وَلِىّ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ).

أي : إنّني لا أطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة المادية منك يا ربّ ، لأنّ هذه الامور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذاب. بل أطلب منك يا ربّ أن تكون عاقبة أمري على خير ، وأن أقضي حياتي وأموت مؤمناً في سبيلك مسلّماً لإرادتك ، وأن أكون في صفوف الصالحين ، فهذه الامور هي المهمة لدي فحسب.

(ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

٤٨٧

الأدعياء مشركون غالباً : بعد ما انتهت قصة يوسف عليه‌السلام بكل دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخية ... إنتقل الكلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول القرآن الكريم : (ذلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ). فالوحي الإلهي فقط هو الذي جاءك بهذه الأخبار.

وكان لزاماً على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الإلهية ، وأن يتراجعوا عن طريق الغيّ ، ولكن يا أيها النبي : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

إنّ الوصف ب (الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن يؤمن الناس.

وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسليةً لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لا ييأس أبداً من إصرارهم على الكفر والذنوب ، كما نقرأ في الآية (٦) من سورة الكهف : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثُ أَسَفًا). وقوله تعالى : (وَمَا تَسَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرّر لعدم قبول الدعوة بالإضافة إلى ما اتّضح من علامات الحق أنّك لم تسألهم أجراً حتى يكون مبرّراً لمخالفتك : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ).

وهذه الدعوة عامة للجميع ، ومائدة واسعة للعام والخاص وكل البشرية.

(وَكَأَيِّن مِّنْءَايَةٍ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ). فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كل يوم.

إنّ أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان ، وهدير المياه ، وحركة النسيم ، وكل هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبّر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.

ولهذا فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك ، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كل مكان (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُّشْرِكُونَ).

قد يتصور هؤلاء أنّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالباً ما توجد جذور الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.

فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله ، فتكون أقواله وأعماله وكل أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون الله.

وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم اولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة

٤٨٨

مرّ الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول : (أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

«الساعة» : القيامة ، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

أصدق الدروس والعبر : في الآية الاولى من هذه المجموعة يتلقّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأوامر لتحديد الطريق والمنهج الذي يتّبعه ، فيقول القرآن الكريم : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ).

ثم يضيف : (عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى).

وهذه الجملة توضّح أنّ كل فرد مسلم مقتدٍ بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له نفس الدور في الدعوة إلى الحق ، ولابدّ من دعوة الآخرين إلى الله ، من خلال ، الأقوال والأفعال وكذلك تؤكّد هذه الجملة على أنّ القائد يجب أن تكون له بصيرة ومعرفة كافية ، وإلّا فإنّ دعوته ليست إلى الحق ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم : (وَسُبْحنَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

إنّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلقة بيوسف تشير إلى أنّ طريقة ومنهج النبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النبي ، فهو كان يدعو إلى «الله الواحد القهار» حتى في زوايا السجن ، أمّا غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب التقليد من جاهل إلى جاهل آخر ، أمّا سيرة الأنبياء والرسل كلها واحدة.

٤٨٩

وبما أنّ الأقوام الضالة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بشر؟! ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوته العامة ، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى). هؤلاء الرسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى ، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم.

فالوصف هنا ب (مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى) تشير إلى أنّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلباتها.

ولكن الرسول من أهل مكة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً.

ثم يبيّن القرآن الكريم : إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة إلى الله فإنّ عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).

إنّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الإلهي ، أفضل درس لهم ، درس حي وملموس للجميع ، (وَلَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ). لماذا؟ لأنّ الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية ، أمّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاءُ).

تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فتقول : إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ ، وفي هذه الأثناء حيث إنقطع أملهم في كل شيء أتاهم نصرنا ، وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

فهذه سنّة الله في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم ، فهم وبعد إتمام الحجة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوة أن تردّه.

وآخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكل الأبحاث التي ذكرناها في هذه

٤٩٠

السورة ، وهي : (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِى الْأَلْبَابِ).

فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة ، الهناء والحرمان ، السعادة والشقاء ، العزّ والذلة ، والخلاصة كل ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكل تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام ، ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كل البشر. ولكن اولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه : (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ).

فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التاريخ الصحيح للُامم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء ، بل إنّ الكتب السماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالإضافة إلى ذلك ففي هذه الآيات كل ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله : (وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْءٍ).

ولهذا السبب فهي (هُدَىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

نهاية تفسير سورة يوسف

* * *

٤٩١
٤٩٢

١٣

سورة الرعد

محتوى السورة : كما قلنا سابقاً ، بما أنّ السور المكية كان نزولها في بداية دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثناء محاربته للمشركين ، فإنّها غالباً ما كانت تتحدّث عن المسائل العقائدية وخصوصاً الدعوة إلى التوحيد والمعاد ومحاربة الشرك ، في الوقت الذي نرى فيه أنّ السور المدنية نزلت بعد إنتشار الإسلام وقيام الحكومة الإسلامية ، فقد تناولت الأحكام والمسائل المتعلقة بالنظام الاجتماعي واحتياجات المجتمع.

فهذه السورة (سورة الرعد) التي هي من السور المكية لها نفس الخصائص السابقة ، فبعد ما تشير إلى أحقّية القرآن وعظمته ، تتطرّق إلى آيات التوحيد وأسرار الكون التي هي من دلائل ذات الله المقدسة.

ثم تتطرّق إلى المعاد وبعث الإنسان من جديد ومحكمة العدل الإلهي ، وهذه المجموعة من اصول المبدأ والمعاد تبيّن مسؤولية ووظائف الناس.

ثم لمعرفة الحق من الباطل ، الأمثال الحيّة والقابلة للإدراك.

ومن هنا فالحصيلة النهائية للإيمان بالتوحيد والمعاد هي تلك التطبيقات العملية والحيّة لها ، فالقرآن في هذه السورة يدعو الناس إلى الوفاء بالعهد وصلة الأرحام والصبر والاستقامة والإنفاق في السر والعلانية والنهي عن الإنتقام ، ويوضّح لهم أنّ الدنيا فانية ،

٤٩٣

والطمأنينة والراحة لا تحصلان إلّافي ظل الإيمان بالله.

وفي النهاية يأخذ بأيدي الناس ويغور بهم في أعماق التاريخ ، ويريهم العواقب السيئة للذين طغوا وعصوا وأبعدوا الناس عن الحق ، ويختم السورة بتهديد الكفار.

إذن فالسورة تبتدىء بالعقائد والإيمان وتنتهي بالبرامج التربوية للإنسان.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

آيات الله في السماء والأرض وعالم النبات : مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، تنفرد عن غيرها من السور ب (المر). فمن المحتمل أنّ هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير إلى جمعها لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدىء ب (الم) و (الر).

فالآية الاولى من هذه السورة تتحدّث عن عظمة القرآن (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ). ولا يوجد أي شك أو ترديد في هذه الآيات ، لأنّها تبيّن عين الحقيقة للكون ونظامه المرتبط بالإنسان ، فهو حقّ لا يشوبه باطل ، ولهذا السبب فإنّ علائم الحق واضحة فيه لا تحتاج إلى براهين (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ).

ثم تتطرّق السورة إلى شرح القسم المهم من أدلة التوحيد وآيات الله في الكون ، وتتجوّل بالإنسان في عرض السماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار هذا النظام وحركته ، حتى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية (اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).

٤٩٤

إنّ هذه الآية تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة ، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية «بطليموس» في الهيئة تتحكّم في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل وإنّها لم تكن معلقة وبدون عمد بل كل واحدة منها تستند إلى الاخرى.

ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة ، فالحقيقة أنّ الأجرام السماوية لها مقرّ ومدار ثابت ، ولا تستند إلى شيء ، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرة وثابتة في مكانها هو تعادل قوة التجاذب والتنافر ، فالاولى تربط الأجرام فيما بينها ، والاخرى لها علاقة بحركتها.

هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئية يحفظ الأجرام السماوية ويجعلها مستقرة في مكانها.

(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح وافٍ عنه في ذيل الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

وبعد أن بيّن خلق السماوات وهيمنة الخالق عليها ، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ).

ولكن هذا النظام المادي ليس أبدياً ، بل (كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى).

ثم يضيف بعد ذلك : إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب ، وبدون فائدة ونتيجة ، بل (يُدَبّرُ الْأَمْرَ يُفَصّلُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ).

وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السماء تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها. قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الْأَرْضَ) وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات.

ثم يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ). فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات اخرى ب (الأوتاد) ولعلّ ذلك إشارة إلى أنّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض ، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر ، وكذلك تقضي على الاضطرابات والزلازل ، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.

ثم تضيف الآية بعد ذلك الأنهار : (وَأَنْهَارًا).

٤٩٥

رائع جدّاً نظام سقي الأرض بواسطة الجبال ، وعلاقة الأنهار بالجبال ، لأنّ كثيراً من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان ، ثم تذوب تدريجياً ، وطبقاً لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوّة اخرى لمساعدتها.

ثم يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه وأشعة الشمس ، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء : (وَمِن كُلّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).

والآية تشير هنا إلى أنّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والانثى ، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.

فإذا كان العالم السويدي «لينه» المختص بعلم النبات هو الذي توصّل إلى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أنّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانوناً عاماً فالقرآن الكريم قبل ألف واربعمائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السماوي الكبير.

وبما أنّ حياة الإنسان وكل الكائنات ـ وخصوصاً النباتات ـ لا يمكن لها الإستمرار إلّا بوجود نظام دقيق لليل والنهار ، فإنّ القرآن يشير إلى ذلك في القسم الآخر من الآية (يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ). ولولا ظلمة الليل وهدوؤه ، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كل النباتات ، ولم تبق فاكهةً ولا أي كائن حي على وجه الأرض.

وتبيّن الآية في النهاية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النبات ، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة ، يقول أوّلاً : (وَفِى الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ).

قوله تعالى : (وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) (١).

«صنوان» : جمع «صنو» تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.

وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدة أغصان مختلفة على ساق واحدة ، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كل واحدة منها نوعاً خاصاً

__________________

(١) «أعناب» : جمع عنب ؛ و «النخيل» : جمع نخلة ، ويحتمل أنّهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب والتمر والتي قد تصل إلى مئات الأنواع في العالم.

٤٩٦

من الثمر ، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.

والأعجب من ذلك أنّها تسقى بماء واحد (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ).

أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة؟! وهنا في آخر الآية يقول تعالى : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (٦)

تعجب الكفار من المعاد : بعد ما انتهينا من البحث السابق عن عظمة الله ودلائله ، تتطرّق الآية الاولى من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصه بمسألة المبدأ ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول : (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ). أي : إذا أردت أن تتعجب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في المعاد.

ثم يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل :

يقول أوّلاً : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ) ؛ لأنّهم لو كانوا يعتقدون بربوبية الله لما كانوا يتردّدون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد ، وعلى هذا فسوء ظنهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنهم بالتوحيد وربوبية الله.

والأمر الآخر أنّه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالأغلال ، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة ، وجعلوها في أعناقهم (وَأُولئِكَ الْأَغْللُ فِى أَعْنَاقِهِمْ).

ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النار (وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى اخرى للمشركين حيث يقول : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بدلاً من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.

٤٩٧

وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهية؟ (وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلتُ) (١).

ثم تضيف الآية : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٧) ذريعة اخرى : بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة «التوحيد» و «المعاد» تتطرّق هذه الآية إلى واحدة من إعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوة : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مّن رَّبّهِ).

ومن الواضح أنّ إحدى وظائف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إظهار معاجزه لكي يدل على صدقه وصلته بالوحي الإلهي.

إنّ أعداء الأنبياء لم يكن لديهم حُسن نيّة أو اتّباع للحق عند طلبهم المعجزة ، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما يسمّى ب «المعجزات الأخلاقية».

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أنّ المعاجز بيد الله ، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ).

فمعنى الآية : إنّ الكفار نسوا أنّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة إلى الله ، واعتقدوا أنّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

وجه التفاوت بين «الإنذار» و «الهداية» هو إنّ الإنذار للذين أضلّوا الطريق ودعوتهم تكون إلى الصراط المستقيم ، ولكن الهداية والإستقامة للذين آمنوا.

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقاً ، ففي تفسير جامع البيان عن ابن عباس قال : لمّا نزلت (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ) وضع صلى‌الله‌عليه‌وآله يده على صدره فقال : «أنا المنذر ولكل قوم هاد». وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال : «أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون بعدي».

(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) (١٠)

__________________

(١) «المثلات» : جمع «مثلة» بفتح الميم وضمّ الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الامم الماضية.

٤٩٨

علم الله المطلق : نقرأ في هذه الآيات قسماً من صفات الخالق ، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد ، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكل شيء. تقول الآية أوّلاً : (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى) في رحمها ، سواء من انثى الإنسان أو الحيوان ، بل بكل خصائصه والطاقة الكامنة فيه ؛ (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ). أي : تنقص قبل موعدها المقرّر (وَمَا تَزْدَادُ) (١). أي : يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

(وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ). ولكي لا يتصور أحد أنّ هذه الزيادة والنقصان بدون دليل ، كما أنّ للجنين ودم الرحم مقدار أيضاً ، فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) فهو يحيط بكل شيء ، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم : (سَوَاءٌ مّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلُ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (١١)

المعقّبات الغيبية : علمنا في الآيات السابقة أنّ الله بما أنّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ، وتضيف هذه الآية أنّه مع حفظ وحراسة الله لعباده فإنّ (لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ).

في تفسير البرهان عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية يقول : «بأمر الله من أن يقع في ركي ، أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء ، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه».

ولكي لا يتصور أحد أنّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمِس في المزلّات ، أو يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ، ومع كل ذلك ينتظر من الله أو الملائكة أن يحفظوه ، يعلّل القرآن ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لَايُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب أو الجزاء؟

__________________

(١) «تغيض» : أصلها الغيض بمعنى إبتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد.

٤٩٩

هنا تضيف الآية : (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ). ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الإلهي على قوم أو امة ، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضةً للحوادث.

«المعقّبات» : جمع «معقبة» وهي بدورها جمع «معقّب» ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر.

التغيير يبدأ من النفس (قانون عام) تبيّن الجملة (إِنَّ اللهَ لَايُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ، أنّها قانون عام ، وقانون حاسم ومنذر.

إنّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحداً من أهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ، يؤكّد لنا أن أي تغيير خارجي للُامم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ، وأي نجاح أو فشل يصيب الامة ناشىء من هذا الأمر ، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ، لأنّ هذه القوى الجهنمية لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

يقول هذا الأصل القرآني : إنّنا يجب أن نثور من الداخل كي نُنهي حالة الشقاء والحرمان ، ثورة فكرية وثقافية ، ثورة إيمانية وأخلاقية ، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف فينا ، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع إلى الله ، ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنور والحركة ، كي نستطيع في ظلها أن نبدّل الهزيمة إلى نصر.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) (١٥)

قسم آخر من دلائل عظمة الله : يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية إلى آيات التوحيد وعلائم العظمة وأسرار الخلقة ، فتشير أوّلاً إلى البرق : (هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا

٥٠٠