اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

الأول : أن قوله «فإن يك كاذبا فعليه كذبه» معناه أن (ضرر) (١) كذبه مقصور عليه ولا يتعداه ، وهذا كلام فاسد لوجوه :

أولها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذبا يكون ضرر كذبه مقصورا عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيّىء ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذبا لم يكن ضرر كذبه مقصورا عليه بل يكون متعديا إلى الكل ، ولهذا أجمع العلماء على أن الزّنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله.

وثانيها : أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمبطلة من أديانهم (٢) الباطلة.

وثالثها : أن الكفار الذين انكروا نبوة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذبا في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقا فما انتفعتم بصدقه ، فثبت أن هذه الطريق (٣) صوّبت صدقه وما أفضى ثبوته إلى عدم صدقه كان فاسدا.

الوجه الثاني : كان من الواجب أن يقال : وإن يك صادقا يصبكم كلّ الّذي يعدكم ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي (٤) يعد دون البعض هو الكفار والمنجمون. أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقا في كل ما يقول فكان قوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) غير لائق بهذا المقام.

والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام (أنه) (٥) لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذبا فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقا فما انتفعتم به. والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه. وأما الجواب عن الوجه الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال : «يصيبكم كل الذي يعدكم» فهو من وجوه :

الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللّجاج ؛ لأنّ المقصود منه وإن كان كاذبا كان ضرر كذبه مقصورا عليه وإن كان صادقا فلا أقلّ من أن يصيبكم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح ، ونظيره قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤].

__________________

(١) سقط من ب فقط دون الرازي و (أ).

(٢) في الرازي : والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة.

(٣) كذا في النسختين وفي الرازي أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده.

(٤) في الرازي : لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض.

(٥) سقط من ب.

٤١

والثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة ، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي وعدهم به.

الثالث : قال الزمخشري : «بعض» على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعض حقّه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا عن أن يتعصب له (١). وهذا أحسن من قول أبي عبيدة (٢) وغيره أن بعض بمعنى كل ، وأنشد قول لبيد :

٤٣٣٣ ـ ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها (٣)

وأنشد أيضا قول عمرو بن شييم :

٤٣٣٤ ـ قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل (٤)

وقول الآخر :

٤٣٣٥ ـ إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها

دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا (٥)

قال شهاب الدين : ولا أدري كيف فهموا «الكل» من البيتين الأخيرين ، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل (٦). قال ابن الخطيب : والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا : وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه (٧) ، ومعنى البيت أنه وصف نفسه

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٤٢٥.

(٢) لم أجد في المجاز عند هذه الآية تعليقا لأبي عبيدة وقد ذكر في [آل عمران : ٥٠] وهي قوله «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وفي الآية ٦٣ من سورة الزخرف «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» أن البعض بمعنى الكل. المجاز له ١ / ٩٤ و ٢ / ٢٠٥. وقد ذكر الإمام القرطبي في الجامع ١٥ / ٣٠٧ رأي أبي عبيدة هذا ورأي الماوردي في أن البعض بمعنى الكل.

(٣) بيت من الكامل من المعلقة المشهورة له والرواية كما ذكرت أعلى ، ويروى : أو يرضها بالياء ، كما يروى «أو يعتلق» بدل قوله «أو يرتبط» والشاهد : بعض النفوس فقد ذهب أبو عبيدة إلى أن بعض بمعنى كل وهذا خلاف ما عليه أهل اللغة ؛ لأن المراد بها نفسه كما أخبر الإمام الرازي أعلى. وانظر شرح القصائد السبع ٥٧٣ ، ومجالس ثعلب ٥٠ ، والخصائص ١ / ٧٤ و ٢ / ٣١٧ و ٣٣١ ومحتسب ابن جني أيضا ١ / ١١١ وشرح شواهد الشافية للبغدادي ٤١٥ ، والجامع لأحكام القرآن ١٥ / ٣٠٧ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٤٨٨ والطبري ٢٥ / ٥٥ والديوان ٤ / ٦٨٩ واللسان «ح م م».

(٤) الشهير بالقطامي لقبا. وهو من البسيط ووجه الاستشهاد به كسابقه حيث ذهب بعضهم إلى أن «بعض» بمعنى «كل» وهو خلاف ما عليه أهل اللغة فإن ذكر البعض يوجب الكل وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٦١ والدر المصون ٤ / ٦٩٠ واللسان بعض ٣١٢ ، ٣١٣ والقرطبي ١٥ / ٣٠٧ ومجالس ثعلب ١٦٩ وفتح القدير ٤ / ٤٨٨ وديوانه ٣.

(٥) مجهول قائله وهو من البسيط أيضا ، وشاهده كسابقيه من استعمال البعض بمعنى الكل عند البعض ومعنى البيت واضح ، وقد تقدم.

(٦) الدر المصون السابق.

(٧) التفسير الكبير له ٢٧ / ٥٨.

٤٢

أنه نزّال أمكنة أي كثير النزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحمام وهو الموت ، وقال اللّيث : بعض ههنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم (١). ولما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن «بعض» بمعنى «الكل» وأنشد عنه بيت لبيد قال : إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قول المازنيّ في مسألة العلقى : كان أجفى من أن يفقه ما أقول له (٢). قال شهاب الدين : ومسألة المازني معه : هي أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث ، فإن الألف في علقى ملحقة ، قال : فقلت له وما أنكرت من ذلك؟ فقال : سمعت رؤبة ينشد :

٤٣٣٦ ـ ينحطّ في علقى ...

 ......... (٣)

فلم ينونها ، فقلت : ما واحد علقى؟ قال : علقاة ، قال المازني : فأسفت ولم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. قال شهاب الدين (٤) : وإنما استغلظه المازني ؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث (دالة (٥) على الواحدة فيقال : أرطى ، وأرطاة ، وإنما الممتنع دخولها على ألف التأنيث) نحو : دعوى ، وصرعى. وأما عدم تنوين «علقى» فلأنه سمّى بها شيئا بعينه ، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري (٦) مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمة وينصرف قائمة (٧).

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) وفيه احتمالان :

الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفا كذّابا فدل على أن موسى ليس من الكذابين.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى كذاب في ادعائه الإلهيّة والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره.

__________________

(١) ذكره عنه الخازن والبغوي ٦ / ٩٣ وقد ذكر الزجاج في معاني القرآن وإعرابه في بيت القطامي : إنما ذكر البعض ليوجب له الكل إلا أن البعض هو الكل ولكن للقائل إذا قال أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض حاجته وأقل ما يكون للمستعجل الزلل ٤ / ٣٧٢.

(٢) انظر كشافه ٣ / ٤٢٥.

(٣) من بيت من الرجز ، تمامه : ينحطّ في علقى وفي مكور. وبعده : بين تواري الشّمس والذّرور. كما في ديوانه والمكور : نبتة من نبات الصحراء غير المزهرة ، ومثلها العلقى انظر الديوان ٢٣٣ وإنباه الرواة للقفطي ١ / ٢٥٤ والكتاب ٣ / ٢١٢ ، ولسان العرب «مكر وعلق» وهو في النسب للعجاج بلفظ «فحطّ» ماضيا وانظره أيضا في الدر المصون ٤ / ٦٩٠.

(٤) المرجع السابق.

(٥) ما بين القوسين كله سقط من ب فقط بسبب انتقال النظر.

(٦) في ب يجري.

(٧) السابق.

٤٣

قوله : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب (١) الذي توعّدهم به في قوله (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فقال : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلّ بكم ، وإنما قا ل «ينصرنا وجاءنا» ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه (٢).

قوله «ظاهرين» حال من الضمير في «لكم» والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به «لكم»(٣).

ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) هي من رؤية الاعتقاد(٤) فيتعدى لمفعولين ثانيهما (إِلَّا ما أَرى) أي إلا ما أرى لنفسي (٥). وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم (٦). قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) العامة على تخفيف الشين ، مصدر رشد يرشد. وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها (٧) ، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة ، نحو ضرب فهو ضرّاب (٨) ، وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من (٩) الرباعي يعني أرشد ، ورد على النحاس قوله : بأنه يحتمل أن يكون من «رشد» الثلاثي ، وهو الظاهر (١٠) ، وقد جاء فعال أيضا من أفعل وإن كان لا ينقاس ، قالوا : أدرك فهو درّاك وأجبر فهو جبّار ، وأقصر فهو قصّار ، وأسأر (١١) فهو سئّار. ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذا كان يفسرها بسبيل الله.

قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ ـ رضي الله عنه ـ وهل كان فرعون يدعي إلا الإلهيّة؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب (١٢). قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنه

__________________

(١) في ب : العذاب بدل العقاب.

(٢) التفسير الكبير للرازي ٢٧ / ٥٨ ، ٥٩.

(٣) وهو «الملك» وانظر الإعراب في التبيان ١١١٨.

(٤) أي الرواية العلمية التي تحتاج مفعولين.

(٥) المرجع السابق.

(٦) نقله البغوي ٦ / ٩٤.

(٧) شاذة غير متواترة ذكرها العكبري في التبيان ١١١٨ والكشاف ٣ / ٤٢٥ والمختصر لابن خالويه ١٣٢ ، والمحتسب لابن جني ٢ / ٢٤١ و ٢٤٢.

(٨) المراجع السابقة.

(٩) إعراب القرآن له ٤ / ٣٤ بدون تعليق.

(١٠) قال أبو الفتح بن جني في المحتسب المرجع السابق وينبغي أن يكون هذا من قولهم رشد يرشد كعلام من علم يعلم ، أو من رشد يرشد كعباد من عبد يعبد ولا ينبغي أن يحمل على أنه من أرشد يرشد لأن فعالا لم يأت إلا في حروف محفوظة.

(١١) أي أبقى في الكأس بقية وقد ذكر هذه الألفاظ ابن جني في محتسبه المرجع السابق ٢ / ٢٤١ و ٢٤٢ ، والزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٥ والسمين في الدر ٤ / ٦٩١ وابن خالويه في حجة القراءات السبع ذكر ثلاثة فقط دراك وقصار وسآر ، الحجة له ٣١٥.

(١٢) البحر المحيط ٧ / ٤٦٢.

٤٤

كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنّ ثمّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله (١). وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة (٢) صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في «الرّشاد» الذي هو في كلام فرعون كما توهموا ، وإنما هو في «الرّشاد» الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك (٣). ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني (٤) بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ (بن جبل) وهو منقول من مرشد كدرّاك من مدرك ، وجبار من مجبر ، وقصّار من مقصر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قصارة. فعلى هذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير (٥). وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من «أرشد» الرباعي ، أو «رشد» الثلاثي ، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون الأول(٦).

قوله : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) اعلم أنه تعالى (لما) (٧) حكى عن ذلك المؤمن أنه (كان) (٨) يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان :

الأول : أن فرعون لما قال ذروني أقتل موسى لم يصرّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى ؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة ، وهذا لا يبوجب القتل ، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس يقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذبا فوبال كذبه عليه ، وإن كان صادقا حصل الانتفاع به من بعض الوجوه. ثم أكد ذلك بقول: (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب ،

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦٩١.

(٢) هو أبو القاسم الهذلي صاحب القراءات الخمسين الكتاب الشهير وقد مر ترجمته وانظر البحر ٧ / ٤٦٢ والكشف ٤ / ٤٢٥ والكامل في القراءات الخمسين (خ) ٢ / ق ٢٣٤ ب وفيه الرشاد بتشديد الشين الحسن والباقون بتخفيف الشين ، والأحسن التشديد يعني الله فهم قد فهموا من خلال تلك الآية فهما ناقص المعنى والمقام وإنما ما قالوه في الآية الآتية كما أوضع المؤلف أعلى تبعا لأبي حيان ومن حذا حذوه.

(٣) وهي «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» الآية ٣٨ من نفس السورة.

(٤) يقصد الشين.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦٢ والدر المصون ٤ / ٦٩١.

(٦) بالمعنى من التبيان ١١٨ وقد جعله اسما للمصدر فقال : «الجمهور على التخفيف وهو اسم للمصدر ، إما الرشد أو الإرشاد».

(٧) سقط من ب.

(٨) كذلك.

٤٥

فأوهم بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أنه يريد موسى ، وإنما كان يقصد به فرعون ؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون.

والقول الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولا فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشاقّ (١) فرعون بالحق وقال : يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود ، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.

قوله : (مِثْلَ دَأْبِ) يجوز أن يكون «مثل» بدلا ، وأن يكون عطف بيان (٢) والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائما لا يفترون عنه. ولا بدّ من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم. والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي لا يهلكهم قبل إقامة الحجة عليهم ، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعني أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلا بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء ، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا.

قالت المعتزلة : وما الله يريد طلما للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد ، ولا يريد الظلم من أحد من العباد البتة ، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالما ، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد ، لأنه لو خلقها لأرادها ، وثبت أيضا أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم ، وهذا الاستدلال قد تقدم مرارا مع الجواب (٣).

قوله (تعالى) (٤) : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) التناد تفاعل من النداء يقال : تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا (٥) ، والأصل : الياء ، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل (٦) تناديا ـ بضم الدال ـ ولكنهم كسروها ؛ لتصحّ الياء. وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف (٧) ، وتنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا ، قال (الشّاعر (٨) ـ رحمه‌الله ـ) :

__________________

(١) بزنة فاعل من شاقّ يشاقق إذا جاهر وخالف.

(٢) البيان ٢ / ٣٣١ والدر المصون ٤ / ٦٩٢.

(٣) وانظر تفسير الإمام فخر الدين ٢٧ / ٦٠ ، ٦١.

(٤) سقط من ب.

(٥) بين في الرعد عند قوله : «مآب» و «متاب» و «عقاب» من الآيات ٢٩ ، ٣٠ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ أنّ إثبات الياء الوجه والحذف حسن جميل ؛ لأن الكسرة تدل عليها وهو رأس آية وانظر اللباب ٤ / ٩٧ ب.

(٦) انظر غريب القرآن لابن قتيبة ٣٨٦.

(٧) لم أجد تحديد من قرأ بها انظر البحر ٧ / ٤٦٤ والدر المصون ٤ / ٦٩٢.

(٨) زيادة من (أ) عن (ب).

٤٦

٤٣٣٧ ـ تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلنا عبيد الله ذلكم الرّدي (١)

وقال آخر :

٤٣٣٨ ـ تنادوا بالرّحيل غدا

وفي ترحالهم نفس (٢)

وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني (٣) في آخرين بتشديدها(٤) مصدر تنادّ من : ندّ البعير إذا هرب ونفر ، وهو في معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) [عبس : ٣٤] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ). قال أبو علي : التّنادي مخففا من التناد من قولهم ندّ فلان إذا هرب (٥). وفي الحديث : «إنّ للنّاس جولة يندّون يظنّون أنّهم يجدون مهربا» (٦). وقال أمية بن أبي الصّلت :

٤٣٣٩ ـ وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكّانها حتّى التّنادي (٧)

قوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ) يجوز أن يكون بدلا من (يَوْمَ التَّنادِ)(٨) وأن يكون منصوبا بإضمار «أعني» (٩). ولا يجوز أن يكون عطف بيان ، لأنه نكرة وما قبله معرفة ، وقد تقدم (١٠) في قوله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أن الزمخشري جعله بيانا مع تخالفهما

__________________

(١) من الطويل لدريد بن الصّمّة والرواية : فقلت أعبد الله بالاستفهام. والرّدي الهالك من الرّدى وهو الهلاك. وشاهده تنادوا أي نادى بعضهم بعضا ، وانظر الأصمعيات ١٠٨ والبحر ٧ / ٤٦٤ ، والدر المصون ٤ / ٦٩٢.

(٢) شاهده كسابقه من أن «تنادوا» بمعنى نادى بعضهم البعض ومعنى البيت كسابقه في التحسر على الفراق وهو من مجزوء الوافر ولم أعلم قائله ؛ وانظر المحتسب ٢ / ٣٢٥ ، وسر الصناعة ١ / ٢٣٦ والخزانة ٩ / ١٨٣ والأشباه والنظائر ٤ / ٢٠٠ ودرة الغواص ١٧٦ والدر المصون ٤ / ٦٩٢.

(٣) الحسين بن مالك أبو عبد الله الزعفراني مقرىء شهير ، له اختيار في القراءة قرأ عليه أبو نصر عبد الملك بن حاشد وقرأ اختيار العباس بن الفضل على عبد الله بن عبد الرحمن انظر غاية النهاية ١ / ٢٤٩.

(٤) من القراءة الشاذة غير المتواترة وإن كانت اللغة تبيحها انظر مختصر ابن خالويه ١٣٢ ، والمحتسب ٢ / ٢٤٣ و ٢٤٤ ، واللسان ندد ٤٣٨١ ، ومعاني الفراء ٣ / ٧ والكشاف ٣ / ٤٢٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٤٧٣.

(٥) الرازي ٢٧ / ٦١.

(٦) الحديث رواه أبو حيان بدون سند عن الرسول ٧ / ٤٦٤ ، وهو بالمعنى من حديث طويل رواه العلامة السيوطي في الدر المنثور ٢٤ / ٢٨٦.

(٧) من الوافر له ودحاها أي بسطها أي الأرض وهو مثل : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» وشاهده في كلمة التنادي حيث ينادي بعضهم بعضا يوم القيامة وانظر البحر ٧ / ٤٦٤ ، والدر المصون ٤ / ٦٩٣ والقرطبي ١٥ / ٣١٠.

(٨) التبيان ١١١٨ ، ١١١٩ والدر المصون السابق والبيان ٢ / ٣٣١.

(٩) الدر المرجع السابق.

(١٠) وقد سبق رأي الزمخشري في هذه الآية وانظر الكشاف ١ / ٤٤٧.

٤٧

تعريفا وتنكيرا وهو عكس هذا ، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة ، والأول معرفة.

قوله (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يجوز في (مِنْ عاصِمٍ) أن يكون فاعلا (١) بالجار ، لاعتماده على النفي ، وأن يكون مبتدأ (٢) أو من مزيدة على كلا التقديرين ، ومن الله متعلق بعاصم (٣).

فصل

أجمع المفسرون على أن يوم التنادي (هو) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه :

قيل : لأن أهل النار ينادون أصحاب الجنة ، وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار كما حكى الله عنهم. وقال الزجاج : هو قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)(٤) [الإسراء: ٧١].

وقيل : ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثّبور ، فيقولون : يا ويلنا. وقيل : ينادون إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن : هاؤم اقرأوا كتابيه ، والكافر : يا ليتني لم أوت كتابيه ، وقيل : ينادى باللّعنة على الظالمين ، وقيل : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، وقيل : ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنّ فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وفلان ابن فلان شقي شقاوة فلا يسعد (٥) بعدها أبدا.

وقوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ). قال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا فيرجعون (٦) إلى مكانهم فذلك قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها)(٧) وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا)(٨). قال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ : فارّين عن النار غير معجزين (٩) ، ثم أكد التهديد فقال : ما لكم من الله من عاصم يعصمكم من عذابه ، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

__________________

(١) سد مسد الخبر لاعتماده على نفي وهو «ما».

(٢) فيكون مرفوعا بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد والخبر «لكم».

(٣) انظر الدر ٤ / ٦٩٣.

(٤) وانظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٣ وهو أحد وجهين قال بهما الزجاج الثاني هو قوله «يوم ينادي أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا».

(٥) في ب يشقى خطأ والتصحيح من ب.

(٦) في ب فيرجعوا.

(٧) ١٨ من الحاقة.

(٨) ٢٣ من الرحمن عزوجل.

(٩) وانظر فيما سبق كله من أقوال في تفسير البغوي ٦ / ٩٤ و ٩٥ والقرطبي ١٥ / ٣١٠ و ٣١١.

٤٨

قوله (تعالى) (١) : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات ، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفا وعشرين سنة وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حيّا إلى زمانه ، وقيل : هو فرعون آخر (٢). والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف جاء قومه بالبينات وهي قوله تعالى : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٣) [يوسف : ٣٩]. والأولى أن يراد بها المعجزات.

واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال لهم : ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل ، وهذا يدل على (أن) (٤) من أضله الله فما له من هاد ، ثم قال : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنه ـ) (٥) : من عبادة الله وحده لا شريك له ، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات.

قوله (حَتَّى إِذا) غاية لقوله (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ) ، فلما هلك (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي أقمتم على كفركم ، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة ، وقرىء ألن (٦) يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضا.

قوله : «كذلك» أي الأمر كذلك (٧) ، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه ، فقوله (يُضِلُّ اللهُ) مستأنف ، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف (٨).

ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي بغير حجة إما بناء على التقليد ، وأما بناء على شبهات خسيسة.

قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) يجوز فيه عشرة أوجه :

أحدها : أنه بدل من (٩) قوله (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) وإنما جمع اعتبارا بمعنى «من» (١٠).

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) ذكر هذه الأقوال الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٦ والرازي تبعا له في تفسيره ٢٧ / ٦٢.

(٣) رأي الرازي السابق.

(٤) سقط من (أ).

(٥) زيادة من (أ).

(٦) قراءة شاذه غير متواترة لم يحددها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٦٤ وكذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٧.

(٧) التبيان ١١١٩.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦٩٣.

(٩) وهو قول الزمخشري في الكشاف المرجع السابق ، ومكي في المشكل ٢ / ٢٦٦ ، وأبو البقاء في التبيان لم يذكره بل ذكر أوجها أخر ، كما قال بالبدلية ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣١ ، والنحاس في الإعراب ٤ / ٣٣ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٨٤.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٢٧.

٤٩

الثاني : أن يكون (١) بيانا له.

الثالث : أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى «من» أيضا (٢).

الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني (٣).

الخامس : أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين (٤).

السادس : أن يرتفع مبتدأ خبره (يَطْبَعُ اللهُ) ، و «كذلك» خبر مبتدأ مضمر أيضا أي الأمر كذلك ، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم(٥).

السابع : أن يكون مبتدأ ، والخبر (كَبُرَ مَقْتاً) ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من «كبر» عليه والتقدير : قال الذين يجادلون كبر مقتا ، ويكون «مقتا» تمييزا ، وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير كبر مقت حالهم أي جادل المجادلين (٦).

الثامن : أن يكون «الّذين» مبتدأ أيضا ، ولكن لا يقدر حذف مضاف ، ويكون فاعل كبر ضميرا عائدا على ما تقدم أي كبر مقت (٧) جدالهم.

التاسع : أن يكون «الذين» مبتدأ أيضا ، والخبر (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) قاله الزمخشري(٨). ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ؛ لأن الظاهر تعلق (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) «بيجادلون» ولا يتعقل جعله خبرا «للذين» لأنه جار ومجرور فيصير التقدير : الذين يجادلون كائنون أو مستقرون بغير سلطان أي في غير سلطان ؛ لأن الباء إذ ذاك ظرفية خبر عن الجثث (٩).

العاشر : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله أبو البقاء (١٠).

قوله : (كَبُرَ مَقْتاً) يحتمل أن يراد به التعجب (١١) والاستفهام ، وأن يراد به الذم «كبئس» وذلك أنه يجوز أن يبنى (فعل) ـ بضم العين ـ مما يجوز فيه التعجب منه ، ويجري مجرى نعم وبئس في جميع الأحكام ، وفي فاعله ستة أوجه :

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦٩٢.

(٢) المرجع السابق.

(٣) التبيان ١١١٩.

(٤) البيان والتبيان والمشكل وإعراب النحاس ومعاني الزجاج السابقة.

(٥) قاله أبو البقاء من المرجع السابق.

(٦) مفهوم كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٧ وباللفظ في الدر المصون ٤ / ٦٩٤.

(٧) البحر المحيط ٧ / ٤٦٥.

(٨) الكشاف ٣ / ٤٢٧.

(٩) في البحر «الجثّة» وانظر بحر أبي حيان ٧ / ٤٦٥.

(١٠) التبيان ١١١٩.

(١١) قاله العلامة الرضي في شرح الكافية ٢ / ٣٠٧ ، ٣٠٨.

٥٠

الأول : أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين ، كما تقدم تقريره (١).

الثاني : أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من «يجادلون» كما تقدم تقريره أيضا (٢).

الثالث : أنه الكاف في «كذلك». قال الزمخشري : وفاعل «كبر» قوله : كذلك ، أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال ، و (يَطْبَعُ اللهُ) كلام مستأنف (٣). ورده أبو حيان : بأن فيه تفكيكا للكلام وارتكاب مذهب ليس بصحيح ، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من «ذلك يطبع أو تطبع» إنما جاء مربوطا بعضه ببعض ، وكذلك هذا (٤) وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فإنه جعل الكاف اسما ، ولا يكون اسما إلا في ضرورة خلافا للأخفش (٥).

الرابع : أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري ، قال : ومن قال كبر مقتا عند الله جدالهم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه. قال شهاب الدين : القائل بذلك هو الحوفيّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى ، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله ، فصرح به الحوفي بالأصل ، وهو الاسم الظاهر ، ومراده ضمير يعود عليه (٦).

الخامس : أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده ، وهو التمييز ، نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما عمرو (٧).

السادس : أنه ضمير يعود على من في قوله : (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) وأعاد الضمير من كبر مقتا اعتبارا بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولا في قوله كبر مقتا (٨).

وهذا كله إذا أعربت «الذين» تابعا ل (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) نعتا أو بيانا ، أو بدلا. وقد تقدم أن الجملة من قوله (كَبُرَ مَقْتاً) فيها وجهان :

أحدهما : الرفع ، إذا جعلناها خبر المبتدأ.

والثاني : أنها لا محل لها ، إذا لم نجعلها خبرا ، بل هي جملة استئنافية.

وقوله : (عِنْدَ اللهِ) متعلق «بكبر» ، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا وأن يكون فاعلا وهما ضعيفان.

والثالث ـ وهو الصحيح ـ : أنه معمول ل «يطبع» أي مثل ذلك الطبع يطبع الله (٩) ، و (يَطْبَعُ اللهُ) فيه وجهان :

__________________

(١) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٦٩٥.

(٢) ذكره أبو حيان في بحره ٧ / ٤٦٥.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٢٧.

(٤) في البحر : فكذلك هنا.

(٥) في البحر لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش وانظر البحر ٧ / ٤٦٤ و ٤٦٥.

(٦) انظر معاني الفراء ٣ / ٨ والكشاف ٣ / ٤٢٧ والدر ٤ / ٤٩٨.

(٧ و ٨ و ٩) الدر المصون ٤ / ٦٩٨ السابق بايضاح لكلام أبي حيان في البحر ٤ / ٤٦٥.

٥١

أظهرهما : أنه مستأنف (١).

والثاني : أنه خبر للموصول كما تقدم.

قوله : «قلب متكبّر» قرأ أبو عمرو ، وابن ذكوان بتنوين «قلب» (٢) ، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه ، وإن كان المراد الجملة ، كما وصف بالإثم في قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] وفي قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) قال ابن الخطيب : «وأيضا قال قوم : الإنسان الحقيقي هو القلب» (٣) والباقون بإضافة «قلب» إلى ما بعده ، أي كلّ قلب شخص متكبر. قال أبو عبيد : الاختيار الإضافة ، لوجوه :

الأول : أن عبد الله قرأ : «على قلب كل متكبر» (٤) وهو شاهد لهذه القراءة.

الثاني : أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما (٥). وقد قدر الزمخشري مضافا في القراءة الأولى ، أي على كلّ ذي قلب متكبر ، فجعل الصفة لصاحب (٦) القلب. قال أبو حيان : «ولا ضرورة تدعو إلى (٧) اعتقاد الحذف». قال شهاب الدين : بل ثمّ ضرورة إلى ذلك ، وهو توافق القراءتين واحدا وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير ، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه (٨).

فصل

قال الزّجّاج : قوله : «الذين» تفسير ل «المسرف المرتاب» ، يعني (٩) هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) حجة ، «أتاهم» ، (كَبُرَ مَقْتاً) أي كبر ذلك الجدال مقتا عند الله وعند الذين آمنوا. ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده ، إلا أنها صفة التأويل في حق الله ، كالغضب ، والحياء ، والعجب.

ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا ، قال القاضي : مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق الله لا أنّ كونه فاعلا للفعل ، وما قاله محال(١٠).

__________________

(١) قال بهذا الإمام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٧ قال : «ويطبع الله كلام مستأنف».

(٢) من القراءة المتواترة ذكرها صاحب السبعة ٥٧٠ ، والإتحاف ٣٧٨ والنشر ٢ / ٣٦٥.

(٣) كذا في تفسيره ، وفي النسختين جزء القلب وانظر تفسيره ٢٧ / ٦٣.

(٤) المختصر لابن خالويه ١٣٣.

(٥) لم أعثر على رأي أبي عبيد بعلّته هذه.

(٦) قال : ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي على كل ذي قلب متكبر تجعل الصفة لصاحب القلب. الكشاف ٣ / ٤٢٧ و ٤٢٨.

(٧) البحر ٧ / ٤٦٥.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦٩٦.

(٩) قال : «ويجوز أن يكون موضع الذين رفعا على معنى من هو مسرف مرتاب هم الذين يجادلون» معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧٤.

(١٠) انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧ / ٦٣.

٥٢

فصل

قد تقدم الكلام في الطبع (١) ، والرّين (٢) ، والقسوة (٣) ، قال أهل السنة : قوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) يدل على أن الكل من عند الله. وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل ، لأنه كان في نفسه متكبرا جبارا. قال ابن الخطيب : وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه ، وعليه من وجه آخر ، والقول الثاني يخرج عليه رجحان مذهبنا ، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة ، والانقياد لأمر الله ، فيكون القول بالقضاء والقدر حقا (٤) ، فيكون تعليل القلب بكونه متكبرا متجبرا باقيا ، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخرة (٥).

فصل

قال مقاتل : الفرق بين المتكبر ، والجبار ، أن المتكبر عن قبول التوحيد ، والجبار في غير حق. قال ابن الخطيب : كمال السعادة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله ، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله (٦).

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ)(٣٧)

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ...) الآية. قال المفسرون : إن فرعون قال لوزيره هامان : ابن لي صرحا ، والصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر ، وإن بعد. وأصله من التّصريح ، وهو الإظهار (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) طرقها (٧).

فإن قيل : ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل : لعلّي أبلغ أسباب السماوات كان كافيا؟

فأجاب الزمخشري عنه فقال : «إنه إذا أبهم الشيء ، ثم أوضح كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم السماوات أبهمها ثم أوضحها» (٨).

__________________

(١) من قوله : «بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» [النساء : ١٥٥].

(٢) من نفس السورة فقد قيل : إن الرين هو الطبع وقال مجاهد : الرين أسهل من الطبع والطبع أيسر من الإقفال والإقفال أشد من ذلك كله.

(٣) والقسوة الغلظة قال : «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ».

(٤) في الرازي حيّا.

(٥) الرازي ٢٧ / ٧٣.

(٦) السابق.

(٧) نقله البغوي في تفسيره ٦ / ٩٥.

(٨) كشافه ٣ / ٤٢٧.

٥٣

فصل

اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماوات أم لا؟ قال ابن الخطيب : أما الظّاهريّون من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح. والذي عندي أن هذا بعيد ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال : إنه كان مجنونا أو عاقلا (١) ، فإن كان مجنونا لم يجز من الله ـ عزوجل ـ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن ، وإن كان عاقلا فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء (٢) يكون أرفع من الجبل العالي ويعلم أيضا ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال ، وإذا كان هذان العلمان بديهيّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء ، وإذا كان فسادا (٣) معلوما بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون. والذي عندي في تفسير هذه الآية ، أنّ فرعون كان من الدهرية (٤) ، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : إنّا لا نرى شيئا نحكم عليه أنه إله العالم ، فإنه لو كان موجودا لكان في السماء ، ونحن لا (٥) سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه ، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحسّ ممتنعا. ونظيره قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) [الأنعام : ٣٥] وليس المراد منه أن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلب نفقا في الأرض ، أو وضع سلّما إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيل لك إلى تحصيل ذلك المقصود ، كذا ههنا غرض فرعون من قوله : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق ، وكان هذا الطريق ممتنعا ، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى.

واعلم أن هذه الشبهة فاسدة ؛ لأن طرق العلم ثلاثة : الحسّ ، والخبر ، والنّظر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد ـ وهو الحسّ ـ انتفاء المطلوب ؛ وذلك لأن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد بين لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجّة ، والدليل كما قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦] (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)

__________________

(١) في الرازي من المجانين أو كان من العقلاء.

(٢) كذا في الرازي وفي ب «ما» دون «بناء».

(٣) في الرازي فساد هذا وفي ب فساده.

(٤) الذين ينسبون كل شيء وقع ويقع إلى الطبيعة والدهر ، ولا شك أن هذا المذهب باطل وفوضى.

(٥) كذا في الرازي وفي ب فلا.

٥٤

[المزمل : ٩] إلا أن فرعون بخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل ، وألقى إلى الجهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه (١).

قوله : (أَسْبابَ السَّماواتِ) ، فيه وجهان :

أحدهما : أنه تابع «للأسباب» قبله ، بدلا أو عطف بيان.

والثاني : أنه منصوب (٢) بإضمار أعني. والأول أولى (٣) ؛ إذ الأصل عدم الإضمار.

قوله : «فأطّلع» العامة على رفعه عطفا على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي ، وقرأ حفص في آخرين بنصبه (٤) وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جواب الأمر في قوله «ابن لي» فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :

٤٣٤٠ ـ يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (٥)

وهو أوفق لمذهب البصريين.

الثاني : أنه منصوب ، قال أبو حيان : عطفا على التوهم ؛ لأن خبر «لعل» جاء مقرونا «بأن» كثيرا في النظم ، وقليلا في النثر ، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبرا منصوب «بأن» والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس (٦).

الثالث : أن ينتصب على جواب الترجي في لعل ، وهو مذهب كوفي استشهد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع وما يدريك لعله يزكى عبس أو يذكر فتنفعه الذكرى [عبس : ٣ ـ ٤] بنصب «فتنفعه» جوابا ل «لعله». وإلى هذا نحا الزمخشري ، قال : «تشبيها للترجي بالتمني» (٧). والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم.

وفي سورة عبس (٨) يجوز أن يكون جوابا للاستفهام في قوله : (وَما يُدْرِيكَ) فإنه

__________________

(١) وانظر تفسير الرازي ٢٧ / ٦٥ و ٦٦.

(٢) في ب منسوب بالسين.

(٣) قال بالأول ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣١ والعكبري في التبيان ١١٢٠ والسمين في الدر ٤ / ٦٩٦ وبالثاني السمين في مرجعه السابق.

(٤) من القراءة المتواترة وممن قرأ بها أيضا الأعرج وأبو حيوة ، وزيد بن علي ، والزعفراني ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٤٦٥.

(٥) من الأبيات المشهورة في عالم النحو وهو من الرجز لأبي النجم العجلي. والعنق محركة ضرب من السير والفسيح الواسع ، وسليمان هو سليمان بن عبد الله الخليفة. والشاهد : «فنستريحا» حيث نصب المضارع بعد الفاء على جواب الأمر وهو «سيري». وانظر معاني الفراء ١ / ٤٧٨ و ٢ / ٧٩ ، والكتاب ٣ / ٣٥ ، والمقتضب ٢ / ١٣ ، وشرح ابن يعيش على المفصل ٧ / ٢٦ ، والهمع ١ / ١٨٢ ، ٢ / ١٠ ، والتصريح ٢ / ٢٣٩ ، والأشموني ٣ / ٣٠٢ ، والمقتصد ١٠٦٩ ، والرد على النحاة ١١٥ ، والدر المصون ٤ / ٥٩٦.

(٦) قاله في البحر ٧ / ٤٦٦.

(٧) الكشاف ٣ / ٤٢٧ و ٤٢٨.

(٨) الآيتان ٣ و ٤ السابقتان.

٥٥

مترتب عليه معنى. وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني (١) ، وفيه نظر ؛ إذ ليس في اللفظ تمن ، إنما فيه ترجّ ، وقد فرق الناس بين التّمنّي والتّرجّي ، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله :

٤٣٤١ ـ ليت الشّباب هو الرّجيع على الفتى

والشّيب كان هو البديء الأوّل (٢)

قوله : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) ، قرىء : «زيّن» مبنيا للفاعل (٣) ، وهو الشيطان ، وتقدم الخلاف في (صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) في الرعد (٤) ، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل ، (وهو (٥) الإيمان). قالوا : ومن صدّه قوله : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) [طه : ٧١] ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [محمد : ١] وقوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] وابن وثاب : «وصدّ» بكسر الصاد (٦) ، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بعد توهم سلب حركتها ، وقد تقدم ذلك في نحو : ردّ (٧) ، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قيل وبيع. وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة : وصدّ (٨) ـ بفتح الصاد ، ورفع الدال منونة ـ جعله مصدرا منسوقا (٩) على (سُوءُ عَمَلِهِ) ، أي زين له الشيطان سوء العمل والصّدّ ، (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وهلاك. والتّباب الخسارة ، وقد تقدم في قوله «غير تتبيب» (١٠).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٤٦٥.

(٢) من تمام الكامل ، ولم أعرف قائله ، والرجيع : العرق ، سمي رجيعا لأنه كان ماء فصار عرقا. والبيت تدور فكرته في تمني الشباب بعد زواله وبعد حلول الكبر. وشاهده : أن «ليت» لا تستعمل إلا في الأمر المستحيل والممكن معا وهي هنا في المستحيل. وقد تقدم ..

(٣) من القراءة الشاذة ، وقد نقلها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٢٨ وأبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٤٦٦.

(٤) من الآية ٣٣ «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» فقرأ هنا وفي الرعد حفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمجهول والباقون بفتح الصاد والدال مشددة وهي متواترة ، وانظر النشر ١ / ٣٦٥ ، ٣٦١ وحجة ابن خالويه ٣١٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب وهو كلام من الرازي ٢٧ / ٦٧.

(٦) نقلها أبو حيان في بحره ٧ / ٤٦٦.

(٧) من إخلاص الضم وإخلاص الكسر والإشمام.

(٨) قراءة شاذة غير متواترة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٣٠.

(٩) أي معطوفا.

(١٠) من الآية ١٠٣ «وما تزويدونني غير تتبيب». والتّتبيب هو التّخسير. وانظر اللباب ميكروفيلم.

٥٦

يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي طريق الهدى (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي متعة تنتفعون بها مرة ثم تنقطع (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) التي لا تزول ، ثم قال : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدم الخلاف في قوله : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) في سورة النساء (١). وقال مقاتل : لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخيرات.

واختلفوا في تفسير قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فقيل : لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل : بغير حساب ، وقيل : لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائهم ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة : (إِلَّا مِثْلَها) يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب ، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب العقاب ، فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد وجب أن يكون الترجيح لجانب عمومات الوعد ، وذلك يهدم قواعد المعتزلة (٢).

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية ، فقالوا : قوله : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات (٣) فجرى مجرى أن يقال : «من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا» فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ها هنا

__________________

(١) يشير إلى قوله عز وعلا من تلك السورة :«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً». الآية ١٢٤ ، فقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة والكسائي بالبناء للفاعل في هذه السورة وفي النساء والباقون بضم الياء على البناء للمجهول بخلاف عن البعض في بعض المواقع وهي قراءة تواترية انظر السبعة لابن مجاهد ٢٣٧ ، ٢٣٨ و ٥٧١ والنشر ٢ / ٣٦٥.

(٢) الرازي في تفسيره ٢٧ / ٦٩.

(٣) وتدل على العموم والشمول.

٥٧

وجب أن يقال : كلّ من عمل صالحا واحدا من الصالحات فإنه يدخل الجنة ، ويرزق فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات (١) ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة ، والخصم يقول : إنه يخلد في النار أبد الآباد ، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمنا ، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن ، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فإن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط كلامهم (٢).

فصل

دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة ، وأن الزائد على المثل غير مشروع ، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور ، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامة خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى ، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خصّه الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكام كثيرة من الجنايات على النفوس والأعضاء والأموال ؛ لأنه تعالى بين أنّ جزاء السيئة مقصور على المثل ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصورا على المثل بل هو خارج عن الحساب (٣).

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ.) قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ) قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت : لأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له ، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة ، أي كلام مباين للأول والثاني ، فحسن إيراد الواو العاطفة فيه (٤). وكرر النداء لأن فيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظا من سنة الغفلة ، وأظهر أن له بهذا مزيد اهتمام ، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة.

قوله : (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) هذه الجملة مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار ، وهو الظاهر ، ويضعف أن تكون الجملة حالا ، أي ما لكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلى النار (٥).

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : «الصالحات».

(٢) انظر الرازي المرجع السابق.

(٣) قاله الإمام الرازي بالمعنى في تفسيره ٢٧ / ٦٩.

(٤) الكشاف ٣ / ٤٢٩.

(٥) قال بهذه الإعرابات السمين في الدر المصون ٤ / ٦٩٨.

٥٨

قوله : «تدعونني» هذه الجملة بدل من «تدعونني» الأولى على جهة البيان لها (١). وأتى في قوله «تدعونني» بجملة فعلية ؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، وفي قوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) بجملة اسميّة ؛ ليدل على ثبوت دعوته وتقويتها (٢).

فصل

معنى قوله : «ما لكم» كقولك : ما لي أراك حزينا ، أي ما لك ، يقول : أخبروني عنكم ، كيف هذه الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله ، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يوجب النار ، ثم فسر فقال (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ). والمراد بنفي العلم (٣) نفي الإله كأنه قال : وأشرك به ما ليس لي بإله ، وما ليس إله كيف يعقل جعله شريكا للإله؟

ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفّار ، «العزيز» في انتقامه ممن كفر ، «الغفار» لذنوب أهل التوحيد. فقوله : «العزيز» إشارة إلى كونة كامل القدرة ، وأما فرعون فهو في غاية العجز ، فكيف يكون إلها؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة؟ وقوله : «الغفّار» إشارة إلى أنهم يجب أن لا ييأسوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدّة مديدة فإنّ إله العالم ، وإن كان عزيزا لا يغلب ، قادرا لا يعارض ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة (٤).

قوله : (لا جَرَمَ) تقدم الخلاف في (لا جَرَمَ) في سورة هود في قوله : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [هود : ٢٢] ، وقال الزمخشري هنا : «وروي عن بعض العرب : لا جرم أنه يفعل كذا ـ بضم الجيم وسكون الراء ـ بمعنى : لا بدّ. وفعل وفعل أخوان كرشد ، ورشد ، وعدم ، وعدم» (٥). وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل ردا لما دعاه إليه قومه (٦).

و «جرم» فعل بمعنى حق ، و «أنّ» مع ما في حيّزها فاعله ، أي وجب باطلان دعوته، أو بمعنى كسب من قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) [المائدة : ٢] أي بسبب ذلك الدعاء إليه باطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور باطلان دعوته (٧).

__________________

(١) قاله العكبري في التبيان ١١٢٠.

(٢) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٤٦٧ ، وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٦٩٨.

(٣) في الرازي بنفي المعلوم.

(٤) انظر تفسير الإمام الفخري الرازي ٢٧ / ٧٠ والكشاف للعلامة الزمخشري ٣ / ٢٤٩.

(٥) الكشاف ٣ / ٤٢٩.

(٦) أي ليس الأمر كما تصفون ثم يبتدىء ما بعده.

(٧) هذا رأي الرازي في تفسيرة ٢٧ / ٧٠ آخذا إياه من الكشاف ٣ / ٤٢٩.

٥٩

ويجوز أن يقال إنّ (لا جَرَمَ) نظير «لا بدّ» فعل من الجرم ـ وهو القطع ـ كما أن «بدّ» فعل من التبديد وهو التفريق ، وكما أن معنى : لا بدّ أنك تفعل كذا بمعنى لا بدّ لك من فعله ، فكذلك (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبدا يستحقون (العقاب)(١) النار لا انقطاع لاستحقاقهم ، ولا قطع لباطلان دعوة الأصنام أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقّا (٢).

فصل

قال البغوي : (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ) أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي (رحمه‌الله) (٣) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست (٤) له استجابة دعوة ، فسمى (٥) استجابه الدعوة دعوة ، إطلاقا لاسم أحد المضافين على الآخر ، كقوله : وجزاء سيئة سيئه مثلها. وقيل (٦) : ليست له دعوة أي عبادة في الدنيا ؛ لأن الأوثان لا تدّعي الربوبية ، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.

ثم قال : (وَأَنَّ مَرَدَّنا) أي مرجعنا (إِلَى اللهِ) فيجازي كلّا بما يستحقّه ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) المشركين (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ). قاله قتادة. وقال مجاهد : السفاكين الدماء (٧).

ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت ، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر (٨).

قوله : «وأفوّض» هذه مستأنفة. وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من فعال «أقول»(٩).

وفتح نافع وأبو عمرو الياء من : أمري ، والباقون بالإسكان (١٠).

فصل

لما خوفهم بقوله : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) توعدوه وخوفوه فعول في دفع

__________________

(١) زيادة من الأصل عن ب والكشاف والرازي.

(٢) قال بهذا الرأي أيضا صاحب الكشاف وتبعه الرازي انظر المرجعين السابقين.

(٣) زيادة من (أ) فقط.

(٤) في ب ليس وانظر البغوي ٦ / ٩٦.

(٥) قاله الرازي ٢٧ / ٧١.

(٦) نقله البغوي في مرجعه السابق.

(٧) الرازي السابق.

(٨) السابق.

(٩) التبيان ١١٢٠.

(١٠) قراءة نافع وأبي عمرو لم أجدها في المتواتر من كتب القراءات ، فهي من الأربع فوق العشر المتواترة فقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٧٩ قال : «وفتح ياء «أَمْرِي إِلَى اللهِ» نافع وأبو عمرو وأبو جعفر» كما ذكرها الإمام الرازي في تفسيره ٢٧٥ / ٧١.

٦٠