اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

دون همز ؛ وحينئذ فتح الياء (١) لأنها صارت حرف الإعراب (٢).

فصل

المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدّ الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة ، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم. وهذا يدل على جواز قتال الصّائل ، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى (٣) الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضا على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة ؛ لأن الباغي من إحدى الطّائفتين وسماهما مؤمنين.

قوله : (فَإِنْ فاءَتْ) أي رجعت إلى الحقّ.

فإن قيل : قد تقدم أن «إن» تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادر فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال : (فَإِنْ فاءَتْ)؟

فالجواب : هذا كقول القائل لعبده : إن متّ فأنت حرّ ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد محلّا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقّع فيئتهم (٤) من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمر بينهم فقال تعالى : (فَإِنْ فاءَتْ) أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فأصلحوا. وفيه إشارة إلى أنّ من لم يخف الله وبغى يكون رجوعه بعيدا.

قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله «وأقسطوا» اعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

فإن قيل : لم قال ههنا : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) ولم يذكر العدل في قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما)؟

فالجواب : أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه (٥) من ضمان المتلفات وهو حكم فقال : «بالعدل» فكأنه قال : فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى.

فإن قيل : لما قال : فأصلحوا بينهما بالعدل فأية فائدة في قوله : وأقسطوا؟

فالجواب : أنّ قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) كأن فيه تخصيصا بحال (٦) الاقتتال فعمّ

__________________

(١) شذوذا.

(٢) وانظر البحر المحيط ٨ / ١١٢.

(٣) في الرازي : البغي.

(٤) في ب فيهم.

(٥) في الرازي : اندفاعه.

(٦) في ب لحال.

٥٤١

الأمر بالعدل وقال : وأقسطوا أي في (كل) (١) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله. والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسطّ هو الجائر (٢).

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي في الدين ، والولاية. قال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأخ ، من النّسب والإخوان جمع الأخ من الصّداقة ، والله تعالى قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) تأكيدا للأمر وإشارة إلى أن ما بين الإخوة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم ـ (رحمة الله عليه) (٣) ـ :

٤٥٠٢ ـ أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم (٤)

قوله : (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) العامة على التثنية. وزيد بن ثابت وعبد الله وحمّاد بن سلمة وابن سيرين : إخوانكم جمعا على فعلان (٥). وقد تقدم أن الإخوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب ، وقد تعكس كهذه الآية. وروي عن أبي عمرو وجماعة : إخوتكم بالتاء من فوق (٦). وقد روي عن ابن عمرو أيضا القراءات الثلاث (٧).

فصل

المعنى : فاتقوا الله ولا تعصوه ولا تخالفوا أمره (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» (٨).

فإن قيل : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل : اتّقوا وقال ههننا اتّقوا مع أنّ ذلك أهم؟

فالجواب : أنّ الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعمّ المفسدة ويلحق كل مؤمن منها

__________________

(١) زيادة للسياق.

(٢) وانظر الرازي ٢٨ / ١٢٨ و ١٢٩.

(٣) زيادة من أ.

(٤) من بحر الطويل وهو لنهار بن توسعة. وأنشده المؤلف حملا على ما أنشده الرازي من أن الإسلام هو السيّد ، وهو كل شيء. وانظر البيت في الكتاب ٢ / ٢٨٢ والهمع ١ / ١٤٥ وشرح مفصل الزمخشري لابن يعيش ٢ / ١٠٤ والرازي ٢٨ / ١٢٩ وفيه الشاهد النحوي المشهور في لا النافية للجنس وهو ما نحن لسنا بصدده.

(٥) ذكر هذه القراءة صاحب الإتحاف ٣٩٧ وما ذكره المؤلف أعلى موافق لما في البحر ٨ / ١١٢. وهي شاذة. وقد ذكر القرطبي في الجامع ١٦ / ٣٢٣ أن ابن سيرين قرأ : إخوتكم القراءة الآتية.

(٦) أورد أبو حيان في البحر وابن مجاهد في السبعة ٦٠٦ أنها لابن عامر وحده بينما قال أبو حيان : والحسن أيضا وابن عامر في رواية وزيد بن علي ويعقوب.

(٧) البحر المحيط ٨ / ١١٢.

(٨) أخرجه البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٢٥ ، عن سالم عن أبيه.

٥٤٢

شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد ، فقال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) أو يقال : قوله : وأصلحوا إشارة إلى الإصلاح ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) إشارة إلى ما يصيبهم عن المشاجرة ، وإيذاء قلب الأخ ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» فالمسلم يكون مقبلا على عبادة الله مشتغلا بعيبه عن عيوب الناس (١).

فصل

في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، ويدل عليه ما روى الحارث الأعور أن عليّ بن أبي طالب سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصفّين أمشركون هم؟ فقال : لا ؛ من الشرك فروا فقيل : أمنافقون؟ فقال : (لا) (٢) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل : فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا والباغي في الشرع هو الخارج على إمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصّبوا إماما بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم وبدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته (٣). وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه (٤).

فصل

«إنّما» للحصر أي الإخوة الآتين من المؤمنين (٥). فلا أخوّة بين المؤمن والكافر ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ، ولا يكون لأخيه الكافر ، وكذلك الكافر ، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنّ ولدي الزّنا من ولد رجل واحد لا يتوارثان ، فكذلك الكفر لأن الجامع الفاسد لا يفيد الأخوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار ، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار ومال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.

فإن قيل : إذا ثبت أن أخوّة الإسلام أقوى من أخوّة النسب بدليل أنّ المسلم يرثه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأخ الكافر من النسب فلم لا يقدمون

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ١٢٩ ، ١٣٠.

(٢) سقط من ب حرف «لا».

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٢٥.

(٤) فهو لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذّفف على جريحهم. وانظر المرجع السابق. وفيه كلام آخر.

(٥) أي لا أخوّة إلا بين المؤمنين هكذا ذكر الرازي.

٥٤٣

الأخوة الإسلامية على الأخوة النّسبيّة مطلقا حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟

فالجواب : أن الأخ المسلم إذا كان أخا من النسب فقد اجتمع فيه أخوّتان فصار أقوى(١).

فصل

قال النحاة ههنا : إنّ «ما» كافّة تكف إنّ عن العمل ، ولولا ذلك لقيل : إنّما المؤمنين إخوة وفي قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى : هو أن ربّ من حروف الجر و «الباء» و «عن» كذلك. و «ما» في «ربّ» كافّة ، في «عما» و «بما» ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «ربّما» و «إنّما» يكون تاما ويمكن جعله مستقلا ، ولو حذفت «ربّما وإنّما» لم يضرّ تقول : ربّما قام الأمير ، وربّما زيد في الدّار. ولو حذفت «ربّما» وقلت : زيد في الدّار وقام الأمير لصحّ ، وكذلك في «إنّما» و «لكنّما» وأما «عمّا» و «بما» فليس كذلك ، لأن قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) لو حذفت «بما» وقلت : رحمة من الله لنت لهم ، لما كان كلاما ، فالباء تعدّ متعلقة (٢) بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عمّا» ، وأما «ربّما» لما استغني عنها ، فكأنها لم تبق حكما ، ولا عمل للمعدوم.

فإن قيل : إنّ «إذا» لم تكفّ بما فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول : إنّ زيدا قائم ولو قلت : زيد قائم لكفى وتمّ!

نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إنّ يجوز أن يكون نكرة تقول : إنّ رجلا جاءني وأخبرني بكذا. وتقول جاءني رجل وأخبرني. ولا يحسن : إنّما رجل جاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في ليتما لو حذفتهما واقتصرت على ما بعدهما لا يكون تاما فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ» مرارا (٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في تفسير الرازي : يعد متعلقها انظر الرازي ٢٨ / ١٣٠. وانظر المغني ١٣٧.

(٣) تتصل بلعل «ما» الحرفية فتكفها عن العمل لزوال اختصاصها حينئذ بدليل قوله :

 ... لعلّما

أضاءت لك النار الحمار المقيّدا

وجوز قوم إعمالها حينئذ حملا على «ليت» لاشتراكهما في أنهما يغيّران معنى الابتداء. انظر المغني ٢٨٦.

٥٤٤

نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(١٢)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ...) الآية تقدم الخلاف في «قوم» وجعله الزمخشري ههنا جمعا لقائم قال : كصوم وزور جمع صائم وزائر. (و) فعل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو : ركب ، وصحب. والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ، ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته ، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب. ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تستصغروهم.

فصل

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (١) ـ : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيستمع (٢) ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر ، فلما انصرف النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ـ من الصلاة أخذ (٤) أصحابه مجالسهم فضنّ كل رجل بمجلسه ، فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء ولم يجد مجلسا قام قائما فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتخطى رقاب الناس (ويقول) (٥) : تفسّحوا تفسّحوا فجعلوا يتفسّحون حتى انتهى إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبينه وبينه رجل فقال له : تفسّح فقال له الرجل : قد أصبت مجلسا فاجلس فجلس ثابت خلفه مغضبا فلما انجلت الظّلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا فقال : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة؟ ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه ، فاستحيا. فأنزل الله تعالى هذه الآية (٦). وقال الضّحّاك : نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل عمّار ، وخبّاب وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم (٧).

قوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) قرأ أبي وعبد الله بن مسعود عسوا وعسين (٨)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وفيها : فيسمع.

(٣) وفيها : ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٤) وفيها : فأخذ.

(٥) زيادة للسياق.

(٦) البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٧) المرجعين السابقين.

(٨) ذكرها الفراء في معاني القرآن ٣ / ١٧٢ وأبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١١٢. وهي شاذّة.

٥٤٥

(جعلاها ناقصة) (١). وهي لغة تميم وقراءة العامة لغة الحجاز.

قوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) روي أنها نزلت في نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عيرت أم سلمة بالقصر ، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا : نزلت في صفيّة بنت حييّ بن أخطب قال لها النساء : يهودية بنت يهوديّين (٢).

قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يعب بعضكم على بعض (٣). قرأ الحسن والأعرج : ولا تلمزوا بالضّمّ (٤) واللّمز بالقول وغيره (٥) والغمز باللسان فقط (٦).

قوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) التنابز تفاعل من النّبز وهو التداعي بالنّبز والنّزب ، وهو مقلوب منه لقلة هذا ، وكثرة ذاك. ويقال : تنابزوا وتنازبوا إذا دعا بعضهم بعضا بلقب سوء. وأصله من الرفع كأنّ النّبز يرفع صاحبه فيشاهد. واللّقب : ما أشعر بضعة المسمّى كقفّة وبطّة أو رفعته (٧) كالصّدّيق وعتيق والفاروق ، وأسد الله ، وأسد رسوله وله مع الكنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة في كتب النحو.

وأصل : تنابزوا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهمزتين فقال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٨] والحذف ههنا أولى ؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و «أنذرتهم» أخرى ، واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة (٨).

فصل

ذكر في الآية أمورا ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض ، وهي السّخرية واللّمز والنّبز. والسّخرية الاحتقار والاستصغار ، واللمز ذكر الرجل في غيبته بعيب. وهذا دون الأول ، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه ، وهذا جعل فيه شيئا ما فعابه به. والنّبز دون الثاني لأنه يصفه بوصف ثابت فيه نقصه (٩) به ، ويحط منزلته والنّبز مجرد (١٠) التسمية وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من ب.

(٢) البغوي والخازن السابقين.

(٣) المرجع السابق.

(٤) ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٧ وهي قراءة عشرية. انظر تقريب النشر ١٧٥.

(٥) اللسان لمز ٤٠٧٢.

(٦) قال في اللّسان «غمز» : الغمز الإشارة بالعين والحاجب والجفن.

(٧) ذكره صاحب اللسان «نبز» ٤٣٢٤.

(٨) ولهذا وجب الإدغام في قولنا : مدّ ولم يجب في قولنا : امدد وفي قولنا : مرّ ، دون قوله : أمر ربّنا.

انظر الرازي ٢٨ / ١٣٣.

(٩) في الرازي : لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفا ثابتا فيه يوجب بغضه وحطّ منزلته.

(١٠) كذا في الرازي وفي ب محمود.

٥٤٦

إذا وضع لواحد وعلا عليه لا يكون معناه موجودا فإن من سمي سعدا وسعيدا قد لا يكون كذلك وكذلك من لقّب إمام الدين أو حسام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة ، وكذلك النّبز ، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قال : لا تتكبّروا فتستحقروا إخوانكم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلا ، وإذا نزلتم عن هذا فلا تعيبوهم طالبين حطّ درجتهم وإذا لم تعيبوهم ولم تصفوهم بما يسوؤهم فلا تسمّوهم (١) بما يكرهونه (٢).

فصل

قال ابن الخطيب : القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال ؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «النّساء لحم على وضم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنّها مضطرة إليه في رفع حوائجها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك (٣).

فصل

في قوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) حكمة وهي أنهم إذا وجد منهم التّكبّر (٤) المفضي إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيرا منهم ، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فصار هو خيرا منه ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : «يكونوا» أي يصيروا ، فإن من استحقر إنسانا لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويقوى الضعيف.

فصل

في قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) وجهان :

أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه (٥) فكأنه أعاب نفسه.

والثاني : أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملا للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩].

ويحتمل أن يقال : لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم معيّب فإنكم إن فعلتم فقد

__________________

(١) في ب تسمونهم. خطأ نحويّ.

(٢) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ١٣١.

(٣) انظر المرجع السابق.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي : النّكر المفضي.

(٥) كذا في النسختين أعابه ، وليس عابه.

٥٤٧

عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيّبين من وجه. وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١).

فصل

قال : (وَلا تَنابَزُوا) ولم يقل : ولا تنبزوا لأن اللامز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيبا يلمزه به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب. وأما النّبز فلا يعجز كل أحد عن الإتيان بنبز ، فالظاهر أن النّبز يفضي في الحال إلى التّنابز ، ولا كذلك اللمز.

فصل

قال المفسرون : اللقب هو أن يدعى الإنسان بغير ما يسمّى به ، وقال عكرمة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق ، يا منافق ، يا كافر. وقال الحسن : كان اليهودي والنصرانيّ يسلم ، فيقال له بعد إسلامه : يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك ، وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه : يا حمار يا خنزير. وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) (٢) : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيّر بما سلف من عمل (٣).

قوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الاسم أن يقول له : يا يهوديّ يا فاسق بعد ما آمن. وقيل : معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق. ثم قال : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي من ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ...) الآية. قيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيّىء لهما طعامهما وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمان الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيّىء لهما فلما قدما قالا له ما صنعت شيئا؟ قال : لا غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واطلب لنا منه طعاما ، فجاء سلمان إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسأله طعاما ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عند فضل من طعام فليعطك ، وكان أسامة خازن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل

__________________

(١) وانظر الرازي ٢٨ / ١٣٢.

(٢) سقط من ب.

(٣) قاله البغوي في معالم التّنزيل والخازن في لباب التّأويل ٦ / ٢٢٦ و ٢٢٧.

٥٤٨

فبعثا سلمان إلى طائفة من الصّحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالوا : بعثناه إلى بئر (١) سميحة فغار ماؤها ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما جاءا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال لهما : ما لي أرى حضرة اللّحم في أفواهكما؟ قالا : والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما قال : (بل) (٢) ظللتم تأكلون لحم أسامة وسلمان. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ)(٣).

فصل

قال سفيان الثوري : الظّنّ ظنان :

أحدهما : إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به.

والآخر : ليس بإثم وهو أن يظن ، ولا يتكلم به ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث».

قوله : «إثم» جعل الزمخشري همزه بدلا من واو قال : لأنه يثم الأعمال أي يكسرها (٤) وهذا غير مسلّم بل تلك مادة أخرى (٥).

قوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) التجسس التّتبع ، ومنه الجاسوس ، والجسّاسة ، وجواسّ الإنسان وحواسّه ومشاعره (٦) ، وقد قرأ هنا بالحاء الحسن وأبو رجاء وابن سيرين (٧).

فصل

التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عليه الصلاة والسلام : «لا تجسّسوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (٨) وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتتبّعوا عوراتهم فإنه من تتبّع عورات المسلمين تتبّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (٩). ونظر عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك عند

__________________

(١) بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) وانظر البغوي والخازن المرجعين السابقين والقرطبي ١٦ / ٣٣١.

(٤) بإحباطه. وانظر الكشاف ٣ / ٥٦٨.

(٥) قال صاحب اللسان : ووثم يثم أي عدا. ونقل الجوهري أن الوثم هو الضرب والكسر. انظر اللسان والصّحاح «وثم».

(٦) فهناك تقارب. وانظر الكشاف ٣ / ٥٦٩.

(٧) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٣. وانظر الكشاف السابق.

(٨) أخرجه البغوي عن أبي الزناد عن الأعرج.

(٩) أخرج عن ابن عمر ، وانظر البغوي المرجع السابق ٦ / ٢٢٨.

٥٤٩

الله. وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال : إنّا قد نهينا عن التّجسّس فإن يظهر لنا شيئا نأخذه به (١).

فصل

واعلم أن الظن تبنى عليه القبائح فالعاقل إذا وقف أموره على اليقين قلّ ما يتيقن في أحد عيبا يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك ؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهيا أو يكون الرأي مخطئا ، وقوله تعالى : (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ظنّوا بالمؤمن خيرا» وقوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) إتمام لذلك لأنه تعالى لما قال : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يتناول بعضكم بعضا في غيبته بما يسوؤه مما هو فيه (٢).

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره. قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه (٣). وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن (٤).

قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) نصب «ميتا» على الحال من «لحم» أو «أخيه» (٥) ، وتقدم الخلاف في ميتا.

فإن قيل : اللحم ألا يكون ميتا؟

فالجواب : بلى (٦). قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما أبين من حيّ فهو ميّت» فسمى القطعة (٧) ميتا.

فإن قيل : إذا جعلناه حالا من الأخ لا يكون هيئة (٨) الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله

__________________

(١) وانظر البغوي ٦ / ٢٢٨.

(٢) الرازي ٢٨ / ١٣٣ و ١٣٤.

(٣) أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي هريرة ٦ / ٢٢٩.

(٤) ذكره العكبري في التبيان ١١٧٢.

(٥) فقد قرأ نافع وحده ميتا بالتشديد والباقون ميتا. وانظر السبعة ٦٠٦ والكشف ٢ / ٢٨٤ وهي سبعيّة متواترة. وقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٨.

(٦) كذا تكون الصحة فالإجابة ببلى إلا إذا كان التقدير على الاستفهام فإنه تكون النسختان صحيحتين.

(٧) في الرازي الغلفة ، وهو الأصح يقال : قلب أغلف بيّن الغلفة كأنه غشي بغلاف فهو لا يعي شيئا.

وانظر اللسان «غلف» وكذا يكون المقصود من الكلام. وانظر الرازي ٢٨ / ١٣٥.

(٨) في الرازي : هو الفاعل.

٥٥٠

حالا فهو كقول القائل : مررت بأخي زيد (قائما) ويريد كون زيد قائما. وذلك لا يجوز.

قلنا : من أكل لحمه فقد أكل فصار الأخ مأكولا مفعولا بخلاف المرور بأخي زيد (١).

فصل

في هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر ؛ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ، لأن ذلك آلم.

وقوله : (لَحْمَ أَخِيهِ) آكد في المنع ؛ لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ ، وفي قوله : «ميتا» إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال : الشّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال : آكل لحم الأخ وهو ميت أيضا لا يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لما أنّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه ، وفيه معنى لطيف وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدميّ ميتا ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة ، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب (٢).

قوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) قال الفراء : تقديره : فقد كرهتموه فلا تفعلوه (٣). وقال ابن الخطيب : الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال : أيحبّ للإنكار فكأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن (٤). وقال أبو البقاء : المعطوف عليه محذوف تقديره عرض عليكم ذلك فكرهتموه. والمعنى يعرض عليكم فتكرهونه (٥).

وقيل : إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه (٦) قال ابن الخطيب : هو كمتعلق المسبّب بالسبب وترقّبه عليه كقولك : جاء فلان ماشيا فتعب ، فقيل : هو خبر بمعنى الأمر كقولهم : «اتّقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» (٧). وقرأ أبو حيوة والجحدريّ : فكرّهتموه

__________________

(١) فيجوز أن تقول : ضربت وجهه آثما ؛ أي وهو آثم أي صاحب الوجه كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته. الرازي المرجع السابق.

(٢) وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٣٤ و ١٣٥.

(٣) قاله في معاني القرآن له ٣ / ٧٣.

(٤) المرجع قبل السابق.

(٥) التبيان في إعراب القرآن ١١٧١.

(٦) نقله في المرجع السابق دون عزو لأحد. هذا وما بين القوسين زيادة على كتاب التبيان وعلى ذلك فقوله : «فَكَرِهْتُمُوهُ» جملة واقعة جواب شرط لشرط مع فعله محذوف.

(٧) البحر المحيط ٨ / ١١٥ وقد ذكر الوجه السابق أيضا صاحب الكشاف في كشافه ٣ / ٥٦٨. وانظر الرازي ٢٨ / ١٣٥.

٥٥١

ـ بضم الكاف وتشديد الراء (١) ـ عدي بالتضعيف إلى ثان (٢) بخلاف قوله أولا : (كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) فإنه وإن كان مضعّفا لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بغّض (٣).

فصل

قال ابن الخطيب : الضمير في قوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) فيه وجوه :

أظهرها : أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) معناه أيحب أحدكم الأكل لأن «أن» مع الفعل للمصدر أي فكرهتم الأكل (٤).

وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي فكرهتم اللّحم.

وثالثها : أن يعود إلى الميّت في قوله : «ميتا» تقديره : أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا متغيرا فكرهتموه فكأنه صفة لقوله : «ميتا» ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النّدرة لسبب (٥) كان نادرا ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلا فكذلك ينبغي أن يكون الغيبة ، وذلك يحقّق الكراهة ويوجب النّفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذن كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة (٦).

فصل

قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ قالوا : لا ، قيل : (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا (٧). قال الزجاج : تأويله إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحسّ بذلك (٨).

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم (٩).

__________________

(١) قال في البحر : ورواها الخدري عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهي قراءة الخدري أيضا وانظر مختصر ابن خالويه ١٤٣ ، ١٤٤.

(٢) وهو الهاء.

(٣) بالمعنى من كتاب البحر لأبي حيان ٨ / ١١٥.

(٤) رسمت في النسختين : كرهتموا أكل. وانظر الرازي ٢٨ / ١٣٥ كما كتبت أعلى.

(٥) في النسختين : وتستطاب.

(٦) الرازي في تفسيره الكبير المرجع السابق.

(٧) نقله العلامة البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٢٩ وكذلك الخازن في لباب التأويل نفس الجزء والصفحة.

(٨) قال : فتأويله كما تكرهون أكل لحمه ميتا كذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائبا.

(٩) رواه أنس بن مالك عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انظر البغوي والخازن السابقين.

٥٥٢

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال ههنا : (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله : «و (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً) فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(١٣)

قوله (تعالى) (١) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ...) الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب (٢) إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز ، وكذلك لمزه وغيبته وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز ، لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر ، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنيا والمؤمن فقيرا وبالعكس ، وإن كان بسبب النّسب فالكافر قد يكون نسيبا والمؤمن مولى لعبد (٣) أسود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يعني كآدم أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.

فصل

قال ابن عباس (رضي الله عنهما) (٤) نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له : ابن فلانة فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الذاكر فلانة؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال: انظر في وجوه القوم فنظر ، فقال : ما رأيت يا ثابت؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدّين والتقوى ، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يتفسّح : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا)(٥).

وقال مقاتل : لما كان فتح مكة أمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلالا حتى علا ظهر الكعبة

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) في ب وعيبه.

(٣) في ب وعبد أسود.

(٤) زيادة من أوانظر الكلام الأعلى في تفسير الإمام ٢٨ / ١٣٦ ، ١٣٧.

(٥) البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٢٢٩ و ٢٣٠.

٥٥٣

فأذّن فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيّره. وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به ربّ السماوات فأتى جبريل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخبره بما قالوا : فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال ، والإزراء بالفقراء (١).

فإن قيل : هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسب اعتبارا عرفا وشرعا حق لا يجوز تزويج الشريفة بالنّبطيّ!.

فالجواب : إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبرا ، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولجناح الذباب دويّ ولا يسمع عندما يكون رعد قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه. وإذا علم هذا ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب ، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا ، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره ، ولهذا تصلح المناصب الدينية كالقضاء والشهادة لكل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشيّ النّسب وقارونيّ النّشب ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله ، لقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وشرف النسب ليس مكتسبا ولا يحصل بسعي (٢).

فصل

الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة ، لكن النسب أعلاها ، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه باطلان غيره بطريق الأولى.

فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ)؟

فالجواب : بأن كل شيء يترجح على غيره ، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب (٣)

__________________

(١) البغوي والخازن السابقين.

(٢) انظر الرازي ٢٨ / ١٣٧.

(٣) في ب ويترتب.

٥٥٤

عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله ، فالذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك : هذا من النّحاس ، وهذا من فضّة والثاني : كقولك : هذا عمل فلان ، وهذا عمل فلان ، فقال تعالى : لا ترجيح (١) بما خلقتم منه ، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله ، فإن كان عندكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التّقوى (٢).

قوله : (جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعوب جمع شعب بفتح الشين ، وهو أعلى طبقات الأنساب مثل ربيعة ، ومضر ، والأوس ، والخزرج ، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ : الشّعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ، وكل واحد يدخل فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها ، فتكون الفصائل داخلة في العشيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ وتدخل الأفخاذ في البطون والبطون في العمائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب ، وذكر الأعم لأنه أذهب بالافتخار (٣) وسمّي الشعب شعبا لتشعب القبائل منه ، واجتماعهم فيه كشعب أغصان الشجرة. والشّعب من الأضداد ، يقال : شعب أي جمع ، ومنه تشعيب القدح وشعّب أي فرق (٤) ، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قبيلة وهي كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر سميت بذلك لتقابلها ، شبهت بقبائل الرأس ، وهي قطع متقابلة ، وقيل : الشعوب في العجم ، والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل. وقيل : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد :

٤٥٠٣ ـ قبائل من شعوب ليس فيهم

كريم قد يعدّ ولا نجيب (٥)

والنسبة إلى الشّعب شعوبيّة ـ بفتح الشين ـ وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها ـ عمارة ـ بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني هاشم وأمية من بني لؤيّ. ثم الفصائل والعشائر واحدتها فصيلة وعشيرة.

وقال أبو روق : الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم (٦).

__________________

(١) وفيها ترجّح.

(٢) الرازي ٢٨ / ١٣٧ و ١٣٨.

(٣) البغوي والخازن ٦ / ٢٣٠ والرازي السابق.

(٤) الصّحاح للجوهري «شعب» والقرطبي ١٦ / ٣٤٤.

(٥) البيت من تمام الوافر ، وهو لعبيد بن الأبرص وشاهده واضح وانظر القرطبي ١٦ / ٣٤٤ والبحر المحيط ٨ / ١١٦ وفتح القدير ٥ / ٦٧ والخصائص ٢ / ١٦٩.

(٦) انظر القرطبي المرجع السابق والبحر أيضا.

٥٥٥

قوله : «لتعارفوا» العامة على تخفيف التاء ، والأصل : لتتعارفوا فحذف إحدى التاءين(١). والبزّي بتشديدها (٢) وقد تقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلّقة «بجعلناكم». وقرأ الأعمش بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي (٣) ، وحذفه الجمهور (٤) ، وابن عباس لتعرفوا مضارع عرف(٥).

فصل

المعنى ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا لتفاخروا. وقال في أول الآية : خلقناكم وقال ههنا : وجعلناكم شعوبا ، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ،) والجعل شعوبا للتعارف ، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب ، لأن اعتبار الجعل شعوبا إنما يتحقق بعد تحقّق الخلق ، وفي هذا إشارة إلى أنّه إن كان فيكم عبادة فتعتبر ، وإلا فلا اعتبار لأنسابكم.

فإن قيل : الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣] (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣] و [النور : ٤٦].

فالجواب : أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسبا مبنيّا على فعل لقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الإنسان : ٢٩] ثم قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] وأما في النسب فلا (٦).

قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أخبر تعالى أن أرفعهم منزلة عند الله أتقاهم. وقال قتادة في هذه الآية : أكرم الكرم التقوى وألأم اللّؤم الفجور. وقال عليه الصلاة والسلام ـ : «الحسب المال والكرم التّقوى». وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. وعن أبي هريرة ـ (رضي الله عنه (٧)) ـ قال : سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أيّ الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس

__________________

(١) تخفيفا.

(٢) تصبح هكذا : لتّعارفوا وهي شاذة وقد رويت في مختصر ابن خالويه ١٤٤ عن ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وهكذا الشأن في البحر المحيط ٨ / ١١٦.

(٣) البحر والمختصر المرجعين السابقين.

(٤) ولكن هكذا : لتتعرّفوا.

(٥) المراجع السابقة. وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٥٦٩ وكلها شاذة.

(٦) وانظر الرازي ٢٨ / ١٣٨.

(٧) ما بين الأقواس زيادة من أكالعادة وقد أخرج البغوي في معالم التنزيل هذه الأحاديث ، أخرج الأول عن سمرة بن جندب ، والأخير عن يزيد بن الأصمّ عن أبي هريرة وانظر البغوي والخازن ٦ / ٢٣٠ و ٢٣١.

٥٥٦

يوسف نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم قال : خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام إذا فقهوا. وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم.

فصل

قرأ العامة : إنّ أكرمكم بكسر «إنّ» ، وابن عباس بفتحها (١) ، فإن جعلت اللام لام الأمر ـ وفيه بعد ـ صحّ أن يكون قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) بالفتح مفعول العرفان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولا ، لأنه لم يجعلهم شعوبا وقبائل ليعرفوا ذلك ، فينبغي أن يكون المفعول محذوفا واللام للعلة أي لتعرفوا الحقّ لأنّ أكرمكم (٢).

فصل

قال ابن الخطيب : في المراد بالآية وجهان :

الأول : أن التقوى تفيد الإكرام.

والثاني : أن الإكرام يورث التقوى ، كما يقال : المخلصون على خطر. والأول أشهر ، والثاني أظهر.

فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لفقيه أشدّ على الشّيطان من ألف عابد».

فالجواب : أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشّجرة التي لا تثمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حصب جهنم ، وأما العابد الذي يفضل عليه الفقيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ، ولعلمه (٣) يعبده مخافة الإلقاء في النار فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة ، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته ، والمتقي هو العالم بالله المواظب لبابه.

فإن قيل : خطاب الناس بقوله : (أَكْرَمَكُمْ) يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام.

__________________

(١) ذكرها صاحب البحر ٨ / ١١٦ والكشاف ٣ / ٥٦٩ وهي شاذة غير متواترة.

(٢) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ١١٦ وقال الزمخشري في كشافه : «وقرىء أن بالفتح» كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل : لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم ، وانظر الكشاف ٣ / ٥٦٩. وقد قال ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٨٠ : قراءة ابن عباس لتعرفوا قال أبو الفتح : المفعول هنا محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إلى معرفته انظر التبيان أيضا ١١٧١.

(٣) في ب ولعله وهو الأصح.

٥٥٧

فالجواب : ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، ثم من استمر عليه وزاد زيد في كرامته ، ومن رجع عنه أزيل عن الكرامة.

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم (١).

قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٤)

قوله تعالى (٢) : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) الآية. لما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والاتّقاء من الشّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون (٣) لنا الشرف قال (٤) الله تعالى : ليس الإيمان بالقول إنما هو بالقلب ، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في «الصدور» ولكن قولوا أسلمنا أي انقدنا (٥) وأسلمنا (٦). قيل : نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ، قدموا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في سنة مجدبة ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون (٧) ويروحون إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والعيال والذّراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان يمنّون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويريدون الصدقة ، ويقولون أعطنا ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم ، وأشجع وغفار وكانوا يقولون : آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) صدقنا «قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا» انقدنا (٨) واستسلمنا مخافة القتل والسّبي (٩).

قال ابن الخطيب : وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ، فكل من

__________________

(١) انظر الرازي ٢٨ / ١٣٩ و ١٤٠.

(٢) زيادة من الأصل.

(٣) كذا في النسختين وفي الرازي : وإنما يكون لنا الشرف. وانظر الرازي ٢٨ / ١٤٠.

(٤) جواب لما أعلى.

(٥) كذا في الرازي وفي النسختين : أنقذنا.

(٦) وفيه : واستسلمنا بخلاف النسختين : وأسلمنا.

(٧) في ب : يعتذرون تحريف.

(٨) في ب أيضا وأ الأصل أنقذنا والتصحيح من روايات المفسرين كما كتبته أعلى على أن العقل والمعنى يحتمان أن تكون الكلمة انقدنا من الانقياد فعلا ماضيا.

(٩) وانظر أسباب النزول تلك في البغوي والخازن ٦ / ٢٣١ و ٢٣٢ والقرطبي ١٦ / ٣٤٨.

٥٥٨

أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب (١).

قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ) هذه الجملة مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك. وجعلها الزمخشري حالا مستقرّة في : «قولوا» (٢) وقد تقدم الكلام في «لما» وما تدل عليه ، والفرق بينها وبين «لم» في البقرة عند قوله تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) [البقرة : ٢١٤].

وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدّدة!.

قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : لم تؤمنوا هو تكذيب دعواهم. وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه. ثم قال : «ولما (٣) في «لمّا» من معنى التوقع دليل على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعده» (٤) ، قال أبو حيان : فلا أدري من أي وجه يكون النفي (٥) بلمّا يقع بعد؟! (٦). قال شهاب الدين : لأنّها لنفي قد فعل ، وقد للتّوقع.

فصل

قال ابن الخطيب : لم ولمّا حرفا نفي ، وما ، وإن ولا كذلك من حروف النفي ولم ولمّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما؟.

فالجواب : أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما ، فإنهما يصرفان معناه من الاستقبال إلى النفي تقول : لم يؤمن أمس ، وآمن اليوم ، ولا تقول : لا يؤمن أمس ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما.

فإن قيل مع هذا : لم جزم بهما؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول : لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية ؛ لأنّ من قام فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام ، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير توقّع ، فلا يمكن الجزم والقطع فيه ، فإذا كان «لمّا ولم» يقلبان اللّفظ من الاستقبال إلى المضيّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسبا والقطع في المعنى فجعل له مناسبا لمعناه وهو الجزم لفظا ، وعلى هذا نقول : إذا كان السبب في الجزم ما ذكرنا فلهذا

__________________

(١) تفسير الإمام الرازيّ ٢٨ / ١٤٠.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٧٠.

(٣) في الكشاف : وما في لما. والتصحيح منه.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٧٠.

(٥) في البحر : يكون ما نفي بلما.

(٦) ولما إنما تنفي ما كان متصلا بزمان الإخبار ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لنفي قد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل فإذا نفي ما دل على التوقع فكيف يتوهم أنه يقع بعد؟ وانظر البحر ٨ / ١١٧ أقول : ومذهب أبي حيان ورأيه أن الجملة تلك وهي : «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» غير متصلة بما قبلها.

٥٥٩

قيل : الأمر يجزم ، لأن الآمر كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه ، فأتى بلفظ مجزوم تنبيها على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و «إن» في الشرط ك «لم» لأن «إن» تغير معنى الفعل من المضيّ إلى الاستقبال كما أن «لم» تغيّره من الاستقبال إلى المضي تقول : إن أكرمتني أكرمك ، فلما كان «إن» مثل «لم» في كونه حرفا ، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازما للشبه اللّفظيّ وأما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى ، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجزمه إذن إمّا للمعنى ، أو للشبه اللفظي (١).

فصل

أخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص والإسلام هو الدخول في السّلم ، وهو الانقياد والطاعة يقال : أسلم الرّجل إذا دخل في الإسلام والسّلم ، كما يقال أشتى إذا دخل في الشّتاء ، وأصاف إذا دخل في الصّيف ، وأربع إذا دخل في الرّبيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله ـ عزوجل ـ لإبراهيم : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ومنها : ما هو انقياد باللّسان دون القلب وذلك قوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

قال ابن الخطيب : المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متّحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره. مثاله : الحيوان أعمّ من الإنسان ، لكن الحيوان في صورة الإنسان (ليس (٢)) أمرا ينفكّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا ، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم. وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذّاريات عند قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ و ٣٦] إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخطيب : وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ((بعد) ضعيفا (٣)) قال (٤) لهم : لم تؤمنوا لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام (٥).

__________________

(١) وقد قال بتلك الكلمات الإمام الفخر في تفسيره ٢٨ / ١٤١ وانظر في معالم «لم ولما» المغني كما سبق وهمع الهوامع ١ / ٢١٥ و ٢ / ٥٦ و ٥٧ وقطر النّدى وبلّ الصّدى ١١١ و ١١٢ و ١١٣ وشرح الكافية للإمام الرضي ٢ / ٣٥١ ، وشرح الأشموني على الألفية بحاشية الصبان ٤ / ٥ و ٦ و ٧.

(٢) تكملة من الرازي على النسختين بدليل نصب الخبر بعد.

(٣) ما بين القوسين الكبيرين ساقط من أالأصل وما بين الصغيرين ساقط من ب فقط.

(٤) كذا في الرازي وأ وفي ب يقال.

(٥) انظر تفسير الإمام ٢٨ / ١٤١ و ١٤٢.

٥٦٠