اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

بتقدير الله ، كما أنه كف أيديهم عنكم بالفرار ، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم.

روى ثابت عن أنس بن مالك ـ (رضي الله عنه) (١) ـ أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من جبل التنعيم (٢) متسلحين يريدون غرّة (٣) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه فأخذهم سلما فاستحياهم (٤) فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ).

قال عبد الله بن مغفّل المزنيّ : كنا مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى «في القرآن» ، وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهره ، وعلي بن أبي طالب ـ (رضي الله عنه (٥)) ـ بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فنادوا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جئتم في عهد (أحد (٦)) أو هل جعل (٧) لكم أحد أمانا؟ قالوا : اللهم لا فخلّى سبيلهم. فأنزل الله هذه الآية (٨).

قوله : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قرأ أبو عمرو (٩) يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق فمن قرأ بالغيبة فهو رجوع إلى قوله : «أيديهم» و «عنهم». ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله : «أيديكم» و «عنكم» ، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإن كنتم لا ترون ذلك (١٠).

ثم بين ذلك بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهذا إشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر (فيهم (١١)) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتالهم ، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا ، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بل الاختلاف والنزاع باق مستمر ؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادوا كفرا وعداوة ، وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنّساء المؤمنات (١٢).

قوله : «والهدي» العامة على نصبه ، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) جبل وهو موضع بين مكة وسرف.

(٣) الغرة بالكسر الغفلة.

(٤) في القرطبي : فأخذناهم ... فاستحييناهم.

(٥) زيادة من (أ).

(٦) زيادة من الروايات لاستقامة اللفظ والمعنى.

(٧) في (ب) يجعل.

(٨) وانظر في سبب النزول القرطبي ١٦ / ٢٨٠ و ٢٨١.

(٩) وحده وهي قراءة متواترة انظر السبعة ٦٠٤ والكشف ٢ / ٢٨٢.

(١٠) قاله الإمام الرازي ٢٨ / ٩٨.

(١١) ما بين القوسين زيادة من الرازي ، فقد أشار الناسخ في النسختين بقوله كذا بياض في الأصل وفي الرازي : إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم ، لأنهم كفروا ، وصدوا وأحصروا.

(١٢) بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨ / ٩٩.

٥٠١

«صدّوكم» (١) وقيل : نصب على المعية. وفيه ضعف ، لإمكان العطف (٢). وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ بجره عطفا على (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٣). ولا بد من حذف مضاف ، أي وعن نحر الهدي (٤) ، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصدّ الهدي (٥).

والعامة على فتح الهاء وسكون الدال ، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء (٦). وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهدي وهي الشهيرة لغة قريش ، والهديّ والهدا(٧).

قوله : «معكوفا» حال من الهدى أي محبوسا ، يقال : عكفت الرّجل عن حاجته. وأنكر الفارسي تعدية «عكف» بنفسه (٨) ، وأثبتها ابن سيده والأزهريّ وغيرهما (٩). وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.

قوله : (أَنْ يَبْلُغَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه على إسقاط الخافض ، أي «عن» أو «من أن» وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق ب «صدّوكم» وأن يتعلق ب «معكوفا» أي محبوسا عن بلوغ محلّه.

الثاني : أنه مفعول من أجله ، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد ، والتقدير : صدوا الهدي

كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «معكوفا» أي لأجل أن يبلغ محله ، ويكون الحبس من المسلمين (١٠).

الثالث : أنه بدل من «الهدي» بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.

فصل (١١)

معنى الآية (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كفار مكة «وصدّوكم» منعوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) وهو اختيار الرازي في مرجعه السابق ومن قبل الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٤٧.

(٢) المحض وهو ما جوزه ابن مالك ولكن الجمهور خصّوه بما صلح فيه بمعنى العطف ومعنى المفعول به فلا يجوز حيث لا يتصور معنى العطف لقيام الأدلة على أن واو «مع» عطف في الأصل ولا حيث تمحّض معنى العطف لأن دخول معنى المفعول به هو الذي سوّغ خروجه بما يقتضيه العطف من المشاكلة التي تؤثرها العرب على غيرها وسواء صلح فيه العطف حقيقة أو مجازا. انظر الهمع ١ / ٢١٩.

(٣) وهي قراءة الجهني عن أبي عمرو. وانظر البحر ٨ / ٩٨ والكشاف ٣ / ٥٤٧.

(٤) البحر المرجع السابق.

(٥) لم تنسب في كل من المرجعين السابقين.

(٦) لم ترو في المتواتر عنهما. انظر البحر ٨ / ٩٨ ومختصر ابن خالويه ١٤٢ و ١٤٣.

(٧) المرجع السابق.

(٨) قال : لأنا لا نعلم عكف جاء متعديا القرطبي ١٦ / ٢٨٤.

(٩) انظر التهذيب والمخصص عكف ومعاني الفراء ٣ / ٦٧.

(١٠) قال بالوجه الأول فقط الكشاف ٣ / ٤٧ ، وقال بالثلاثة الأوجه صاحب البحر المحيط ٨ / ٩٨.

(١١) ما بين القوسين كله سقط من نسخة (ب).

٥٠٢

الْحَرامِ) أن تطوفوا فيه «والهدي» أي وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانت سبعين بدنة «معكوفا» محبوسا ، يقال : عكفه عكفا إذا حبسه ، وعكوفا ، كما يقال : رجع رجعا ورجوعا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) منحره (١) ، وحيث يحلّ نحره يعني الحرم. ثم قال : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) يعني المستضعفين بمكة (٢)).

قوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة للصّنفين ، وغلب الذكور ، وقوله : (أَنْ تَطَؤُهُمْ) يجوز أن يكون بدلا م ن «رجال ونساء» ، وغلب الذكور ـ كما تقدم ـ وأن يكون بدلا من مفعول تعلموهم ، فالتقدير على الأول : ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين ، وتقدير الثاني : لم تعلموا وطأهم ، والخبر محذوف تقديره : ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحضرة (٣).

(وأما جواب (٤) «لو لا» ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه محذوف ، لدلالة جواب «لو» عليه.

والثاني : أنه مذكور وهو «لعذّبنا» وجواب «لو» هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني ، ومن الثاني لدلالة الأول.

والثالث : أن «لعذبنا» جوابهما معا. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك (٥).

وقال الزمخشري قريبا من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون : (لَوْ تَزَيَّلُوا) كالتكرير للولا رجال مؤمنون لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون (لَعَذَّبْنَا) هو الجواب (٦).

ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد ، قال : لأن ما تعلق به الأوّل غير ما تعلّق به الثاني)(٧).

فصل

المعنى (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لم تعرفوهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بالقتل وتوقعوا بهم. (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ). قال ابن زيد : إثم وذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفّارة ، وهي دليل الإثم ، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدّية ؛ قال تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)

__________________

(١) قاله الفراء في المعاني ٣ / ٦٨.

(٢) وانظر القرطبي أيضا ١٦ / ٢٨٣ ، ٢٨٤.

(٣) قال بهذه الإعرابات أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٦٧.

(٤) ما بين القوسين كله من هنا إلى نهاية القوس الآتي بعد ساقط من نسخة (ب).

(٥) انظر التبيان ١١٦٧ وقد قال بالإعرابات السابقة أيضا أبو حيان في البحر ٨ / ٩٨.

(٦) الكشاف ٣ / ٥٤٨.

(٧) وقال : «فالمعنى في الأولى ولولا وطء قوم مؤمنين والمعنى في الثانية لو تميزوا من الكفار وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة» انظر البحر ٨ / ٩٨.

٥٠٣

[النساء : ٩٢]. وقال ابن إسحاق : غرم الدية. وقيل : إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم ، والمعرّة السّبّة يقول لولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سبّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك (١).

قوله : «فتصيبكم» نسق على (أَنْ تَطَؤُهُمْ) وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «معرّة» وأن يكون حالا من مفعول «تصيبكم» (٢) وقال أبو البقاء: من الضمير المجرور يعني في «منهم» (٣). ولا يظهر معناه. أو أن يتعلق «بتصيبكم» (٤) أو أن يتعلق «بتطئوهم» (٥) ؛ أي تطئوهم بغير علم.

(فإن قيل (٦) : هذا تكرار ، لأنه إن قلنا : هو بدل عن الضمير يكون التقدير : لم تعلموا أن تطئوهم بغير علم فيلزم تكرار بغير علم لحصوله بقوله : لم تعلموهم؟.

فالجواب : أن يقال : قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) هو في موضعه أي فتصيبكم منهم معرّة بغير علم من (الذي (٧)) يعرّكم ويعيب عليكم ، يعني إن وطأتموهم غير عالمين يعركم (مسبّة (٨)) الكفار (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه. أو يقال تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه. أو نقول : المعرّة قسمان :

أحدهما : ما يحصل من القتل العمد العدوان ممن هو غير عالم بحال المحلّ.

والثاني : ما حصل من القتل خطأ وهو عند (٩) عدم العلم فقال : تصيبكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند (١٠) العلم).

والوطء هنا عبارة عن القتل والدّوس ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : اللهم اشدد وطأتك على مضر (١١) وأنشدوا :

٤٤٩٥ ـ ووطئتنا وطأ على حنق

وطء المقيّد ثابت الهرم (١٢)

__________________

(١) وانظر في هذا تفسير العلامة القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٨٥.

(٢) التبيان ١١٦٧.

(٣) السابق.

(٤) البحر ٨ / ٩٨.

(٥) وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٨ ، ونقله عن الرازي في التفسير الكبير ٢٨ / ٩٩.

(٦) ما بين القوسين كله سقط من نسخة (ب).

(٧) كذا أوردها الناسخ زيادة عن الرازي.

(٨) زيادة من الرازي للسياق.

(٩) في الرازي : «غير».

(١٠) وفيه : «عن» بدل من عند. وانظر بالمعنى تفسير الرازي ٢٨ / ٩٩ و ١٠٠.

(١١) اللسان وطأ ٤٨٨٣.

(١٢) من الكامل أحذّ العروض والضّرب ، ولم أهتد إلى قائله. وشاهده : في «وطئتنا» وهو القتل والدوس وانظر اللّسان والبحر ٨ / ٩٨ والكشاف ٣ / ٥٤٨ وشرح شواهده ٤ / ٥٤٠.

٥٠٤

قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ) متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله (١). وقال البغوي : اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن يدخلوها(٢).

قوله : (لَوْ تَزَيَّلُوا) قرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وابن عون (٣) تزايلوا (٤) على تفاعلوا. والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط ، أو على الكافرين ، أو على الفريقين. والمعنى لو تميّز هؤلاء من هؤلاء لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما بالسّبي والقتل بأيديكم.

قوله (تعالى) (٥) : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) العامل في «إذ» إما «لعذّبنا» أو «صدّوكم» أو «اذكر» فيكون مفعولا به (٦). قال ابن الخطيب في إذ : يحتمل أن يكون ظرفا ، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملا له ، ويحتمل أن يكون مفعولا به ، فإن قلنا : إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكورا ويحتمل أن يكون غير مذكور ، فإن كان مذكورا ففيه وجهان :

أحدهما : هو قوله تعالى : (وَصَدُّوكُمْ) أي وصدوكم حين جعلوا في قلوبهم (٧) الحميّة فلا يرجعون إلى الإسلام.

وثانيهما : المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المؤمنين (٨).

فإن قلنا : إنه غير مذكور ففيه وجهان :

أحدهما : حفظ الله المؤمنين عن أن يطئوهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية.

وثانيهما : أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية. وعلى هذا فقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) تفسير لذلك الإحسان. وإن قلنا : إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك

__________________

(١) قاله أبو حيان في البحر ٨ / ٩٩.

(٢) معالم التنزيل ٦ / ٢١٢.

(٣) مع ابن مقسم.

(٤) وهي شاذة غير متواترة. انظر البحر ٨ / ٩٩ والكشاف ٣ / ٥٤٨.

(٥) زيادة من أ.

(٦) قاله أبو حيان في بحره ٨ / ٩٩.

(٧) في ب قلوبكم. تحريف.

(٨) الواقع أن قبل هذا كلام قد نسيه الناسخ والله أعلم فقد قال الرازي :

وثانيها : قوله تعالى : (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية حميّة الجاهلية ثم يقول : والثاني أقرب لقربه لفظا وشدة مناسبته معنى ، لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد. والمؤمنون إلخ. انظر الرازي ٢٨ / ١٠١ و ١٠٢.

٥٠٥

الوقت كقولك : اذكر إذ قام زيد أي اذكر وقت قيامه. وعلى هذا يكون «إذ» ظرفا للفعل المضاف إليه (١).

قوله : (فِي قُلُوبِهِمُ) يجوز أن يتعلق ب «جعل» على أنها بمعنى «ألقى» ، فتتعدى لواحد ؛ أي إذ ألقى الكافرون في قلوبهم الحمية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان قدم على أنها بمعنى صيّر.

قوله : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من «الحمية» قبلها ، والحمية الأنفة من الشيء ، وأنشدوا للمتلمس :

٤٤٩٦ ـ ألا إنّني منهم وعرضي عرضهم

كذا الرّأس يحمي أنفه أن يهشّما (٢)

وهي المنع ، ووزنها فعيلة ، وهي مصدر ، يقال : حميت عن كذا أحميه (حميّة) (٣).

فصل (٤)

المعنى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه عن البيت ، وأنكروا أنّ محمدا رسول الله. قال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللات والعزّى لا يدخلونها علينا. فهذه حميّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم).

قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم. قال ابن الخطيب : دخول الفاء في قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ) يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إذ» ظرف لفعل مقدر كأنه قال : أحسن الله إذ جعل الّذين كفروا. «فأنزل» تفسير لذلك الإحسان ، كما يقال (٥) : أكرمني فأعطاني لتفسير الإكرام. ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول : أكرمني فأثنيت عليه (٦).

(قوله (٧) : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين : كلمة التقوى لا إله إلا الله. وروي عن أبي بن كعب مرفوعا. وقال عليّ وابن عمر : كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) من الطويل له ورواه المؤلف كرواية أبي حيان في البحر ٨ / ٩٩ وفي القرطبي : كذي الأنف و «يكشما». والكشم : قطع الأنف باستئصال. وانظر : القرطبي ١٦ / ٢٨٨ وشاهده واضح.

(٣) نقله القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٨٨.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) في ب قال وما هكذا في الرازي.

(٦) الرازي ٢٨ / ١٠٢.

(٧) ما بين القوسين أيضا كله سقط من نسخة ب.

٥٠٦

قدير. وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل : هي الوفاء بالعهد (١)).

قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) الضمير في «كانوا» يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر ، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار ، وقيل : يعود على الكفار أي كانت قريش أحقّ بها لولا حرمانهم (٢).

فصل (٣)

قال البغوي : وكان المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير (٤) ، قال ابن الخطيب : قوله : (أَحَقَّ بِها) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه يفهم من معنى الأحقّ أنه يثبت رجحانا (ما (٥)) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل ، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل ، مع أنه لا هيّن هناك فقال وأهلها دفعا لذلك.

الثاني : أن يكون لا للتفضيل كما في قوله (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] ، و (أَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] ؛ إذ لا خير في غيره (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٦)).

قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)(٢٧)

قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا). «صدق» يتعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، يقال صدقك في كذا ، وقد يحذف كهذه الآية (٧) ، وقوله : «بالحقّ» فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «صدق».

الثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحقّ.

الثالث : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا ، أي ملتبسة بالحق (٨).

الرابع : أنه قسم وجوابه : لتدخلنّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا ، ويبتدأ بما بعدها.

__________________

(١) وانظر هذه الأقوال مجتمعة في القرطبي ١٦ / ٢٨٩ والبحر ٨ / ٩٩.

(٢) نقله أبو حيان في البحر ٨ / ٩٩ و ١٠٠ واختار القرطبي عوده على المؤمنين.

(٣) ما بين القوسين كله أيضا ساقط من نسخة ب.

(٤) معالم التنزيل له ٦ / ٢١٢ و ٢١٣.

(٥) زيادة على الرازي من المؤلف.

(٦) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ١٠٣.

(٧) البحر ٨ / ١٠١.

(٨) السابق والتبيان ١١٦٨.

٥٠٧

(قاله الزمخشري (١). وعلى تقديره قسما إما أن يكون قسما بالله فإن الحقّ من أسمائه ، وإما أن يكون قسما بالحق الذي هو نقيض الباطل.

وقال ابن الخطيب (٢) : ويحتمل وجهين آخرين :

أحدهما : فيه تقديم وتأخير تقديره صدق الله (و (٣)) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق.

الثاني : أن يقال تقديره صدق الله (و (٤)) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيرا للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي والله لتدخلنّ (٥).

فصل

ذكر المفسرون أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويحلقون رؤوسهم ويقصّرون ، فأخبر أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامهم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقّ عليهم ذلك فأنزل الله هذه الآية. وروى مجمّع بن جارية الأنصاريّ قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما انصرفنا عنها إذ النّاس يهزّون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فخرجنا نزحف فوجدنا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واقفا على راحلته على كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله؟ قال : نعم والذي نفسي بيده. ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أراها إياه في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق) (٦).

قوله : «لتدخلنّ» جواب قسم مضمر أو لقوله «بالحقّ» على ذلك القول. وقال أبو البقاء : و «لتدخلنّ» تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله (٧) لتدخلن ، فجعل كونه جواب قسم قسما تفسيرا للرؤيا. وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيرا للرؤيا غير جواب القسم ، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيرا وأن يكون مستأنفا غير تفسير ، وهو تفسير من عبارته.

قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) فيه وجوه :

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٥٤٩.

(٢) الرازي ٢٨ / ١٠٤ و ١٠٥.

(٣) الواو زيادة على الرازي.

(٤) كذلك.

(٥) تفسيره الكبير ٢٨ / ١٠٤ و ١٠٥ بالمعنى.

(٦) ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد ذكر العلامة البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢١٣ هذه الآثار والأول العلامة القرطبي في جامعه ١٦ / ٢٨٩ و ٢٩٠ عن قتادة.

(٧) التبيان ١١٦٨.

٥٠٨

أحدها : أنه ذكره تعظيما (١) للعباد الأدب كقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ و ٢٤].

الثاني : أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ، ويأبون الصلح قال : لتدخلنّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تدخلنّ بمشيئة الله (تعالى (٢). الثالث : أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزّل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لتدخلن» ذكر أنه بمشيئة الله) تعالى ، لأن ذلك من الله وعد ، ليس عليه دين ولا حقّ واجب ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله ، وإلا فلا يلزمه به أحد.

فصل (٣)

قال البغوي : معناه وقال لتدخلن. وقال ابن كيسان : لتدخلنّ من قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدبا بأدب الله تعالى حيث قال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٤). وقال أبو عبيدة : «إلّا» بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله (٥) كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذ شاء الله. وقيل : الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ؛ لأن الدخول لم يكن فيه شك كقول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند دخول القبر : «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت (٦)).

قوله : «آمنين» حال من فاعل لتدخلنّ وكذ ا «محلّقين ومقصّرين». ويجوز أن تكون «محلّقين» حالا من «آمنين» فتكون متداخلة.

فصل

قوله : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله : «لتدخلنّ» إشارة إلى الأول وقوله : «محلقين» إشارة إلى الآخر.

فإن قيل : محلقين حال الداخلين ، والدّاخل لا يكون إلا محرما والمحرم لا يكون محلّقا.

__________________

(١) في الرازي : تعليما وليس تعظيما. وكذا في ب تعليما.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٣) هذا الفصل بأكمله سقط من نسخة ب.

(٤) نقله عنه إمام قرطبة في جامعه ١٦ / ٢٩٠.

(٥) لم أجده في المجاز عند تفسير تلك الآية وانظر القرطبي المرجع السابق.

(٦) نقل كل هذه الآراء القرطبي في مرجعه السابق. أقول : وجعل أن بمعنى إذ فيه بعد ؛ لأن إذ في الماضي من الفعل ، و «إذا» في المستقبل ، وهذا الدخول في المستقبل. فوعدهم دخول المسجد.

٥٠٩

(فالجواب : أن قوله : «آمنين» متمكّنين من أن تتمّوا الحجّ محلّقين) (١).

قوله : (لا تَخافُونَ) يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا ثالثة ، وأن يكون حالا (إما) (٢) من فاعل لتدخلن ، أو من ضمير «آمنين» أو «محلّقين أو مقصرين» فإن كانت حالا من آمنين أو حالا من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله : (لا تَخافُونَ) إذا جعل حالا فإنها مقارنة أيضا (٣).

فإن قيل : قوله : (لا تَخافُونَ) معناه غير خائفين ، وذلك يحصل بقوله تعالى : (آمِنِينَ) فما الفائدة في إعادته؟

فالجواب : أن فيه كمال الأمن ؛ لأن بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم فقال : تدخلون آمنين وتحلقون ، ويبقى أمنكم بعد إحلالكم من الإحرام.

قوله : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أي ما لم تعلموا من المصلحة ، وأن الصلاح كان في الصلح ، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ...) الآية.

(فإن قيل (٤) : الفاء في قوله : «فعلم» فاء التعقيب ، فقوله «فعلم» عقبت ماذا؟.

فالجواب : إن قلنا : إن المراد من «فعلم» وقت الدخول فهو عقيب صدق ، وإن قلنا : المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب. والتقدير : لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة.

(فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من قبل دخولهم المسجد الحرام (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح الحديبية عند الأكثرين. وقيل : فتح خيبر. ثم قال : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) وهذا يدفع وهم حدوث علمه في قوله : «فعلم» ؛ لأن قوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يفيد سبق علمه) (٥).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢٨)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) وهذا تأكيد ليان صدق الله في

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من نسخة ب.

(٢) سقط من ب كذلك.

(٣) التبيان ١١٦٨ ومعنى الحال المؤكدة أنها تؤكد مضمون الجملة أو عاملها أو صاحبها وهي التي أهملها النحويون أما الحال المقارنة والمقدرة فهي بالنسبة للزّمان والمقارنة هي الأغلب عن المقدرة وهي المستقبلة نحو : «هذا بَعْلِي شَيْخاً». انظر الهمع بتصرف ١ / ٢٤٥.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) قاله الرازي ٢٨ / ١٠٥ و ١٠٦.

٥١٠

الرؤيا ؛ لأنه لما كان مرسلا لرسوله (١) ليهدي ، لا يريد ما لا يكون فيحدث (٢) الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سببا للضلال. ويحتمل أن الرؤيا الموافقة للواقع قد تقع لغير المرسل ، لكن ذلك قليل لا يقع لكل أحد فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) وحكى له ما سيكون في اليقظة فلا يبعد أن يريه في المنام ما سيقع ولا استبعاد في صدق رؤياه وفيها بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة. والهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٠] وعلى هذا دين الحق هو ما فيه من الأصول والفروع. ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة. فيكون قوله : (وَدِينِ الْحَقِّ) إشارة إلى ما شرع. ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول ودين الحق هو الأحكام. والألف واللام في «الهدى» يحتمل أن تكون للعهد وهو كقوله (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الأنعام : ٨٨] وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هدى.

قوله : (وَدِينِ الْحَقِّ) يحتمل أن يكون المراد دين الله تعالى ؛ لأن الحق من أسماء الله ، ويحتمل أن يكون الحقّ نقيض الباطل ، فكأنه قال : دين الأمر الحق ، ويحتمل أن يكون المراد الانقياد للحق ، وقوله : أرسله بالهدى ـ وهو المعجزة ـ على أحد الوجوه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي جنس الدين (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنك صادق فيما تخبر وفي أنك رسول الله. وهذا فيه تسلية قلب المؤمنين فإنهم تأذوا (٣) من ردّ الكفّار عليهم العهد المكتوب وقالوا : لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله ، بل اكتبوا محمد بن عبد الله ، فقال تعالى : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي في أنه رسول الله (٤).

قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ؛ لأنه لما تقدم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) دل على ذلك المقدر ، أي هو أي الرسول بالهدى محمد و (رَسُولُ اللهِ) بدل أو بيان ، أو نعت. وأن يكون مبتدأ وخبرا ، وأن يكون مبتدأ و (رَسُولُ اللهِ) على ما تقدم من البيان والبدل ، والنعت (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف على محمد والخبر «عنهم» (٥).

__________________

(١) في ب رسوله من دون لام.

(٢) كذا في ب وفي الرازي : مهديّا للناس.

(٣) في ب يؤذوا. تحريف.

(٤) وانظر الرازي ٢٨ / ١٠٦.

(٥) قال بهذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٦٨ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٥٠. ونقله أبو حيان في البحر ٨ / ١٠١.

٥١١

قوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (قال (١) ابن الخطيب : كأنه قال (٢) : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) جميعهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم ، أما في المؤمنين فقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وأما في حق النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣]. وقال في حقه : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨].

وعلى هذا فقوله : «تراهم» لا يكون خطابا مع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل يكون عاما خرج مخرج الخطاب تقديره تراهم أيها السامع كائنا من كان) (٣). وقرأ ابن عامر في رواية : رسول الله بالنصب على الاختصاص (٤) وهي تؤيد كونه تابعا لا خبرا حالة الرفع.

ويجوز أن يكون (وَالَّذِينَ مَعَهُ) على هذا الوجه مجرورا عطفا على الجلالة أي ورسول الذين آمنوا معه لأنه لما أرسل إليهم أضيف إليهم فهو رسول الله بمعنى أن الله أرسله ورسول أمته بمعنى أنه مرسل إليهم ويكون «أشداء» حينئذ خبر مبتدأ مضمر أي هم أشدّاء. ويجوز أن يكون تمّ الكلام على (رَسُولُ اللهِ) و (الَّذِينَ مَعَهُ) و «أشدّاء» خبره. وقرأ الحسن : أشدّاء رحماء (٥) بالنصب إما على المدح وإمّا على الحال من الضمير المستكنّ في «معه» ؛ لوقوعه صلة ، والخبر حينئذ عن المبتدأ قوله (تَراهُمْ رُكَّعاً) و (رُكَّعاً سُجَّداً) حالان ؛ لأن الرؤية بصرية ، وكذلك «يبتغون» (٦). ويجوز أن يكون مستأنفا (٧). وإذا كان حالا فيجوز أن تكون حالا ثالثة من مفعول «تراهم» وأن تكون من الضمير المستتر في (رُكَّعاً سُجَّداً). وجوز أبو البقاء أن يكون «سجّدا» حالا من الضمير في «ركّعا» حالا مقدرة. فعلى هذا يكون «يبتغون» حالا من الضمير في «سجّدا» ، فيكون حالا من حال ، وتلك الحال الأولى حال من حال أخرى (٨). وقرأ ابن يعمر (٩) أشدّا (١٠) ـ بالقصر ـ. والقصر من ضرائر الأشعار كقوله :

__________________

(١) ما بين القوسين الكبيرين كله سقط من نسخة ب.

(٢) وكلام ابن الخطيب على اعتبار أن «أشداء» خبر «محمد» قال : وثالثها وهو مستنبط وهو أن يقال : محمد مبتدأ و (رَسُولُ اللهِ) عطف بيان للمدح للتمييز و (الَّذِينَ مَعَهُ) عطف على «محمد» وقوله «أشداء» خبر انظر الرازي ٢٨ / ١٠٧.

(٣) الرازي السابق.

(٤) في الكشاف : على المدح وهو الأصح وهي في البحر ولم أجدها في المتواتر عنه. انظر الكشاف والبحر المرجعين السابقين.

(٥) انظر محتسب ابن جني ٢ / ٢٧٦ وهي شاذة وانظر كذلك الكشاف والبحر السابقين.

(٦) انظر المحتسب والبحر السابقين.

(٧) وهو قوله : «يبتغون» وفي التبيان : ويجوز أن يكون «تراهم» مستأنفا. وانظر التبيان ١١٦٨.

(٨) انظر التبيان المرجع السابق.

(٩) هو يحيى بن يعمر العالم البصريّ الكبير الذي مرّ ترجمته.

(١٠) وهي شاذة كما أخبر أعلى انظر البحر ٨ / ١٠٢ ومختصر ابن خالويه ١٤٢.

٥١٢

٤٤٩٧ ـ لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر

 ......... (١)

فلذلك كانت شاذة. وقال أبو حيان : وقرأ عمرو بن عبيد : ورضوانا بضم الراء (٢) قال شهاب الدين : وهذه قراءة متواترة (٣) ، قرأ بها عاصم في رواية أبي بكر عنه ، وتقدمت في سورة آل عمران (٤) واستثنيت له حرفا واحدا وهو ثاني المائدة (٥).

فصل

معنى الآية : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته ، لا تأخذهم فيهم رأفة (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالوالد مع الولد كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) و (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) خبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) ، أن يدخلهم الجنة (وَرِضْواناً) أي يرضى عنهم. وهذا تمييز لركوعهم وسجودهم عن ركوع الكافر وسجوده وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.

قوله : «سيماهم» قرىء سيمياؤهم (٦) بياء بعد الميم والمد. وهي لغة فصيحة ، وأنشد ـ (رحمه‌الله عليه) (٧) :

٤٤٩٨ ـ غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشقّ على البصر (٨)

وتقدم الكلام عليها وعلى اشتقاقها في آخر البقرة (٩).

__________________

(١) صدر بيت من الرجز لشاعر لم أعرفه وهو من الأبيات المشهورة في النحو عجزه :

 .........

وإن تحنّى كلّ عود ودبر

وتحنّى معناه انحنى من حنى ظهره إذا احدودب ، والعود المسنّ من الإبل ودبر من دبر البعير يدبر دبرة ودبرا إذا فقر ظهره. والشاهد : قصر «صنعاء» وهي المعروفة في اليمن. وذلك ضرورة للوزن.

وانظر حاشية الصبان ٤ / ١٠٩ والهمع ٢ / ١٥٦ والبحر ٨ / ١٠٢ والتصريح ٢ / ٢٩٣.

(٢) البحر ٨ / ١٠٢.

(٣) ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٦.

(٤) فقد تكررت في آل عمران من الآية ١٥ «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ» و ١٦٢ و ١٧٤ من نفس تلك السورة.

(٥) وهو قوله : «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً» الآية ٢ منها. هذا ولم أجد هذه القراءة لا في آل عمران ولا في غيرها وردت في المتواتر فهي من القراءات العشرية وانظر التقريب لابن الجزري ١٧٤.

(٦) في ب سيماهم تحريف من الناسخ وقد ذكر هذه القراءة دون نسبة أبو حيان في البحر ٨ / ١٠٢ ورسمها المؤلف هكذا بهمزة مضمومة بعد الألف بينما وجدت في البحر سيمياهم وأوردها ابن خالويه كما كتبها المؤلف. انظر المختصر ١٤٣.

(٧) زيادة من أ.

(٨) من الطويل لأسيد بن عنقاء. وشاهدة في السيمياء فهي بمعنى العلامة. وقد تقدم.

(٩) من الآية ٢٣٧ :«تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» ، وبين هناك أن الأصل فيها الواو فقلبت ياء لكسرة السين «سوماهم» وهي تمدّ وتقصر ويقال فيها السّيماء وسيمياء. ومعنى البيت حينئذ : أن هذا الغلام جميل يفرح به من ينظر إليه. وانظر اللباب ١ / ٤١٧ ب واللسان والصحاح سوم.

٥١٣

و (فِي وُجُوهِهِمْ) خبر «سيماهم» و (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) حال من الضمير المستتر في الجار وهو (فِي وُجُوهِهِمْ)(١). وقرأ العامة «من أثر» بفتحتين. وابن هرمز بكسر وسكون(٢). وقتادة «من آثار» جمعا (٣).

فصل

المعنى : علامتهم في وجوههم من أثر السجود. وقيل : المراد سيماهم نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦]. رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وروى الوالبيّ عن ابن عباس : هو السّمت الحسن والخشوع والتواضع وهو قول مجاهد. والمعنى أن السجود أورثهم الخشوع والسّمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك : صفرة الوجوه. وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو أثر التراب على الجباه. وقيل : المراد ما يظهر في الجباه بكثرة السجود (٤).

قوله : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) ، «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من وصفهم بكونهم أشدّاء رحماء لهم سيما في وجوههم وهو مبتدأ خبره «مثلهم» و (فِي التَّوْراةِ) حال من «مثلهم» والعامل معنى الإشارة.

قوله : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ وخبره «كزرع» فيوقف على قوله : (فِي التَّوْراةِ) فهما مثلان. وإليه ذهب ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٥)) (٦) ـ.

والثاني : أنه معطوف على «مثلهم» الأول فيكون مثلا واحدا في الكتابين ويوقف حينئذ على : في الإنجيل وإليه نحا مجاهد (٧) ، والفراء (٨).

وعلى هذا يكون قوله «كزرع» فيه أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسر بها المثل المذكور.

__________________

(١) التبيان ١١٦٨ و ١١٦٩.

(٢ و ٣) كلتاهما شاذّتان. وانظر البحر ٨ / ١٠٢ والكشاف ٣ / ٥٥٠.

(٤) انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٦ / ٢٩٣ و ٢٩٤.

(٥) زيادة من أالأصل.

(٦) القرطبي ١٦ / ٢٩٤.

(٧) السابق.

(٨) قال في المعاني ٣ / ٦٩ : «وقوله : ذلك مثلهم في التّوراة وفي الإنجيل أيضا كمثلهم في القرآن» وانظر أيضا البحر ٨ / ١٠٢ والتبيان ١١٦٩.

٥١٤

الثاني : أنه حال من الضمير في «مثلهم» أي مماثلين زرعا هذه صفته.

الثالث : أنها نعت مصدر محذوف أي تمثيلا كزرع. ذكره أبو البقاء (١).

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة مبهمة أوضحت بقوله : «كزرع» ، كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ) [الحجر : ٦٦].

قوله : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) صفة ل «زرع». وقرأ ابن كثير وابن ذكوان (٢) بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنّهر والنّهر. وقرأ أبو حيوة : شطاءه بالمد (٣). وزيد بن على : شطاه (٤) بألف صريحة بعد الطاء فيحتمل أن تكون بدلا من الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها على لغة من يقول : المراة والكماة (٥) بعد النقل. وهو مقيس عند الكوفيين (٦). ويحتمل أن يكون مقصورا من الممدود (٧). وأبو جعفر ونافع (٨) ـ في رواية ـ «شطه» بالنقل (٩) والحذف(١٠). وهو القياس (١١). والجحدريّ شطوه أبدل الهمزة واوا (١٢) ، أو يكون لغة مستقلة. وهذه كلها لغات في فراخ الزرع ، يقال : شطا الزرع وأشطأ أي أخرج فراخه. وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير فقط أو لا يختص؟ خلاف مشهور (١٣). قال الشاعر :

__________________

(١) انظر هذه الإعرابات في المرجع السابق. وذكر الوحه الأول أبو حيان في بحره ٨ / ١٠٢.

(٢) مع ابن عامر وهي سبعية متواترة انظر السبعة ٦٠٤ والكشف ٢ / ٢٨٢ والإتحاف ٣٩٦ وقد وافقهم ابن محيصن أيضا. وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٥٥١ والبحر ٨ / ١٠٢ والقرطبي ١٦ / ٢٩٥.

(٣) شاذة. انظر الكشاف والبحر السابقين. وهي قراءة عيسى الهمداني فيما رواه ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٧٦ بينما نسبها ابن خالويه في المختصر ١٤٢ لأبي حيوة كالمؤلف ولابن أبي عبلة ولعيسى البصري الثقفي.

(٤) البحر والكشاف السابقين. ونسبها ابن جني في المحتسب لعيسى ٢ / ٢٧٧ بينما سكت عنها ابن خالويه ولم يأت بها. والزمخشري على عادته أتى بها قراءة دون نسبة بينما نسبها الإمام القرطبي لأنس ونصر بن عاصم وابن وثاب وهي شاذة كسابقتها.

(٥) مخفف المرأة والكمأة.

(٦) وشاذ عند البصريين لا يقاس عليها لأن الهمزة ليست حرف علة حتى يكون فيها إعلال على خلاف في إجازة البعض فيها من اعتبارها رابعة مع حروف العلة الثلاثة.

(٧) انظر البحر ٨ / ١٠٣.

(٨) لم أجدها في المتواتر عنهما. كما رويت عن شيبة والجحدريّ. انظر البحر السابق والكشاف ٣ / ٥٥١ ومختصر ابن خالويه ١٤٢.

(٩) نقل حركة الهمزة إلى الطاء.

(١٠) حذف الهمزة المنقول حركتها.

(١١) حيث نقل ثم حذف المنقول منه وهو غير حرف علة وقد عبر سيبويه عن مذهب الكوفيين بعدما حكاه بقول ه «وهو قليل». وانظر في نقل حركة الهمزة وحذفها وإثباتها شرح الشافية للرضيّ ٣ / ٤٠ و ٤١.

(١٢) ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٧٧ وانظر الكشاف والبحر السابقين وهي شاذة.

(١٣) واختار ابن جني أن يكون في البرّ والشعير وكذلك الفراء في المعاني ٣ / ٦٩. وقيل : إن الشّطء شوك ـ

٥١٥

٤٤٩٩ ـ أخرج الشّطء على وجه الثّرى

ومن الأشجار أفنان الثّمر (١)

قوله : «فآزره» العامة على المد وهو على «أفعل» (٢). وغلّطوا من قال : إنه فاعل كجاهر (٣) وغيره بأنه لم يسمع في مضارعه : يؤازر على يؤزر (٤). وقرأ ابن ذكوان : فأزره مقصورا ، جعله ثلاثيا (٥). وقرىء «فأزّره» بالتشديد (٦). والمعنى في الكل : قوّاه. وقيل : ساواه ، وأنشد :

٤٥٠٠ ـ بمحنية قد آزر الضّال نبتها

مجرّ جيوش غانمين وخيّب (٧)

قوله : (عَلى سُوقِهِ) متعلق ب «استوى». ويجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها.

وقد تقدم في النمل (٨) أنّ قنبلا (٩) يقرأ سؤقه بالهمزة الساكنة (١٠). كقوله :

٤٥٠١ ـ أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى

 ............. (١١)

__________________

ـ السنبل والعرب أيضا تسمية السّفا. وهو شوك البهمن قاله قطرب. وهناك كلام كثير وآراء ذكرت لابن الأعرابيّ وغيره ولكن الغالبية أكدت أنه في البر والشعير. انظر القرطبي ١٦ / ٢٩٤ و ٢٩٥ وغريب القرآن ٤١٣ والمجاز ٢ / ٢١٨.

(١) من الرمل ولم أهتد إلى منشده.

والشاهد : في الشطء فهو بمعنى الزرع المخروج. قال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطىء. وانظر البحر المحيط ٨ / ١٠٢ وفتح القدير للشوكاني ٥ / ٥٦ والقرطبي ١٦ / ٢٩٤.

(٢) فيكون ثلاثيّا مزيدا بهمزة ، كأكرم وأحسن.

(٣) كذا في النسختين وهو الظاهر وفي البحر مصدر المؤلف : كمجاهد وغيره.

(٤) في ب : لم يسمع في مضارعه بأنه تؤازر بل تؤزر. وانظر البحر ٨ / ١٠٣.

(٥) ذكرها البحر في ٨ / ١٠٣ والكشاف في ٣ / ٥٥١ ولكن بلا تحديد من قرأ بها. وانظر القرطبي ١٦ / ٣٩٥ وأضاف لابن ذكوان حميد بن قيس.

(٦) لم ينسبها أبو حيان ولا الزمخشري في مرجعيهما الماضيين وهي شاذة كسابقتيها.

(٧) من الطويل لامرىء القيس. والمحنية واحدة المحاني وهي معاطف الأودية والضال شجرة السدر.

والمعنى في معطف واد قد ساوى نبته شجر الضال وهو مجمع جيوش بعضها غانم وبعضها خائب من الغنيمة.

(انظر مجمع البيان للطبرسي ٩ / ١٨٩ ، وفتح القدير ٥ / ٥٩ والقرطبي ١٦ / ٢٩٥ ، والبحر ٨ / ٨٨ وروي في مجمع البيان «مضمّ جيوش». وفي البحر «بجرّ». وانظر الديوان ٤٥).

(٨) من الآية ٤٤ منها حيث يقول الله : فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها.

(٩) في ب قنبل بغير نصب. تحريف.

(١٠) وهي قراءة ابن كثير أيضا فيما رواه أبو حيان في البحر ٨ / ١٠٣ وابن مجاهد في السبعة ٦٠٥ ومكي في الكشف ٢ / ٢٨٣ والإتحاف ٣٩٦ ٣٩٧. وهي سبعية متواترة.

(١١) صدر بيت من الوافر لجرير عجزه :

 ..........

وجعدة إذا أضاءهما الوقود

من قصيدة له يمدح بها هشام بن عبد الملك ، وقد روي قوله : أحبّ هكذا على أنه تفضيل. كما ـ

٥١٦

وبهمزة مضمومة بعدها واو كعروج وتوجيه ذلك. والسّوق جمع ساق.

فصل (١).

قال المفسرون : يقال : أشطأ الزرع فهو مشطىء إذا خرج. قال مقاتل : هو نبت واحد فإذا خرج بعده فهو شطء. وقال السّديّ : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى «فآزره» قوّاه وأعانه وشدّ أزره «فاستغلظ» غلظ ذلك الزرع «فاستوى» تمّ وتلاحق نباته على سوقه أصوله «يعجب الزّرّاع» أي أعجب ذلك زرّاعه هذ مثل ضربه الله لأصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الإنجيل أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون. قال قتادة : مثل أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الإنجيل مكتوب له سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل : الزرع ـ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والشطء أصحابه والمؤمنون. روى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : محمد رسول الله والذين معه : أبو بكر الصديق (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر بن الخطاب (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) عثمان بن عفان (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) علي بن أبي طالب (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) العشرة المبشرو ن «كمثل زرع» محمد (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أبو بكر (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ) عثمان (بن عفان) يعني استغلظ عثمان بالإسلام (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال : المؤمنون (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فعل عمر لأهل مكة بعدما أسلم لا يعبد الله سرّا بعد اليوم. روى أنس بن مالك : ـ رضي الله عنه ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : أرحم (أصحاب) النّبيّ أبو بكر ، وأشدّهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حبّا عثمان وأفرضهم زيد ، وأقرأهم أبيّ ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكلّ أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح ، وفي رواية أخرى : وأقضاهم عليّ. وروى بريدة عن النّبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة) (٢).

قوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) حال أي معجبا (٣). وهنا تم المثل.

قوله : «ليغيظ» فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «وعد» ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعزّ المؤمنين في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة غاظهم ذلك (٤).

__________________

ـ روي لحب بلام ابتداء وروي : لحب الموقدان باللام بعدها فعل تعجب وموسى وجعدة ابنا الشاعر. والبيت فيه همز الواو. قيل وجه ذلك أن الواو لما جاورت الضمة صارت كأنها مضمومة والواو المضمومة تهمز نحو نؤور وغؤور. وقد تقدم.

(١) انظر هذا الفصل في القرطبي ١٦ / ٣٩٤ و ٢٩٥ والبحر ٨ / ١٠٢ و ١٠٣.

(٢) البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢١٦ و ٢١٧ وهذا وما بين القوسين كله ساقط من نسخة ب.

(٣) التبيان ١١٦٩ وانظر البحر المحيط أيضا ٨ / ١٠٢ و ١٠٣.

(٤) قاله أبو حيان في البحر ٨ / ١٠٣.

٥١٧

الثاني : أن يتعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وتقويتهم. قاله الزمخشري (١) ، أي شبههم الله بذلك ليغيظ.

الثالث : أن يتعلق بما دل عليه قوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ....) إلى آخره أي جعلهم بهذه الصفات ليغيظ.

قال مالك بن أنس ـ (رضي الله عنه) (٢) ـ «من أصبح في قلبه غيظ على أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد أصابته هذه الآية» (٣). وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الله الله في أصحابي لا تتّخذوهم عرضا بعدي ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم (٤) فببغضي أبغضهم ومن أذاهم فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله فيوشك أن يأخذه» (٥). وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا تسبّوا أصحابي فو الّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٦).

قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) «من» هذه للبيان ، لا للتبعيض ؛ لأن كلهم كذلك فهي كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠]. وقال الطبري : منهم يعني من الشطء الذي أخرج الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظه فقال : «منهم» ولم يقل : منه وهو معنى حسن(٧).

فصل

قد تقدم الكلام على الأجر العظيم والمغفرة مرارا. وقال ههنا في حق الراكعين السّاجدين : إنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وقال : (لَهُمْ أَجْرٌ) ولم يقل : لهم ما يطلبو (ن) (٨) ه من الفضل ؛ لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجرا يعتدّ به فقال : لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه (٩) من طلب الفضل ، وسماه أجرا إشارة إلى قبوله (١٠) عمله ووقوعه الموقع (١١).

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٥٥١ وقد قال بالوجه الأول فقط.

(٢) زيادة في أالأصل.

(٣) ذكره عنه الخطيب أبو بكر فيما نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٩٦ و ٢٩٧ وقد رواه عن مالك أبو عروة الزبيري انظر المرجع السابق.

(٤) في أالأصل : أبغضني ولعله سهو من الناسخ.

(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مغفّل المزنيّ ٤ / ٨٧ و ٥٥ و ٥٧.

(٦) القرطبي ١٦ / ٢٩٧ والبخاري ٢ / ٢٩٢.

(٧) جامع البيان له.

(٨) في النسختين يطلبوه. والتصحيح ما أثبت أعلى.

(٩) في الرازي : آتاه ما آتاه من الفضل.

(١٠) في ب والرازي : قبول بدون عائد.

(١١) انظر الرازيّ ٨ / ١٠٩.

٥١٨

روي أنه من قرأ في أول ليلة من رمضان : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا في التّطوع حفظ في ذلك العام (انتهى) (١). (اللهم إنّي أسألك رضاك والجنّة وأعوذ بك من سخطك والنّار) (٢).

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) زيادة من أالأصل.

٥١٩

سورة الحجرات

مدنية (١) وهي ثماني (٢) عشرة آية ، وثلثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. وفيها وجهان :

أحدهما : أنه متعدّ ، وحذف مفعوله إما اقتصارا كقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ)(٤) وكقولهم : «هو يعطي ويمنع» ، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا) وإما اختصارا للدلالة عليه أي لا تقدموا ما لا يصلح.

والثاني : أنه لازم نحو : وجه وتوجّه. ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك : لا تقدّموا بالفتح في الثّلاثة. والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين. وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات (٥) البزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضا محذوف أي لا تتقدّموا إلى أمر من الأمور (٦).

__________________

(١) بإجماعهم. انظر القرطبي ١٦ / ٣٠٠.

(٢) في ب ثمانية لحن نحوي.

(٣) البغوي ٦ / ٢١٧.

(٤) من آيات كثيرة في القرآن فهي من الآية ٢٥٨ من البقرة ، ٥٦ من آل عمران ، ٥٨ من الأعراف ، ١٦ من التوبة ، ٥٦ من يونس ، ٨٠ من المؤمنون ، ٦٨ من غافر ، ٨ من الدخان ، ٢ من الحديد.

(٥) كذا في أوفي ب كقراءة.

(٦) وانظر هذا كله في البحر المحيط ٨ / ١٠٥ أقول : وقراءة الضحاك هي قراءة يعقوب وهي من العشر المتواترة انظر تقريب النشر ١٧٥ أما قراءة البزي فهي من الشواذ.

٥٢٠