اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

قوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ، قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ بعث الله رسوله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشهادة أن لا إله إلّا الله ، فلما صدقوا زادهم الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصّيام ، ثم الحجّ ، ثم الجهاد حتى أكمل لهم دينهم وكلّما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم. وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم (١) ، وقيل : أنزل السكينة عليهم فصبروا ورأوا عين اليقين ما علموا من النصر علم اليقين إيمانا بالغيب فازدادوا إيمانا مستفادا من الغيب مع إيمانهم المستفاد من الشهادة. وقيل : ازدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله ، فإن الله واحد ، والحشر كائن فآمنوا بأن كلّ ما يقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو صدق ، وكلّ ما يأمر الله تعالى به فهو واجب.

وقيل : ازدادوا إيمانا استدلاليّا مع إيمانهم الفطري.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في حق الكفار : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ولم يقل مع كفرهم وقال في حق المؤمنين : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)؟

فالجواب : أن كفر الكافر عناديّ ، وليس في الوجود كفر فطريّ ، ولا في الوجود كفر عناديّ لينضمّ إلى الكفر الفطري بل الكفر ليس إلا عنادا وكذلك الكفر بالفروع لا يقال : انضم إلى الكفر بالأصول ، لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد ، ولهذا قال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ).

قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو قادر على إهلاك عدوّهم بجنود ، بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأيديهم فيكون لهم الثواب. والمراد بجنود السماوات والأرض الملائكة ، وقيل : جنود السماوات الملائكة وجنود الأرض الجنّ والحيوانات. وقيل : الأسباب السماوية.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) لما قال : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعددهم غير محصور فقال «عليما» إشارة إلى أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض. وقيل : لما ذكر القلوب بقوله : (أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) والإيمان الذي من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السّرّ وأخفى. وقوله «حكيما» بعد «عليما» إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم ، فإن الحكيم من يعمل شيئا متقنا وبعلمه (٢).

قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) في متعلق هذه اللام أربعة أوجه :

أحدها : محذوف تقديره : يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخبر ممن أهّله له والشّرّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب.

__________________

(١) القرطبي ١٦ / ٢٦٤.

(٢) وانظر في هذا كله المرجع السابق ٢٨ / ٨١.

٤٨١

الثاني : أنها متعلقة بقوله : (إِنَّا فَتَحْنا)(١) لأنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هنيئا لك إن الله غفر لك فما بالنا؟ فنزلت الآية فكأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليدخلهم جنات.

الثالث : أنها متعلقة ب «ينصرك» كأنه تعالى قال : وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنات.

الرابع : أنها متعلقة ب «يزدادوا» (٢) واستشكل هذا بأن قوله : «ويعذب» عطف عليه وازديادهم الإيمان ليس سببا عن تعذيب الله الكفار. وأجيب : بأن اعتقادهم أن الله يعذب الكفار يزيد في إيمانهم لا محالة.

وقال أبو حيان : والازدياد لا يكون سببا لتعذيب الكفار (٣). وأجيب : بأنه ذكر لكونه مقصودا للمؤمن كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا (٤). وفيه نظر لأنه كان ينبغي أن يقول : لا يكون مسبّبا عن تعذيب الكفار وهذا يشبه ما تقدم في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ)(٥).

وأجاب ابن الخطيب بوجهين آخرين :

أحدهما : (تقديره) (٦) ويعذب نقيض ما لكم من الازدياد ، يقال : فعلت لأخبر به العدوّ والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو ، فكذا ههنا ليزداد المؤمن إيمانا يدخله الجنة ويزداد الكافر كفرا فيعذبه (به) (٧).

وثانيهما : أن بسبب زيادة إيمان المؤمن يكثر صبرهم (٨) وثباتهم ويتعب المنافق والكافر معه ويتعذب (٩).

ثم ذكر وجوها أخر في تعلق الجار منها : أن الجار يتعلق بقوله : «حكيما» كأنه تعالى قال : ويتمّ نعمته عليك لأن الله حكيم فعل ما فعل ليدخل المؤمنين. ومنها : أن يتعلق بقوله : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العقبى ليدخل المؤمنين جنات. ومنها : أن يتعلق بأمر مفهوم من قرينة الحال وهو الأمر بالقتال لأنه لما ذكر الفتح والنصر علم أن الحال حال القتال ، فكأنه تعالى قال : إنّ الله تعالى أمر

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٩٠ نقلا عن الرازي ٢٨ / ٨٢.

(٢) المرجع السابق أيضا وقد ذكر الوجه السابق له أيضا أبو حيان الذي لم يرتض الأقوال الثلاثة الأخيرة قائلا : «وهذه الأقوال فيها بعد».

(٣) البحر المحيط ٨ / ٩٠.

(٤) السابق أيضا.

(٥) من إشكال الزمخشري المتقدم.

(٦) سقط من نسخة ب.

(٧) زيادة من الرازي رحمه‌الله تعالى.

(٨) كذا في أوفي ب بكبر. وفي الرازي : بكثرة.

(٩) وانظر الرازي ٢٨ / ٨٢.

٤٨٢

بالقتال ليدخل المؤمنين ، أو عرف من قرينة الحال أنّ الله اختار المؤمنين (فكأنه تعالى (١) قال : اختار المؤمنين) ليدخلهم جنات (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون:١] وقوله : وبشّر المؤمنين بأنّ لهم (مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً))؟

فالجواب : أنه في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالخير الموعود به مع مشاركة المؤمنات لهم ذكرهنّ الله صريحا وفي المواضع التي فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهن في المؤمنين كقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) مع أنه علم من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] العموم ، فلا يوهم خروج المؤمنين عن البشارة. وأما ههنا فلما كان قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلّقا بفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه ، أو النصرة (بالمؤمنين) (٣) أو الفتح بأيديهم على ما تقدم. فإدخال المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنّة الموعود بها فصرح الله بذكرهنّ ، وكذا في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] ؛ لأن الموضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ وَأَقِمْنَ ... وَآتِينَ ... وَأَطِعْنَ ... وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣ ـ ٣٤] فكان ذكر النساء هنا (ك) (٤) أصلا لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأمر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا (أنّ الأصل ذكرهن في ذلك الموضع) (٥).

قوله : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) فيه سؤال وهو أن تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعد ذكر الإدخال؟ والجواب من وجهين :

أحدهما : أن الواو لا تقتضي الترتيب.

والثاني : أن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة (٦).

قوله : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) «عند الله» متعلق بمحذوف على أنه حال من «فوزا» لأنه صفته في الأصل (٧). وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا لمكان (٨). وفيه خلاف. وأن يكون ظرفا لمحذوف دل عليه الفوز ، أي يفوزون عند الله ولا يتعلق

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة من أوسقوط من ب بسبب انتقال النظر.

(٢) بالمعنى من تفسير علامتنا الإمام الرازي ٢٨ / ٨٢.

(٣) زيادة من أ.

(٤) زيادة من أ. ففي ب هنا فقط.

(٥) زيادة من الرازي لتوضيح السياق.

(٦) انظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨ / ٨٢ و ٨٣.

(٧) قدّم وصار حالا. انظر التبيان ١١٦٥.

(٨) أي لمكان الفوز أو لما دلّ عليه الفوز.

٤٨٣

«بفوزا» ؛ لأنه مصدر فلا يتقدم معموله عليه. ومن اغتفر ذلك في الظرف جوزه (١). قال ابن الخطيب : معناه أن ذلك الإدخال والتكفير في علم الله فوز عظيم يقال : عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي (٢).

قوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ...) الآية. اعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع لأمور :

أحدها : أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر ؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه بإيمانه وكان يفشي أسراره. وإلى هذا أشار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقوله «أعدى عدوّك نفسك الّذي بين جنبيك». ولهذا قال الشاعر :

٤٤٨٩ ـ احذر عدوّك مرّة

واحذر صديقك ألف مرّه

فلربّما (انقلب) (٣) الصّديق

عدوّا وكان أعلم بالمضرّه (٤)

وثانيها : أن المنافق كان يظن أن يتخلص بالمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلبه يعذبه (٥) فلهذا أول ما أخبر الله عن المنافق.

قوله : (الظَّانِّينَ بِاللهِ) صفة للفريقين. وتقدم الخلاف في السّوء في التّوبة (٦). وقرأ الحسن السّوء بالضم فيهما.

فصل

قال المفسرون : ظن السوء هو أن ينصر محمدا والمؤمنين. وقال ابن الخطيب : هذا الظن يحتمل وجوها :

أحدها : هو الظن الذي ذكره الله بقوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ) [الفتح: ١٢].

وثانيها : ظن المشركين بالله في الإشراك كقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) تفسير الإمام ٢٨ / ٨٣ وقرر الرازي وجها غريبا وصفه بالغرابة كأنه مشى مع أبي البقاء قال : «وهو أن يجعل «عِنْدَ اللهِ» كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول : ذلك عند الله أي بشرط أن يكون عند الله تعالى يوصف عند الله فوز عظيم». انظر الرازي السابق.

(٣) سقط من أالأصل.

(٤) يبدو أنه من البحور المهملة أو حكمة من الحكم فلم أعرف على أيّ بحر هو.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : يفديه.

(٦) من الآية ٩٨ من التوبة «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» والسوء بالفتح هو ذم للدائرة فهو نقيض : صدق ، والسّوء بالضم العذاب والسوء مصدر سؤته أسوؤه سوءا. وأما السّوء فاسم الفعل. والسّوء بالفتح أفشى في القراءة وأكثر.

٤٨٤

سَمَّيْتُمُوها) إلى أن قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم : ٢٣ ـ ٢٨].

وثالثها : ظننتم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال تعالى : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢].

قال : والأول أصح أو يقال : المراد جميع ظنونهم كما قال : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧]. ويؤيد ذلك دخول الألف واللام في السّوء. وفي السّوء وجوه :

أحدها ـ وهو اختيار المحققين من الأدباء ـ : أن السّوء عبارة عن الفساد والصّدق عبارة عن الصلاح ، يقال : مررت برجل سوء أي فاسد ، وسكنت عند (١) رجل صدق ، أي صالح وهو قول الخليل (٢) ، والزّجّاج (٣) واختاره الزّمخشريّ (٤).

(وتحقيق (٥) هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال : ساء مزاجه (و) ساء خلقه (و) (٦) ساء ظنّه ، كما يقال : فسد اللحم وفسد الهواء بل كلّ ما ساء فقد فسد ، وكلّ ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٣٠] وقال : (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٧)) [التوبة : ٩] و [المجادلة : ١٥] و [المنافقون : ٢].

قوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي دائرة الفساد يعني حاق بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) زيادة على التعذيب «ولعنهم» أي الغضب يكون شديدا (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) في العقبى (وَساءَتْ مَصِيراً) أي جهنم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم تفسيره. وفائدة الإعادة أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب ، أو جنود الله أنزلهم قد يكون إنزالهم للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولا لبيان الرحمة بالمؤمنين كما قال : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣] وثانيا : لبيان إنزال العذاب بالمنافقين والمشركين.

وفي الأول ذكر الجنود قبل إدخال الجنّة وذكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد

__________________

(١) في الرازي : سئلت عن رجل.

(٢) انظر الرازي والقرطبي ٢٨ / ٨٤ و ١٦ / ٢٦٥.

(٣) قال في معاني القرآن وإعرابه ٥ / ٢١ : «أي الفساد والهلاك يقع بهم».

(٤) قال في الكشاف ٣ / ٥٤٢ : «والسّوء الهلاك والدمار».

(٥) ما بين القوسين كله ـ وهو من كلام الإمام الرازي ـ سقط من نسخة ب.

(٦) الواوان ساقطتان من أوعن الرازي.

(٧) وانظر الرازي السابق ومعاني الفراء ٣ / ٦٥ قال : «وقوله : دائرة السوء مثل قولك : رجل السوء ، ودائرة السوء العذاب. والسوء أفشى في اللغة وأكثر وقلما تقول العرب : دائرة السوء».

٤٨٥

جهنم ؛ لأن الله تعالى ينزّل جنود الرحمة ليدخل المؤمن معظما مكرما الجنة ، ثم يلبسهم خلع الكرامة بقوله : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ثم يقربهم زلفى بقوله : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولا فيبعدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ) [التحريم : ٦] فلذلك ذكر جنود الرحمة أولا هناك ، وقال ههنا : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) وهو الإبعاد إلى جهنم ثم ذكر الجنود وهم (الملائكة) ملائكة العذاب آخرا.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمتك بما يفعلون ، كما قال تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] أنه لا إله إلا الله وكما قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]. وهم الأنبياء «ومبشّرا» من قبل شهادته ويحكم بها «ونذيرا» لمن ردّ شهادته (١).

ثم بين فائدة الإرسال فقال : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) أي تعينوه وتنصروه «وتوقّروه» أي تعظموه (٢) وتفخموه ، هذه الكنايات راجعة إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ـ وههنا وقف. ثم قال وتسبحوه ، أي تسبحوا الله ، يريد يصلوا له بكرة وأصيلا بالغداة والعشيّ. وقيل : الكنايات راجعة إلى الله تعالى (٤) ، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه ، ويوقروا الله الذي يعظّموه.

قوله : «لتؤمنوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا وما بعده بالياء من (٥) تحت رجوعا إلى قوله المؤمنين والمؤمنات. والباقون بتاء الخطاب (وقرأ (٦) الجحدريّ يعزّروه بفتح

__________________

(١) انظر الرازي ٢٨ / ٨٥.

(٢) وهو قول الحسن والكلبي.

(٣) وعزاه الإمام القرطبي في الجامع إلى الضحاك.

(٤) وعزي إلى الإمام القشيري ـ رحمة الله على الجميع ـ انظر القرطبي ١٦ / ٢٦٧.

(٥) وهي قراءة سبعية متواترة ، انظر الكشف لمكي ٢ / ٢٨٠ والقرطبي ١٦ / ٢٦٧ قال : وهو اختيار أبي عبيد واختار أبو حاتم قراءة الخطاب. وانظر أيضا السبعة ٦٠٢ ، والإتحاف ٣٩٥.

(٦) ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب.

٤٨٦

الياء (١) وضم الزاي (٢) وهو أيضا وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي. وابن عباس واليماني ويعزّزوه كالعامّة إلا أنه بزايين (٣) من العزّة (٤).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الأحزاب : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) وههنا اقتصر على الثلاثة الأول؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكر ، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد بالدخول ففصل هناك (٥) ولم يفصل هنا.

وثانيهما : أن قوله : «شاهدا» لما لم يقتض أن يكون داعيا لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك : «وداعيا» كذلك (٦) ههنا لما لم يكن كونه شاهدا ينبىء عن كونه داعيا قال : ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروه. وقوله : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين ، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيّة ، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفحشاء والمنكر (٧).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة ، روى يزيد (٨) بن (أبي) (٩) عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : على أيّ شيء بايعتم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم الحديبية؟ قال : على الموت(١٠).

قوله : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) خبر (إِنَّ الَّذِينَ) و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) جملة حالية ، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله. وقرأ تمام بن العباس (١١) : يبايعون لله (١٢) ، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لأجل الله.

__________________

(١) الأصح كما في البحر والمحتسب وغيرهما التاء وهي شاذة.

(٢) أي تمنعوه أو تمنعوا دينه وشريعته. وانظر البحر ٨ / ٩١ والمحتسب ٢ / ١٧٥. وانظر مختصر ابن خالويه ١٤١.

(٣) في ب وأ كذلك بينما في البحر : بزاءين تثنية (زاء).

(٤) انظر البحر المرجع السابق وهما شاذتان.

(٥) في الرازي المصدر السابق : هنالك بلام البعد.

(٦) وفيه : بذلك ، وههنا.

(٧) بالمعنى من تفسير الإمام الفخر عليه سحائب الرحمة والرضوان ٢٨ / ٨٦.

(٨) في ب زيد.

(٩) سقط من ب.

(١٠) البحر المحيط ٨ / ٩١.

(١١) ابن عبد المطلب عمّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(١٢) وهي شاذة. انظر البحر ٧ / ٩١.

٤٨٧

قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الحقّ. وقوله: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يحتمل وجوها ، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد ، وإما أن تكون بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان :

أحدهما : قال الكلبي : نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة (١) كما قال تعالى: (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧].

وثانيهما : قال ابن عباس ومجاهد : يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه ، ويقال : اليد لفلان أي الغلبة والقوة (٢).

وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة ، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع ، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي (٣) يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببا لحفظ البيعة ، فقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين (٤).

قوله : (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقص البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي عليه وما له (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) أي ثبت على البيعة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) قرأ أهل العراق (٥) فسيؤتيه بالياء من تحت ، وقرأ الآخرون بالنون (٦). والمراد بالأجر العظيم الجنة. وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم.

قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ

__________________

(١) نقل الرأي للكلبي القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٢) ذكر كلا الرأيين الرازي دون تصريح بصاحب الرأي.

(٣) في ب لكن.

(٤) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ٨٧.

(٥) المراد بهم أبو عمرو وعاصم والأخوان حمزة والكسائي وبخلاف عن أبي عمرو ، فقد روى عبيد عن هارون عنه بالنون وعن عبيد أيضا بالنون.

(٦) أي باقي السبعة ابن كثير ونافع وابن عامر وبخلاف عن عاصم فقد روى أبان عنه بالنون ، انظر السبعة ٦٠٣ وهي قراءة سبعية متواترة.

٤٨٨

يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٤)

قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قال ابن عباس ومجاهد : يعني أعراب غفار ، ومزينة وجهينة ، وأشجع وأسلم ، وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب ، والبوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقل كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلّوا (١) بالشغل لظنهم أنه يهزم ، فأنزل الله هذه الآية (٢).

قوله : «شغلتنا» حكى الكسائي عن ابن مدح (٣) أنه قرأ : شغّلتنا بالتشديد (أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) يعني النساء والذّراري أن لم يكن لنا من يخلفنا فيهم (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) تخلّفنا عنك. فكذبهم الله في اعتذارهم فقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) قرأ الأخوان ضرّا ـ بضم الضاد (٤) ـ والباقون بفتحها. فقيل : هما لغتان بمعنى كالفقر والفقر والضّعف والضّعف ، وقيل : بالفتح (٥) ضدّ النفع ، وبالضم سوء الحال فمن فتح قال : لأنه قابله بالنفع ، والنفع ضد الضر (٦) ، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدفع عنهم الضر ، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئا من ذلك لم يقدر واحد على دفعه بل كان الله بما تعملون خبيرا أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره (٧).

قوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي ظننتم أن العدو يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبد الله : إلى أهلهم (٨) دون ياء ، بل أضاف الأهل مفردا (٩).

__________________

(١) فعلوا علة وحجة.

(٢) ذكره القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٦٨.

(٣) كذا في النسختين وهو خطأ من الناسخ والصواب : ابن نوح كما في البحر المحيط : إبراهيم بن نوح بن باذان عن قتيبة. انظر البحر ٨ / ٩٣ وفي المختصر : شغلتنا أموالنا بالتشديد حكاه الكسائي انظر المختصر ١٤١ وهي شاذة غير متواترة وذكرها أيضا دون نسبة صاحب الكشاف ٣ / ٥٤٣.

(٤) قال القرطبي : هنا فقط أي في تلك السورة انظر القرطبي ١٦ / ٢٦٨ ولم ترو عن غير الأخوين في المتواتر. وانظر البحر ٨ / ٩٣ والسبعة ٦٠٤.

(٥) وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم.

(٦) انظر القرطبي بالمعنى فقد نقل رأي كل من أبي عبيد وأبي حاتم.

(٧) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٨٨.

(٨) البحر المحيط ٨ / ٩٣٠ ودون نسبة في الكشاف ٣ / ٥٤٤.

(٩) فتكون حينئذ خارجة عن نطاق الملحق بجمع المذكر السالم وتكون جمع تكسير أو اسم جمع أضيف إلى الضمير.

٤٨٩

قوله : (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ). قرىء : وزين مبنيا للفاعل (١) أي الشيطان أو فعلكم زين ذلك الظن في قلوبكم (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي صرتم هلكى لا تصلحون لخير (٢). وقيل : كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا (٣). والبور الهلاك. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدرا أخبر به عن الجمع كقوله :

٤٤٩٠ ـ يا رسول الإله إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (٤)

ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول في المعتل(٥) وبازل وبزل في الصحيح (٦).

قوله : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) يجوز أن يكون (من) (٧) شرطية أو موصولة. والظاهر (٨) قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال : ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيرا (٩).

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعا ، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.

قوله تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً

__________________

(١) لم ينسبها أبو حيان في البحر ٨ / ٩٢ ولا الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٤٤.

(٢) وهو رأي مجاهد وقتادة. انظر القرطبي ١٦ / ٢٦٩.

(٣) قال بذلك العلم أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٩٣.

(٤) بيت من الخفيف لعبد الله بن الزّبعرى وينسب لأمية بن أبي الصلت وليس في ديوانه. والشاهد : بور فهو مصدر بمعنى هالك وأخبر في الآية بهذا المصدر عن الجمعية أي هالكون. وانظر مجمع البيان للطبرسي ٩ / ١٧٣ والهمع ٣ / ٢٢٦ والقرطبي ١٦ / ٢٦٩ والبحر ٨ / ٩٣.

(٥) معتل العين المنقلبة همزة.

(٦) المرجعين السابقين.

(٧) زيادة للسياق وتوضيحه.

(٨) وهو الكافرين.

(٩) الرازي ٢٨ / ٨٩ ، ٩٠.

٤٩٠

وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧)

(قوله تعالى) (١) : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) (إلى مغانم لتأخذوها (٢)) يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) سرتم وذهبتم أيها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) يعني مغانم خيبر (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها (٣) ، وذلك أنهم لما انطلقوا انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر ، وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا من غنائم مكة إذا انصرفوا من الحديبية (منهم (٤) على صلح) ولم يصيبوا منهم (٥) شيئا ، (لأن (٦) قوله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) وعد للمبايعين بالغنيمة وللمخلفين الحالفين بالحرمان).

قوله : يريد (ون) (٧) يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون حالا من «المخلفون» وأن يكون حالا من مفعول «ذرونا» (٨).

قوله : (كَلامَ اللهِ) قرأ الأخوان كلم جمع كلمة (٩) والباقون كلام (١٠) قيل معناه : يريدون أن يغيروا تواعد الله تعالى لأهل الحديبية ، بغنيمة خيبر خاصة (١١) وقال مقاتل : يعني أمر الله لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن لا يسيّر معه منهم أحدا. وقال ابن زيد : هو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما تخلف القوم أطلعه الله على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣]. والأول أصوب وعليه أكثر المفسرين (١٢).

قوله : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى خيبر (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.

قوله : (بَلْ تَحْسُدُونَنا) قرأ أبو حيوة تحسدوننا (١٣) بكسر السين «بل» للإضراب

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) كذلك.

(٣) في ب : أهلنا.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : ولم يصيبوا شيئا منها.

(٦) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٧) سقط من أالأصل فلعله سهو من المؤلف.

(٨) قاله العكبري في التبيان ١١٦٦.

(٩) سبعية متواترة ذكرها ابن مجاهد في السبعة ٦٠٤.

(١٠) وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم اعتبارا بقوله : «إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي» انظر القرطبي ١٦ / ٢٧١.

(١١) هو رأي مجاهد وقتادة.

(١٢) وانظر الرازي ٢٨ / ٩٠ والبحر ٨ / ٩٤.

(١٣) المرجع الأخير السابق.

٤٩١

والمضروب عنه محذوف في الموضعين أما ههنا فتقديره ما قال الله كذلك (١) من قبل بل تحسدوننا أي يمنعكم الحسد من أن نصيب منكم الغنائم (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون (٢) عن الله ما لهم وعليهم من الدين (إِلَّا قَلِيلاً) منهم وهم (٣) من صدق الله ورسوله.

(فإن (٤) قيل : بماذا كان الحسد في اعتقادهم؟

قلنا : كأنهم قالوا : نحن (كنا) مصيبين في عدم الخروج (حيث) (٥) رجعوا من الحديبية من غير عدو حاصل ، ونحن استرحنا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا. ثم قال الله تعالى ردا عليهم كما ردوا عليه : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لم يفقهوا من قولك : لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ، فلم يفهموا حكمه إلّا قليلا فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد ..).

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) لما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لهم لن تتبعونا ، ولن تخرجوا معي أبدا وكان المخلفون جمعا كثيرا من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم ، فإنهم لم يبقوا على ذلك ، ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توبتهم (٦) علامة (وهو أنهم (٧) يدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، ويطيعون بخلاف حال ثعلبة ، حيث امتنع من أداء الزكاة ، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واستمر عليه الحال ، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون ، فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن. والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين :

أحدهما : أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة) وحال الأعراب تغيرت ، فإن بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يبق من المنافقين على النفاق أحد.

الثاني : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير ، والجمّ الغفير ، أمسّ ؛ لأنه لو لا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين (٨).

__________________

(١) في الرازي : وكذلك. وانظر الرازي المرجع السابق.

(٢) في ب : يعملون.

(٣) وفي ب أيضا : وهو.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) زيادات من الرازي لتوضيح السياق. وانظر الرازي السابق.

(٦) في ب توبته. عائدا على لفظ من.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٨) وانظر الرازي ٢٨ / ٩١ و ٩٢.

٤٩٢

فصل (١)

قال ابن عباس ومجاهد : المراد بقوله (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) : هم أصحاب فارس. وقال كعب : الروم وقال الحسن : فارس والروم. وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف. وقال قتادة : هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد) (٢).

قوله : «أو يسلمون» العامة على رفعه بإثبات النون عطفا على «تقاتلونهم» أو على الاستئناف أي أو هم يسلمون (٣). وقرأ أبيّ وزيد بن عليّ بحذف النون نصبا بحذفها (٤). والنصب بإضمار «أن» عند جمهور البصريين (٥) ، وب «أو» نفسها عند الجرمي والكسائيّ (٦) ، ويكون قد عطف مصدرا مؤولا على مصدر متوهم كأنه قيل : يكون قتال أو إسلام. ومثله في النصب قول امرىء القيس :

٤٤٩١ ـ فقلت له لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (٧)

وقال أبو البقاء : أو بمعنى (٨) إلّا أن ، أو حتّى (٩).

فصل (١٠)

معنى قوله : تقاتلونهم أو يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع ؛ لأن «أو» تبين

__________________

(١) سقط هذا الفصل كله من نسخة ب.

(٢) ذكر هذه الأوجه والآراء مفصلة العلامة القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٧٢ والعلامة أبو حيان في البحر ٨ / ٩٤.

(٣) ذكر هذه الأوجه العكبري في التبيان ١١٦٦ وذكر وجها ثالثا ولذلك قلت : الأوجه ، وهو الحالية وانظر المغني لابن هشام ٤٨٠.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٩٤ والكشاف ٣ / ٥٤٦.

(٥) ويكون من العطف على المعنى وهو ما يسمى بالتوهم ولكن تأدّبا مع قرآن الله نقول : العطف على المعنى أي ليكن قتال أو إسلام كما قرره أعلى ، كأنه توهم أن «أن» مضمرة.

(٦) وأصحابهما إلى أن الفعل انتصب بأو نفسها وهناك مذاهب أخرى للفراء والأخفش وغيرهما ذكرها السيوطي في الهمع ٢ / ١٠.

(٧) من بحر الطويل له ، والشاهد في «فنعذرا» حيث نصب المضارع بعد «أو» على تقدير «أن» عند البصرة وبأو نفسها عند الجرمي والكسائيّ والتقدير : محاولة أو موت ، وقد تقدم.

(٨) الأصح كما في التبيان : إلى أن وكلاهما صحيحان ولكني أقارن النسخ بأبي البقاء.

(٩) وانظر التبيان لأبي البقاء ١١٦٦.

(١٠) ما بين القوسين كله أيضا سقط من ب.

٤٩٣

المتغايرين وتنبىء عن الحصر ، يقال : العدد زوج أو فرد ، ولهذا لا يصح قول القائل : هذا (١) زيد أو ابن (٢) عمرو ؛ إذا كان زيد ابن عمرو ؛ إذا علم هذا فقول القائل :ألازمك (٣) أو تقضيني حقّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين : قسم يكون فيه الملازمة ، وقسم يكون فيه قضاء الحق فيكون قوله : «ألازمك أو تقضيني» ، كقوله : ألازمك إلى أن تقضيني ، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء) (٤).

قوله : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) يعني الجنة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) تعرضوا (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عام الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو النار ، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة (٥) : كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله ـ عزوجل (٦) ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي في التخلف عن الجهاد (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ). وذلك لأن الجهاد عبارة عن المقاتلة والكرّ والفرّ ، وهؤلاء الثلاثة لا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب ، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب. وفي معنى الأعرج الأقطع والمقعد بل أولى أن يعذر ، ومن به عرج لا يمكنه من الكرّ والفرّ لا يعذر ، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يضعفه عن الكرّ والفر ، فهذه الأعذار في نفس المجاهد ، وتبقى أعذار خارجة ، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفل أو مريض. والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه (٧). وقدم الأعمى على الأعرج ، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال ، والأعرج إن حضر راكبا أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره. قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما (٨). وقرأ الآخرون بالياء لقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٩).

قوله تعالى :(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ

__________________

(١) في الرازي المصدر السابق : «هو».

(٢) زيادة من النسخ عن الرازي.

(٣) المشهور : لألزمنّك كما في الرازي والمغني وغيرهما.

(٤) بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨ / ٩٣.

(٥) أي المرض والعاهة.

(٦) وانظر القرطبي ١٦ / ٢٧٣.

(٧) الرازي ٢٨ / ٩٣ و ٩٤.

(٨) نافع وابن عامر وأبو جعفر. وانظر الإتحاف ٣٩٦ وهي متواترة.

(٩) وهو اختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ؛ لتقدم ذكر الله أولا. انظر القرطبي ١٦ / ٢٧٤.

٤٩٤

عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٢٣)

قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) عاد إلى بيان حال المبايعين.

قوله : «إذ يبايعونك» منصوب ب «رضي» و (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يجوز أن يكون متعلقا ب «يبايعونك» وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول.

فصل(١)

المعنى : يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ، ولا يفروا. وقوله : (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول : ههنا ، وبعضهم ههنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض ، وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشّجرة. وروى سالم عن جابر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشّجرة) (٢).

قوله : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الطمأنينة والرضا «عليهم».

فإن قيل : الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا ؛ لأنه علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟

فالجواب : قال ابن الخطيب : إن قوله تعالى : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) متعلق بقوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) كما تقول : «فرحت أمس إذ كلّمت (٣) زيدا فقام لي ، وإذ دخلت عليه فأكرمني» فيكون الفرح بعد الإكرام مرتبا كذلك ههنا قال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ... فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق إشارة إلى أن الرضا لا يكون

__________________

(١) هذا الفصل كله ساقط من ب.

(٢) وانظر القرطبي ١٦ / ٢٧٤ ، ٢٧٧ والكشاف ٣ / ٥٤٦ والبحر ٨ / ٩٦.

(٣) كذا في تفسير الرازي وأ وفي ب كلم.

٤٩٥

عند المبايعة (حسب (١) بل عند المبايعة) (٢) التي كان معها علم الله بصدقهم. والفاء في قوله (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) للتعقيب المذكور ، فإنه ـ تعالى ـ رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم. وفي قوله : «فعلم» لبيان وصف المبايعة يكون (ها) (٣) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم.

قوله : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني فتح خيبر. وقوله : (مَغانِمَ كَثِيرَةً) أي وآتاهم مغانم أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ : «يأخذونها» بالغيبة ، وهي قراءة العامة ، و «تأخذونها» بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطلحة ونافع في رواية سقلاب (٤).

فصل

قيل : المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر ، وكانت خيبر ذات عقار وأموال فقسمها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهم. وقيل : مغانم هجر.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) كامل القدرة غنيا عن إعانتكم إياه «حكيما» حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه ، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلال لآخرين فقال : يذلّ من يشاء بعزّته ، ويعز من يشاء بحكمته.

قوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة وليس المغانم كل الثواب ، بل الجنة قدّامهم ، وإنما هي عاجلة عجّل بها لهم ، ولهذا قال : «فعجّل لكم هذه» يعني خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) وذلك أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما قصد خيبر وحاصر أهلها همّ قبائل من أسد ، وغطفان ، أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح ، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك ، ويعلموا أن الله هو المتولّي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم (٥).

قوله : «ولتكون» يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق بفعل مقدر بعده تقديره : ولتكون (فعلك) (٦) فعل ذلك.

الثاني : أنه معطوف على علة محذوفة تقديره : وعد فعجّل وكفّ لينتفعوا وليكون أو لتشكروا ولتكون (٧).

__________________

(١) في الرازي : فحسب.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٣) لفظ (ها) زيادة للسياق من الرازي.

(٤) والأنطاكي عن أبي جعفر ورويس عن يعقوب. وهي شاذة. انظر البحر ٨ / ٩٦.

(٥) القرطبي ١٦ / ٢٧٨ و ٢٧٩ والبحر ٨ / ٩٨.

(٦) زائدة من النسخة ب.

(٧) قال بهذين الوجهين أبو حيان في مرجعه السابق. وانظر القرطبي ١٦ / ٢٧٩.

٤٩٦

الثالث : أن الواو مزيدة (١). والتعليل لما قبله أي وكفّ لتكون (٢).

قوله : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يثيبكم على الإسلام ، ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر ، وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرّم ، ثم خرج في سنة سبع إلى خيبر. روى أنس بن مالك (رضي الله عنه) (٣) أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كفّ عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم ، قال : فخرجنا إلى خيبر ، فانتهينا إليهم ، فلما أصبح لم يسمع أذانا (ركب) (٤) وركبت خلف أبي طلحة ، وإن قدمي لتمسّ قدم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قالوا محمد ، والله محمد والخميس أي محمد والجيش ، فلما رآهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : الله أكبر الله أكبر خربت خيبر ، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (٥). وروى (٦) إياس بن سلمة قال حدثني أبي قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : فجعل عمي يرتجز بالقوم :

٤٤٩٢ ـ تالله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

ونحن من فضلك ما استغنينا

فثبّت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا (٧)

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هذا؟ فقال : أنا عامر ، قال : غفر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لإنسان يخصّه إلا استشهد. قال : فنادى عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ وهو على جمل له : يا نبيّ الله لولا متّعتنا بعامر قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :

٤٤٩٣ ـ قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السّلاح يطل مجرّب

__________________

(١) عند الكوفيين فقط.

(٢) المرجعين السابقين.

(٣) زيادة من أ.

(٤) كذلك زيادة من أ.

(٥ و ٦) انظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٩٨ و ١٩٩.

(٧) أرجاز لعبد الله بن رواحة ، أو عامر بن الأكوع ، أو كعب بن مالك ، وهي في ابن يعيش ٣ / ١١٨ وطبقات الشافعية ١ / ٢٥٧ و ٢٥٨ والهمع ٢ / ٤٣١ والأشموني ٤ / ٢٨ و ٥٠ والمقتضب ٣ / ١٣ والمغني ٣٣٩ ، وشرح شواهده للسيوطي ٢٨٦ و ٢٨٧ و ٧٥٩ وفي المغني أيضا ٩٨ و ٢٦٩ و ٣١٧ ومجمع البيان ٩ / ١٨١ والسراج المنير ٤ / ٤٨.

٤٩٧

إذا الحروب أقبلت تلهّب (١)

فقال علي ـ رضي الله عنه ـ :

٤٤٩٤ ـ أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أكيلكم بالصّاع كيل السّندره (٢)

قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه.

(ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلا واسعا ذريعا. والسّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النّبل ، والقسيّ ، والسّندرة أيضا العجلة ، والنون زائدة (٣). قال ابن الأثير (٤) : وذكرها الجوهريّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها) (٥).

وروي فتح خيبر من طرق أخر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.

قوله : «وأخرى» يجوز فيها أوجه :

أحدها : أن تكون مرفوعة بالابتداء و (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفتها و (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) خبرها.

الثاني : أن الخبر «منهم» محذوف مقدر قبلها ، أي وثمّ أخرى لم تقدروا عليها.

الثالث : أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير ، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي وقضى الله أخرى.

(الرابع : أن تكون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير ، بل لدلالة السّياق ، أي ووعد أخرى ، أو وآتاكم أخرى (٦).

الخامس : أن تكون مجرورة ب «ربّ» مقدرة ، ويكون الواو واو «رب» ذكره

__________________

(١) من الرجز أيضا لمرحب اليهودي وانظر سيرة ابن هشام ، ومجمع البيان ٩ / ١٨١ والسّراج المنير ٤ / ٤٨ وانظر هذا كله في البغوي ٦ / ١٩٨ و ١٩٩.

(٢) أرجاز أيضا له وهي في ديوانه ١٣٧ ، وطبقات الشافعية ١ / ٢٥٥ ، والهمع ١ / ٨٦ ومجمع البيان ٩ / ١٨٢ والسراج ٤ / ٤٨ واللسان سندر ٢١١٦.

(٣) اللسان المرجع السابق.

(٤) تقدم التعريف به. وانظر صحاح الجوهريّ س ن د ر.

(٥) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٦) قال بهذه الأوجه الأربعة أبو البقاء في التبيان ١١٦٦ و ١١٦٧ ، وقال الزمخشري بالوجهين الرابع والخامس. وانظر الكشاف ٣ / ٥٤٧.

٤٩٨

الزمخشري (١). وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف (٢) مشهور أهو بربّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أن أبا حيان قال : ولم تأت «ربّ» جارة في القرآن على كثرة دورها (٣) ، يعني جارة لفظا وإلا تقدر. قيل : إنها جارة تقديرا هنا وفي قوله : (رُبَما) [الحجر : ٢] على قولنا : إنّ ما نكرة موصوفة) (٤).

قوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) يجوز أن يكون خبرا ل «أخرى» كما تقدم ، أو صفة ثانية إذا قيل بأن أخرى مبتدأ وخبرها (٥) مضمر أو حالا (٦) أيضا.

فصل

قال المفسرون : معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٧) ـ علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب : تقديره : وعدكم الله مغانم تأخذونها ، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها ، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء (٨). قال : معنى قوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي حفظها للمؤمنين ، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحرّاس بالخزائن (٩).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) وقد نقل ابن هشام في المغني ٣٦١ أنه يرجح أن تكون الواو التي يجر الكلام بعدها واو عطف قال : والصحيح أنها واو العطف وأن الجر برب محذوفة خلافا للكوفيين والمبرد وحجتهم افتتاح القصائد بها كقول رؤبة :

وقاتم الأعماق خاوي المخترقن

وأجيب بجواز تقدير العطف على شيء في نفس المتكلم. ويوضح كونها عاطفة أن واو العطف لا تدخل عليها كما تدخل على واو القسم قال :

ووالله لولا تمره ما حببته

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

(٣) بالمعنى من البحر فقد قال : «ولم تأت في القرآن جارة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف يؤتي بها مضمرة؟» انظر البحر ٨ / ٩٧.

(٤) أي رب شيء هذا. وما بين القوسين كله سقط من نسخة ب.

(٥) في ب وخبره.

(٦) في النسختين حال والأصح ما أثبت أعلى فالمؤلف يقصد أو حالا بالعطف على خبرا لأخرى أي ويجوز أن تكون جملة «قد أحاط» حالية. وانظر الإعراب في التبيان ١١٦٧.

(٧) زيادة من أ.

(٨) في الرازي : وعلى هذا تبين لقول الفراء حسن ، وذلك لأنه فسر قوله تعالى : «قَدْ أَحاطَ». انظر الرازي ٢٨ / ٩٧.

(٩) بالمعنى من الفراء قال : «قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها» أحاط لكم بها أن يفتحها لكم. معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٦٧.

٤٩٩

واختلفوا فيها فقال ابن عباس والحسن ومقاتل : هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا حولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام. وقال الضّحّاك وابن زيد : هي خيبر وعدها الله ـ عزوجل ـ نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة : هي مكّة. وقال عكرمة : حنين. وقال مجاهد : وما فتحوا حتى اليوم ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(١).

قوله تعالى : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أسدا وغطفان وأهل خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) ، قال ابن الخطيب : وهذا يصلح جوابا لمن يقول : كفّ الأيدي عنهم كان أمرا اتفاقيا ، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا (٢) لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها ، فقال : ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين ، فليس أمرهم أمرا اتفاقيا ، بل هو أمر إلهيّ محكوم به محتوم (٣). ثم قال (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

قول : (سُنَّةَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة ، أي سنّ الله ذلك سنة (٤). قال ابن الخطيب : وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قوم من الجهّال وهو : إن الطّوالع والتأثيرات والاتّصالات (٥) تأثيرات وتغييرات فقال : ليس كذلك ، بل سنة الله نصرة رسله ، وإهلاك عدوه(٦) ، والمعنى : هذه سنة الله في نصرة أوليائه ، وقهر أعدائه (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢٦)

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) وهذا تبيين لما تقدم من قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ)

__________________

(١) القرطبي ١٦ / ٢٧٨.

(٢) كذا في النسختين وفي تفسير الرازي : عزموا.

(٣) المرجع السابق.

(٤) قاله في الكشاف ٣ / ٥٤٧.

(٥) في تفسيره : الطوالع لها تأثيرات والاتصالات لها تغيرات.

(٦) المرجع السابق.

٥٠٠