اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

الثاني : أن مثل زائدة (١) تقديره : الجنّة التي وعد المتقون فيها أنهار. ونظير زيادة مثل هنا زيادة «اسم» في قوله :

٤٤٦٧ ـ إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما

 ......... (٢)

الثالث : أن مثل الجنة مبتدأ ، والخبر قوله : (فِيها أَنْهارٌ)(٣) ، وهذا ينبغي أن يمتنع ؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ ، ولا ينفع كون الضمير عائدا على ما أضيف إليه المبتدأ.

الرابع : أن مثل الجنة مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ)(٤) فقدره ابن عطية : أمثل أهل الجنة كمن هو خالد (فِي النَّارِ) (فقدر (٥) حرف الإنكار ومضافا ليصحّ.

وقدره الزمخشري أمثل الجنة كمن جزاؤه (٦) من هو خالد) والجملة من قوله : (فِيها أَنْهارٌ) على هذا فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : هي حال من الجنة ، أي مستقرة فيها أنهار.

الثاني : أنها خبر لمبتدأ مضمر ، أي هي فيها أنهار ، كأن قائلا قال : ما فيها؟ فقيل : فيها أنهار (٧).

الثالث : أن تكون تكريرا للصلة ، لأنها في حكمها ، ألا ترى إلى أنه يصح قولك : التي فيها أنهار (٨).

وإنما أعري (٩) قوله مثل الجنة تصوير المكابرة من أن يسوّي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه ، كمن يسوّي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت وبين النار التي صفتها أن يسقي أهلها الحميم. ونظيره قول القائل ـ رحمه‌الله ـ :

٤٤٦٨ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (١٠)

__________________

(١) التبيان ١١٦١.

(٢) صدر بيت من الطويل للبيد عجزه :

 .........

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والشاهد : زيادة اسم في الكلام. وانظر الخصائص ٣ / ٢٩ ، وابن يعيش ٣ / ١٤ والهمع ٢ / ٤٩ والتبيان ١١٦١ والأشموني ٢ / ٢٤٣ والديوان ٢١٤ إحسان عباس ـ الكويت ١٩٦٢ م.

(٣) التبيان المرجع السابق.

(٤) هذا رأي أبي حيان في البحر ٨ / ٧٨.

(٥) ما بين القوسين ساقط من (ب).

(٦) الكشاف ٣ / ٥٣٣.

(٧) البحر المرجع السابق.

(٨) السابق.

(٩) كذا في (أ) وفي (ب) والكشاف عري.

(١٠) سبق هذا البيت أنه لحضرمي بن عامر اليهودي وأنه من بحر المنسرح وأتى به ههنا شاهدا على حذف الإنكار كما بينه أعلى. وانظر البيت في الكشاف ٣ / ٥٣٢ ، وشرح شواهده ٤ / ٤٩٦ والبحر ٨ / ٧٨ وأدب الكاتب ١٧٨ و ١٧٩.

٤٤١

هذا كلام منكر الفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعرّيه من حرف الإنكار. ذكر ذلك كله الزمخشري (١). وقرأ علي بن أبي طالب : مثال الجنّة (٢). وعنه أيضا وعن ابن عباس وابن مسعود: أمثال بالجمع (٣).

قوله (غَيْرِ آسِنٍ) قرأ ابن كثير : أسن بزنة حذر ، وهو اسم فاعل من أسن (٤) بالكسر يأسن ، فهو أسن كحذر يحذر فهو حذر. والباقون آسن بزنة ضارب من : أسن بالفتح يأسن ، يقال : أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن بالكسر والضم أسونا. كذا ذكره ثعلب (٥) في فصيحه (٦). فهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسنا وأجن يأجن ، وأسن يأسن ويأسن ، وأجن يأجن أسونا وأجونا (٧). وقال اليزيديّ (٨) يقال : أسن بالكسر يأسن بالفتح أسنا أي تغير طعمه ، وأما أسن الرّجل إذا دخل بئرا فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دوارا فأسن بالكسر فقط (٩) قال الشاعر :

٤٤٦٩ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

يميد في الرّمح ميد المائح الأسن (١٠)

وقرىء يسن (١١) بالباء بدل من الهمزة. قال أبو علي : هو تخفيف أسن وهو تخفيف غريب(١٢).

__________________

(١) بالمعنى. انظر الكشاف السابق.

(٢) قراءة شاذة ذكرها الإمام القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٣٦.

(٣) ابن خالويه ١٤٠ ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٦٠ والمحتسب ٢ / ٢٧٠ والكشاف ٣ / ٥٣٤ وهي كسابقتها.

(٤) من القراءات المتواترة ذكرها ابن مجاهد في السبعة ٦٠٠ ومكي في الكشف ٢ / ٢٧٧.

(٥) أحمد بن يحيى بن سيار الشيباني النحوي المعروف بثعلب كان إمام الكوفيين في النحو واللغّة أخذ عن ابن الأعرابي وسلمة بن عاصم وابن سلام وغيرهم وعنه أبو الحسن الأخفش وابن الأنباري وابن عرفة مات سنة ٢٩١ انظر النزهة ١٥٧ : ١٦٠.

(٦) لم أجدها في الفصيح مضبوطة بالكسر أو الضم انظر الفصيح ص ٦.

(٧) اللسان أس ن ٨١ و ٨٢ وأ ج ن ٣٤.

(٨) هو : يحيى بن المغيرة أبو محمد المقّريّ مولى لبني عديّ بن عبد مناف أخذ عن الخليل اللغة والعروض وكان ملازما لأبي عمرو. له من المؤلفات النوادر في اللغة مات سنة ٢٠٢ ه‍ وانظر نزهة الألباء السابق ٥٣ : ٥٨.

(٩) ذكره الجوهري في الصحاح أسن.

(١٠) البيت من بحر البسيط وهو لزهير كما نسبه القرطبي وصاحب اللسان. وروي : يغادر القرن. والقرن ـ بكسر القاف ـ المثل في الشجاعة والشدة ويميد : يضطرب والمائح المتمايل السّكران. والشّاعر يخبرنا عن شجاعته وترجيح كفته على هذا النظير الذي يتركه في دوار واضطراب بسبب الهزيمة الساحقة. والشاهد : الأسن فمعناه الداخل بئرا فأصيب بدوار من رائحتها الكريهة. وانظر اللسان أسن ٨١ وميد وميح ٤٣٠٦ و ٤٤٠٣ و ٤٤٠٤ والقرطبي ١٦ / ٢٣٦ والبحر المحيط ٨ / ٧٠ ولم يوجد بالديوان.

(١١) كذا في النسختين والأصح كما في البحر وكما يقتضيه العرف والعهد ياسن. وهي شاذّة ولم ينسبها أبو حيان لأحد. انظر البحر ٨ / ٧٩.

(١٢) المرجع السابق.

٤٤٢

قوله : (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) صفة ل «لبن».

قوله : «لذّة» يجوز أن يكون تأنيث «لذّ» ولذّ بمعنى لذيذ ، ولا تأويل على هذا. ويجوز أن يكون مصدرا وصف به (١) ، ففيه التأويلات المشهورة (٢). قال ابن الخطيب : يحتمل أن يقال : ما ثبتت لذّته (٣) يقال : طعام لذّ ولذيذ ، وأطعمة لذّة ولذيذة ، ويحتمل أن يكون ذلك وصفا بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحكيم : هو حكيم كله ، وللعاقل : هو عاقل كله (٤). والعامة على جرّ «لذّة» صفة لخمر. وقرىء بالنصب على المفعول له وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة. وبالرفع صفة «لأنهار». ولم تجمع ، لأنها مصدر إن قيل به وإلا فلأنها صفة لجمع غير عاقل ، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة (٥).

قوله : (مِنْ عَسَلٍ) نقلوا في عسل التذكير والتأنيث ، وجاء القرآن على التذكير في قوله: «مصفّى» ، والعسلان العدو (٦) ، وأكثر استعماله في الذّئب ، يقال : عسل الذّئب والثعلب. وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه ، فكأن العادي يهزّ أعضاءه ويحركها ، قال الشاعر:

٤٤٧٠ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (٧)

وكني بالعسيلة عن الجماع ، لما بينهما. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (٨).

فصل

قال ابن الخطيب : اختار هذه الأنهار من الأنهار الأربعة ؛ لأن المشروب إما أن يشرب لطعمه أو لغير طعمه ، فإن كان للطعم فالمطعوم تسعة : المرّ والمالح ، والحريف ، والحامض ، والعفص (٩) والقابض والتّفه ، والحلو ، والدّسم. وألذها الحلو والدّسم ، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسم الأشياء فالدهن لكن الدّسومة إذا تمحّضت (١٠) لا

__________________

(١) انظر التبيان ١١٦٢.

(٢) أي ذات لذة.

(٣) في الرازي : أن يكون تأنيث لذ ....

(٤) الرازي ٢٨ / ٥٥.

(٥) وهو بتوضيح وتفصيل لما في الكشاف للزمخشري ٣ / ٥٣٤.

(٦) في (ب) العدد. وهو تحريف.

(٧) من الكامل لساعدة بن جؤيّة الهذليّ. وشاهده : عسل الطريق. وانظر اللسان عسل ٢٩٤٦ والكتاب ١ / ٣٦ و ٣١٤ والخصائص ٣ / ٣١٩ والمغني ١١ ، ٥٢ وشرح شواهده للسيوطي ١٧ و ٨٨٥ والتصريح ١ / ٣١٢ والهمع ١ / ٢٠٠ ، ٢ / ٨١ والأشموني ٢ / ٩١ ، ٩٧ وقد تقدم.

(٨) من حديث الرسول لامرأة رفاعة القرظي وقد سألته عن زوج تزوجته لترجع به إلى زوجها الأول الذي طلقها. وانظر اللسان السابق.

(٩) هو الطعام البشع.

(١٠) أي خلصت وأصبحت محضة.

٤٤٣

تطيب للأكل ولا للشرب ، فإن الدّهن لا يأكل ولا يشرب في الغالب وأما اللبن ففيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولا فذكره الله تعالى ؛ وأمّا ما يشرب لغير الطّعم فالماء والخمر ، فإن الخمر كريهة الطعم ، لحصول التواتر بذلك ، وإنما تشرب لأمر آخر غير الطعام وأما الماء فلأن به بقاء الحيوان فذكره.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الخمر : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) ولم يقل في اللبن : لم يخبر طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفّى للناظرين؟

فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن اللذّة تختلف باختلاف الأشخاص فربّ طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر فقال : لذة للشاربين بأسرهم ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا ، فقال لذة ، أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم وأما الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس ، فإن الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعما واحدا وكذلك اللون فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة (١).

قوله : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن هذا الجار صفة لمقدر ، وذلك المقدر مبتدأ وخبره الجار قبله وهو «لهم» و «فيها» متعلق بما تعلق به ، والتقدير : ولهم فيها زوجان من كل الثمرات ، كأنه انتزعه من قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] وقدر بعضهم صنف. والأول أليق(٢).

والثاني : أن «من» مزيدة في المبتدأ.

قوله : «ومغفرة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على ذلك المقدر لا بقيد كونه في الجنة ، أي ولهم مغفرة ؛ لأنّ المغفرة تكون قبل دخول الجنة ؛ أو بقيد ذلك. ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ أي وبنعيم (٣) مغفرة ؛ لأنه ناشىء عن المغفرة وهو الجنة (٤).

والثاني : أن يجعل خبرها مقدرا أي ولهم مغفرة. والجملة مستأنفة (٥) ، والفرق بين الوجهين أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار ب «لهم» الملفوظ به عن شيئين ، ذلك المحذوف ومغفرة. وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر حذف للدّلالة عليه.

قوله : (كَمَنْ هُوَ) قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا عن : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ، بالتأويلين

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام الكبير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ٥٤ ، ٥٨.

(٢) انظر التبيان ١١٦٢.

(٣) في (ب) وينعم فعلا. وما هو بالمقصود.

(٤) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ٧٩.

(٥) التبيان المرجع السابق.

٤٤٤

المذكورين عن ابن عطية والزمخشريّ وأما إذا لم تجعله خبرا عن «مثل» ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : حال هؤلاء المتقين كحال من هو خالد (١). وهذا تأويل صحيح. وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية فقال : وهو في موضع رفع أي حالهم كحال من هو خالد في النّار (٢).

وقيل : هو استهزاء بهم. وقيل : هو على معنى الاستفهام أي أكمن هو خالد ، وقيل : في موضع نصب أي يشبهون (حال) (٣) من هو خالد في النّار. انتهى (٤).

ومعنى قوله : وقيل : هو استهزاء أي أن الإخبار بقولك : حالهم كحال من (هُوَ خالِدٌ)(٥) على سبيل الاستهزاء والتهكم. قال البغوي : معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟.

قوله : «وسقوا» عطف على الصلة عطف فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأول لفظ «من» فأفرد وفي الثانية معناه فجمع (٦). والأمعاء جمع معى ـ بالقصر ـ وهو المصران (٧) التي في البطن. وقد وصف بالجمع في قوله :

٤٤٧١ ـ .........

 ... ومعى جياع(٨)

على إرادة الجنس.

فصل

الماء الحميم هو الشديد الحرّ تسعر عليه النار منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم جميع ما في البطن من الحوايا ، واحدها معى.

__________________

(١) في الإقامة الدائمة. وانظر التبيان لأبي البقاء ١١٦٢.

(٢) في التبيان ـ كما سبق الآن ـ في الإقامة الدائمة.

(٣) زيادة عن التّبيان.

(٤) التبيان ١١٦٢.

(٥) زيادة للسياق والإيضاح.

(٦) ذكره أبو حيّان في البحر المحيط بالمعنى منه ٨ / ٧٩.

(٧) جمع مصير كجميل وجملان وكثيب وكثبان.

(٨) بعض بيت من الوافر للقطامي تكملته :

كأنّ نسوع رحلي حين ضمّت

حوالب غرّزا ومعى جياعا

والنسوع جمع نسع وهو سير يضفر على هيئة أعنّة النعال تشد به الرحال. والغرز جمع غارز والغارز من النوق القليلة اللبن. والقطامي في هذا البيت يصف النوق بقله اللّبن وبجوع المصران وهو مع هذا لم يأت بالمشبه به في بيته هذا ، والشاهد : إقامة الواحد مقام الجمع في قوله : «معى جياعا» وهنا وصف المفرد وهو معى (بالكسر والفتح فكلاهما جائزان) بالجمع وهو جياع والبيت في اللسا معي ٤٢٣٧ وغرز ٣٢٣٩ ، والمذكر والمؤنث للفراء ٧٥ والديوان ق ١٣ / ٦٣ / ٤٥.

٤٤٥

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يعني الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه ، ولا يفهمونه تهاونا. والضمير في قوله «ومنهم» يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله : (هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك (١).

قوله (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) قال المفسرون : حتّى للعطف. قالوا : والعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءا من المعطوف عليه إمّا أعلاه وإما أدونه ، كقولك : أكرمني النّاس حتّى الملك وجاء الحجّاج حتى المشاة. وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقا بالمعطوف عليه من حيث المعنى. ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك. فوجه التعلق ههنا هو أن قوله : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) يفيد معنى واحدا في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعا بالغا جيدا لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلّم الطالب للتفهم ، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤]. ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم. والأول يؤيده قوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) المجرمين [الأعراف: ١٠١] ، وقوله بعد ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي تركوا اتّباع الحقّ ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة (٢).

قوله : «آنفا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الحال فقدّره أبو البقاء : ماذا (٣) قال موتنفا؟ وقدره غيره مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصاله عنه؟ (٤)

والثاني : أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة. قاله الزمخشري (٥). وأنكره أبو حيان قال : لأنا لم نعلم أحدا عده من الظروف (٦).

واختلفت عبارتهم في معناه ؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآن ، ولذلك فسّره بالسّاعة (٧).

وقال ابن عطية : والمفسرون يقولون : آنفا معناه الساعة الماضية القريبة منا وهذا تفسير بالمعنى (٨). وقرأ البزّيّ (٩) ـ بخلاف عنه ـ أنفا بالقصر. والباقون بالمدّ ، وهما

__________________

(١) وانظر تفسير العلامة القرطبي ١٦ / ٢٣٧ ، ٢٣٨.

(٢) الرازي السابق.

(٣) التبيان السابق ، وهو أحد قولي أبي البقاء.

(٤) وهو رأي أبي حيان في البحر ٨ / ٧٩.

(٥) قال : على فعل نصب على الظرف.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٧٩.

(٧) الكشاف ٣ / ٥٣٤.

(٨) البحر المحيط المرجع السابق.

(٩) وهي قراءة ابن كثير أيضا. وهي سبعية متواترة. انظر السبعة ٦٠٠ والإتحاف ٣٩٣.

٤٤٦

لغتان بمعنى واحد. وهما اسما فاعل كحذر وحاذر وأسن وآسن ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مجرّد ، بل المستعمل ائتنف يأتنف ، واستأنف يستأنف والائتناف والاستئناف الابتداء. قال الزجاج : هو من استأنفت الشّيء أي (١) ابتدأته أي ما ذا قال في أول وقت يقرب منّا؟ (٢)

فصل

روى مقاتل ـ (رضي الله عنه) (٣) ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاءا ماذا قال محمد آنفا؟ ثم قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلم يؤمنوا واتّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق (٤).

قوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) يجوز فيه الرفع بالابتداء والنّصب على الاشتغال و «تقواهم» مصدر مضاف لفاعله. والضمير في «وآتاهم» يعود على الله أو على (قول) (٥) المنافقين ؛ لأن قولهم ذلك مما يزيد المؤمنين تقوى. أو على الرسول والمعنى زادهم قول الرسول هدى وآتاهم (تقواهم أي (٦) وفقهم للعمل بما أمر به ، أو زادهم الله هدى وآتاهم الله تقواهم أو زادهم استهزاء المنافقين وآتاهم) قول المنافقين تقواهم أي ثواب تقواهم (٧) يوم القيامة.

قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)(٢٢)

قوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) يعني الكافرين والمنافقين ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما ينتظر أحدكم إلّا غنى مطغيا ، أو فقرا منسيا ، أو مرضا

__________________

(١) في (ب) إذا. والتصحيح منها كما في المعاني.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٠.

(٣) زيادة من (أ).

(٤) وانظر القرطبي ١٦ / ٢٣٨ والكشاف ٣ / ٥٣٤.

(٥) زيادة من (أ).

(٦) ما بين القوسين كله زيادة من (أ) وسقط من (ب).

(٧) نقل القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٣٩ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٣٤ وأبو حيان في البحر ٨ / ٧٩ هذه الأقوال.

٤٤٧

مفسدا ، أو هرما مفنّدا ، أو موتا مجهزا أو الدّجّال ، والدّجّال شرّ غائب ينتظر أو السّاعة ، والسّاعة أدهى وأمرّ» (١). وسميت القيامة بالساعة لسرعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب.

قوله : (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرؤاسيّ (٢) : إن تأتيهم بإن الشّرطية (٣) وجزم ما بعدها. وفي جوابها وجهان :

أحدهما : أنه قوله : (فَأَنَّى لَهُمْ) قاله الزمخشري. ثم قال : فإن قلت : بم يتصل قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه (٤).

والثاني : أن الجواب قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) وإتيان الساعة وإن كان متحقّقا إلا أنهم عوملوا معاملة الشّاكّ وحالهم كانت كذا (٥).

قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) الأشراط جمع شرط ـ بسكون الراء وفتحها ـ قال أبو الأسود :

٤٤٧٢ ـ فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوّله تبدو (٦)

والأشراط العلامات. ومنه أشراط الساعة. وأشرط الرّجل نفسه أي ألزمها أمورا.

قال أوس :

٤٤٧٣ ـ فأشرط فيها نفسه وهو معصم(٧)

فألقى بأسباب له وتوكّلا (٨)

والشرط القطع أيضا مصدر شرط الجلد يشرطه شرطا.

__________________

(١) ذكره الترمذي في باب الزهد رقم ٣.

(٢) في (ب) الرؤاس وقد سبق التعريف بالرّؤاسيّ.

(٣) قراءة شاذة انظر الكشاف ٣ / ٥٣٤ ومختصر ابن خالويه ١٤٠.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٣٤ و ٥٣٥.

(٥) وهذا رأى أبي حيان في البحر ٨ / ٧٩.

(٦) من الطويل وهو لأبي الأسود والصّرم ـ بالفتح والضم ـ القطع يقول : علامات الصرم تظهر في أول الوصل. والشاهد : أشراط فهي جمع شرط بفتح وسكون وهو العلامة وانظر الكشاف ٣ / ٥٣٥ وشرح شواهده ٤ / ٨٣٧ والقرطبي ١٦ / ١٤٠ والبحر ٨ / ٧٠ وفتح القدير ٥ / ٣٥ والسراج المنير ٤ / ٢٩.

(٧) في الدّيوان واللسان والقرطبي والمؤلف رواه كرواية البحر المحيط.

(٨) من الطويل كسابقه. وشاهده : فأشرط أي ألزم نفسه أمورا. وانظر الديوان ٨٦ والقرطبي ١٦ / ٢٤٠ واللسان شرط ٢٣٦ والبحر ٨ / ٧١ والطبري ٢٦ / ٣٣ والضمير في «فيها» راجع إلى الجبال وأعصم يجوز أن يكون من قولهم : أعصم الراكب إذا لم يثبت على الفرس ، وأن يكون من أعصم به إذا تمسك به. والأسباب الحبال وتوكل عليه أي وثق وهو يصف رجلا تدلى من رأس الجبل ليقطع النّبعة لاتخاذ القوس منها. وانظر مجمع البيان ٩ / ١٥٣.

٤٤٨

فصل

قال سهل بن سعد : رأيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال بإصبعه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام : بعثت والسّاعة كهاتين. وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنّ من أشراط السّاعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الرّبا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقلّ الرّجال ، وتكثر النّساء حتّى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد (١). وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا ضيّعت الأمانة فانتظر السّاعة فقيل : كيف إضاعتها؟ قال : إذا وسّد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر السّاعة (٢). واعلم أن قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون بيانا لغاية عنادهم. ويحتمل أن يكون تسلية لقلب المؤمنين كأنه تعالى لما قال : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) ، فهم منه تعذيبهم ، قال المفسرون : أشراط الساعة مثل انشقاق القمر ، ورسالة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ (٣).

قوله : (فَأَنَّى لَهُمْ) «أنّى» خبر مقدم ، و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر ، أي أنّى لهم التذكير. وإذا وما بعدها معترض. وجوابها محذوف أي كيف لهم التذكير إذا جاءتهم الساعة؟ فكيف تتذكرون؟ ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفا أي أنّى لهم الخلاص (٤)؟ ويكون «ذكراهم» فاعلا ب «جاءتهم». وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ «بغتّة» بفتح الغين (٥) وتشديد التاء. وهي صفة فنصبها على الحال ، ولا نظير لها في الصفات ولا في المصادر ، وإنما هي في الأسماء نحو : الجربّة (٦) ـ للجماعة ـ والشّربّة للمكان (٧). قال الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو ، وأن يكون الصواب : بغتة بفتح الغين من غير تشديد (٨).

فصل

معنى الآية فمن أين لهم التّذكّر والاتّعاظ والتوبة إذا جاءتهم ذكراهم أي السّاعة نظيره : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣].

قوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وجه مناسبته لما قبله هو أنه تعالى لما قال فاعلم أنه لا

__________________

(١) ذكره الإمام أحمد في مسنده ١٠ / ٣٨٧ ، ٤٠٦ و ٢ / ٣٩٤ و ٣ / ١٠٨.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٦١ والبخاري باب العلم ١ / ٢١ عن أبي هريرة.

(٣) الرازي ٢٨ / ٦٠.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٨٠ والتبيان ١١٦٢.

(٥) ذكرها صاحب الكشاف ٣ / ٥٣٥ ولم ترو في المتواتر عن أبي عمرو وانظر المختصر لابن خالويه ١٤٠ وقد ضبطت من المحقق خطأ فضبطها بضم الأول.

(٦) هي جماعة الحمر. وقيل : هي الغلاظ الشداد منها. وفيها أقوال أخر ذكرها صاحب اللسان ٥٨٣ جرب.

(٧) انظر اللسان شرب ٢٢٢٥ ومن معانيها : الموضع أو الأرض التي تنبت العشب اللينة ولا ثالث لهما وجعل بعضهم ثالثا وهو غضبّة للغضوب قاله نصر انظر المرجع السابق.

(٨) الكشاف ٣ / ٥٣٥.

٤٤٩

إله إلا الله أي يأتي بالساعة كما قال : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) [النجم : ٥٧ ـ ٥٨]. وقيل : فاعلم أنّه لا إله إلا الله ينفعك ، قيل الخطاب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمراد غيره. وقيل : معناه فاثبت عليه. وقال الحسين بن الفضل : فازدد علما إلى علمك. وقال أبو العالية وابن عيينة : معناه إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا الله (١). ثم قال : «فاستغفر (لِذَنْبِكَ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستنّ به أمته. وقيل : معنى قوله لذنبك أي لذنب أهل بيتك الذين ليسوا منك بأهل بيت. وقيل : المراد النبي ؛ والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك (٢). قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنّه ليغان على قلب وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم مائة مرّة.

قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يستغفر لذنوبهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) قال ابن عباس والضحاك : متقلبكم : منصرفكم ومنشركم في أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار. وقال مقاتل وابن جرير : متقلبكم منصرفكم لأشغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم ومقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور ، وقيل : معناه أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها (٣).

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلّا. ولا التفات إلى قول بعضهم(٤) إنّ «لا» زائدة. والأصل لو نزلت. والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل. وزيد بن عليّ بالنصب فيهما على الحال (٥). والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسوّغ وقوع الحال كذا وصفها كقولك : الرّجل جاءني رجلا صالحا وقرىء : فإذا نزلت سورة (٦). وقرأ زيد بن عليّ وابن عمير «وذكر» مبنيا للفاعل أي الله تعالى «القتال» نصبا (٧).

__________________

(١) انظر تلك الأقوال في القرطبي ١٦ / ٢٤١ و ٢٤٢ والرازي ٢٠٨ / ٦٣.

(٢) الرازي ٢٨ / ٦١ والقرطبي ١٦ / ٢٤٢ و ٢٤٣.

(٣) القرطبي والرازي السابقين والبحر ٨ / ٨٠.

(٤) ولعله الفراء حيث أكد في المعاني ٢ / ٣٧٧ تركيبها قال : «لولا» التي هي «لو» ضمت إليها «لا» فصارتا حرفا واحدا. وهو رأي المبرد أيضا في المقتضب ٣ / ٧٦ وكذلك ابن الشجري في أماليه ٢ / ٧٦ وقد قال بالتركيب الذي أضاف معنى جديدا كل من ابن يعيش ٨ / ١٤٤ وابن الأنباري في الإنصاف ٢١٥. وانظر قضايا التركيب ٢٨٦ : ٢٨٨.

(٥) قراءة شاذة غير متواترة انظر البحر ٨ / ٨١.

(٦) كذا في البحر المحيط لأبي حيان ٨ / ٨١ ، وذكر القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٤٣ : فإذا أنزلت سورة محدثة وكلتا القراءتين شاذة.

(٧) المرجعين السابقين.

٤٥٠

فصل

المعنى ويقول الذين آمنوا حرصا منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد. واعلم أن المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشيء من العبادة خوفا من أن لا يؤهل لها. وأما المنافق فإذا أنزلت (١) السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التّباين بين الفريقين في العلم والعمل. والمراد بالسورة التي فيها تكليف. وقوله : «محكمة» أي لم تنسخ ، وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين (٢).

(٣) قوله : (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني المنافقين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) شزرا بتحديق شديد كراهية منهم للجهاد ، وجبنا عن لقاء العدوّ.

قوله : «نظر المغشيّ» الأصل نظرا مثل نظر المغشيّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عند الموت.

قوله : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ). اختلف اللّغويون والمعربون ـ (رحمه‌الله عليهم) ـ في هذه اللفظة فقال الأصمعي ـ (رحمه‌الله) (٤) ـ : إنها فعل ماض بمعنى قاربه ما يهلكه (٥) ، وأنشد ـ (رحمه‌الله) :

٤٤٧٤ ـ فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثّلاث (٦)

أي قارب أن يزيد.

قال ثعلب : لم يقل أحد في أولى أحسن من الأصمعيّ (٧). وقال البغوي : معناه وليك وقاربك ما تكره (٨) ولكن الأكثرين (٩) على أنه اسم. ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الولي وهو القرب كقوله :

٤٤٧٥ ـ تكلّفني ليلى وقد شطّ وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب (١٠)

__________________

(١) في (ب) نزلت.

(٢) الرازي ٢٨ / ٦٢.

(٣) القرطبي ١٦ / ٢٤٣ وهذا الإعراب ذكره أبو البقاء في التبيان ١١٦٣.

(٤) ما بين القوسين ساقط من (ب) وزائد من (أ).

(٥) القرطبي المرجع السابق والبحر المحيط ٨ / ٧١.

(٦) لم أعرف منشده وهو من تامّ الوافر. وشاهده في «أولى» فهو بمعنى قارب ما يهلكه على رأي الأصمعي ، والهادية : أول كلّ شيء وما تقدم منه. ولهذا قيل : أقبلت هوادي الخيل إذا رؤيت أعناقها. وانظر البيت في القرطبي ١٦ / ٢٤٤ ومقاييس اللغة ٦ / ١٤١ واللسان ولي ٤٩٢٣ ، والهمع ١ / ١٢٨ والبحر ٨ / ٧١ بلفظ «تعادى» ولعله خطأ من الناسخ.

(٧) القرطبي المرجع السابق.

(٨) معالم التنزيل له ٦ / ٦٣.

(٩) في النسختين : الأكثرون بالرفع.

(١٠) من الطويل وهو لعلقمة الفحل. وهو في البحر ٨ / ٧١ ومعاهد التنصيص ١ / ٦٣ ، وحاشية الدّمنهوريّ ٩٣. والشاهد وليها بمعنى القرب.

٤٥١

وقيل : هو مشتق من الويل والأصل فيه أوئل. فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع (١). وإلى هذا نحا الجرجانيّ (٢) والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل : هي تهديد ووعيد كقوله :

٤٤٧٦ ـ فأولى ثمّ أولى ثمّ أولى

وهل للدّرّ يحلب من مردّ (٣)

وقال المبرد : يقال لمن هم بالغضب (٤) : أولى لك كقول أعرابيّ كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه فيقول : أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه فأفلت منه فقال ـ (رحمة الله عليه ورضاه)(٥) ـ :

٤٤٧٧ ـ فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم

ولكن أولى يترك القوم جوّعا (٦)

هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه.

وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه :

أحدها : أن «أولى» مبتدأ (و) (٧) «لهم» خبره تقديره : فالهلاك لهم. وسوغ الابتداء بالنكرة كونه دعاء نحو : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) [الهمزة : ١].

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : العقاب أو الهلاك أولى لهم. أي أقرب وأدنى (٨). وقال ابن الخطيب : التقدير : فالموت أولى لهم ؛ لأنّ الموت سبق ذكره في قوله : «نظر المغشيّ عليه من الموت» ، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها (٩). ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بهم (١٠).

__________________

(١) ففيه قلب مكاني.

(٢) صاحب نظم القرآن وقد تقدم التعريف به. وانظر رأيه في القرطبي ١٦ / ٢٤٤.

(٣) من الوافر ومعناه واضح في الوعيد الواقع لا محالة. ولم أعرف قائله وكرر لفظ أولى للتأكيد فهو كقوله «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» أي ويل وهلاك فالوعيد واقع ومؤكد كالدرّ المحلوب لا يرد بعد الحلب إلى منبعه الأصلي.

والشاهد في كلمة أولى فمعناها الوعيد والتهديد وانظر القرطبي ١٦ / ٢٤٣ والبحر ٨ / ٧١ واللسان ولي ٤٩٢٤.

(٤) في القرطبي فيما نقله عنه : في العطب.

(٥) زيادة من (أ) وانظر الكامل ٤ / ٥١ للمبرد بالمعنى والقرطبي ١٦ / ٢٤٤ والبحر المحيط ٨ / ٧١.

(٦) لأحد الأعراب وهو من الطويل. وشاهده أن أولى في البيت لهذا حكاية وذلك أنه كان لا يحسن أن يرمي وأحب أن يمتدح عند أصحابه فقال أولى وضرب بيده على الأخرى وقال أولى فحكى ذلك.

وانظر اللسان ولي ٤٩٢٤ والقرطبي ١٦ / ٢٤٤ والبحر ٨ / ٧١ وفي البحر : صيدهم ولعله تحريف.

(٧) زيادة للسياق.

(٨) في (ب) أو أدنى وهذا الإعراب قال به أبو حيان عن قتادة في البحر ٨ / ٨٣.

(٩) الرازي ٢٨ / ٦٢.

(١٠) البحر المحيط المرجع السابق.

٤٥٢

الثالث : أنه مبتدأ و «لهم» متعلق به ، واللام بمعنى الباء. و «طاعة» خبره والتقدير : أولى بهم طاعة دون غيرها (١).

وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلا ماضيا ، وفاعله مضمر يدل عليه السّياق ، كأنه قيل: فأولى هو أي الهلاك (٢). وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه (٣). وقال ابن عطية : المشهور من استعمال العرب أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق (٤). وقد تستعمل العرب (أَوْلى لَكَ) فقط على جهة الحذف والاختصار ؛ لما معها من القول فتقول : أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد. انتهى (٥).

وقال أبو البقاء : أولى مؤنثه أولاة (٦). وفيه نظر ؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين ؛ أما التأنيث اللفظي فلا يقال فيه ذلك (٧). وسيأتي له مزيد بيان في القيامة (٨) إن شاء الله تعالى.

قوله : «طاعة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر «أولى» على ما تقدم.

الثاني : أنها صفة «لسورة» أي فإذا أنزلت سورة محكمة «طاعة» أي ذات طاعة أو مطاعة. ذكره مكي (٩) ، وأبو البقاء (١٠). وفيه بعد لكثرة الفواصل.

الثالث : أنها مبتدأ و «قول» عطف عليها والخبر محذوف تقديره : أمثل لكم من غيرهما(١١). وقدّر مكّيّ منّا (١٢) طاعة فقدّره مقدّما.

الرابع : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمرنا طاعة (١٣).

الخامس : أن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر (١٤). والوقف والابتداء يعرفان مما تقدم.

__________________

(١) التبيان والبحر السابقين.

(٢) ذكره أبو حيان في مرجعه السابق.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٣٥ و ٥٣٦.

(٤) البحر المحيط السابق.

(٥) السابق.

(٦) التبيان ١٠٦٣.

(٧) فكلمة أولى كعطيّة تأنيث لفظي.

(٨) عند قوله تعالى : «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» الآيتان ٣٤ ، ٣٥ من القيامة.

(٩) مشكل إعراب القرآن له ٢ / ٣٠٨.

(١٠) التبيان ١١٦٣.

(١١) مشكل إعراب القرآن السابق ، والرازي ٢٨ / ٦٢ والكشاف ٣ / ٥٣٦.

(١٢) مشكل الإعراب السابق.

(١٣) التبيان السابق وأبو حيان في بحره ٨ / ٨١.

(١٤) نقله أبو حيان في بحره السابق عن قتادة ـ رضي الله عنه ـ.

٤٥٣

فصل

قال المفسرون : قوله : طاعة وقول معروف ابتداء محذوف الخبر ، تقديره طاعة وقول معروف أمثل ، أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن (١). وساغ الابتداء بالنكرة ، لأنها وصفت بدليل قوله : (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : طاعة مخلصة وقول معروف خير (٢). وقيل : يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة ، أو منا طاعة وقول معروف : حسن (٣). وقيل : «متّصل». واللام في قوله : «لهم» بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا الله كانت الطاعة والإجابة أولى بهم (٤). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

قوله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) في جوابها ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله : (فَلَوْ صَدَقُوا) نحو : إذا جاءني طعام فلو جئتني (٥) أطعمتك.

الثاني : أنه محذوف تقديره : فاصدق ، كذا قدره أبو البقاء (٦).

الثالث : أن تقديرنا (٧) ناقضوا (٨). وقيل : تقديره كرهوا ذلك (٩). وعزم الأمر على سبيل الإسناد المجازي كقوله :

٤٤٧٨ ـ قد جدّت الحرب بكم فجدّوا (١٠)

أو يكون على حذف مضاف أي عزم أهل الأمر (١١). قال المفسرون : معناه إذا جدّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا لله في إظهار الإيمان والطاعة لكان

__________________

(١) نقل المؤلف كلام الرازي رغم ما أورده في إعراب كلمة «طاعة». وهذا من العيوب التي يقع فيها كثيرا فهو حريص على نقل الكلام حتى ولو كان مكرّرا.

(٢) وانظر الرازي ٢٨ / ٦٢ ، ٦٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٣٦ والبحر والرازي السابقين.

(٤) نقله القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٤٤ ولم يعيّنه لمعيّن.

(٥) وهو اختيار أبي حيان في البحر ٨ / ٨٢.

(٦) التبيان ١١٦٣.

(٧) كذا في (أ) وفي (ب) تقديره وهو الأصح والأبين وإلّا فمن المقدّر؟!.

(٨ ، ٩) القرطبي ١٦ / ٢٤٤.

(٨ ، ٩) القرطبي ١٦ / ٢٤٤.

(١٠) من الرجز وقبله :

قد شمّرت عن ساقها فشدّوا

وشاهد في الإسناد المجازي حيث شبه الحرب بإنسان عاقل ، وانظر البحر ٨ / ٣١٦ ومجمع البيان ١٠ / ٨.

(١١) التبيان ١١٦٣.

٤٥٤

خيرا لهم (١). وقيل : جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر لكلّوا أو كذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا لكان خيرا لهم.

قوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أي فلعلكم إن توليتم أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء وترجعون إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام!

قوله : (أَنْ تُفْسِدُوا) خبر عسى (٢). والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف لدلالة : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) عليه أو هو يفسره (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) ، عند من يرى تقديمه.

وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ «إن تولّيتم» بضم التاء والواو وكسر اللام مبنيا للمفعول من الولاية أي ولّيتم أمور الناس (٣). وقال ابن الخطيب : لولا تولّاكم ولاة ظلمة ، جفاة غشمة ومشيتم معهم لفسدتم وقطعت الأرحام والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال؟!. والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد ، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك ، حيث تتقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب الأول (٤). (وقرى : وليتم من الولاية أيضا (٥)).

فصل

قال ابن الخطيب : في استعمال «عسى» ثلاثة مذاهب :

أحدها : الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول : عسى زيد ، وعسينا وعسوا ، وعسيتما ، وعسيت وعسيتنّ وعسينا (٦) وعسيتنّ.

والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال : عساه ، وعساهما ، وعساك ، وعساكما وعساي وعسانا (٧).

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥ / ١٣ والقرطبي السابق.

(٢) في محل نصب جملة فعلية كخبر أفعال المقاربة والتاء اسمها. وانظر التبيان ١١٦٣ ، والمشكل ٢ / ٣٠٨.

(٣) شاذة ذكرها الكشاف ٣ / ٥٣٦. والفعل ماض مبني للمجهول وهي قراءة ابن أبي إسحاق أيضا.

ورواها رويس عن يعقوب. وانظر القرطبي ١٦ / ٢٤٥ ومختصر ابن خالويه ١٤٠.

(٤) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٦٤.

(٥) ولم أعرف من قرأ بها وهي شاذة. وانظر الكشاف ٣ / ٥٣٦ والبحر المحيط ٨ / ٨٢ ومعناها توليتم أمور الناس.

(٦) في الرازي : عستم وعست وعسنا والأول يجوز أن يكون صحيحا ولكن الثاني والثالث من الإمكان أن يكونا محرفين من قبل الناسخ فما دام قد أسند الفعل إلى الفاعل المضمر فإن الألف ترد إلى ياء.

وهذا المذهب مرجوح فلم يأت القرآن الكريم به. وهذا الرأي ذكره الرازي في تفسيره حيث اقتصر على الفعل والفاعل وهذا المذهب مذهب الكوفيين فهي بمنزلة قرب فعل قاصر.

(٧) وهو قليل أيضا وفيه مذاهب ثلاثة : ـ

٤٥٥

الثالث : الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء (١) تقول : عسى زيد يخرج ، وعسى أنت تخرج ، وعسى أنا أخرج ، والكل متوجه وما عليه كلام الله أوجه ، لأن «عسى» من الأفعال الجامدة ، واقتران الفاعل بالفعل الأولى من اقتران المفعول ، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أربع متحركات في مثل قول القائل : بصرت (٢) وجوزوا في مثل قولنا : بصرك (٣). وقد تقدم الكلام في «عسى» مشبعا.

وفي قوله : «عسيتم» إلى آخره ، التفات من غيبة في قوله : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار : «عسيتم إن» لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول : أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر (أن) (٤) تجيب إلا ب «لا» أو «نعم» ، فهو مقرّر عندك وعندي (٥).

واعلم أن «عسى» للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في «لعلّ» وفي قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)(٦) [المائدة : ٤٨] فقال بعضهم : يفعل بكم فعل المترجّي والمبتلي والمتوقع. وقيل : كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال ابن الخطيب : هو محمول على الحقيقة ؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعا فالنظر إليه غير مستلزم لأمر ، وإنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم. مثاله من نصب شبكة لاصطياد الصّيد يقال : هو متوقع لذلك ، فإن حصل له العلم بوقوعه فيه بإخبار صادق أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع. غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما (٧) نتوقعه (٨) فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع

__________________

ـ أحدها : أنها أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها في اقتران خبرها بأن وقال به سيبويه.

والثاني : أنها باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع وقال بذلك الأخفش.

والثالث : أنها باقية على إعمالها عمل كان ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس قاله المبرد والفارسيّ. بتصرف من المغني ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣.

(١) يقصد أن هذا المذهب أو الوجه قليل كقوله : عسى الكرب ... البيت.

(٢) في (ب) والرازي : نصرت.

(٣) وانظر الرازي ٢٨ / ٦٣ و ٦٤.

(٤) ساقط من النسختين فهو زيادة للسياق.

(٥) الرازي السابق.

(٦) كذا في (أ) وهي كلمة من الآية ٤٨ من المائدة وفي (ب) ليبلوهم وليست موجودة في القرآن وفي الرازي لنبلوهم بالنون من الآية ٧ من سورة الكهف.

(٧) كذا في (أ) والرازي وفي (ب) يتوقعه بالياء.

(٨) في الرازي : فيظن.

٤٥٦

هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظرا إلى ذلك الأمر حسب (١) سواء كان له به علم أو لم يكن(٢).

قوله : «وتقطّعوا» قرأ العامة بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب: بالتخفيف مضارع قطع (٣). والحسن : بفتح التاء والطاء مشددة ، أصلها تتقطّعوا بتاءين (٤) حذفت إحداهما (٥). وانتصب «أرحامكم» على هذا على إسقاط الخافض أي في أرحامكم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)(٣١)

قوله : «أولئك» مبتدأ ، والموصول خبره والتقدير : أولئك المفسدون يدل عليه ما تقدم(٦). وقوله : «فأصمّهم» ولم يقل : «فأصّم آذانهم» و (أَعْمى أَبْصارَهُمْ) ولم يقل : أعماهم ، قيل : لأنه لا يلزم من ذهاب الإذن ذهاب السمع فلم يتعرض لها ، والأبصار (٧) وهي الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار ولا يرد عليك قوله : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ونحوه [الأنعام : ٢٥] و [الإسراء : ٤٦] و [الكهف : ٥٧] لأنه دون الصّمم والصّمم أعظم منه فقال : أصمهم من غير ذكر الأذن ، وقال : (أَعْمى أَبْصارَهُمْ) مع ذكر العين ؛ لأن البصر ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبصار ولو كان مصدرا لما جمع ، فلم يذكر الأذن ؛ إذ لا مدخل لها في الإصمام وذكر العين ، لأن لها مدخلا في الرّؤية ، بل هي الكل بدليل أن الآفة في غير هذا الموضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقرا فقال تعالى

__________________

(١) في الرازي : فحسب.

(٢) وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٨ / ٦٤.

(٣) لم ترو في المتواتر عن أبي عمرو فهي شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٤٠ وانظر الكشاف ٣ / ٥٣٦ ، والقرطبي ١٦ / ٢٤٦.

(٤) شاذة كسابقتها وانظر الكشاف والقرطبي السابقين.

(٥) تخفيفا.

(٦) قاله صاحب التبيان ١١٦٣.

(٧) في (أ) والأذان فالتصحيح من (ب).

٤٥٧

حاكيا عنهم : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] والوقر دون الصّمم (١).

فصل

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) إشارة إلى من سبق ذكرهم من المنافقين ، أبعدهم الله عنه أو عن الخير فأصمهم لا يسمعون الكلام المبين وأعمى أبصارهم عن الحق.

قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فيه سؤال وهو أنه تعالى قال : فأصمهم وأعمى أبصارهم فكيف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل للأعمى أبصر وللأصمّ اسمع؟!.

فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض :

الأول : تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لا يؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يصمّهم ويعميهم ويذمّهم على ترك التدبر.

الثاني : أن قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) المراد منه الناس.

الثالث : أن يقال : هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة كأنه تعالى قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام ، فإذن هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه ، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّنف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره : أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فيتدبرون ولا يفهمون ؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول : أم بمعنى «بل» بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر (٢).

وقيل : أم بمعنى بل. والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه (٣) روى هشام بن عروة (٤) عن أبيه قال : «تلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شابّ من أهل اليمن بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به» (٥).

قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ) أم منقطعة وتقدم الكلام على «أم» المنقطعة. وقرأ العامة :

__________________

(١) بالمعنى من تفسير الرازي ٢٨ / ٦٥.

(٢) أخذ المؤلف ـ رحمه‌الله ـ كل هذا من الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير السابق مع تغيير طفيف في العبارة.

(٣) قال ببل وبقطع أم جار الله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٣٦ والقرطبي في الجامع ١٦ / ٢٤٦.

(٤) ابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين وقد سبق التعريف به.

(٥) ذكره البغوي في معالم التنزيل في سورة «محمد».

٤٥٨

«أقفالها» بالجمع على أفعال. وقرىء أقفلها (بالجمع (١)) على أفعل (٢). وقرىء إقفالها بكسر الهمزة مصدرا كالإقبال (٣). وهذا الكلام استعارة بليغة قيل : ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها (٤).

فإن قيل : ما الفائدة في تنكير القلوب؟.

فقال الزمخشري : يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفا لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال : أم على قلوب قاسية أو مظلمة.

الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال : أم على نفس القلوب ؛ لأن النكرة لا تعمّ ، تقول : جاءني رجال فيفهم البعض وجاءني الرجال فيفهم الكل (٥). والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفا كان معروفا ، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلبا ، فلا يكون قلبا يعرف ، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلب هذا حجر. وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال : على قلوبهم أقفالها أو هي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم(٦).

فإن قيل : قد قال الله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وقال : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الزمر : ٢٢].

فالجواب : الإقفال أبلغ من الختم ، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأسا.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله : «أقفالها» بالإضافة ولم يقل : أقفال كما قال : قلوب؟.

فالجواب : لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقفال إليها لكونها مناسبة لها. أو يقال : أراد به أقفالا مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد(٧).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) رجعوا كفارا (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)

__________________

(١) زيادة للسياق.

(٢) ذكرها أبو حيان في تفسيره ولم يعيّن من قرأ بها. وهي شاذة. انظر البحر ٨ / ٨٣.

(٣) شاذة كسابقتها. انظر المرجع السابق والكشاف ٣ / ٥٣٦.

(٤) المرجع السابق.

(٥) باللفظ من الرازي والمعنى من الكشاف ٣ / ٥٣٦.

(٦) الرازي المرجع السابق.

(٧) كذا في (أ) والرازي وفي (ب) والفساد. وانظر الرازي المرجع السابق.

٤٥٩

قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعدما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون (١).

قوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ) لم» أي زين لهم القبيح. وهذه الجملة خبر : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ)(٢) وتقدم الكلام على سوّل معنى واشتقاقا. وقال الزمخشري هنا : وقد اشتقه من السّؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا (٣). قال شهاب الدين : كأنه يشير إلى ما قاله ابن بحر (٤) من أن المعنى أعطاهم سؤلهم. ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافترقا ، فلو كان على ما قيل لقيل سأّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قاله الزمخشري نظر ؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو. وعليه قراءة(٥) : (سَأَلَ سائِلٌ) وقوله :

٤٤٧٩ ـ سألت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب (٦)

وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى (٧).

قوله : (وَأَمْلى لَهُمْ) العامة على أملى مبنيا للفاعل وهو ضمير الشيطان. وقيل : هو للباري تعالى. قال أبو البقاء : على الأول : يكون معطوفا على الخبر. وعلى الثاني : يكون مستأنفا (٨). ولا يلزم ما قاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهذا وبهذا.

وقرأ أبو عمرو في آخرين أملي (٩) مبنيا للمفعول. والقائم مقام الفاعل الجار. وقيل : القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء (١٠). وقرأ يعقوب وسلّام ومجاهد وأملي ـ بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء ـ فاحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مضارعا مسندا لضمير المتكلم أي وأملي (١١) أنا لهم ، وأن

__________________

(١) القرطبي ١٦ / ٢٤٩.

(٢) نقله في التبيان ١١٦٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٣٧.

(٤) سبق التعريف به.

(٥) وهي قراءة نافع وابن عامر. انظر البحر ٨ / ٢٣٢ والكشاف ٤ / ١٥٦ وهي متواترة وهي لغة قريش أو على لغة من قال : سلت أسال. وقد حكاها سيبويه. ويجوز أن تكون على قلب الهمزة ألفا على غير قياس ، وإنما القياس بين بين انظر الكشاف والبحر السابق.

(٦) من البسيط لحسان ـ رضي الله عنه ـ والشاهد : سالت أي سألت حيث فيه ما فيه مما ذكرت أعلى.

وقد تقدم.

(٧) في قوله تعالى : «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» من الآية ٢١١. ولم يزد على ما قاله كل من أبي حبان والزمخشري السابقين.

(٨) التبيان ١١٦٣.

(٩) وهي قراءة متواترة انظر الكشف لمكي ٢ / ٢٧٧.

(١٠) التبيان المرجع السابق.

(١١) أي أنظر أنا كقوله : «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» *.

٤٦٠