اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممّن تخلف عنه ولو ساعة. وقال مقاتل : ولكل واحد من الفريقين يعني البارّ بوالديه والعاقّ لهما «درجات» في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية (١).

فإن قيل : كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات في أهل النار ، وقد روي : الجنّة درجات والنّار دركات؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن ذلك على جهة التغليب.

وثانيها : قال ابن زيد : درج أهل الجنة تذهب علوّا ، ودرج أهل النار تذهب هبوطا.

الثالث : المراد بالدرجات المراتب المتزايدة ، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات (٢).

قوله : «وليوفّيهم» معلّلة بمحذوف تقديره جاؤوهم بذلك. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم وهشام بالياء من تحت وباقي السبعة بالنون (٣). والسّلميّ بالتاء (٤) من فوق : أسند التّوفية للدرجات مجازا. قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) إما استئناف وإما حال مؤكّدة.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)(٢٠)

قوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ) اليوم منصوب بقول مضمر ، أي يقال لهم : أذهبتم في يوم عرضهم (٥). وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم : «عرضت النّاقة على الحوض» فيكون قلبا (٦). ورده أبو حيان بأنه ضرورة وأيضا العرض أمر نسبي فتصح نسبته إلى الناقة ، وإلى

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٢٤ والقرطبي ١٦ / ١٩٨.

(٢) الرازي ٢٨ / ٢٤.

(٣) قراءة متواترة ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٢ ، والسبعة ٥٩٨ وباقي السبعة هم نافع وابن عامر وحمزة والكسائي.

(٤) نسبها ابن خالويه في المختصر إلى علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن أبي بكر وهي شاذة وإن كانت جائزة لغة ، ونسبها المؤلف كنسبة أبي حيان في البحر ٨ / ٦٢ بينما أوردها الكشاف قراءة دون عزو الكشاف ٣ / ٥٢٣ ، وقد أشار وقرر بأن هذه الجملة معللة لمحذوف كما تكلم المؤلف أعلى.

(٥) ذكره أبو البقاء في التبيان ١١٥٧.

(٦) الكشاف ٣ / ٥٢٣.

٤٠١

الحوض (١). وقد تقدم الكلام في القلب (٢) وأنّ فيه ثلاثة مذاهب.

قوله : «أذهبتم» قرأ ابن كثير : أأذهبتم بهمزتين الأولى مخففة والثانية مسهّلة بين بين ولم يدخل بينهما ألفا. وهذا على قاعدته في : «أأنذرتهم» ونحوه (٣). وابن عامر قرأ أيضا بهمزتين ، لكن اختلف راوياه عنه : فهشام سهل الثانية وخففها ، وأدخل ألفا في الوجهين ، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق (٤). وابن ذكوان بالتحقيق فقط (٥) ، دون إدخال ألف ، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبرا وإما استفهاما سقطت أداته للدلالة عليها (٦).

والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تستفهم وتترك الاستفهام فتقول : أذهبت (٧) ففعلت كذا؟ (٨) وذهبت ففعلت كذا؟.

قوله : (فِي حَياتِكُمُ) يجوز تعلقه «بأذهبتم» ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من «طيّباتكم».

فصل

قيل : المعنى يعرض الذين كفروا على (النار) (٩) أي يدخلون النار. وقيل : تدخل عليهم النار ليروا أهوالها ، ويقال لهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها ، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدّرجات (١٠) فقد استوفيتموه في الدنيا ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ، ولكنّي أستبقي طيّباتي. قال الواحدي : إن الصالحين يؤثرون

__________________

(١) قال : «ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشّعر ، وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب فأيّ ضرورة تدعو إليه؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح ... إلخ» البحر ٨ / ٧٣.

(٢) أفرد له السيوطي في المزهر بابا باسمه وذكر آراء كثيرين كابن فارس وابن السكيت وابن الأعرابي وأبي عبيد وأبي عبيدة وابن دريد والأصمعي والنحاس وثعلب والجوهري وغيرهم وبين أنه يقع في الكلمة وفي الجملة ولم يذكر أمثله للجملة وبين أنه لم يقع في القرآن وأن من الذين أنكروه ابن درستويه. انظر المزهر ١ / ٤٧٦.

(٣) هذه قراءة متواترة ذكرت في الإتحاف ٣٩٢ وفي السبعة ٥٩٨ وفي الكشف لمكي ٢ / ٢٧٢.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) الإتحاف المرجع السابق ، ولكن بلا فصل. وانظر في كل هذه القراءات البحر المحيط ٨ / ٦٣ وقراءة ابن ذكوان من القراءة المتواترة أيضا.

(٦) وانظر كل هذا في الكشف للإمام مكي ٢ / ٢٧٢ و ٢٧٣.

(٧) بدون استفهام فالهمزة همزة أفعل كأكرم وأعتق فهو فعل رباعي.

(٨) دون استفهام أيضا ولكنه تلك المرة بفعل لثلاثي وهو «ذهب».

(٩) زيادة لا بد منها على النسختين.

(١٠) في الرازي : والراحات.

٤٠٢

التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل ، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع ، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ، وإنما وبخ الله الكافر ، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته ، والإيمان به ، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم ، فلا يوبّخ بتمتعه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] نعم لا ينكر أنّ الاحتراز عن التنعم أولى ؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقياد (١) وحينئذ ربّما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي(٢). روى عمر ـ (رضي الله عنه) (٣) ـ قال : دخلت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإذا هو على زمّال (٤) حصير قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله : ادع الله أن يوسّع على أمتك ، فإنّ فارسا والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال : أولئك قوم قد عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. وروت عائشة ـ (رضي الله عنها) ـ قالت : ما شبع آل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشّهر ما نوقد فيه نارا ما هو إلا الماء والتمر. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون شيئا ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير ، والأحاديث فيه كثيرة (٥).

قوله : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي العذاب الذي فيه ذلّ وخزي. وقرىء : عذاب الهوان (٦)(بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين :

أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.

والثاني : الفسق ، وهو ذنب الجوارح وقدم الأول على الثاني ، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح ، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق ، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمراد بالفسق المعاصي.

فصل

دلت الآية على أن الكفار يخاطبون بفروع الإسلام ، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين :

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : الانقياص.

(٢) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٥.

(٣) ما بين الأقواس كله سقط من ب.

(٤) الزمال هو الضعيف انظر اللسان زمل ١٨٦٤ وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف.

(٥) وانظر في هذا بروايات مختلفة القرطبي ١٦ / ٢٠٠ و ٢٠١.

(٦) شاذة غير متواترة انظر الكشاف ٣ / ٥٢٣ والبحر ٨ / ٦٣.

٤٠٣

أولهما : الكفر ، وثانيهما : الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايرا لذلك الكفر لأن العطف يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم ، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيّات (١).

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ...) الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا (٢) السبب قال تعالى في حقهم : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالا وقوة وجاها ، ثم إن الله تعالى سلّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق (٣) فقال : «واذكر يا محمد لقومك أخا عاد» أي هودا ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

قوله : «إذ أنذر» بدل من «أخا» بدل اشتمال وتقدم تحقيقه. وقوله «بالأحقاف» هي جمع حقف وهو الرمل المستطيل المعوجّ (٤) ومنه احقوقف (٥) الهلال ، قال امرؤ القيس :

٤٤٥٤ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن حقف ذي حقاف عقنقل (٦)

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٢٥.

(٢) في ب فلذلك السيب.

(٣) الرازي السابق ٢٦ / ٢٧.

(٤) مجاز القرآن ٢ / ٢١٣ وغريب القرآن ٤٠٧.

(٥) اللسان وفيه معان أخرى اللسان حقف (٩٣٩).

(٦) من الطويل له وشاهده في : حقف حيث المعنى على ما ذكر وأجزنا قطعنا والساحة تجمع على الساحات والسّاح والسّوح الجبيل الصغير ، والحيّ القبيلة ، والانتحاء والتّنحّي والنّحو : الاعتماد على شيء والبطن مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة. والحقف رمل مشرف معوج وهو محل الشاهد. ـ

٤٠٤

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (١) ـ واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت ، بموضع يقال له : مهرة إليها تنسب الإبل المهريّة ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم ، وقال قتادة : ذكر لنا أن عادا كانوا حيا من اليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر ، بأرض يقال لها الشّحر (٢).

قوله : (وَقَدْ خَلَتِ) يجوز أن يكون حالا من الفاعل ، أو من المفعول والرابط الواو ، والنّذر جمع نذير ويجوز أن يكون معترضة بين «أنذر» وبين «أن لا (تَعْبُدُوا)(٣) أي أنذرهم بأن لا.

وقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي مضت الرسل من قبل هود ومن خلفه أي بعده. (والمعنى (٤) أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين يبعثون) بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.

فصل

قال المفسرون : إن هودا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد أنذرهم وقال : أن لا تعبدوا إلا الله إنّي أخاف عليكم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا «أي لتصرفنا» (٥) عن آلهتنا أي عن عبادتها ، والإفك الصّرف ، يقال : أفكه عن رأيه إذا صرفه عنه. وقيل : المراد لتلفتنا بالكذب (٦). (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معاجلة العذاب على الكفر (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك أن العذاب نازل بنا قال هود : إنّما العلم عند الله وهو يعلم متى يأتيكم العذاب (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من الوحي والتحذير من العذاب ، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليّ (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) وهذا يحتمل أن المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين. ويحتمل أن يكون المراد قوما تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة. ويحتمل أن يكون المراد قوما تجهلون حيث تصرّون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقا ولكن لم يظهر لكم أيضا كوني كاذبا ، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم (٧).

__________________

ـ ويروى : قفاف بدل حقاف وهي جمع قفّ وهو ما غلظ من الأرض ولم يبلغ جبلا. والعقنقل : الرمل المنعقد المتلبد. وانظر البيت في شرح الزوزني للمعلقات ١٩ و ٢٠ وأدب الكاتب ٢٧٣ والبحر ٨ / ٥٣ والإنصاف ٤٥٧ ، والمنصف ٣ / ٤١.

(١) زيادة من أ.

(٢) انظر هذه المعاني في الكشاف ٣ / ٥٢٣ والقرطبي ١٦ / ٢٠٣ ، ٢٠٤.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٦٤.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٥) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٠٥ وأبو عبيدة في المجاز ٢ / ٢١٣.

(٦) الرازي ٢٨ / ٢٧.

(٧) المرجع السابق.

٤٠٥

قوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) في «هاء» (١) «رأوه» قولان :

أحدهما : أنه عائد على «ما» في قوله «ما تعدنا».

الثاني : أنه ضمير مبهم يفسره «عارضا» إما تمييزا ، أو حالا. قالهما الزمخشري (٢).

وردّه أبو حيان بأن التمييز المفسّر للضمير محصور في باب ربّ (٣) ، وفي نعم وبئس (٤) ، وبأنّ الحال لم يعهد فيها أن توضع الضمير قبلها ، وأن النّحويّين لا يعرفون ذلك (٥). وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين :

الأول : ما تقدم. والثاني : أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله : «عارضا» كقوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥]. ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا ، عائد إلى السحاب ، كأنه قيل : فلما رأوا السّحاب عارضا (٦). وهذا اختيار الزجاج (٧). ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير (٨).

والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق (٩) السماء. قال أهل اللغة : العارض المعترض من السّحاب (١٠) في الجوّ ، قال :

٤٤٥٥ ـ يا من رأى عارضا أرقت له

بين دراعي وجبهة الأسد (١١)

قوله : (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) صفة ل «عارضا» ، وإضافة غير محضة (١٢) فمن ثمّ ساغ

__________________

(١) في ب «ما» بدل «ها» وهو لحن بيّن.

(٢) في الكشاف ٣ / ٥٢٤ وقد رجّح الثاني من الوجهين قائلا : «وهذا الوجه أعرب وأفصح».

(٣) كربّ رجلا.

(٤) مثل : نعم تلميذا في المدرسة زيد.

(٥) وهذا بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ٦٤ فقد قال : «وهذا الذي ذكره أي الزمخشري أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكر النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو ربّ رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو : نعم رجلا زيدا ، وبئس غلاما عمرو ؛ وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكر فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ، ولا أنّ الحال يفسر الضمير ويوضحه».

(٦) نقله عنه الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ٢٧.

(٧) قال : «أي فلما رأوا السّحاب الذي نشأت منه الريح التي عذبوا بها قد عرضت في السماء». معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤٥.

(٨) الرازي السابق.

(٩) وهذا رأي أبي زيد فيما نقله عنه الرازي السابق.

(١٠) قال أبو عبيدة في المجاز ٢ / ٢١٣ : «والعارض السحاب الذي يرى في قطر من أقطار السماوات من العشي ثم يصبح وقد حبا ثم استوى» بينما أطلق اين قتيبة في غريب القرآن ٤٠٥ بأنه السّحاب فقط.

(١١) سبق هذا البيت وأتى به شاهدا هنا على أن العارض هو السحاب المعترض.

(١٢) أي في تقدير الانفصال أي مستقبلا أوديتهم.

٤٠٦

أن يكون نعتا (١) لنكرة وكذلك «ممطرنا» وقع نعتا «لعارض» (٢) ومثله :

٤٤٥٦ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا (٣)

وقد تقدم أن أودية جمع واد ، وأن أفعلة وردت جمعا لفاعل في ألفاظ كواد وأودية وناد وأندية ، وحائز (٤) وأحوزة.

فصل

قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له : المغيث ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب. ثم بين ماهيته فقال : (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم وصف تلك الريح فقال : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأمر ربها. ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيرات الكواكب والقرانات بل هو أمر حدث ابتداء بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم (٥).

قوله : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) قرىء : «ما استعجلتم» مبنيا للمفعول (٦). وقوله: «ريح» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هو ريح ، ويجوز أن يكون بدلا من «هي» (٧) و (فِيها عَذابٌ) صفة ل «ريح» وكذلك «تدمّر» (٨). وقرىء : يدمر كل شيء ، بالياء من تحت مفتوحة ، وسكون الدال ، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية ، أي تهلك كل شيء(٩).

وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل (١٠) والفاعل ضمير الريح ؛ وعلى هذا فيكون (دمر) الثلاثي لازما ومتعديا (١١).

__________________

(١) في ب صفة.

(٢) التبيان ١١٥٧.

(٣) من البسيط لجرير بديوانه ٤٩٢. والشاهد : ربّ غابطنا حيث إن الإضافة هنا في تقدير الانفصال فربّ لا تدخل إلا على نكرات أي رب غابط لنا وقد تقدم.

(٤) كذا وردت في النسختين بحاء مهملة وفي البحر بجيم معجمة قال : «والجائز الخشبة الممتدة في أعلى السقف» ، انظر البحر ٨ / ٦٤ وهذا الجمع شاذ ، لأن قياس فاعل الاسم «فواعل» أو فواعيل وفعلان وفعلان والضم أكثر والصفة يجمع في الغالب على فعلان وقد يكسّر على فعال وفعّل وفعّال وفعلة وفعل وفعلاء ويجيء على فواعل إذا كان وصفا لغير العقلاء» ، بتصرف من شرح الشافية ٢ / ١٥١ ـ ١٥٨.

(٥) الرازي ٢٨ / ٢٨.

(٦) شاذة ذكرها بدون نسبة أبو حيان في البحر ٨ / ٦٤.

(٧) في التبيان : من «ما».

(٨) التبيان ١١٥٧.

(٩) ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق دون نسبة أيضا وهي شاذة كما ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٤.

(١٠) البحر المحيط ٨ / ٦٤ وهي قراءة شاذة كسابقتها.

(١١) وحكمنا على هذا التّعدّي واللّزوم من اختلاف القراءات تلك.

٤٠٧

قوله : «فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم» قرأ حمزة وعاصم لا يرى بضم الياء من تحت مبنيّا للمفعول «مساكنهم» بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، والباقون من السبعة (١) بفتح تاء الخطاب مساكنهم بالنّصب مفعولا به. والجحدريّ والأعمش وابن أبي إسحاق والسّلميّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق (٢) مبنيا للمفعول مساكنهم بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز ، أعني إذا كان الفاصل «إلا» فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث (في الفعل) (٣) إلّا في ضرورة(٤) كقوله ـ (رحمه‌الله) ـ :

٤٤٥٧ ـ كأنّه جمل وهم وما بقيت

إلّا النّحيزة والألواح والعصب (٥)

وعيسى الهمداني : لا يرى بالياء من تحت مبنيا للمفعول مسكنهم بالتوحيد (٦).

ونصر بن عاصم بتاء الخطاب مسكنهم (٧) بالتوحيد أيضا منصوبا. واجتزىء بالواحد عن الجمع.

فصل

روي أن الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ ، وتحمل الظّعينة حتى ترى كأنها جرادة (٨) وقيل : إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت : (رأيت) (٩) ريحا فيها كشهب النار.

وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من

__________________

(١) وهم ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وهي متواترة انظر السبعة ٥٩٨ والإتحاف ٣٩٣ والكشف لمكي ٢ / ٢٧٤.

(٢) وهي شاذة ذكرها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢ / ٢٦٥ وانظر البحر ٨ / ٦٥ والكشاف ٣ / ٥٢٤.

(٣) ما بين الأقواس ساقط من نسخة ب.

(٤) قال أبو الفتح : «أمّا «ترى» بالتاء ورفع المساكن فضعيف في العربية والشعر أولى بجوازه من القرآن وذلك أنه من مواضع العموم في التذكير فكأنه في المعنى لا يرى شيء إلا مساكنهم وإذا كان المعنى هذا كان التذكير لإرادته هو الكلام». المحتسب ٢ / ٢٦٦.

(٥) كذا رواه المؤلف تبعا للبحر المحيط لأبي حيان وفي اللسان : كأنها ـ أي الناقة ـ وهو من البسيط والوهم : أراد به الضّخم. والجمل والجمّل حبل السفينة. والنّحيزة من نحز البعير إذا أصابه النّحاز وهو داء يصيب الإبل ، ولوح الجسد عظمة يصفها صارت من الهزال بمنزلة الحبل فما بقي فيها شيء سوى النفس والعظم والعصب. والشاهد : تأنيث الفعل في «بقيت» رغم الفصل بإلا وتلك ضرورة شعرية وانظر البحر ٨ / ٦٥ واللسان «وهم» ٤٩٣٤ ومجمع البيان للطبرسي ٩ / ١٣٥ والديوان ٢ / ٤٣ تحقيق د. عبد القدوس أبو صالح ط مؤسسة الإيمان بيروت الطبعة الأولى.

(٦) قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ٦٥.

(٧) المحتسب ٢ / ٢٦٥ والبحر المرجع السابق.

(٨) الكشاف ٣ / ٥٢٤.

(٩) سقط من ب.

٤٠٨

رجالهم (١) ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت (٢) الريح الأبواب ، وصرعتهم وأمال الله تعالى عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيّام ، لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرّمال واحتملتهم ، فرمت بهم في البحر. وروي أن هودا لما أحسّ بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطّا إلى جنب عين تنبع ، وكانت الريح التي تصيبهم ريحا طيّبة هادية ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم (٣) إلى السماء ، وتضربهم على الأرض ، وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ما أمر الله خازن الرّياح أن يرسل على عاد إلّا مثل مقدار الخاتم» وذلك القدر أهلكهم بكلّيّتهم وذلك إظهار قدرة الله تعالى. وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : اللهم إنّي أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به. قال تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل : لما قال (تعالى) (٤) : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] فكيف يحصل التخويف؟

فالجواب : أن ذلك قبل نزول الآية (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ) مكناهم (فِيهِ) ما موصولة ، أو موصوفة(٦).

وفي «إن» ثلاثة أوجه :

أحدها : شرطية ، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما ، والتقدير : في الّذي إن مكّنّاكم فيه طغيتم (٧).

والثاني : أنها مزيدة تشبيها للموصولة بما النافية والتوقيتية (٨) ، وهو كقوله :

٤٤٥٨ ـ يرجّي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب (٩)

__________________

(١) في ب رحالهم بالحاء.

(٢) في ب فقفلت وفي الرازي : فعلّقت وكلها معان متقاربة وممكنة.

(٣) في ب والرازي : نظيرهم.

(٤) زيادة من أ.

(٥) انظر الرازي ٢٨ / ٢٨ و ٢٩.

(٦) قاله العكبري في التبيان ١١٥٨.

(٧) نقله أبو حيان في البحر ٨ / ٦٥.

(٨) البيان ٢ / ٣٧٢ والتبيان السابق والبحر السابق أيضا وذكره القرطبي في الجامع ١٦ / ٢٠٨ وابن قتيبة في الغريب ٤٠٨ وتأويل المشكل ١٩٦.

(٩) أنشده الأخفش ولم أجده في معاني القرآن له وهو من الوافر وهو لإياس بن الأرتّ ، وشاهده : زيادة إن حيث إن المعنى لا يتأثر بدونها. وانظر القرطبي ١٦ / ٢٠٨ والبحر ٨ / ٦٥ والكشاف ٣ / ٥٢٥ وشرح شواهد ٤٥ / ٣٤٤ والإنصاف ٣ / ٥٢٥.

٤٠٩

والثالث : ـ وهو الصحيح ـ أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبسطة وسعة الأرزاق (١). ويدل له قوله في مواضع : (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [الروم : ٩] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما» النافية إلى «إن» كراهية لاجتماع متماثلين لفظا. قال الزمخشري : وقد أغثّ (٢) أبو الطيب في قوله :

٤٤٥٩ ـ لعمرك ما ما بان منك لضارب

 ......... (٣)

وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : «ما إن بان».

فصل

معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر ، وكثرة المال ثم إنهم مع زيادة القوّة ما نجوا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعا ، فما استعملوه في سماع الدلائل وأعطيناهم أبصارا فما استعملوها في دلائل ملكوت السماوات والأرض ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى (٤).

قوله : (فَما أَغْنى) يجوز أن يكون «ما» نفيا وهو الظاهر. أو استفاهاما للتقرير (٥).

واستبعده أبو حيان لأجل قوله : (مِنْ شَيْءٍ) قال : إذ يصير التقدير أي شيء أغنى عنهم من

__________________

(١) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٥ ، وأبي حيان في البحر ٨ / ٦٥ وسبق إليه الفراء في المعاني ٣ / ٥٩ والزجاج أيضا في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤٦ ، واختار المبرد ـ فيما نقله عنه النحاس في الإعراب ـ أن تكون «إن» بمعنى النفي أيضا انظر النحاس في إعرابه ٤ / ١٧٠.

(٢) أغثّ فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث ولا معنى له وهو فعل لازم ، انظر اللسان غثث ٣٢١٣.

(٣) هذا صدر بيت من الطويل للمتنبي من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي وعجزه :

 ...........

بأقتل ممّا بان منك لعائب

ورواية الديوان : يرى أن ما ما ... البيت.

ولذلك علق ابن المنير على الزمخشري قائلا بيت المتنبي ليس كما أنشده : لعمرك وإنما هو : يرى أن الخ ... ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله ، هو ابن رسول الله وابن صفيه وشبههما شبهت بعد التجارب. ومعنى البيت أن لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب ، وهذا للمضارب وما الأولى نافية والثانية موصولة واسم أن محذوف تقديره يرى أنه ما الذي ظهر منك لضارب بأقتل من الذي بان منك لعائب أي لا يرى القتل أشد من العيب بل العيب عنده أشد من القتل. والشاهد تكرير لفظ «ما» حيث الثقل المشبع كما أوضح أعلى. وانظر الديوان ٢ / ٢٨٥ والكشاف ٣ / ٥٢٥ وشرح شواهده ٤ / ٣٤٣ والإنصاف على الكشاف ٣ / ٥٢٥.

(٤) الرازي ٢٨ / ٢٩.

(٥) ذكر هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٧٢ وأبو حيان في البحر ٨ / ٦٤.

٤١٠

شيء؟ فزاد «من» في الواجب (١) ، وهو لا يجوز على الصحيح (٢).

قال شهاب الدين : قالوا يجوز زيادتها في غير الموجب. وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام (٣).

قوله : «إذ كانوا» معمول ل «أغنى» وهي مشربة معنى التعليل ، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضربته إذ أساء ، أي ضربته لأنه أساء (٤). وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة. ثم قال : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاستهزاء.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) يا كفار مكة كحجر ثمود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) الحجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون. قال الجبائي : قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب : بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات (٥).

قوله تعالى : ولو لا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) القربان ما تقرّب به إلى الله. أي اتخذوها شفعاء وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله (٦)(ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

قوله : «قربانا» فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أن المفعول الأول ل «اتّخذ» محذوف ، هو عائد المصر إلى؟؟؟ «قربانا» نصب على الحال ، و «آلهة» هو المفعول الثاني للاتّخاذ ، والتقدير فهلّا نصرهم الّذين اتّخذوهم متقرّبا بهم آلهة (٧).

__________________

(١) في البحر : في الموجب.

(٢) وانظر البحر ٨ / ٦٤.

(٣) الواقع أن ابن هشام ذكر في المغني ماهية ونوع الاستفهام وحدده بهل. وأخبرنا أن الكوفيين لا يشترطون نفيا أو نهيا أو استفهاما مستدلين بقوله : «قد كان من مطر» ويقول عمر بن أبي ربيعة ... فما قال من كاشح لم يضر. وخرج الكسائي على زيادتها : إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون وممن جوز الزيادة في الإيجاب الفارسي قال في قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) : يجوز كون من ومن الأخيرتين زائدتين وأوله المخالفون والمشترطون لشروط الزيادة.

بتصرف من المغني ٣٢٥ و ٣٢٣.

(٤) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٥٢٦.

(٥) الرازي ٢٨ / ٢٩.

(٦) القرطبي ١٦ / ٢٠٩.

(٧) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٥٢٦ وإلى هذا ذهب أبو حيان في البحر ٨ / ٦٦ وقد أخذه على ما أظن من الزمخشري الأسبق.

٤١١

والثاني : أن المفعول الأول محذوف ـ كما تقدم ـ و «قربانا» مفعولا ثانيا و «آلهة» بدل منه (١). وإليه نحا ابن عطية والحوفيّ (٢) وأبو البقاء (٣) ، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال: «لفساد المعنى» (٤). ولم يبين جهة الفساد. قال أبو حيان : ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب (٥). قال شهاب الدين : ووجه الفساد ـ والله أعلم ـ أن القربان اسم لما تقرب به إلى الإله ، فلو جعلناه مفعولا ثانيا و «آلهة» بدلا منه لزم أن يكون الشيء المتقرّب به آلهة والغرض أنه غير آلهة. بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلا منه؟ وهذا ما لا يجوز (٦).

الثالث : أن «قربانا» مفعول من أجله. وعزاه أبو حيان للحوفي (٧). وإليه ذهب أبو البقاء أيضا (٨). وعلى هذا ف «آلهة» مفعول ثان ، والأول محذوف كما تقدم.

الرابع : أن يكون مصدرا. نقله مكي (٩). ولولا أنه ذكر وجها ثانيا وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولا بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبعد معنى المصدر.

قوله : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عند نزول العذاب لهم.

قوله : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) العامة على كسر الهمزة ، وسكون الفاء ، مصدر أفك يأفك إفكا ، أي كذبهم وابن عباس بالفتح (١٠) وهو مصدر له أيضا. وابن عباس ـ أيضا ـ وعكرمة والصّباح بن العلاء أفكهم (١١) ـ بثلاث فتحات ـ فعلا ماضيا ، أي صرفهم. وأبو عياض (١٢) وعكرمة أيضا كذلك ، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير (١٣) ، وابن الزبير (١٤) ، وابن

__________________

(١) البحر المرجع السابق.

(٢) ذكر أبو حيان رأيهما في المرجع السابق.

(٣) التبيان ١١٥٩ وقد ذكره ابن الأنباري في البيان أيضا ٢ / ٣٧٢.

(٤) الكشاف السابق.

(٥) الكشاف السابق ، والبحر المرجع السابق.

(٦) الدر المصون للسمين مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ٩٨.

(٧) البحر المحيط المرجع السابق. وقد ذكر هذا الوجه ابن الأنباري في البيان المرجع السابق.

(٨) التّبيان ١١٥٩.

(٩) مشكل إعراب القرآن له ٢ / ٣٠٣ وذكره ابن الأنباري في البيان المرجع السابق.

(١٠) في رواية كما ذكر ذلك صاحب البحر المحيط ٨ / ٦٦ وذكرها أيضا صاحب اللسان أفك ٩٧ وهي شاذة متواترة.

(١١) فعلا ماضيا ـ كما ذكر ـ وهي شاذة ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٦٧ ، وابن خالويه في المختصر ١٣٩ وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٢ / ٥٩.

(١٢) التبيان ١١٥٩ و ١١٦٠.

(١٣) المحتسب والمختصر المرجعين السابقين وهي شاذة أيضا.

(١٤) عبد الله بن الزبير الصحابي المعروف.

٤١٢

عباس ـ أيضا ـ آفكهم (١) ـ بالمد ـ فعلا ماضيا أيضا. وهو يحتمل أن يكون بزنة فاعل (٢) ، فالهمزة أصلية ، وأن يكون بزنة أفعل (٣) فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة. وإذا قلنا : إنه أفعل ، فهمزته يحتمل أن تكون للتعدية (٤) ، وأن تكون أفعل بمعنى المجرّد (٥) ـ وابن عباس ـ أيضا آفكهم بالمد وكسر الفاء ، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم. وقرىء أفكهم (٦) ـ بفتحتين ـ ورفع الكاف على أنه مصدر ـ لأفك أيضا ـ فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء ، وزاد أبو البقاء أنه قرىء : آفكهم ـ بالمد وفتح الفاء ، ورفع الكاف ـ قال : بمعنى أكذبهم (٧). فجعله أفعل تفضيل.

قوله : (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) يجوز أن تكون ما مصدرية ، وهو الأحسن ، ليعطف على مثله ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي يفترونه ـ والمصدر من قوله : «إفكهم» يجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل بمعنى كذبهم ، وإلى المفعول بمعنى صرفهم. والمعنى : وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) يكذبون أنّها آلهة (٨).

قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ

__________________

(١) المرجعين السابقين ومعاني القرآن للزجاج ٤ / ٤٤٦ وهي شاذة أيضا.

(٢) كقاتل.

(٣) كأكرم.

(٤) أي أصارهم إلى الإفك أو وجدهم كذلك كما تقول : أحمدت الرّجل وجدته محمودا.

(٥) مثل صدّ وأصدّ. وانظر المحتسب ٢ / ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٦) وهي رواية قطرب وأبي الفضل الرازي البحر ٨ / ٦٦ وهي قراءة شاذة. معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٩ وانظر المحتسب المرجع السابق وهي شاذة كسابقتها.

(٧) ولم يعين من قرأ بها وهي قراءة شاذة انظر التبيان ١١٥٨.

(٨) معنى كلام أبي حيان في البحر ٨ / ٦٧.

٤١٣

لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) الآية لما بين أن في الإنس من آمن ، ومنهم من كفر ، بين أيضا أن في الجن من آمن ومنهم من كفر ، وأن مؤمنهم معرّض للثواب ، وأن كافرهم معرض للعقاب.

قوله : (وَإِذْ صَرَفْنا) منصوب باذكر مقدرا. وقرىء : صرفنا (١) بالتشديد للتكثير (مِنَ الْجِنِّ) صفة ل «نفرا» ويجوز أن يتعلق ب «صرفنا» و «من» لابتداء الغاية.

قوله : «يسمعون» صفة أيضا لنفرا ، أو حال ، لتخصصه بالصفة إن قلنا : إن (مِنَ الْجِنِّ) صفة له وراعى معنى النفر فأعاد عليه الضمير جمعا ، ولو راعى لفظه فقال : يستمع لجاز(٢).

قوله : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر ، وأن تكون للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣) وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله : «إليك» إلى الغيبة في قوله «حضروه».

قوله : فلمّا قضي» العامة على بنائه للمفعول ، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء» حضروه على القرآن. وأبو مجلز (٤) وحبيب بن عبد الله قضى مبنيا للفاعل ، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فصل

ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين :

الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تستمع ، فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب. وكان قد اتفق أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما أيس (٥) من أهله مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ، ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن ، فمر به نفر من أشراف (جنّ) (٦) نصيبين ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن ، فعرفوا أن ذلك هو السبب.

والقول الثاني : أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ

__________________

(١) ولم يحددها أبو حيان في البحر ٨ / ٦٧ وهي شاذّة غير متواترة وقد ذكرها الزمخشري دون نسبة أيضا في الكشاف ٣ / ٥٢٦.

(٢) انظر التبيان للعكبري ١١٥٩.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٢٦.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٦٧ والكشاف ٣ / ٥٢٦.

(٥) في ب أمن خطأ.

(٦) سقط من ب.

٤١٤

عليهم القرآن فصرف إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه القرآن ، وينذروا (١) قومهم (انتهى) (٢).

فصل

نقل القاضي في تفسيره أن الجنّ كانوا يهودا ؛ لأن في الجن مللا (٣) كما في الإنس من اليهود والنّصارى والمجوس وعبدة الأوثان ، وأطبق المحقّقون على أن الجنة مكلفون. سئل ابن عباس: هل للجن ثواب؟

قال : نعم : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها (٤).

فصل

قال الزمخشري : النّفر دون العشرة ويجمع على «أنفار» روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رسلا إلى قومهم. وعن زرّ بن حبيش كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة. وعن قتادة : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى. واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة الجن؟ (٥)

فصل

روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : كنت مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بظاهر المدينة إذ أقبل شيخ يتوّكأ على عكّازه فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنها لمشية جنّيّ ، ثم أتى فسلم على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنها لنغمة جنّيّ ، فقال الشيخ : أجل يا رسول الله فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من أيّ الجن أنت؟ قال يا رسول الله : أنا هام (٦) بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين قال : أجل يا رسول الله. قال كم أتى عليك من العمر؟ قال : أكلت عمر الدنيا إلا القليل كنت حين قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام فكنت أتشوف (٧) على الآكام (٨) ، وأصطاد الهام (٩) وأورش (١٠) بين

__________________

(١) في النسختين يستمعوا ... وينذروا وهو خطأ نحوي والأصح ما أثبت أعلى.

(٢) زيادة من ب.

(٣) كذا في ب والرازي وفي أمثلا والتصحيح من ب.

(٤) انظر الرازي ٢٨ / ٣١.

(٥) الرازي السابق وانظر الكشاف ٣ / ٥٢٦.

(٦) في الرازي : هامة.

(٧) وفيه مشى وتشوّف إذ ارتفع على معاقل الجبال فأشرف.

(٨) قيل : هو القفّ من الحجارة الواحدة وقيل : هو دون الجبال ، وقيل غير ذلك وهو جمع أكم جمع إكام جمع أكمة. انظر اللسان أكم ١٠٣.

(٩) الرأس من كل ذي روح.

(١٠) الوارش هو الطفيلي المشتهي للطعام ، والتوريش التحريش. انظر اللسان ورش ٤٨١٢.

٤١٥

الأنام. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : بئس العمل قال يا رسول الله دعني من العتب ، فإني ممن آمن مع نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال : إني والله لمن النّادمين ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولقيت إبراهيم وآمنت به ، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق ، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجبّ فسبقته إلى قصره ولقيت موسى بن عمران بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مريم فقال لي : إن لقيت محمّدا فاقرأ عليه‌السلام (ف) قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعليك يا هام ما حاجتك؟ قال : إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل ، فعلّمني القرآن. قال أنس : فعلّمه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عشر سور ، وقبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم ينعه إلينا. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ولا أراه إلا حيّا (١). وروي أنه علمه سورة الواقعة ، و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] ، و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] وسورة الإخلاص والمعوّذتين (٢).

فصل

اختلفوا في عدد النفر ، فقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ كانوا سبعة وقد تقدم ، وقيل : كانوا تسعة. وروى عاصم عن زرّ بن حبيش (٣) كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن ، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسكتوا (٤) مستمعين يقال : أنصتّ لكذا ، واستنصتّ له. روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف ، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيّات وكلاب ، وصنف يحلّون ويظعنون. ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ) انصرفوا إليهم «منذرين» مخوفين داعين بأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن ، والتصديق به ، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لكتب الأنبياء ، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمعاد وتطهير الأخلاق ، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

فإن قيل : كيف قالوا : من بعد موسى ، ولم يقولوا : من بعد عيسى؟

__________________

(١) انظر هذا الأثر في تفسير الرازي ٢٨ / ٣٢.

(٢) قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.

(٣) القرطبي ١٦ / ٢١٣.

(٤) لم أعثر عليه في الكتب الصحاح أو غيرها من كتب الحديث.

٤١٦

فالجواب : أنه روي عن عطاء والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (١) ـ أن الجنّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا : من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا داعي الله» يعني محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢).

فصل

دلت هذه الآية على أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس. قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الإنس وإلى الجن قبله.

فإن قيل : قوله (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال : «وآمنوا به»؟

فالجواب : أفاد ذكر الإيمان على التعيين ، لأنه أهم الأقسام وأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه ، كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وقوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال بعضهم : كلمة «من» هنا زائدة (٣) والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل : بل فائدته أن كلمة «من» هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عفو ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل (٤). ويجوز أن تكون تبعيضية (٥).

قوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين بعلا من الجن فرجعوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوافقوه في البطحاء فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم (٦).

فصل

اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) الرازي ٢٨ / ٣٢.

(٣) ذكرت في البحر والرازي دون تحديد انظر البحر ٨ / ٦٨ والرازي ٢٨ / ٣٣.

(٤) الرازي السابق.

(٥) البحر السابق.

(٦) ذكره القرطبي ١٦ / ٢١٧.

٤١٧

الطاعة والعقاب على المعصية. وهو قول ابن أبي ليلى ومالك (١) وتقدم عن ابن عباس أيضا نحو ذلك. قال الضحاك : يدخلون الجنة ، ويأكلون ويشربون ، لأن كل دليل (٢) دل (٢) على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقّ الجنّ. والفرق بينهما بعيد جدّا (٣) ، وذكر النقاش في تفسيره حديثا أنهم يدخلون الجنة. فقيل : هل يصيبون من نعيمها؟ قال : يلهمهم الله تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أرطأة بن المنذر : سألت ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ قال : نعم وقرأ : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)(٤). وقال عمر بن العزيز : إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض (٥) ورحاب ولبس فيها(٦).

قوله : ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته «و (فَلَيْسَ) لهم (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أنصار يمنعونه من الله (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) اعلم أنه تعالى قرر من أول السورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادرا على البعث ، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السماوات والأرض وخلقها أعظم من إعادة هذا الشّخص حيّا بعد أن كان ميّتا ، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادرا على ما دونه (٧).

قوله : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع «عيي» بالكسر يعيا ـ بالفتح ـ فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يعي بكسر العين (٨) وسكون الياء. قالوا : وأصلها عيي بالكسر فجعل الكسر فتحة ، على لغة طيّىء فصار «عيا» ، كما قالوا في بقي : بقا. ولما بنى الماضي على «فعل» بالفتح جاء مضارعه على يفعل (٩) بالكسر فصار يعيي مثل يرمي ، فلما دخل الجازم حذف الياء الثانية (١٠) فصار : لم يعي (١١) بعين ساكنة وياء مكسورة ، ثم نقل حركة الياء إلى العين (١٢) فصار اللفظ كما

__________________

(١) والشافعي وانظر القرطبي ١٦ / ٢١٧ و ٢١٨.

(٢) في ب يدل مضارعا.

(٢) في ب يدل مضارعا.

(٣) الرازي ٢٨ / ٣٣.

(٤) من الرحمن عزوجل ٥٦.

(٥) أي حول الجنة فالربض هو ما حول الشيء.

(٦) انظر البغوي في معالم التنزيل.

(٧) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٣٤.

(٨) قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ٦٨ والقرطبي في الجامع ١٦ / ٣١٩.

(٩) كرسى يرسي ، وقضى يقضي ، ومشى يمشي .. الخ.

(١٠) فهي المتطرفة والثقل ينشأ منها.

(١١) وهذا إعلال بالحذف.

(١٢) أما هذا فهو إعلال بالنقل فاجتمع في الكلمة إعلالان كما هو واضح.

٤١٨

ترى (١). وقد تقدم أن عيي وحيي فيها لغتان ، الفكّ (٢) والإدغام (٣). فأما حيي فتقدّم في الأنفال (٤) و (أما) (٥) عيي فكقوله :

٤٤٦٠ ـ عيّوا بأمرهم كما عي

يت ببيضتها الحمامه (٦)

والعي عدم الاهتداء إلى جهة. ومنه العيّ في الكلام ، وعيي بالأمر إذا لم يهتد لوجهه (٧).

قوله : «بقادر» الباء زائدة وحسّن زيادتها كون الكلام في قو ة «أليس الله بقادر» (٨). قال أبو عبيدة (٩) ، والأخفش (١٠) : الباء زائدة للتوكيد ، كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون: ٢٠] وقاس الزجا ج «ما ظننت أنّ أحدا بقائم» عليها (١١). والصحيح التوقف. وقال الكسائي (١٢) والفراء (١٣) العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول : ما أظنّك بقائم. وقرأ عيسى ، وزيد بن علي «قادر» بغير ياء (١٤).

قوله : «بلى» إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا).

__________________

(١) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ٦٨.

(٢) كما في عيي.

(٣) وهو عيّ وحيّ.

(٤) من الآية ٤٢ وهي قوله : «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ».

(٥) زيادة لتوضيع السياق وتبينيه.

(٦) البيت من مجزوء الكامل ، ولم أجده هكذا في الديوان وهو لعبيد بن الأبرص وإنما :

برمت بنو أسد كما

برمت ببيضتها الحمامه

وعليه فلا شاهد فيه والشاهد «عيوا» حيث أدغم يائي الفعل «عيي» وهو قليل وشاذ والأفصح الفكّ حيث لم يأت هذا إلا قليلا وانظر القرطبي ١٦ / ٢١٩ وأدب الكاتب ٥٤ والبحر ٨ / ٥٣ وفتح القدير ٥ / ٢٦ والديوان ١٣٨ دار صادر بيروت وانظر اللسان عيي ٣٢٠٢.

(٧) المرجع السابق.

(٨) بالمعنى من البحر ٨ / ٦٨.

(٩) قال : «مجازها : قادر والعرب تؤكد الكلام بالباء وهي مستغنى عنها» وانظر مجاز القرآن ٢ / ٢١٣.

(١٠) قال : «فهو بالباء كالباء في قوله : كفى بالله ، وهي مثل : تنبت بالدّهن». انظر المعاني له ٦٩٤.

(١١) قال : «ولو قلت : ظننت أن زيدا بقائم لم يجز ، ولو قلت : ما ظننت أن زيدا بقائم جاز بدخول «ما» انظر معانيه ٤ / ٧٤٧.

(١٢) القرطبي ١٦ / ٢١٩.

(١٣) قال : «دخلت الباء للم ، والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ويدخلونها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك : ما أظنك بقائم وما أظن أنك بقائم ، وما كنت بقائم فإذا خلفت الباء نصبت الذي كانت فيه بما يعمل فيه من الفعل ، ولو ألغيت الباء من «قادر» في هذا الموضع رفعه لأنه خبر لأنّ». انظر معاني القرآن له ٣ / ٥٩ والقرطبي ١٦ / ٢١٩.

(١٤) لم أجد هذه القراءة هكذا وإنما يقدر بلفظ المضارع انظر الكشاف ٣ / ٥٢٨ ومعاني الفراء ٣ / ٥٩ وإعراب النحاس ٤ / ١٧٣ و ١٧٣ ومعاني الزجاج ٤ / ٤٤٧ ، وبها قرأ آخرون بما فيهم يعقوب انظر الإتحاف ٣٩٢ وهي من الأربعة فوق العشر المتواترة.

٤١٩

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فيقال لهم : أليس هذا بالحقّ قالوا بلى فقوله : أليس هذا معمول لقول مضمر (١) هو حال كما تقدم في نظيره (٢). والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الفاء في قوله «فاصبر» عاطفة هذه الجملة على ما تقدم (٣) ، والسببية (٤) فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثّلاثة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويوجسون (٥) صدره فقال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي أولو الجدّ والصّبر والثّبات (٦) وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أولو الحزم(٧).

قوله : (مِنَ الرُّسُلِ) يجوز أن تكون من تبعيضية ، وعلى هذا فالرّسل أولو عزم وغير أولي عزم. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أولو عزم (٨). قال ابن زيد : كلّ الرّسل كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت من للتّجنيس (٩) لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) (١٠) من الخزّ وأردية من البزّ (١١). وقيل : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٤٨] وقيل هم نجباء الرسل ، وهم المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثمانية عشر (١٢) لقوله بعد ذكرهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ) هداهم (اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(١٣). وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد ، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين (١٤) وقيل: هم ستة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ،

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن ٣ / ٥٧ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٨ وأبو حيان في البحر ٨ / ٦٨.

(٢) وهو قوله : «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ» وهي الآية ٢٠ من نفس السورة.

(٣) من أخبار الكفار في الآخرة والمعنى بينهما مرتبط أي هذه حالهم مع الله فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلّا الله. وهو قول أبي حيان في البحر المرجع السابق.

(٤) وهذا لا يمنع كونها عاطفة فالسببية أكثر من العاطفة.

(٥) في ب ويوحشون.

(٦) انظر الرازي ٢٨ / ٣٥.

(٧) القرطبي ١٦ / ٢٢٠.

(٨) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٨ وأبو حيان في البحر ٨ / ٦٨.

(٩) في ب للجنس.

(١٠) زيادة على النسختين لازمة.

(١١) نسب هذا الرأي القرطبي في الجامع لابن عباس.

(١٢) الآية ٩٠ منها.

(١٣) القرطبي السابق.

(١٤) القرطبي السابق أيضا وقد ذكر رحمة الله عليه كثيرا من الآراء في تفسيره العظيم انظر الجامع ١٦ / ٢٢٠ و ٢٢١.

٤٢٠